قضايا

السعادة.. لمناسبة يومها الدولي وحالها في العراق

توطئة: اعتمدت الامم المتحدة اليوم العشرين من شهر مارس/ اذار ليكون اليوم العالمي للسعادة.

وفي تقريرها السنوي لهذا العام(2023) تصدرت فنلندة الدول الاسعد عالميا فيما تصدرت الامارات عربيا وجاء العراق في مرتبة متاخرة، وعن احوالها فيه تتحدث هذا المقالة التي لم يتطرق لها التقرير المذكور.

*

لا يعنينا هنا مفهوم السعادة من وجهة نظر الفلاسفة، بدءا من افلاطون الذي يرى ان السعادة تقوم على نوع معين من "التناغم والانسجام بين الرغبات والأهداف في حالة تعددها"، الى نيتشه الذي خالف افلاطون وارسطو ورأى ان تصادم الرغبات وليس انسجامها هو الذي يؤدي الى السعادة.

ولا يعنينا ايضا ما يراه علماء الدين الذين يتفقون مع الأمام الغزالي بأن (اللذة والسعادة عند بني آدم هي معرفة الله عز وجل)، ولا رأي الناس الذين يرى بعضهم بان السعادة تعني راحة البال، واخرون يرون انها الصحة ثم الصحة ثم الصحة، وآخرون يرون انها المال ثم المال ثم المال.. بل يعنيننا هنا ما يقوله علم النفس، لأن (السعادة) مفهوم سيكولوجي قدم عنها علماء النفس نظريات واجرى آخرون حولها دراسات ميدانية.

في البدء

وصف علم النفس في بداياته بأن السعادة هي نتائج الشعور أو الوصول لدرجة رضا الفرد عن حياته أو جودة حياته، أو أنّها الشعور المُتكرر لانفعالات ومشاعر سارّة فيها الكثير من الفرح والانبساط.. ما يعني أنّ السعادة برأيه مفهومٌ يتحدّد بحالة أو طبيعة الفرد، فهو من يقرر سعادته من تعاسته، وهو الذي يحدد طبيعة تفاعله مع مواقفه الحياتية والبيئة التي يعيش فيها.

بعد ذلك، لفت علماء النفس الانتباه الى ان السعادة انواع، وان مفهومها او الشعور بها يختلف من شخص الى آخر، وان ما يجعل احدهم يشعر بالبهجة قد لا يعني لآخر شيئا، وان ما يجعل شخصا ما يشعر بالرضا عن حياته، يراه آخر بأنه حياته لا تستحق ان تعاش.. ما يعني ان السعادة هي شعور نسبي يختلف باختلاف قدرات الفرد ودوافعه ورؤيته للحياة.. ليس هذا فقط بل انها تختلف من مجتمع الى آخر.. فمهوم السعادة عند العربي يختلف عن مفهومها عند الأوربي، ومفهومها عند الياباني يختلف عن مفهومها عند الهندي.

هرم ماسلو للحاجات الأنسانية

يعد هرم ماسلو للحاجات افضل نظرية بعلم النفس عن السعادة برغم انها ما كانت خاصة بها، بأن رتب حاجات الأنسان في حياته بهرم على النحو الآتي:

أولا :الحاجات الفسيولوجية.. وتعني حصول الانسان على الطعام والماء بما تؤمن بقاءه في الحياة، وقد وضعها في قاعدة الهرم لأن الانسان بدونها يموت.

الثانية: الحاجة الى الأمان.وتعني سعيه الى تحقيق الأمن والطمأنينة له ولأفراد عائلته، وشعوره بالأمن في مجال عمله وتأمين دخله المالي وحمايته من الأخطار.. وبدونها ينشغل نفسيا وفكريا ويعيش حالى قلق .

الثالثة :الحاجات الأجتماعية.. وتعني تكوين علاقات وصداقات مع الآخرين، ومشاركتهم له ومشاركته لهم في مناسبات الأفراح والأتراح.. وبدونها يعيش حالة اغتراب اجتماعي.

الرابعة :الحاجة الى التقدير.. وتعني شعور الفرد بقيمته وأهميته، وما يمتلكه من قدرات وخبرات، وتقدير الآخرين له لاسيما في مجال عمله.

الخامسة: الحاجة الى تحقيق الذات: وتعني تحقيق الفرد لطموحاته العليا، وان يكون ما يريد ان يكون.. مميزا ومستقلا ومستثمرا لكل ما لديه من قدرات ومواهب في مجالات الحياة المختلفة والتخصصات المتنوعة.

المهم هنا.. ان الانسان لا ينتقل الى الحاجة التالية الا بعد ان يشبع التي قبلها.. بمعنى، انه لا ينتقل الى الحاجة الأجتماعية المتمثلة بتكوين علاقات وصداقات مع الناس ما لم يكن قد اشبع حاجاته الفسيولوجية وحاجاته الى الشعور بالأمن والطمأنينة. والأهم.. انه لا يمكن لأي انسان ان يصل الى تحقيق ذاته واهدافه وطموحاته واستثماره لما يمتلك من قدرات ومواهب ما لم يكن قد اشبع حاجاته الأربع: الطعام والامن والصداقات والتقدير.

والتساؤل هنا: كم من العراقيين وصلوا الى تحقيق الذات؟ .. اعني كم منهم استطاع ان يشبع حاجاته الأربع في الهرم؟

والتساؤل الأخطر: عند اية حاجة في الهرم يقف ملايين العراقيين؟.. اليس ملايين منهم يقفون عند حاجة البحث عن الطعام والماء النظيف؟ و أليس ملايين منهم يقفون عند حاجتهم الى ان يعيشوا في امان لا أن يمشي الموت معهم كظلهم حين يمشون في الشارع؟!

هذا التحليل يوصلنا الى حقيقتين:

الأولى، ان تأمين هذه الحاجات الخمس هو الشرط لشعور الناس بالسعادة.. ولأن ملايين العراقيين بقوا عند منتصف هرم الحاجات او دونه، فانهم ليسوا سعداء.

الثانية، ان العراقيين هم الشعب الوحيد في العالم المعاصر الذي عانى خلال اربعين سنة متواصلة حروبا كارثية افقدتهم ملايين الأحبة وخلفت ملايين الأرامل والأيتام، وانهم ما يزالون يعيشون حالة الخوف والقلق من المجهول.. والسعادة لا تعيش مع من يخاف من يومه وغده.

العراق.. وليس لبنان

اصدرت الامم المتحدة في اليوم العالمي للسعادة هذا العام( 20 آذار/ مارس 2023) تصدرته فنلنده عالميا والأمارات عربيا الأكثر سعادة.. وجاءت لبنان في ذيل الدول العربية والعالمية (المرتبة 136) الأقل سعادة في العالم بحسب معهد غالوب.. وهذا ليس صحيحا علميا وعمليا، اذ نرى ان العراق هو الأقل سعادة، لأنه البلد الأغنى في المنطقة الذي يمتلك كل المقومات لأن يعيش أهله بحرية وكرامة، فيما هو وبعد عشرين سنة من نظام حكم ديمقراطي! اضطر اكثر من خمسة ملايين عراقي الى الهجرة، وقتل اكثر من 320 عالما واستاذا، واصبح طاردا للعقول، وتضاعفت فيه حالات الطلاق والانتحار وتعاطي المخدرات، فضلا عن 13 مليون دون خط الفقر بحسب وزارة التخطيط.. .ما يعني ان العراق وليس لبنان هو الأقل سعادة على صعيد الدول العربية.. وهذا خطا آخر يرتكبه معهد غالوب، اذ وصف العراقيين في عام 2022 يحتلون المرتبة الرابعة من بين الشعوب الاكثر غضبا في العالم، وتجاهل دراسة بريطانية توصلت الى ان العراقيين هم اذكى شعوب المنطقة، والذكي لا (يمتاز) بالغضب.ونسي ان العراقيين محبون للطرب والمرح والفكاهة والنكتة و العشق.. ومن يمتلك هذه الصفات لا يتصدر شعوب العالم بحدة الغضب.. ويتجاهل الآن ان العراقيين هم الأقل سعادة على صعيد الشعوب العربية.. ولو أن الذين اعدوا تلك الدراسة لمعهد غالوب عاشوا يوما واحدا في بغداد او الناصرية ورأوا كيف تغرق البيوت من سيول الأمطار في آذارها، وكيف يعيش الناس دون كهرباء في آبها.. لرفعوا تقريرا يناشد الأمم المتحدة بأن تكون عونا للعراقيين.. لأنهم الأقل سعادة في العالم.

ما تفعله الأبتسامة.. ستندهشون!

تمثل الابتسامة دالة عن السعادة وكلامنا هذا ليس (حجي جرايد) كما يقولون، فالدراسات النفسية تقول ان الابتسامة والضحك تجعلنا نشعر بالراحة النفسية والاسترخاء وتحسّن المزاج، وأنهما تخففان عنّا وطأة أعباء الحياة.والدراسات الفسيولوجية تؤكد أنهما يعملان على تحسين وتقوية عمل جهاز المناعة في الجسم، وتقليل الاصابة بالأمراض، وتخفيض نسبة الكولسترول في الدم.. والأكثر انها تجنبنا الاصابة بالأزمات القلبية!.

وما لا نعلمه عن سحر الابتسامة انها مصيدة القلوب.. ليس في الحب فقط بل في الصداقات ايضا.فأنت حين تبتسم بوجه أحد فانك ترسل له رسالة قبول تحمل كلمة (أحبك، او سعيد برؤيتك) وتعزف على وتر الفرح في قلبه.ولأن في داخل كل واحد حاجة الى صديق او صديقة، فانه سيبادلك الابتسامة تلقائيا وتصبحان صديقين.

وسبب آخر هو أن من شأن الابتسامة انها تجعل الوجه جميلا مشرقا كما الحديقة.. بعكس الوجه العبوس الذي تتفادى النظر اليه لانه كالح كما الصحراء.. متشنج بسبب ان صاحبه لم يستخدم عضلات الابتسامة التي تجعل الوجه مسترخيا.. ولك ان تلاحظ ذلك على وجوه العراقيين الذين تعطلت لديهم عضلات الفرح واشتغلت عندهم عضلات الحزن سنينا طويلة فصارت وجوههم (معقجه)قبل اوانها!.

أكيد ستقولون.. انتقم الله من الذين حرمونا من الأبتسامة وسرقوا منّا السعادة.. ومؤكد ايضا ان هذه الدعوة لن تعيدها لكم!.. فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

في المثقف اليوم