قضايا

طه جزّاع: ثعابين السياسة وحمائم الأخلاق

منذ أكثر من مائتي عام، توهم الفيلسوف الألماني إمانويل كَنْت بأنه يمكن أن يقدم مشروعاً للسلام الدائم، حين نشر في العام 1795 كتيباً يتضمن فكرة انشاء حلف بين الشعوب من أجل وضع حد للحروب وشرورها وأهوالها. ولأن الفلاسفة حالمون بطبعهم مثل الشعراء الرومانسيين، ولأن الحرب هي « حال الفطرة للإنسان»، فإن الحروب والنزاعات بين البشر لم تتوقف لا قبل ذلك التاريخ ولا بعده، ومنها حربين عالميتين مدمرتين، وحروب أخرى كبرى وصغرى، وطويلة وقصيرة، وعادلة وعدوانية، وحروب أهلية، وصراعات دولية، ونزاعات إقليمية، لم توقفها لا عصبة الأمم، ولا هيأة الأمم. صحيح أن الرئيس الأميركي ويلسون الداعي إلى إنشاء عصبة الأمم- كما ينقل عثمان أمين مترجم «مشروع للسلام الدائم» إلى اللغة العربية، عن بعض الكُتاب تأكيدهم – أنه كان يحتفظ لقراءاته اليومية بهذا الكتاب، لكن واقع الحال يؤكد إن الإنسان بفطرته مجبول على الحرب، أكثر من نزوعه للسلام، وبدليل هذه الحروب المتصلة والمتسلسلة في مختلف بقاع الأرض، فما تكاد حرب في جبهة ما تضع أوزارها، حتى تنشب في جبهة أخرى، بذرائع ومسببات لا حصر لها.

وفي عالمنا هذا الذي تسوده الفوضى والاضطرابات والنزاعات المسلحة، وتحتكم فيه الشعوب والجماعات إلى منطق القوة الغاشمة والغلبة وشريعة الغاب، وتتواتر فيه صور وأخبار القتل المريعة والإجرام، والبشاعة في ابتكار وسائل القتل والتعذيب والانتقام، لا يبقى للإنسان الذي خصه الخالق من دون الكائنات الحية كلها بالعقل المبدع والروح السامية، من خيال رومانسي وإبداعي، إلا ما يعينه على حماية نفسه من الأذى، وما يسانده في صراعه من أجل البقاء، شأنه شأن أي حيوان بري، لا هدف لحياته ولا معنى لها إلا بتدبير ما يقيه من الموت جوعاً وعطشاً، والبحث عما يفترسه من حيوانات أضعف منه، والاختباء والهروب عن حيوانات أقوى منه وأشد فتكاً وافتراساً في معركة البقاء من أجل الحياة. ولقد مرت البشرية بحقب تاريخية من العنف والحروب والإرهاب والترهيب والدمار والاقتتال الوحشي وقساوة القلوب ومكر العقول الدواهي في الكر والفَّر، وقعقعة السيوف ودوي المدافع، واكتوى ملايين البشر بنيران الحروب ومصائبها، وذهبت ملايين الأرواح البريئة ضحية لا إنسانية الإنسان، فما أنتجت لنا تلك الأزمان غير التخلف والآلام والتقهقر في الخيال والابتكار والإبداع البشري، مثلما مرت البشرية بحقب قصيرة من السلام والتآلف والتعاون والوئام، فازدهرت الحضارة الإنسانية علماً وبناءً وأدباً وفناً، حتى إذا ما انتهى الإنسان إلى عصرنا الراهن، الذي يسمى عصر العلم  والتقدم والتكنولوجيا وثورة الاتصالات، وجد نفسه في أسفل سافلين، بعد أن فقدت الروح الإنسانية سموها الذي خصها بها الخالق، وتبارت العقول في ابتكار أبشع وسائل القتل والتدمير وانتهاك المحرمات، فأينع خيال الشر في الإنسان، وجَّفت منابع الخيال الإنساني الخَّير، ونهضت إرادة الشر في الإنسان، وتوارت إرادة الخير خلف حجاب. وإن الإنسان المسالم البسيط ليعجب اشد العجب من هذه القدرة العجيبة التي يمتلكها الآخر في ابتكار وسائل القتل والإيذاء والإجرام والانتقام والتباهي بها، وكيف اتخذت مسيرة البشرية هذا المسار الذي عاد بها القهقري إلى منطق القوة وشريعة الغاب، وظلام الكهوف، وفحيح الأفاعي، وصوت الخفافيش، في زمن تتحدث فيه الحكومات عن لوائح حقوق الإنسان، ويتبارى فيه المتبارون والخطباء في كل مناسبة للحديث عن الحق والعدالة والجمال وإنسانية الإنسان.

ولأن الفيلسوف كَنْت، يُعد من بين أكبر الفلاسفة الأخلاقيين في الفلسفة الحديثة، فقد كان يحلم بالتوافق بين السياسة والأخلاق: السياسة تقول « كن مستبصراً كالثعابين» وتضيف الأخلاق شرطاً مقيداً «وكن بسيطاً كالحمائم»، هكذا يكتب، ثم يتحدث عن الأساليب الملتوية المنافية للأخلاق التي تعمد اليها السياسة «بدعوى قيادة الشعب من حال الحرب – التي هي حال الفطرة – إلى حال السلام»، وتتمثل تلك الأساليب في مقولات مثل « افعل ثم برر»، و « إذا فعلتَ فأنكر»، و» فرق تسد»، ومن ذلك: « إذا كنتَ قد دفعتَ الشعب إلى اليأس وإلى العصيان، فأنكر أن يكون الذنب ذنبك، وأنسبه إلى عناد رعاياك، وإذا استوليت على شعب من جيرانك، فألق الذنب على طبيعة الإنسان، وقل إنك إذا لم تسبق جارك بالعدوان، فلست تأمن ألا يبادرك هو، ويستولي عليك». أما المواد التمهيدية التي وضعها كَنْت لتحقق سلام دائم بين الدول، فهي تبدو في عالمنا المعاصر أشبه بالنكت والطرائف، ومنها المادة التي تنص على الغاء الجيوش الدائمة الغاءً تاماً على مر الزمان، وكذلك المادة التي تقول أنه : « لا يجوز لأي دولة أن تتدخل في نظام دولة أخرى أو في طريقة الحكم فيها».

عُرف كَنْت بفلسفته النقدية التي هيمنت على توجهات الفلسفة الحديثة، والتي أسس لها في مؤلفاته الثلاثة:» نقد العقل المحض» الذي خصصه لنقد مبادئ العلم، و» نقد العقل العملي» لنقد مبادئ الأخلاق، و» نقد مَلَكة الحُكم» لنقد مبادئ الذوق، لكنه في محاولته الفلسفية هذه، كان ناقداً سياسياً وقانونياً وأخلاقياً واسع الخيال، حين توهم بإمكانية وجود عالم خالٍ من النزاعات والحروب والشرور بين الأمم.

وتبقى مشاريع الفلاسفة مجرد أحلام وأمنيات لا توقف شناعات الإنسان وأفعاله المنكَرات، مادامت ثعابين السياسة تنتصر دوماً على حمائم الأخلاق.

***

د. طه جزّاع – كاتب وأكاديمي

في المثقف اليوم