قضايا

استراتيجيات التعليم في بيئات التعلم الإلكتروني والتعليم عن بعد

أصبحت ممارسة الأنشطة عن بعد، مثل التعليم والعمل، ضمن الأساليب الرئيسية التي لجأت إليها الدول لمواجهة تداعيات انتشار فيروس كورونا، فقد أتاح التقدم التكنولوجي الكبير في مجال الاتصالات إمكانية إدارة دورة تعليمية كاملة دون الحاجة لوجود الطلاب والمعلمين في حيز ضيق من المساحة، والسماح- في الوقت ذاته - باتخاذ التدابير الاحترازية لمنع انتشار كورونا، وعلى الرغم من العوائد الإيجابية المتعددة التي يحققها التعليم عن بعد، إلا أنها تواجه عدة تحديات لاسيما في الدول العربية التي لا تتوفر بها بنية تكنولوجية قوية.

يعد التعليم عن بعد‏ أحد أهم المفاهيم والتقنيات الحديثة للتعليم بكافة مستوياته، وقد أصبح هذا النوع من التعليم ركنا مهما للاقتصاد المعرفي، ومن الجدير بالذكر أن التعليم عن بعد، أو ما يسمى أحيانا التعلم الإلكتروني المحوسب أو التعلم عبر الإنترنت؛ لا يعني تدريس المناهج وتخزينها على أقراص مدمجة، ولكن جوهر التعليم عن بعد هو النمط التفاعلي، حيث يعني وجود مناقشات متبادلة بين الطلبة وبعضهم، والتفاعل مع المحاضر. فهناك دائما معلم يتواصل مع الطلاب، ويحدد مهامهم واختباراتهم. وهناك عدة آليات للتعليم عن بعد، إما من خلال تقنية الفيديو كونفرنس، أو المحاضرات المباشرة، أو قيام الأساتذة والمتخصصين بتسجيل عددا من المحاضرات ووضعها على موقع معين على الإنترنت.

التعليم الإلكتروني هو نظام تفاعلي للتعليم يقدم للمتعلم باستخدام تكنولوجيات الاتصال والمعلومات، ويعتمد على بيئة إلكترونية رقمية متكاملة تعرض المقررات الدراسية عبر الشبكات الإلكترونية، وتوفر سبل الإرشاد والتوجيه وتنظيم الاختبارات وكذلك إدارة المصادر والعمليات وتقويمها.

وتعرف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) التعليم عن بعد بأنه أي عملية تعليمية لا يحدث فيها اتصال مباشر بين الطالب والمعلم، بحيث يكونان متباعدين زمنيا ومكانيا، ويتم الاتصال بينهما عن طريق الوسائط التعليمية الإلكترونية أو المطبوعات.

يعني هذا النظام بصفة عامة نقل التعلم إلى المتعلم في موقع إقامته أو عمله بدلا من انتقال المتعلم إلى المؤسسة التعليمية ذاتها، وعلى هذا الأساس يتمكن المتعلم أن يزاوج بين التعلم والعمل إن أراد ذلك، وأن يكيف المنهج الدراسي وسرعة التقدم في المادة الدراسية بما يتفق والأوضاع والظروف الخاصة به.

ويوجد العديد من التعريفات للتعليم عن بعد ولكن تتفق جميعها على أن التعليم عن بعد يعتمد على أساسين:

- وسائط الاتصال المتعددة (مطبوعة أو الكترونية).

- وجود حدود مكانية تفصل المعلم عن المتعلم.

وهناك نوعان من أنواع التعليم عن بعد: التعليم الإلكتروني المتزامن وهو التعليم على الهواء أو البث المباشر، والذي يحتاج إلى وجود المتعلمين في نفس الوقت أمام أجهزة الحاسوب، لإجراء النقاش والمحادثة بين المتعلمين أنفسهم، وبينهم وبين المعلم، ويتم هذا النقاش بواسطة مختلف أدوات التعليم الإلكتروني وهي: اللوح الأبيض التشاركي، والفصول الافتراضية، والمؤتمرات عبر (الفيديو، الصوت)، وغرف الدردشة. والتعليم الإلكتروني غير المتزامن هو تعليم غير مباشر، لا يحتاج إلى وجود المتعلمين في نفس الوقت حيث يتمكن المتعلم من الحصول على الدراسة حسب الأوقات المناسبة له وبالجهد الذي يرغب في تقديمه، ويستعمل أدوات مثل: البريد الإلكتروني، والويب، والقوائم البريدية، ومجموعات النقاش، وبروتوكول نقل الملفات والأقراص المُدمجة.

إن التعليم عن بعد يقوم على أساس فلسفة تؤكد حق الأفراد في الوصول إلى الفرص التعليمية المتاحة، بمعنى تقديم فرص التعليم والتدريب لكل من يريد في الوقت والمكان الذي يريده دون التقيد بالطرق أو الأساليب والوسائل الاعتيادية المستخدمة في عملية التعليم التقليدية. ويحتاج التعليم عن بعد إلى توفر شبكة الإنترنت للتواصل من خلالها، وكذلك وجود الطالب أو الدارس الذي يتابع كل ما يخص المادة التعليمية من خلال مواقع مبرمجة مخصصة لذلك وفق آلية مناسبة لشرح المادة بأسلوب يسهل فهمها والاستفادة منها، أيضا يمكن أن تتوفر حلقات النقاش المباشرة وغير المباشرة بين الطالب والأستاذ، وفي النهاية لابد من توفر المعلم المسؤول عن متابعة وتقييم أداء الطالب ومنحه العلامات التي يستحقها.

بدأ التعليم عن بعد من خلال بعض الجامعات الأوربية والأمريكية في أواخر السبعينات التي كانت تقوم بإرسال مواد تعليم مختلفة من خلال البريد للطالب، وكانت هذه المواد تشمل الكتب، شرائط التسجيل وشرائط الفيديو، كما كان الطالب بدوره يقوم بإرسال فروضه الدراسية باستخدام نفس الطريقة، وكانت هذه الجامعات تشترط حضور الطالب بنفسه لمقر الجامعة لأداء الاختبار النهائي الذي بموجبه يتم منح الشهادة للطالب. ثم تطور الأمر في أواخر الثمانينات ليتم من خلال قنوات الكابل والقنوات التليفزيونية، وكانت شبكة الأخبار البريطانية رائدة في هذا المجال. وفي أوائل التسعينات ظهر الإنترنت بقوة كوسيلة اتصال بديلة سريعة وسهلة ليحل البريد الإلكتروني محل البريد العادي في إرسال المواد الخفيفة والفروض. وفي أواخر التسعينات وأوائل القرن الحالي ظهرت المواقع التي تقدم خدمة متكاملة للتعليم عن طريق الويب، وهي الخدمة التي شملت المحتوى للتعليم الذاتي بالإضافة لإمكانيات التواصل والتشارك مع زملاء الدراسة من خلال ذات الموقع أو البريد الإلكتروني. وحديثا ظهرت الفصول الافتراضية التفاعلية التي تسمح للمعلم أو المحاضر أن يلقي دروسه مباشرة على عشرات الطلاب في جميع أنحاء المعمورة دون التقيد بالمكان، بل وتطورت هذه الأدوات لتسمح بمشاركة الطلاب بالحوار والمداخلة.

في نهاية شهر فبراير/ شباط 2020، عندما بدأت أجراس الإنذار تدق للتحذير من تزايد تفشي فيروس كورونا المُستجد، قام البنك الدولي بتشكيل فريق عمل عالمي متعدد القطاعات لدعم تصدي البلدان لهذه الأزمة والإجراءات التي تتخذها للتكيف معها. في ذلك الوقت، لم يكن هناك سوى الصين وعدد قليل من البلدان المتضررة الأخرى تفرض التباعد الاجتماعي من خلال إغلاق المدارس. وبعد أكثر من أسبوعين بقليل، أغلق 120 بلدا المدارس مما أثر على نحو مليار طالب في جميع أنحاء العالم رأوا مدارسهم تُغلق لفترات زمنية مختلفة.

كما شهدنا من حالات الطوارئ الصحية السابقة، وآخرها حالات تفشي فيروس الإيبولا، من المرجح أن يكون التأثير على التعليم أكثر تدميرا في البلدان التي تنخفض فيها نتائج التعلم، وترتفع فيها معدلات التسرب من التعليم، وتضعف فيها القدرة على الصمود في وجه الصدمات. وبينما يبدو أن إغلاق المدارس يمثل حلا منطقيا لفرض التباعد الاجتماعي داخل المجتمعات المحلية، فإن إغلاقها لمدة طويلة سيكون له تأثير سلبي غير متناسب على الطلاب الأكثر تضررا. فهؤلاء الطلاب لديهم فرص أقل للتعلم في المنزل، وقد يمثل الوقت الذي يقضونه خارج المدرسة أعباء اقتصادية على كاهل آبائهم الذين قد يواجهون تحديات في العثور على رعاية لأطفالهم لفترة طويلة، أو حتى توفير الطعام الكافي في حالة عدم وجود وجبات مدرسية.

كما يمكن للمكاسب التي تحققت بشق الأنفس في توسيع نطاق الحصول على التعليم أن تتوقف، بل وتنتهي مع تمديد إغلاق المدارس، وتبقى إمكانية الحصول على خيارات بديلة - مثل التعليم عن بعد- بعيدة المنال لمن لا تتوفر لديهم وسائل الاتصال، وقد يتسبب هذا الأمر في المزيد من الخسائر في رأس المال البشري وتُقلص الفرص الاقتصادية.

لقد أدى انتشار فيروس كورونا بشكل سريع ومفاجئ في جميع دول العالم إلى التحول بشكل إلزامي لاستخدام التعليم الإلكتروني للحفاظ على ما تبقى من السنة الدراسية من الضياع. فبعد ظهور هذا الفيروس تمكنت الصين وبسرعة مذهلة من التحول إلى التعليم التزامني عن بعد من خلال الإنترنت لمائتان مليون طالب والتي قد تكون الأضخم في تاريخ البشرية، وبمجرد انتشار الفيروس في جميع بقاع العالم تبعتها معظم دول العالم بلا استثناء في التحول إلى التعليم عن بعد وأصبح هناك توجه إلى استخدام المحتوى التعليمي الرقمي، وقد تمثل ذلك في مباردة يونسكو بأن وضعت جميع مصادرها التعليمية الإلكترونية تحت تصرف العديد من الدول.

وفي الوطن العربي كغيره من البلدان فقد كان ملزما بالتوجه للتعليم عن بعد للحفاظ على المسيرة التعليمية، وهذا التوجه أدى إلى تفعيل العديد من المصادر التي تحتوى على محتوى تعليمي رقمي باللغة العربية، والتي لم تكن مستخدمة سابقا لأسباب كثيرة منها عدم قناعة الجهات الرسمية بأهمية هذا المحتوى التعليمي وجدوى التعليم الإلكتروني، ففي مصر على سبيل المثال وفي الأمس القريب كانت كلمة «أي كي بي» وهي اختصار للبنك المعرفي المصري(Egyptian Knowledge Bank) تعاني التجاهل والتقاعس والاستهزاء، ولكن بعد التحول إلى التعليم الإلكتروني في مصر بفعل فيروس كورونا أصبحت هذه الكلمة هي طوق نجاة لدى العديد من الطلبة والمعلمين في مصر. وأعتقد بان هناك العديد من المبادرات العربية السابقة التي تضم محتوى تعليمي رقمي باللغة العربية تم تفعيلها.

إن تغلغل كل ما هو رقمي واتساع انتشاره قد تسارع على مدى الأعوام العشرين الماضية، وهو مستمر في النمو بشكل كبير. تتحول التكنولوجيا الرقمية بشكل متزايد نحو التشابك مع الحياة اليومية: من التعليم المدرسي والتربية، إلى الانخراط السياسي وحتى الإدارة المالية والصحية. إن التطورات في التكنولوجيا الرقمية وسرعة نشوئها تدفع الابتكار والتطبيقات الجديدة التي تلامس حياتنا بطرق مختلفة وفي أحيان كثيرة، بطرق عميقة. بينما توجد العديد من الفرص والتطلعات التي ترتبط بالرقمية، فإن هناك حاجة أساسية أيضا لفهم التحديات التي تمثلها بالنسبة للمجتمع والتخفيف منها.

إن تجربة التعلم عن بعد ستظهر نقاط القوة والضعف، والفرص والتحديات في مجال التعليم بجميع المدارس والجامعات، من خلال اختبار الكفاءات، والإمكانات المادية والبشرية، وتقييم مدى قوة المنصات التعليمية والبنية التحتية في كل مدرسة وجامعة، ما يتيح العمل لاحقا على تطوير هذه البرامج للتغلب على التحديات ومواجهة الأزمات في المستقبل.

إن تجربة التعليم عن بعد الحالية هي تمهيد لمرحلة التعليم ما بعد كورونا والتي ستكون ناجحة وأكثر تقدم بإذن الله وتساعد في التغلب على الكثير من المشكلات والعقبات التي تعيق التعليم المباشر الذي يتطلب حضور الجميع بنفس غرفة الصف. إن تجربة التعليم عن بعد ستساهم بشكل كبير في تطوير عمليات التعليم والتعلم من حيث تطوير سياسات التعليم والمناهج وطرق التدريس والتقويم. إن التعليم العام عن بعد سيستخدم مستقبلا على نطاق واسع وبجودة عالية وربما لن يكون بديلا للتعليم التقليدي فقط بل سيكون جزءا رئيسيا من منظومة التعليم وتمهيدا لمرحلة جديدة ومتطورة من عمليات التعليم والتعلم التي تراعي الفروق الفردية بين الطلاب وتشجع تفريد التعليم والتنويع في استراتيجيات التعليم وتنمية مهارات التفكير لدى الطلاب لاسيما أن الجيل الجديد محب للتقنية ويستخدمها في حياته بشكل يومي ومستمر.

وأخيرا وما هو أكثر أهمية، هو أن هناك الكثير من الأدلة التي تشير إلى نتائج تعليمية مماثلة بين التعليم عبر الإنترنت والتعليم وجها لوجه، في حين يعتبر التعليم المدمج صاحب التأثير الأكبر على تعليم الطلاب. وقد وجدت دراسة قارنت أداء الطلاب الجامعيين الذين يدرسون ذات المنهج عبر الإنترنت ووجها لوجه أنه لا توجد فروق كبيرة في أداء الاختبارات، بغض النظر عن ما إذا تم تقديم مادة الفصل والاختبار اللاحق وجها لوجه أو عبر الإنترنت. إضافة إلى ذلك، أظهرت دراسة أخرى قارنت نتائج مجموعتين من المحترفين في مجال الصحة الذين درسوا نفس المساق على امتداد 18 شهرا، إحداهما عبر الإنترنت والأخرى وجها لوجه، أن كلا المجموعتين اكملتا المساق بأداء أكاديمي متماثل.

يعتبر التعليم عبر الإنترنت نموذجا جديدا من شأنه أن يساهم في معالجة بعض التحديات الحالية التي تواجهها الجامعات في العالم العربي. بشرط أن يتم تنفيذه بطريقة ناجحة، يمكن أن يكون هذا النموذج أكثر مرونة وقابلية للتوسع والقدرة على توفير تعليم عالي الجودة لشرائح أكبر من المجتمع.

***

أ. د. هاني جرجس عياد

استاذ علم الاجتماع - كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الجامعة الأفروآسيوية المفتوحة

في المثقف اليوم