قضايا

رائد عبيس: جريمة سجناء بادوش وإشكالية التوصيف القانوني

يُقال في القاعدة المشهورة: (لا مُشَاحَّة في الاصطلاح) ونريد أن نخالف هذه القاعدة، بالوفرة المتحصلة بدلالة المعاني الواردة لكل كلمة، لا سيما في سياقها القانوني الذي يتجه صوب حفظ الحقوق، ومراعاة العدالة، وتحقيق المعنى المثيل لطبيعة الحدث. قد تتوارد وتتوالد العبارات، بطريقة تتجه بنفس الوصف، المتداول بين الناس شعبياً، وكما وصفت لأول وهلة، وقد لا تحضر بذلك المعنى وذات الوقع، الا بالتعبير عنها بنفس المفهوم العميق الذي ألفته أسماع الناس.

فكلمات مثل: جريمة، ومجزرة، ومذبحة، وإبادة، كلها تشترك بنتيجة القتل ومآلاته، وإن كانت كلمة جريمة تصدق على أفعال أخرى مختلفة، ولكن المراد بذكرها هنا "جريمة القتل" على نحو خاص. فما شأن بقية الكلمات التي لم نشأ أن نعالجها معجمياً، بقدر ما نريد إن نحدها اصطلاحياً بكونها مصطلحات ترد في العادة في مسودات، وقرارات قوانين في مجال القانون الجنائي، والقانون الحقوقي،والتشريعات القانونية والفقهية.

ونريد أن نشير في هذا المقال إلى الأشكال القانوني الظاهر في توصيف (جريمة سجناء بادوش) ونقول عنها جريمة لنختصر القول فيها بنتيجة الحدث الواقع. ولنأخذ معاً بالتوصيف المناسب لطبيعة هذه الحادثة، ونحن نقف على عدة مصلحات ومفاهيم، لم نجد استقراراً في استعمالها، مثلاً توصف على أنها: (جريمة حرب) (جريمة ضد الإنسانية) (جريمة إبادة جماعية) وهذا ما وحدته لجان حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بتوصيفها كلمة "جريمة" بكونها تشير إلى فعل جنائي صرف بكل الأحوال. ولكن حاجتنا إلى التوصيفات المكملة والمضافة إلى كلمة جريمة، هو بسبب أبعاد عرقية، ودينية، وقومية، وسياسية، وهوياتية. وهنا يتحقق الإشكال في معنى الوصف! وهنا ممكن أن نخالف القول الدارج لا مشاحة بالمصطلحات، بل هنا يتطلب الأمر لرفع المشاحة، ومخالفتها والقول بنقيضها، وما يزيد في القول الواصف، وتحقيق الوفرة.

ظهر هذا الأشكال الاصطلاحي في قرار رقم (4) لسنة 2015 المشرع من قبل البرلمان العراقي،والمصادق عليه من قبل رئيس الجمهورية، وكذلك في الدوائر المعنية بتنفيذ هذا القانون وتصريحاتهم بخصوص هذا الأمر.

ذكر المشرع العراقي في الفقرة الأولى من القانون اعلاه، واصفاً الجريمة على إنها "مذبحة سجن بادوش"، وفي الفقرة الثانية من القانون ذكرها على أنها "مجزرة " تشبه مجازر أخرى ذكرها القانون في نفس الفقرة. وذكر المشرع في هذه الفقرة إن هذه المجزرة يجب أن توثق توثيقاً معتمداً وتقدم إلى فريق التحقيق الدولي الذي شكلته الأمم المتحدة والمنتظر قدومه للعراق في حينه! علماً إن هذا الفريق يعتمد توصيفات محدده في بنوده بين جريمة حرب، أو جريمة إبادة، أو جريمة ضد الانسانية!

وأشار التقرير مُجدداً في الفقرة الثالثة إلى مصطلح "مذبحة سجن بادوش" وإن المذبحة على وفق التعريف الدقيق للكلمة هو من يفعل به فعل "الذبح" كما تذبح المواشي، بينما فعل بهم، وقد يكون كذلك، كل أنواع القتل، ذبحاً وقتلاً بالرصاص، وقد يكون خنقاً، أو غرقاً، أو حرقاً جزئياً، وهنا يكون الاستعمال الادق للمعنى، ولأول وهلة، وبكون مجريات التحقيق لم تتم بعد،يكون من المناسب استعمال كلمة "جريمة" (جريمة سجن بادوش). بينما نجد المشرع العراقي يستعمل في الفقرة الرابعة منه كلمة "مجزرة". وكلمة "مجزرة" لها مدلول مختلف من حيث تطابق عدة أفعال لإكمال معناه وتحققه. وكذلك في الفقرة الخامسة يستعمل كلمة "مجزرة"، بينما نجد في الفقرة الأخيرة من القانون، وهي الفقرة السادسة لا علاقة لها بباوش! وإنما تخص جرائم داعش بحق النساء، ولا نعلم هل سجناء بادوش هم من الرجال والنساء معاً؟ أم للرجال فقط؟

كما أن المشرع العراقي في نفس القانون وعنوانه، يشرع بتصنيف المذبحة على إنها جريمة إبادة جماعية! وهو لا يملك قانون يعرف بالإبادة الجماعية، حتى نعرف هذا التصيف ينطبق عليها فعلا أم لا؟! وكيف للمشرع العراقي أن يستعمل كلمة مذبحة مرتين في القانون! ويستعمل كلمة مجزرة ثلاثة مرات! ولم يلتفت إلى توحيد المسمى والتوصيف! وأهميته في ذلك.

ونسمع أيضاً بتوصيف آخر من خلال تصريحات المسؤولين التنفيذيين وهو مصطلح "ضحايا سجناء بادوش" ولم نجد أكثرهم يستعمل المصطلحين الرسميين الواردين في القانون المشار إليه في أعلاه وهو "مذبحة سجن باوش" أو "مجزرة سجن بادوش" بل يذهبون إلى استعمال ما يتم تداوله إعلامياً أكثر وهو "ضحايا سجن بادوش" أو ما يعبر عنها أيضاً بمصطلح "ضحايا مجزرة بادوش".

بينما تفضل بعض وسائل الاعلام استعمال مصطلحي "شهداء سجن بادوش" و"ضحايا نزلاء سجن بادوش "، وعبر عنهم بالشهداء؛ لأنهم قتلوا على الهوية الطائفية!، وهو السبب الرئيس لحدوث الجريمة! ولم يذكر القانون إنهم شهداء بل وصفهم "بالمغدورين"، واستعمل بحقهم ايضاً كلمة نزلاء؛ لأنهم أنزلوا في هذا السجن واودعوا به بعد نقلهم له من سجون من وسط العراق وجنوبه، بخطأ استراتيجي من قبل الحكومة التي لم ترع أي اعتبار للموقع الجغرافي، ولا الإنساني، والاجتماعي، من حيث صعوبة تنقل الاهالي لهم في أوقات الزيارة والمواجهة.

كثيرة هي الأخطاء التي أودت بحياة العراقيين وزيادة مآتمهم ومصائبهم التي تتكرر عليهم يومياً بعناوين شتى، بالأمس كانوا يسمون بالمفقودين، واليوم بالموتى، وما بين الأولى وتأكيد الثانية، ألف لوعة ولوعة، في نفوس أهاليهم، وذويهم، وألف ألم تحكيه تجاعيد وجوه أمهاتهم وآبائهم التي تسببت بها أنظمتهم السياسية الفاشلة، وحظهم بها ومنها مزيد من آلم الفقد والخراب!

***

د. رائد عبيس

في المثقف اليوم