قضايا

شدري معمر علي: الرواية والتاريخ.. الصراع بين حدود الحقيقة والخيال

أثار الروائي واسيني الأعرج ضجة ثقافية حول قصيدة " حيزية " للشاعر الشعبي محمد بن قيطون وما توصل إليه واسيني الأعرج من فرضيات أن حيزية ماتت مسمومة وأن الشاعر محمد بن قيطون هو عاشق حيزية وشخصية سعيد هي وهمية. كل هذا آثار نقاشا بين الكتاب والمثقفين وهو ظاهرة صحية حركت المياه الثقافية الراكدة.

يبين لنا الكاتب " مفيد نجم " العلاقة الملتبسة بين الرواية والتاريخ فيقول: "  تطرح العلاقة الملتبسة بين الرواية والتاريخ جملة من الأسئلة المنهجية والبنيوية حول طبيعة هذه العلاقة وحدودها، نظرا للتداخل الحاصل بينهما على مستوى الشكل والوظيفة من جهة، وعجز هذه الثنائية عن تقديم هوية سردية جامعة من جهة ثانية. يتم التعبير عن هذه الإشكالية من خلال الجدل المستمر حول المصطلح الدال على هذا النوع من الرواية بين كتاب الرواية والنقاد والدارسين. 

يتنازع مصطلح الرواية التاريخية طرفان مختلفان في الرؤية والمفهوم هما الرواية والتاريخ، فالرواية التي هي عمل ذاتي وفني وتخييلي يتميز عن الكتابة التاريخية التي تدعي الموضوعية وتعمل على تفسير التاريخ. من هنا كان الجدل وما زال مفتوحا بين النقاد والدارسين حول هذا المصطلح الملتبس والإشكالي وقدرته على التعبير عن واقع الرواية التي تظل محكومة بتأثير التاريخ عليها"(1).

قضايا التاريخ دائما تثار حولها ضجة خاصة إذا تناولها الروائيون في أعمال سردية والروائي بطبعه ليس مؤرخا بل يصنع من المادة التاريخية عملا سرديا متخيلا وإن كان يستند على الوقائع التاريخية..

وهذه  القضايا التاريخية التي تناولها الروائيون في أعمالهم الإبداعية وأثارت تلك الأعمال أثناء صدورها ردود أفعال متفاوتة بين متقبل للعمل وناكر له هي من صميم إبداعهم ككتاب مبدعين رأسمالهم الخيال فلا نحاسبهم على التفاصيل الدقيقة للأحداث التاريخية، فهناك من النقاد والدارسين من يكيلون الاتهام للروائي لأنه منحاز لوجهة نظر تاريخية على حساب وجهات نظر أخرى فكأن هذا الكاتب الروائي يسلط الضوء على مرحلة تاريخية معينة تخدم إيديولوجيته أو إيديولوجية دولة معينة طمعا في الفوز ببعض الجوائز وانتشار عمله الروائي على نطاق واسع وهذا مطمح كل كاتب.. فأين الحقيقة من كل هذا وكيف نظر النقاد إلى تناول الرواية للقضايا التاريخية؟

في البداية ينبغي أن نفرق بين التاريخ والتأريخ هكذا يقول الكاتب زياد الأحمد: "نبدأ بالتفريق بين التّاريخ والتأريخ: فالتأريخ بالهمز: هو الكتابة عمّا حدث أمّا التّاريخ فهو إعادة قراءة ما حدث، وإعادة كتابته بصورة أخرى أقرب إلى الحقيقة التاريخيّة ومن هنا كان الإشكال بين الرواية والتاريخ وليس التّأريخ (بالهمز) لأنّ الأديب يقرأ الأحداث بعينين: الأولى واقعية والثانية تخييلية ويعيد كتابتها في بنية فنية"(2)

فالكاتب ليس مؤرخا ينقل الأحداث كما وقعت نقلا حرفيا بل هو فنان يملك القدرة على التخيل فيستلهم من الواقع التاريخي مادة للأعمال الروائية يصبغها بذاته وتصوراته ويسقطها على الواقع المعاصر وكل هذا في عمل بنائي فني جمالي مبهر.

والسؤال المطروح هل الرواية تمثل تعويضا للتاريخ وبديلا عنه ؟فحسب  كارلوس فونتيس الروائي وعالم الاجتماع المكسيكي (1928-2012) فإن الرواية هي تعويض للتاريخ فهو يقول: “أعتقد أن الرواية تمثل الآن تعويضا للتاريخ، إنّها تقول ما يمتنع التّاريخ عن قوله…. نحن كتاب أميركا اللاتينية نعيد كتابة تاريخ مزور وصامت، فالرواية تقول ما يحجبه التّاريخ” (3).

وحتى يخرج النقاد من هذا الجدل حول إشكالية الرواية والتاريخ واتهام الروائي في كثير من الأحيان أنه يشوه الحقائق التاريخية لحساب قراءة منحازة إيديولوجية كما حدث للروائي الشاب " عبد الوهاب عيساوي " في روايته الفائزة بجائزة البوكر العالمية " الديوان الإسبرطي" ففي تقديمه لكتاب" الرواية والتاريخ، وقائع الأرشيف ومجازات السرد" لصبحي حديدي يقول الكاتب محمد بكري: "دعا عبدالله إبراهيم، في كتابه “التخيّل التاريخي” إلى إحلال مصطلح “التخيّل التاريخي” (الذي يعني المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية) محل مصطلح “الرواية التاريخية”، مؤكدا أن هذا الإحلال سوف يدفع بالكتابة السردية إلى تخطي مشكلة الأنواع الأدبية وحدودها ووظائفها، ويفكك ثنائية الرواية والتاريخ، ويعيد دمجهما في هوية سردية جديدة، فلا يرهن نفسه لأيّ منهما، كما أنه سوف يحيّد أمر البحث في مقدار خضوع التخيلات السردية لمبدأ مطابقة المرجعيات التاريخية، فينفتح على كتابة لا تحمل وقائع التاريخ ولا تعرّفها، إنما تبحث في طياتها عن العبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وبين التماثلات الرمزية فيما بينهما، فضلا عن استيحاء التأملات والمصائر والتوترات والانهيارات القيمية والتطلعات الكبرى، فتجعل منها أطرا ناظمة لأحداثها ودلالاتها"(4).

بهذا يتحرر الكاتب من تهمة تزوير التاريخ ويحاكم وكأنه مؤرخ ينقل الأحداث والوقائع كما هي لا كسارد يعتمد في كتاباته على مخيلته وإن كانت مستندة على مادة تاريخية فكتابته هي تاريخ متخيل او خيال يركن إلى فترة تاريخية معينة ..

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

شدري معمر علي

........................

المراجع:

1- مفيد نجم، حوار الرواية والتاريخ: مشكلة المصطلح، مجلة الجديد.

2- زياد الأحمد، العلاقة بين الرواية والتاريخ، مجلة الجديد .

3- مجلة الكرمل العدد 18 نقلا عن مجلة الجديد..

4- محمد بكري، صبحي حديدي يدرس علاقة التاريخ بالرواية في أعمال سردية، جريدة العرب

في المثقف اليوم