قضايا

محمد محفوظ: التحريض الطائفي والوحدة الوطنية

يبدو من المعطيات القائمة اليوم، أن ثمة عودة للخطابات التحريضية الطائفية التي توزع الأحكام المطلقة الكاسحة، وتبث الكراهية بين المواطنين، وتسعى نحو خلق حواجز عميقة بيم مواطن خليجي وآخر باعتبارات مذهبية.. فأصبحنا صباح مساء نسمع الرديح الطائفي الذي يوغل الصدور، ويشحن النفوس بغضا وكراهية وعداوة ضد الآخر المذهبي.. والذي يثير الأسى أن هناك شخصيات أكثر حكمة ووعيا وإدراكا لمآلات هذه الخطابات والنزعات، إلا أنها ولأسباب نجهلها وقعت في الفخ الطائفي، وبدأت تمارس عملية التحريض الطائفي.. والمادة المستخدمة في عملية التحريض وبث الكراهية المذهبية، هي مزيج بين أحداث التاريخ وأحداث الراهن، ومعادلة صفرية يعمل أصحاب هذا الخطاب على تعميقه في المشهد الإعلامي والثقافي والسياسي الخليجي.. 

فالأحكام والأوصاف الشنيعة،لا تتجه نحو  فرد ارت كب خطأ أ وخطيئة، وإنما نحو مجتمعات بكاملها، يوصف بصفات أقل ما يقال عنها أنها ضد ومخالفة للتوجيهات القرآنية التي تقول [ ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ].. فغابت ثقافة التمحيص والتبين، وشاعت الأحكام الجاهزة والسهلة، التي تعادي مجتمعات، وتطلق أوصافا مقززة للنفس لم يطلقها رسول الله صلى ال عليه وآله وسلم وأهل بيته وصحبه على أعدائهم وخصومهم من الكفار والمشركين والمنافقين.. 

وفي زمن التحريض الطائفي، الجميع يدعي أن واجبه الديني والأخلاقي والوطني، يقتضي فضح هذه الفئة أو تلك، دون أن يتبصر أحد بمآلات ما يقولون أو يطلقون أحكاما ظالمة تجاه بعضهم البعض.. فليس سرا أن المسلمين اختلفوا أو توزعوا في مذاهب فقهية عديدة منذ مئات السنين، وأن لكل مذهب منظومته الفقهية والعقدية، وإن لكل مذهب مبرراته النقلية والعقلية لما يذهب إليه أو ما يؤمن به.. وهذا الأمر حقيقة تاريخية لا يمكن نكرانها وتجاوزها.. وإن الخلاف بين المسلمين لم يبدأ اليوم، وإنما من مئات السنين.. لهذا فإن التحريض المذهبي والطائفي اليوم، ليس بريئا، وإنما هو جزء من أجندة سياسية، تستهدف زيادة الشرخ الطائفي في منطقة الخليج، وزيادة وتيرة السجالات المذهبية لتمرير خطط ومؤامرات تضر بالسنة والشيعة في الخليج معا.. وإن صمتنا تجاه عمليات التحريض والتوتير الطائفي أو مشاركتنا فيها، هي جزء من الخطايا التي نرتكبها بحق أنفسنا وبحق المجتمعات التي نعيش فيها.. 

فالتحريض الطائفي لن ينهي السنة أو الشيعة من الخليج، وإنما سيوفر لهما أسباب الاحتراب والكراهية.. وإن أسباب الاحتراب والكراهية حينما تتعمق في نفوس الناس، فإننا جميعا نصبح أمام خطر حقيقي على أمن واستقرار المنطقة بأسرها.. فالنار الطائفية حينما تشتعل فإنها لن تحرق فقط خصمك المذهبي وإنما ستحرق أيضا شاعلها.. 

لهذا فإننا نحذر الجميع من الصمت تجاه عمليات التحريض والتوتير الطائفي التي تشهدها منطقة الخليج هذه الأيام.. وأرى إن أي جهد تحريضي بين السنة والشيعة في الخليج، فإنه ينذر بمخاطر جسيمة علينا جميعا.. لهذا فإن المصلحة الخليجية العامة، تقتضي الإسراع في إخماد نار الفتنة والتحريض الطائفي،و عدم السماح القانوني لخطابات الفتنة والتحريض من الاستمرار في خلق الفتنة أو التحريض الطائفي بين مجتمعات الخليج.. 

ولعل من أهل المغالطات التي تلوكها الألسن هذه الأيام، أن من أجل الوحدة الوطنية في بلدان الخليج العربي، نحن نمارس عملية فضح هذه الجهة المذهبية أو تلك.. لأن التحريض الطائفي بكل أشكاله ومستوياته، هو مناقض للوحدة الوطنية في الخليج.. فالوحدة الوطنية في الخليج، لا تبنى بمحاربة السنة أو الشيعة، بل تنهدم كل أركانها حينما نسمح للحروب الطائفية بالاستمرار.. فالوحدة الوطنيةكمفهوم وكحقائق اجتماعية وسياسية وثقافية، هي على النقيض من خطابات التحريض الطائفي.. وإن من يبحث عن تعزيز قيم الوحدة الوطنية في مجتمعات الخليج، فعليه أن يكف عن ممارسة التحريض الطائفي..لأن مآلات خطاب التحريض المذهبي لا ينسجم ومقتضيات الوحدة الوطنية.. 

وإن السمح لأي طرف في أي دولة خليجية للاستمرار في خطاب التحريض وبث الكراهية المذهبية بين المواطنين، يعني على المستوى الواقعي السماح له بهدم مرتكزات الوحدة الوطنية في المجتمعات الخليجية.. وإن الوقائع الطائفية التي تجري اليوم في أكثر من بلد عربي، ليست مدعاة للاصطفافات الطائفية والتمترسات المذهبية، وإنما هي مدعاة للوحدة وبناء حقائق الائتلاف والتلاقي بين مختلف التكوينات المذهبية، وخلق الإرادة العامة والجماعية لمعالجة تلك الوقائع الطائفية المقيتة.. ليس مطلوبا من النخب الثقافية والعلمية والسياسية،  في ظل هذه الظروف الحساسة، التمترس المذهبي والتخندق الطائفي، وإنما المطلوب هو العمل على معالجة كل الوقائع الطائفية، التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحد.. 

فالمسألة الطائفية في منطقة الخليج العربي، لا تعالج بالانكفاء والعزلة، ولا تعالج بتوتير الأجواء وخلق الخطابات التحريضية التي تزيد المشكلة اشتعالا.. وإنما تعالج بالوعي والحكمة والإرادة السياسية والعامة التي تفكك المشكلة من موقع التعالي عن الاصطفافات الطائفية.. فالدعاة والعلماء والخطباء والمثقفيم والأدباء، ينبغي أن يكونوا جزءا من الحل، وليس جزءا من المشكلة.. وإننا مهما كان الوضع على صعيد العلاقات المذهبية صعبا ومتوترا، ينبغي أن نستمر في حمل مشعل الوحدة والتفاهم والتلاقي والاحترام المتبادل.. ولا بد من الإدراك أن الخطابات الأخلاقية والوعظية بوحدها، لا تعالج المشاكل الطائفية.. وثمة ضرورة فائقة لإسناد هذه الخطابات والتوجيهات الأخلاقية، بسن منظومة قانونية متكاملة، تجرم وتعاقب كل من يسيء إلى مقدسات الآخرين.. وندعو هنا كل دول الخليج وهي جميعا تحتضن في مجتمعاتها تعددية مذهبية، إلى الإسراع في سن القوانين التي تجرم أية ممارسة تمييزية بين المواطنين على أسس مذهبية، وتحث من  موقع القانون والإجراءات الدستورية والإدارية إلى الدمج بين المواطنين وجعل قاعدة العلاقة على كل المستويات هي قاعدة المواطنة بصرف النظر عن الانتماء المذهبي للمواطنين.. 

وفي تقديرنا أن التوترات الطائفية بين الشيعة والسنة اليوم في كل البلدان العربية والإسلامية، هو ليس بفعل الخلافات العقدية أ والفقهية أو التاريخية، وإنما بفعل عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية.. لذلك نجد أن موضوعات التوتر الطائفي اليوم، كلها أو أغلبها ليس له صلة بالخلافات التاريخية (مع إدراكنا أن بعض الأطراف تعمل على تفسير هذه التوترات بفعل هذه الخلافات) وإنما صلته الحقيقية بدائرة المصالح السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. وعليه كلما كانت مشروعات التنمية متوازنة، وفرص العمل متكافئة، تتضاءل فرص التوتر الطائفي.. 

وأود في هذا السياق أن أثير المفارقة التالية وهي: 

أن الإسلام في تجربته الأولى كان طاقة توحيدية ووحدوية واستيعابية خلاقة، فاستوعب جميع الأفرقاء والأقوام والقبائل تحت مظلة الإسلام.. أما ما يقدمه بعض دعاة وخطباء اليوم باسم الإسلام، فهو مفارق في المظهر والمضمون لتلك الميزة الاستيعابية الهائلة للإسلام في تجربته الأولى.. فبعض دعاة اليوم يتحدثون عن فهم وسياق فكري وثقافي وتاريخي واحد، والرافض لهذا الفهم والسياق، هو خارج عن الملة ومتورط في عملية هدم الإسلام من الداخل.. كما أن بعض خطباء اليوم يقدمون الإسلام وكأنه طاقة للتصنيف والتجزئة وكل القيم المضادة للتوحيد والوحدة.. 

لهذا فإذا أردنا أن نساهم في ضبط النزعات الطائفية في مجتمعاتنا، علينا التعامل مع الدين الإسلامي بوصفه طاقة توحيدية – استيعابية للجميع، وإن قسر الناس على فهم بشري واحد، هو مناقض لسعة الإسلام وتيسيره، كما أنه مضاد لتجربته الأولى التي جمعت أمزجة وأقوام شتى، جميعهم وجدوا في الإسلام ضالتهم الذي أشبع روحهم وعقولهم.. فتعالوا أيها الأحبة يا دعاة الإسلام من كل المذاهب والمدارس الفقهية، لا تضيقوا الإسلام، ولا تحولوه إلى عنوان للتمزق والاحتراب والكراهية بين الناس.. فالإسلام هو دين الرحمة، فلانحوله بعصبياتنا الطائفية إلى دين القتل والاقتتال.. إنها مهمة وجودية ومعرفية قادرة على إخراج المسلمين اليوم من مآزق ومشكلات عديدة.. 

وحراسة قيم الدين وثوابته، لا تتأتى بطرد المختلفين معنا في الفهم والإدراك لقيم الدين، ولا باستعداء السلطات عليهم، بل بمساواتهم مع الذات في الفهم والالتزام والحقوق..

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

في المثقف اليوم