قضايا

عدنان عويّد: إجابات محايدة على أسئلة وجوديّة محايدة

هي مجموعة أسئلة ذات طابع وجودي، لواقع نعيشه وننشط فيه بحثاً عن ذواتنا المهمشة والمتعبة والمغربة والمستلبة والمشيئة، بفعل عوامل داخليّة وخارجيّة، وغالباً ما تكون العوامل الداخليّة أشد قسوةً وسيطرة على حياتنا، تفرضها بنية اجتماعيّة متخلفة، وتمارسها قوى اقتصاديّة وسياسيّة ودينيّة واجتماعيّة، تَحَوَلَ الوطن عندها إلى غنيمة، ومواطنوه ليسوا أكثر من رعايا فقدوا ممارسة حقوقهم وواجباتهم، وتحولت حياتهم إلى أشبه بحديقة حيوان، لا يفكرون إلا بلقمة عيشهم التي أصبحت عزيزة عليهم، في الوقت الذي تجد فيه قوى اجتماعيّة امتلكت كل شيء، تمارس وتحقق ما تريد باسم الوطن والقانون وبدونه.

س1- من أنا؟:

ج1- من الناحية النظريّة، أنا مواطن.. إنسان من لحم ودم، لي حقوق طبيعيّة ووضعيّة يجب أن أحوز عليها كي أشعر بكرامتي وحريتي وعدالتي ومساواتي مع مكونات أبناء المجتمع الذي أعيش فيه، وعليّ واجبات يجب أن أأديها خدمة لي وللأبناء مجتمعي، وهناك مبادئ إنسانيّة عريضة تحكم المجتمع يجب علي الايمان بها وتطبيقها... أما من الناحية العمليّة فأنا من هذا الزمان العربي، أشعر بذاتي ووجودي في واقع صنعته جملة من الظروف الماديّة والفكريّة، ابتداء من الأسرة مروراً بالمدرسة والشارع والمؤسسة والجامعة والإعلام والإعلان والأدب والفن والفلسفة. وأكثرها ليس لي أي دور في تشكيلها أو وجودها.. الأمر الذي جعلني فيها مقيداً وأسيراً لقيم ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة متعددة، منها ما هو مشبع بقيم الماضي، المغلفة بأساطير وخرافات ورموز وطقوس لا تغني من الحق شيئا وهي الأكثر حضوراً وانتشاراً، ومنها ما هو ذاتي النزعة وحدسيّ، ومنها ما هو عقلانيّ ملتزم بقضايا الإنسان ومشاكله الحياتيّة وطموحاته. هذا ويوجد هناك، قوي اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة ودينيّة تعمل على تهميش إنسانيتي وربطي بانتماءات ضيقة، وغالبا ما تعمل على تغريني وتشيئني، وتفرض علي الجوع والخوف وتكبيل حريتي وقمعها.. وبالتالي الحؤول دون خلاصي وإشعاري بإنسانيتي، أو بحاجتي للحريّة كي أقول وأمارس ما يعبر عن إنسانيتي وإثبات ذاتي وفق الأنظمة والقوانين التي تضمن الحق للجميع.

س2: أين أنا؟.

ج2- أنا اليوم في حديقة أشبه بحديقة حيوان، يعمل من يديرها علي تهجيني ونمذجتي، وتوجيه حياتي كي أمارسها بغرائزي وعواطفي وبعقل سطحي، دون إدراك مني لما يحيط بي وكيف تجري حياتي في محيطي، وكيفيّة إدارتها.. وبالتالي إقصائي عن حياتي الاجتماعيّة، ومعرفة تناقضاتها وصراعاتها وأسباب هذه التناقضات والصراعات، وكيف حلها ونشر العدالة والمحبة والمساواة بين مكوناتها.. ثم دور العقل النقديّ وحريّة الإرادة الإنسانيّة في بناء حياتي وحياة من يتطلعون لاسترجاع إنسانيتهم المستلبة والمشيئة والمغربة.

س3: ما هو المحيط الذي أعيش فيه؟.

ج3- أنا موجود في محيط اجتماعيّ مفوت حضاريّا.. مجتمع سيطر عليه التخلف منذ مئات السنين.. لم يزل أفراده يلوكون الماضي بأساطيره وخرفاته ويعتبرون كل جديد بدعة.. لم يزل التدين بصيغته السطحيّة الطقوسيّة وقصصه الوعظيّة، سائدا ينهش عقول الناس، فتلمس الفارق بين فكر الناس وواقعهم.. ففي حديثهم ولباسهم وممارسة شعائرهم، تشعر بالمثل والقيم تغيض من ألسنتهم، وفي العمل يغيب الكثير من هذه القيم.

اقتصاد متخلف. وسياسة متخلفة.. اقتصاد يفتقد إلى أبسط مقومات اقتصاد العدالة، تهيمن عليه طبقة من البرجوازيّة البيروقراطيّة والطفيليّة.. وسياسة تهيمن عليها روح الغنيمة.. ومجتمع تحكمه العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب، بدل المواطنة ودولة القانون.. الأمر الذي أدى إلى سيادة الفساد والظلم والاستعباد....

أنا أعيش اليوم في محيط هو أقرب في بنيته إلى وشيعة من الخيوط ضاع رأسها.

س4: كيف تسير العلاقات الماديّة والفكريّة في المحيط الذي أعيش فيه؟.

ج4- هي علاقات هجينة، يغيب فيها التوازن الاجتماعي.. فعلى المستوى الاقتصاديّ: مجتمع منقسم... حيث تجد فقر مدقع يسود الأكثريّة التي أصبحت على هامش التاريخ والوطن.. وغنى فاحش يعبر عن أقليّة تاجرت بدماء الناس والوطن باسم الوطن والوطنيّة.. تجار حروب وسياسة امتلكوا المال والجاه والسلطة...

أما على المستوى الاجتماعي: ففقر الأكثرية المدقع وغنى الأقلية الفاسدة أوجد ظواهر اجتماعية بعيدة كل البعد عن أبسط قيم الدين والإنسانيّة.. انتشار لتعاطي المخدرات والدعارة والسرقة والجريمة بكل أنواعها.. انحلال خلقيّ انعكس على الأسرة والمدرسة والشارع والمؤسسات.. سيادة روح الكذب والتزلف والأنانيّة. وبالتالي يمكن القول: علاقات اجتماعيّة متفسخة افتقدت فيها المكونات الاجتماعيّة مقومات توازنها.

أما على المستوى الثقافي: راحت تسود ثقافة المجتمع الاستهلاكي.. أو ثقافة الأنترنيت في جوانبها السلبية.. ثقافة راحت العقول فيها تتجه نحو الفن الرخيص والجنس الرخيص والأدب الرخيص والمواقف الذهنية المشوهة والمستلبة من رصانتها وجديتها، في الوقت الذي أصبح فيه كل ما هو جميل وإبداعيّ شبه مقصيّاً من وعينا وثقافتنا.

وعلى المستوى السياسي: غاب مفهوم الدولة والمواطنة وسيادة القانون.. فانتشرت الفتوات السلبية في تفكيرها وممارساتها.. وتعمقت الكراهية الدينيّة بين مكونات المجتمع.. فبدل الوطن حلت الطائفة.. وبدل المواطنة حلت الكراهية والحقد والحروب الأهليّة..

س5: لماذا سادت هذه العلاقات ومن وراءها؟.

ج5- السبب... غياب مفهوم الدولة ودورها المنوط بها دستوريّا وقانونيّا وأخلاقيّاً واقتصاديّاً. ومع غياب هذه الأسس انتشر الفساد وتعمم أسلوب حياة مع غياب المحاسبة.. كثر الانتهازيّة والمطبلين والمزمرين في البنية السياسيّة وسيادة المصالح الشخصيّة على حساب المصلحة العامة. غابت الطبقة الوسطى وثقافتها وقيمها التنويريّة، لتحل طبقة من البيروقراطيّة الفاسدة في مفاصل الدولة وأخذت تتعاون مع الطبقة الطفيليّة، وكلاهما غابت عندهما الروح الوطنيّة والإنسانيّة، فأصبح همهما الربح ولو كان على حساب الوطن والإنسان. وبالتالي ما يؤدونه من مشاريع اقتصاديّة وخدميّة منتهكة في جودتها وصلاحية استخدامها.

س6: هل البنية الفكريّة التي أحملها عن هذه العلاقات صح أم خطأ؟.

ج6- عموما. الحقيقة نسبيّة وهي تقوم دائما على معرفة ناقصة.. ومعرفة الحقيقة لا تقوم على جهد فردي.. قد تقدم الرؤى الفرديّة بعض التصورات المنطقيّة ولكنها تظل بحاجة للرأي الآخر.. إن ما أحمله أنا عن طبيعة هذه العلاقات التي نعيشها وننشط داخلها في عالمنا العربي، هي رؤى تقوم برأيي على منهج عقلانيّ نقديّ محايد... منطلق البحث فيه هو الإنسان عموما ومصالحه بعيدا عن أي مواقف أنانيّة ضيقة تغرق في ايديولوجيات دينيّة وتفريعاتها طائفية كانت أو مذهبية بشكل عام، أو أيديولوجيات ذات أبعاد عرقيّة وحزبيّة بشكل خاص.. هذا المجتمع الذي نعيشه متعدد في مكوناته وعلينا أن نراعي مصالح هذه المكونات انطلاقا من أن المواطنة هي بيضة القبان التي توصلنا إلى الحياديّة والعقلانيّة، وبالتالي تحقيق العدالة والمساوة وتكافئ الفرص والرفاهيّة والنمو للجميع.

س7- كيف أميز الصح من الخطأ في هذه العلاقات.. وماهي المعايير التي أعتمد عليها من أجل تحقيق ذاك؟.

ج7- إن مسألة تحديد الصح والخطأ في بنية العلاقات التي نعيشها لا تتحدد وفق معايير ثابتة صالحة لكل زمان ومكان.. مهما تكن طبيعتها ومصدرها دينيّة أم وضعيّة.. الأخلاق والأفكار والمبادئ في بعديها النظريّ والعمليّ نسبيّة، وطالما هي نسبيّة، فهي تتغير وفقا لمصالح الناس في المرحلة التاريخيّة المعيوشة.. فأخلاق وأفكار ومبادئ المجتمع العبودي تختلف إلى حد كبير عن أخلاق المجتمع الرأسماليّ أو أخلاق دول العالم الثالث المتداخلة فيها قوى وعلاقات الإنتاج ما بين الرعي والزراعة والاقتصاد الريعيّ والبسيط. أو بتعبير آخر تختلف ما بين أخلاق العشيرة والقبيلة والطائفة والمذهب، عن أخلاق الدولة المدنيّة والمجتمع المدني ودولة القانون والمحاسبة.

عموما نقول: إن الأخلاق التي نعوّل عليها اليوم تحت مظلة غياب مفهوم الدولة والقانون والمواطنة، هي الأخلاق التي تساهم في بناء الدولة المدنيّة ومؤسساتها والمواطنة.. أي الأخلاق التي تحق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص للجميع، والأخلاق التي تحترم العمل والكفاءة وحب الوطن والمواطنة.

س8- ما هو دور التدين الذي يسود في بنية علاقاتنا الماديّة والفكريّة وأين موقعه أو قربه من النص القرآني؟.

ج8- التدين هو تلك البنية الفكريّة المشتقة من النص القرآني ومن الحديث الشريف وما أدلى به الأئمة والفقهاء تاريخيّا. وهي بنية غالبا ما يطالب مشايخ الدين ومؤسسات الدولة المهتمة بالشأن الديني، تطبيقها سلوكا أو ممارسة.. بيد أن هذه الممارسة غالبا ما تكون شكليّة ومشبعة بالطقوس والرموز والأساطير والكرامات. هذا إضافة إلى اشتغال البنية الاجتماعيّة على مرجعيات تقليديّة ذات بعد طائفيّ ومذهبيّ غالبا ما تدفع إلى صراعات طائفيّة وحروب أهليّة مقيتة. وبالتالي هذا ما يدل على ابتعاد هذا التدين عن روح الدين الحقيقيّ ومقاصده.. وهي مقاصد تدعوا إلى نشر المحبة والتسامح واحترام الآخر المختلف.

س9 - كيف عليّ أن أتعامل مع محيطي الاجتماعيّ الذي أنشط فيه؟.

ج9- عليّ بداية أن أنظر إلى الواقع الذي أنشط فيه خارج التفكير الذاتيّ والعاطفيّ والحدسيّ، أو أي موقف قبليّ مسيس أو مؤدلج بروح العداء والكراهية للمختلف.. وكذلك خارج الفكر الدينيّ الامتثاليّ الاستسلاميّ الذي يرفض العقل والتفكير والحكم على النص المقدس وفق مصالحه الإنسانيّة.. واتخذ من المنهج العلميّ في التفكير والممارسة وسيلة للتعامل مع هذا الواقع.. من خلال الاقرار. بأن الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة المحيطة بي لها أسبابها وقوانينها الموضوعيّة التي تتحكم فيها.. ودوري أن أسعى بحثا واستقصاء واستقراء وتحليلا واستنتاجاً لكشف هذه القوانين والبرهان على صحتها والتسلح بها.. ومن جهة أخرى عليّ أن أقر بعد اشتغالي المعرفيّ هذا، أن هذه الظواهر ليست ثابتة.. بل هي في حالة سيرورة وصيرورة دائمة.. أي في حالة حركة وتطور وتبدل.. وأن معرفتها ستظل بالضرورة معرفة ناقصة.. فلا شيء مطلق.. كل شيء نسبيّ.

ومن جهة أخرى عليّ الاقرار بأن تسخير قوانين هذه الظواهر لا بد أن تساهم به الدولة بمؤسساتها التي يحكمها القانون.. ومحاسبة من يستثمر معطيات هذا الواقع الماديّة والروحيّة لمصالح أنانيّة ضيقة عشيريّة كانت أو قبليّة أو طائفيّة أو حزبية شموليّة، أو مرجعيات ضيقة لقوى اجتماعية أسرية أو غيرها.. ففي مثل هذا الضبط القانوني والمؤسساتيّ، ستتحقق المواطنة والدولة المدنيّة ولا يعود الوطن غنيمة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

 

في المثقف اليوم