قضايا

عبد الجبار الرفاعي: القراءة العشوائية

أعرف أشخاصاً يقرؤون كلَّ شيء يقع بأيديهم منذ عشرات السنين، لكنهم مصابون بسوء هضم. مطالعاتهم لا تعمل إلا على تكديس المزيد من المعلومات العشوائية، بلا أن تلهمهم أسئلةً جديدة، أو تضيء عقولَهم رؤيةٌ أعمق وأدق للعالم، أو تضعهم تلك المطالعاتُ في الأفق الراهن لزمانهم. ليس المهم كمية ما يقرأ الإنسان، المهم نوعية ما يقرأ، وكيفية تلقيه لما يقرأه، وقدرة عقله على تمثله وتوظيفه، وتجلي أثرِه في نمط تفكيره وشخصيته وسلوكه. بعضُ القراء ليس له من قراءته إلا المزيد من التيه والتخبط وتشوه الوعي. إنه كمن يأكل الكثيرَ من الطعام بشراهة، إلا أنه مصابٌ بسوء هضم، فمعدته تعجز عن هضم معظم ما يأكله، ما تهضمه من الطعام يعجز جسدُه عن استثماره في عملية التمثيل الغذائي وبناء الجسد. أعرف رجلًا في العقد التاسع من عمره، بدأ يقرأ منذ بداية حياته، يقرأ حيثما يكون، يقرأ كلَّ كتاب يقع بيده مهما كان، ‏إلا أن وعيَه لم يتطور أبدًا، لبث قابعًا في بيئته الأولى، لم تمنحه القراءةُ القدرةَ على اكتشاف آفاق رحبة في الحياة، ولم تلهمه أيةَ أسئلة. لا يمكن أن يصدق على أمثال هذا الإنسان عنوانُ قارئ، على الرغم من غزارة قراءاته وتنوعها. قراءاته كانت ومازالت حتى اليوم تتخبط بشكلٍ عشوائي بين عشرات الكتب الرثة، وهذا الصنف من الكتب رائج في أسواق الكتاب. القراءةُ العشوائية عاجزةٌ عن التمييز والفرز والتمحيص، تفتقر للقدرة على الإنصات لأيّ صوتٍ ينبعث من الكتب، كأن كلَّ الكتب في هذه القراءة لغتُها ومضمونُها وأفكارُها متشابهة. الكتبُ الجيدة يتطلب اكتشافُها خبرةَ قارئٍ ذكي، ويتطلب التعلّمُ منها عقلًا شجاعًا، والتفاعلُ معها استعدادًا نفسيًا. أعرف مدرسًا للتراث، يقرأ الفلسفةَ والأدب والفن والسينما والمسرح والرياضة والعلوم، يشتري الكتبَ مهما كان ثمنُها، يمتلك مكتبةً تزدحم فيها أصنافٌ لا تأتلف من الكتب والدوريات، يمضي كلَّ أوقات فراغه في المطالعة، يسهر الليلَ غالبًا أيام العطل إلى الفجر، يلتهم بشغفٍ كلَّ شيء تحت يده من رواياتٍ عالمية، وأعمال فلاسفة ومفكرين كبار، ذهنُه مخزنٌ واسع مكتظّ بمعلومات مكدّسة، كأنها مطموراتٌ تحت ركامٍ معتم، لا تنتظم بسياقٍ منطقي، ولا ينبثق منها ضوءٌ يبدّد عتمتَها. رأيتُه كلّما قرأ أكثر ازداد انغلاقًا وتشدّدًا ومعاندة لأية رؤيةٍ مضادة لما يتبناه. يمتلك قدرةً على إماتةِ بذرة أيِّ سؤال، وإسكاتِ أيّ صوتٍ غير مألوف في قراءاته، وإغلاقِ النوافذ أمام كلِّ ما يمكن أن يزلزل شيئًا من أحكامة النهائية وقناعاته الصارمة. كأن ذهنَه تشكله قوالبُ خرسانية غير قابلة للاختراق أبدًا، مهما كان إبداعُ ما يقرأه من روايات مشاهير، وعقلانية وعمق نصوص فلاسفة أمثال كانط، وحفريات أعمال مفكرين في الشرق والغرب. أظنّ البنيةَ اللاوعية لتفكيره، وأفقَ انتظاره وتمنياته وأحلامه ورغباته، تجعل ذهنَه يتحصن بأسوار منيعة، ذهنُه قادر على إجهاض أية محاولة لإيقاظه، وإطفاء شعلة أي تساؤل غريب يمكن أن يخترقه. أراه يشعر بأمان وهو يتشبث بهذه اليقينيات، يظل يحرسها بطريقة لا تسمح لأية فكرةٍ مهما كانت عقلانيةً أن تتسلل إلى حصونها.

بعد مدة من السياحة في عالم الكتب ينبغي على القارئ أن ينتقي ما يقرأه بنباهة ويقظة. العناوين الجذابة كثيرة، غير أن مضمونَ معظمها رديء.كلُّ يوم تضيف دورُ النشر أكداسًا من الكتب في مختلف الآداب والفنون وحقول المعرفة، لا يكفي العمر مهما امتدّ حتى لمطالعة ما هو جيد منها، فكيف يضيّع الإنسانُ العمرَ بكتب بائسة. كما يعمل الإنسانُ على انتقاء أحسن الأشياء من كلِّ شيء، عليه أن ينتقي الكتابَ الذي هو منبعٌ أساسي في بناء وعيه بمهارة. القراءةُ العشوائية إن كانت بدايةً لقراءة تنشد الاكتشافَ واتساعَ آفاق ثقافة الإنسان فهي ضرورية، غير أن من الضروري عبورَها عاجلًا، قبل ضياع سنوات بتخبط فيها الإنسانُ بين الكتب، ربما تقوده إلى متاهات مظلمة يغرق فيها ويعجز عن انقاذ نفسه منها إلى اليوم الأخير من حياته. أتحدثُ عن العشوائية بوصفها حالةً ملازمة للقراءة، تأكل عمرَ القارئ، وتستنزف وقتَه، ولا يجني منها ثمارًا تنعكس على وعيه وثقافته، ولا تترك أثرًا ملموسًا في حياته. إن كانت القراءةُ لغرض التسلية فهي ضروريةٌ أحيانًا مهما كان نوعُ الكتب المقروءة، ضروريةٌ للترويحِ عن النفس، وكسرِ الرتابة الصارمة، وربما للخلاصِ من الملل والسأم والضجر.

ما يخدع القراء من الكتب ويزيّف وعيَهم ليس قليلًا، مثل هذه الكتب ينبغي الفرار من شراكها. لا يعكس تعدّدُ عناوين الكتب ‏واختلافُها تنوع مضمونها، أحيانًا التعدّد تكرارٌ مملّ لكلمات خاوية، لا تجيد رسمَ صورة ما تنشده بلغةٍ صافية، قلّما نقرأ مَن يمتلك موهبةَ إعادة بناء الكلمات ورصفها بتشكيلةٍ معمارية فاتنة. تسود مجتمعنَا حالةُ شغفٍ بالكلام، وطالما تحول الكلامُ إلى ركام كتبٍ مبتذلة لا تقول شيئًا مفيدًا، يضيع فيها عمرُ القراء ويزيف وعيُهم. أعرف رجالَ دين لا يعرفون الكتابة، يتحدثون كثيرًا بثقة عن كلِّ شيء يعرفونه ولا يعرفونه، تتراكم تحتَ أيديهم أموالًا لم يبذلوا جهدًا في اكتسابها، يجندون طلابَ العلم المحتاجين إلى قوتِ يومهم، لينتجوا لهم كتبًا من ركام كلماتهم، بعد سنوات قليلة يباغتون القراء بنشر عشرات المجلدات بأسمائهم.

‏‏القارئ المتمرّس مولعٌ بالاكتشاف، يحاول عبر مطالعة ‏الكتب ممارسةَ هواية ممتعة، يسعى أن يعثر على الكتاب بنفسه، دون أن يدلّه عليه أحد. لا أبحث كثيرًا عن أفكار جديدة في مطالعاتي، أهتمّ بلغة الكتابة غالبًا، لا أواصل قراءةَ الكتاب لو لم أتذوق كلماته. أحاول رصدَ أسئلةٍ جديدة لم تولد بذهني، شغفي الكتاب الذي يحرّض أسئلتي على توليد أسئلة أكبر منها. لا تثير مخاوفي الأسئلةُ الحائرة، مثل هذه الأسئلة تضع الذهنَ في مواجهة مباشرة مع قناعاته، وتقوده لإعادة النظر في وثوقياته وتمحيصها كلّ مرة. ‏أكثر من مرة طالعتُ كتبًا يمتدحها قراء غير أني عجزتُ عن إكمال مطالعتها، ‏بعضُها أتركها بعد مطالعة المقدّمة، وبعضُها أقرأ بضعَ صفحات منها، فأتركها الى الأبد، ‏ذلك ما دعاني لأن أمارس طريقتي الممتعة في اكتشاف الكتب التافهة والثرية بنفسي. القراءةُ ضربٌ من الدهشة، القارئ الحاذق مكتشِف، القراءةُ متعةُ الاكتشاف. عندما يقاد القارئ كأعمى يخسر بهجةَ الدهشة، ويخسر متعةَ الاكتشاف. كلٌّ منا يقرأ على شاكلته، إن قرأ الكتبَ الجادة. ليس بالضرورة أن تكون كلُّ الكتب مناسبةً للكل، لأن مسارَ حياتي يختلف عن مسار حياة غيري، وجيلي يختلف عن الأجيال الأخرى، ‏احتياجاتهم العقلية والعاطفية ليست بالضرورة تتطابق مع احتياجاتي كلها في محطات زمنية متوالية من صيرورة حياتي.

لكلّ مرحلة من مراحل العمر عند أكثر القراء المتمرسين كتبُها وكتّابُها. بعضُ الكتب تدهش القارئَ لأول مرة، وحين يكرّر مطالعتَها في مراحل لاحقة بعد سنوات يفتقد دهشتَه. الوعي يتطور، التجارب تعلّم الإنسان، الجروح توقظ الإنسان، العالم يتغيّر، والإنسان يتغيّر. ربما يصبح القارئ المتمرس مصابًا بالملل وسريعَ الضجر من تشابه الكتب الجديدة الرتيب في اللغة والمضمون مع ما قرأه من قبل، وربما يكتشفُ في رحلة القراءة فجأة كتبًا ثمينة كان غافلًا عنها تفضح انتحالَ كتب كان يعتز بها مما قرأ، فلا تعود الكتبُ الصديقة أمس صديقتَه اليوم. بعضُ الكتب يظلّ يحتاجها الإنسان ولا يستغني عنها في مختلف محطات حياته، مثل الكتب المقدسة، وأعمال الفلاسفة الكبار، والمؤلفات الخالدة في الأدب، يقال إن كارل ماركس كان يعيد قراءةَ شكسبير كلَّ سنة في حياته. ليس هناك وصفةٌ جاهزة كالوصفات الطبية تنطبق على كلِّ إنسان في القراءة أو الكتابة أو غيرها. القراءة تختلف باختلافِ الناس وشخصياتهم ونوع احتياجاتهم المتنوعة، وطبيعةِ الظروف التي يعيشونها.

أفرح بهدية الكتب الثمينة مثلما يفرح الأطفالُ الفقراء بالهدايا النادرة. ‏قليلٌ من الكتب لا تحذفها ذاكرةُ المكتبة، ولا يمحو بصمتَها النسيان. عندما أقرأ مثلَ هذه الكتب أحيانًا أحزن في فقرة، وأفرح في فقرة أخرى، أبتهج في فقرة، وأكتئب في فقرة أخرى. المبدع يبتكر موضوعاتِه الفريدة، وطريقتَه الخاصة في التأليف، ولغتَه الصافية بالكتابة. نادرًا ما أعثرُ على كتابٍ يعلِّمني صنعةَ الكتابة، كتابٌ يختصر مكتبة، كلّما كرّرتُ مطالعتَه أكثر تعلّمتُ أكثر. وأندرُ منه أن أكتشفَ كتابًا بقدر ما يدهشني يبهجني، لا ‏أكتفي بقرائته مرةً واحدة، لا أعرف، ربما لفرط دهشتي لا أستطيع تصنيفَه أو توصيفَه، كلّما أردتُ أن أعرّفه يعاند تعريفي، أستمع فيه إلى: ألحان عازف، أغاني شاعر، مكاشفات عارف، وتأملات ‏فيلسوف، أراه كلوحةٍ فنية تتناغم ألوانُها، وتتحدّث رموزُها لغةً لا يفكّ أسرارَها إلا مَنْ يتذوقها.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

في المثقف اليوم