قضايا

ثامر عباس: الاسطوغرافيا العراقية والدعوة للتحوّل.. من الأعلى الى الأسفل

(كل موضوع في التاريخ يستدعي ويتطلب إشكالية – فردنان برودويل)

بداية ماذا نعني بمصطلح (الاسطوغرافيا) الذي يشكل محور هذه المقالة وجوهر مضمونها؟. وقبل أن نشرع بالإجابة حريّ بنا الإقرار بأننا لا نبغي المزايدة على ذوي الاختصاص (المؤرخين)، ولا نرغب في أن نبدو كمن يدس أنفه في حقل ليس من شانه، ولذلك نجد أنفسنا مضطرين لاختيار سبل الإيجاز والاختصار فنجيب بالقول؛ انه (علم دراسة التاريخ). أو بمعنى آخر انه (دراسة طرق البحث والاستقصاء في شؤون الماضي) كما يقول المفكر والمؤرخ عبد الله العروي. ونظرا"لقلة تداول هذا المصطلح في أدبيات السرد التاريخي والاجتماعي العراقي الصادر في معظمه عن بنية عقلية تمتاز بالطابع التقليدي في النظر الى قضايا الواقع، والتي من جملة خصائصها النفور من التعاطي مع كل مصطلح أو مفهوم يدعو الى التجديد في طرق البحث التاريخي، ويحضّ على التحديث في أساليب التنقيب الحضاري، خشية التعرض للمسلمات والزحزحة لليقينيات القارة بين تلافيف الوعي الجمعي.

وإزاء هذا الإصرار على الرفض والتشدد في الممانعة لعل سؤال يطرح نفسه؛ هل حقا"لدينا (استطوغرافيا عراقية) - كما لدى بقية المجتمعات - يمكنها، ابتداء، الشروع بإعادة قراءة التاريخ العراقي قراءة (نقدية) و(موضوعية) خارجة عن مألوف السرديات التقليدية المتكاثرة والمتناسلة، تنأى بنفسها – قدر الإمكان - عن أهواء التحزبات والفئويات والعصبيات التي لازمت (صناعة) تاريخنا المحشو بالمبالغات والتلفيقات منذ قرون، بحيث لن يكون لها معيار آخر سوى (الشك) في كل ما كتب عن مواريث ماضينا الملتبسة، و(التساؤل) عن كل ما قيل بشأن ما ألفناه من سرديات أسطورية ومرويات تاريخية أكل عليها الدهر وشرب، ولكنها برغم ذلك لا زالت تتحكم بنوابض وعينا ومفاتيح سلوكنا كما لو أننا كيانات مخدّرة وآلات مسيّرة، لا تدرك ما يجري عليها ويدور حولها ؟!.

ومن هذا المنطلق، فان الادعاء بامتلاكنا مثل هكذا (استطوغرافيا) عراقية استطاعت أن تفرض وجودها الواقعي وتؤكد حضورها الرمزي، لا يعدو أن يكون سوى ادعاء مبالغ فيه لا أساس له من الصحة بضوء واقع تاريخي لا زال محل خلاف واختلاف. وإذا ما تحرينا الدقة، فان كل ما توفرنا عليه لحد الآن لا يتعدى حدود (العنعنات) السردية و(الإحالات) النصيّة التي امتلأت بها متون الكتب التراثية والمصنفات التاريخية بغثها وسمينها، دون أن يتمكن أصحابها من إضافة شيء ذا قيمة نوعية الى رصيد العلم والمعرفة يمكن البناء عليه والانطلاق منه، كما لمسنا ذلك في تجارب من سبقونا في هذا المضمار. هذا من ناحية، أما من ناحية ثانية، فانه من باب الإنصاف القول؛ انه بقدر ما برع السرد التاريخي العراقي في تدوين حياة الملوك الطغاة والسلاطين البغاة والأمراء الغزاة، والتركيز على دسائسهم الداخلية وصراعاتهم الخارجية للتمكن من حيازة مقاليد السلطة والتلاعب بمقدرات الدولة، بقدر ما أهمل الالتفات الى حياة الشعوب المقصية، والجماعات المهمشة، والفئات المنبوذة التي كانت تقارع الظلم الاجتماعي، وتغالب البؤس الاقتصادي، وتناوئ القهر السياسي.

ولعل هذا الأمر هو ما ساهم بطمس غنى وثراء ما يسمى بالتاريخ (الشفوي) للشعوب المغلوبة من جهة، وإبراز قوة وسلطان نظيره المدعو بالتاريخ (المكتوب) للأسر الغالبة من جهة أخرى. حيث تم في هذا السرد الاختزالي والأحادي الجانب، (تغليب) الأحداث والوقائع المرتبطة بالبنى (الفوقية) المعبرة عن الأنشطة والفعاليات التي كان يحلو لنخب السلطة ممارستها، على حساب (تغييب) الأحداث والوقائع المتعلقة بالبنى (التحتية) المعبرة عن هموم الطبقات الفقيرة ومعاناة الفئات المسحوقة، بحيث أفضى هذا المسلك الانتقائي الى طغيان الطابع الأيديولوجي المرفوع الى مصاف (الأسطرة) و(الأمثلة)، على بقية ما يناظره من أنواع السرد الأخرى؛ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتاريخي. أي بمعنى الاحتفاء بكل ما له علاقة بالإيديولوجيات التمجيدية للسلطات بخصوص التسويق (لانجازاتها) الوطنية، والطوباويات التبجيلية للحكام بخصوص التزويق (لسلوكياتهم) الأبوية، هذا دون أن تنال الاجتماعيات والعقليات والسيكولوجيات حقها المشروع في الإشارة أو الإشادة، بما يتناسب ودورها في سيرورة التاريخ وصيرورة الحضارة. من منطلق ان صناعة الأول وابتداع الثانية هما انجاز حصري تختص به علية القوم من طبقات الخاصة (ملوك وسلاطين وزعماء وأمراء)، دون أن يكون (لأراذل) القوم من طبقات العامة (المهمشين والمقصيين والمستبعدين) دور في ذلك الانجاز الحصري. بمختصر العبارة أن صناعة التاريخ تبدأ من (الأعلى - القمة) وليس من (الأسفل - القاعدة).

والحال انه لكي تستحيل (الاستطوغرافيا) العراقية الى حقيقة واقعة تستحق إسباغها بالشرعية المعرفية، عبر تخلصها من طابعها (المؤمثل) وتخليها عن خطابها (المؤدلج)، والنظر من ثم الى الفعل التاريخي – الحضاري لا بالمنظور (التجزيئي) و(الاختزالي) الذي دأبت عليه الكتابة التاريخية لحد الآن، وإنما بالمنظور (التركيبي) و(التفاعلي) لمناشط الإنسان وهو يمارس حياته وينسج علاقاته في إطار بيئته الايكولوجية، وحاضنته السوسيولوجية، وخلفيته الانثروبولوجية، وطبيعته السيكولوجية. فانه يتحتم عليها (الاستطوغرافيا) القيام بخطوتين متزامنتين ومتعارضتين في نفس الآن؛ الخطوة الأولى وتتمثل بالإقلاع نهائيا"عن وظائف (التضليل) و(التجهيل) لعقول الأفراد والجماعات، من خلال العبث بأحداث التاريخ ومخزون الذاكرة، عبر عمليات الاختلاق في الحالة الأولى والتلفيق في الحالة الثانية. أما الخطوة الثانية فتشتمل على كسر قيود الممانعة الذاتية (التحريم) الديني – القيمي، وتخطي حواجز الممنوعات الموضوعية (التجريم) السياسي – الاجتماعي، والتي من شأنها حمل المؤرخين والباحثين على تغيير وجهة أبحاثهم ودراساتهم صوب تيارات الأعماق الفاعلة والمؤثرة، بالاعتماد على مناهج التحليل والتأويل (الحفرية) و(النقدية) التي تستهدف التنقيب في رواسب المتخيل والنبش في طمى اللاوعي !. بحيث تظهر أمامنا (الأحداث) التاريخية و(الوقائع) السياسية معراة من كل أردية (التلفيق) و(التزويق)، التي طالما أخفت الجرائم وطمطمت المظالم المرتكبة بحق البلاد والعباد؛ تارة باسم الدين / المقدس، وتارة باسم الوطن / الرمز، وتارة باسم المجتمع / الكيان، وتارة باسم الدولة / السيادة، وتارة باسم الزعيم / البطل !.

***

ثامر عباس

 

في المثقف اليوم