قضايا

نصان من "الحكمة الصينية"

لـ "تشوانغ تسو" و"هان فاي تسو"

ترجمة: عبد الوهاب البراهمي

***

1- "أُطْلِقُ العنان لقوى الفكر"

"تشوانغ تسو " Tchouang-Tseu

"ذبح الجزّار تينغ ثورا للأمير "وانهاو Wenhouei". وكان إذا ما قبضت يده الذبيحة، والتصقت كتفاه بكتلتها اللحمية، ونزل بركبتيه وغرسها فيها، نسمع رنين صوت "تشيك"!؛ ليردّ سكّينه على الصوت بآخر"تشاك"! في إيقاع يبدو كأنّه يستعيد رقصة قديمة "بستان التوت"، مستجيبا لمناخ سلالي " رأس مقطوعة".

صاح الأمير: "آه! إنّه لرائع !أن يكون بالإمكان إدراك مثل هذا الكمال التقني!"

فيجيبه الطبّاخ، وقد وضع سكّينه: "إنّ ما يأتيه خادمكم في عمله، هو الطريقة ذاتها التي تسير عليها الأشياء، فيما وراء مجرّد التقنية. فحينما باشرت مهنتي أوّل مرّة، كنت لا أرى إلاّ الثور أمامي. وبعد ثلاث سنوات لم أعد أنظر إليه ككلّ. وفي الحاضر، أجده و أتمثّله بالفكر دون اللجوء إلى البصر: فليس لمعرفة حواسيّ أن تتدخّل وأطلق العنان لقوى الفكر، التي تستهدي الهيكل الداخلي للثور. يقصّ سكّيني بين الفواصل، ينتقل عبر التجاويف متّبعا ما هو كامن. وتسير شفرته إذن دون أن تصطدم بالعروق و الشرايين، ولا بالأربطة والأوتار، ولا، طبعا بالعظام. يغيّر الجزّار الماهر شفرة سكّينه مرّة كلّ سنة، لأنّه يصقلها. ويغيّرها جزّار عاديّ كلّ شهر، لأنّه يقطع. إنّ السكّين الذي تشاهده مرّ عليه تسعة عشرة سنة، لقد قصصت به آلاف الأبقار، غير أنّ شفرته ظلّت حادّة كما لو كانت للتوّ على حجر الشحذ. يوجد بين المفاصل فجوة؛ بيد أنّ حافّة الشفرة رقيقة. فإذا ما نفذنا إلى هذا الحيّز الفارغ أو الفجوة بواسطة شفرة غير متينة، كانت لنا فسحة أن ننسلّ إلى الداخل؛ بل إنّنا نضمن فيه هامشا! لأجل هذا أستعمل هذا السكّين منذ تسعة عشر سنة، وهو شديد الحدّة كما لو كان قد شحذ للتوّ. بيد أنّه حينما أصِلُ إلى مفصلٍ معقّد، أحدّد كيف تبدو الصعوبة؛ وأتوقّف للملاحظة، متحوّطا، ثمّ أتصرّف بتِؤدة. وأستخدم السكّين بمرونة فائقة، ثمّ " بوف" ! هذه الأجزاء تتساقط على الأرض وقد قسّمت، لتمرّ البقرة من الحياة إلى جثّة هامدة دون أن تحسّ بذلك! فأسحب إذن الشفرة، وألتفت وأنظر حولي، مغتبطا، راض، وأنظّف سكّيني وأضعه في مكانه."

-" ممتاز! يقول الأمير وهو يستمع لكلمات الجزّار تينغ، لقد أدركتُ معنى أن يغذّي المرء حياته".

Tchouang-tseu, chap. 3, «Clef pour nourrir sa vie», trad. Romain Graziani dans Fictions philosophiques du «Tchouang-tseu» © Gallimard, 2006

....................

2- "تَخَلّص ممّا تحبّ وتكره"

هان فاي تسو Han Fei-tseu

" يتحكّم صاحب السيادة المستنير ويراقب رعاياه بواسطة مقبضين، ولا حاجة له لغيرهما. " وهذان المقبضان هما العقاب والثواب. ماذا نعني بهذا؟ " يُتَرجم العقاب بالاتهام والحكم بالموت. و الثواب بالشرف والمكافأة." وحينما يستقيم احترام الرعايا بالعقوبات و يلتمسون نفعهم في نيل الشرف والمكافآت، فإنّه يكفي الحاكم تطبيق نظام العقوبات عن طواعية حتّى يعبّر رعاياه، مهما كان عددهم، عن خشية واحترام أمام سلطته وينضمّون إلي نفعه.(...) ولكن في عصرنا الحاضر ومع وجود الوزراء الخونة والمخادعين، يكون الأمر على نحو آخر:" يناولون من الحاكم اتهام أعداءهم والزيادة في مكافأة من نال رضاهم." ففي أيامنا، ليس الحاكم أصلا للمنافع التي نغنمها من نظام المكافآت. ولا يتمتّع حتى بالسلطة الناجمة عن مختلف العقوبات الجزائية. بل نرى أكثر الحكّام يطيع وزراءه حينما يوزّع العقوبات والمكافآت. وهو ما ينتج عنه خشية البلاد كلّها للوزير الأول ولا يجدون ذلك للحاكم على أيّ حال. (...) ذلك هو بلاء حاكم البشر حالما يفقد التحكّم في العقوبات والمكافآت. بيد أنّ النّمر يتغلّب على الكلب بفضل أنيابه ومخالبه. لكن أقْنِعوا النّمر بالتخلّي عن أنيابه ومخالبه لفائدة الكلب، فسترون الكلب يتغلّب على النّمر. (...)" قوجيان، ملك يو Yue، يجدّ في طلب الشجاعة، فكان العديد من أفراد شعبه يعلنون كرههم للموت. أمّا لينغ ملك شِي Chu، فيعشق ذوات القوام الرشيق: فشاع التدرّب على فقدان الشهية في بلده. ويوهان دوق كي Qiقد عرف بغيرته من وزراءه وضباطه وإيلائه كامل اهتمامه لحياته الخاصّة: شو دياهو Shu Diao كان يعذّب نفسه أيضا لأجل أن يدير القصر (حيث يقيم النساء)؛ وكان الدوق يوهان أَكُوًلا: فطبخ يي يا Yi Ya رأس ابنه وقدّمه له؛ ولمّا كان زي كييا Zi Kuai ملك يان Yan يحبّ الحكماء، كان زيزهي Zizhi يؤكّد أنّه لن يقبل بقيادة البلاد. وحينما علم الحاكم ببغضه، أخفى كلّ وزراءه دوافعهم ومبرّراتهم. وحينما علم بميولاته، كان الرعايا يتكتمون على قدراتهم الحقيقيّة. إنّه لمّا تقع خيانة رغبات حاكم البشر، يعدّ جمهور الرعايا أنفسهم للتصرّف على نحو يخدم جانب الحاكم. من هنا كان القول:" تخلّص ممّا تحبّ وتكره، فسينكشف جمهور الرعايا على حقيقتهم . فمن المستحيل خداع حاكم كبير حينما يكشف الرعايا عمّا في قلوبهم".

Han Fei-tseu, chap. 7, trad. Romain Graziani.

***

في المثقف اليوم