قضايا

ثامر عباس: الدولة العراقية وتعسّر كينونتها الحضارية

في عالم الوجود الاجتماعي المصطخب بهدير الصراعات السياسية، والتناقضات الاجتماعية، والانقسامات الثقافية، والاحتقانات النفسية، والصدامات الحضارية، والحساسيات التاريخية. لا وجود لمؤسسات أو كيانات أو ظاهرات خارج إطار الكينونة الزمكانية التي تتبلور على أساسها الأنماط والدوار والوظائف. بحيث تتمكن من فرض حضورها البنيوي وتمارس تأثيرها الرمزي، الذي من خلاله تفصح عن ماهيتها / هويتها في خضم هذا المعترك الوجودي الصاخب. وبرغم أن الدولة – بحسب علم السياسة - كيان (اعتباري) عديم الفعالية بدون سلطة تدعمه وتبث الحياة في أوصاله، إلاّ أنها تعد واحدة من أبرز وأخطر المؤسسات التي استطاع المجتمع الإنساني – على مدار تاريخه المديد – ابتداع فكرتها لضمان أمنه وتنظيم شؤونه وتحقيق مصالحه.

والمفارقة ان الضرورات الإنسانية الملحة التي استدعت وجود مثل هذه المؤسسة الحيوية في حياة الإنسان المادية والمعنوية، لم تكن على الدوام ضمانة أكيدة لدرء المآسي السياسية والفواجع الاجتماعية والكوارث الاقتصادية، لاسيما في المجتمعات المتصدعة البنى والمتهتكة القيم. حيث كانت هي السبب الرئيسي في اصطناع أزماتها، والعامل الأساسي في إشعال فتيلها، والمحرك الدافع لإيقاع مصائبها على من يفترض أن تكون المسؤول الأول والمباشر، ليس فقط عن احتضانهم (كمواطنين) ينعمون بالأمن والسلام والرفاهية وفقا "لمبادئ العدالة والمساواة، مثلما التعبير عن (هويتهم الحضارية) كجماعات قومية لها تاريخ وجغرافية وثقافة فحسب، بل وكذلك لاستمداد الشرعية الوطنية والمشروعية الدستورية عبرهم ومن خلالهم.

ولعل الدولة العراقية كانت – ولا تزال  - سواء في حضورها الطاغي (الشمولية) أو غيابها المجحف (الفوضوية)، من أكثر العوامل المسببة لتفكيك مدماك المجتمع العراقي الى شظايا جماعات متناثرة، وتدمير معماره الحضاري الى بقايا أصوليات مبعثرة، ليس لأنها مارست سياسة (مركزية) مفرطة في الحالة الأولى، أو أجبرت على انتهاج (حيادية) مفرّطة في الحالة الثانية. فتلك – على أية حال – نتيجة لتضافر ظروف داخلية وعوامل خارجية ما كان بمقدورها أن تتغلب على شروط صيرورتها أو أن تفلت من سياقات سيرورتها، وإنما جرّاء تاريخها الموسوم (بالغربة) عن كيان المجتمع العراقي والانقطاع عن تواريخ جماعاته والانفصال عن ثقافات مكوناته. إذ لا يخفى ان ولادة الدولة العراقية لم تكن ولادة طبيعية - كما في غالبية الدول - نمت وترعرعت داخل حاضنة محلية (عراقية)، بحيث استمدت من أمشاج جماعاتها السوسيولوجية وتفاعل مكوناتها الانثروبولوجية مقومات كينونتها الحضارية، وتحمل بالتالي خصائص تلك الجماعات والمكونات من خلال التشبع بقيمها والتمثل لرموزها والانعكاس لذاكرتها والتماهي بمخيالها. وإنما انبثقت الى الوجود بإرادة أجنبية وقرار خارجي لا يمت الى الواقع التاريخي والحضاري العراقي بصلة، وهو الأمر الذي ترتبت عليه جملة من الإشكاليات والمفارقات شكل لديها بمثابة (عقدة نقص) لم تبرح تطاردها منذ عام 1921 ولحد الآن.

ومما فاقم من أعراض (القطيعة) التاريخية والسوسيولوجية ما بين الدولة (الوطنية) والمجتمع (العراقي)، وضاعف من تبعاتها وتداعياتها على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هي أن جميع الأنظمة التي وثبت الى سدة الحكم واعتلت صهوة السلطة – سواء عن طريق الانقلابات أو المؤآمرات – بدلا"من أن تعمل على تجسيير أو تقليص تلك الفجوة / الهوة التي لا تني مساحتها تتسع وأبعادها تتعمق، سعت الى تكريسها مؤسسيا"وترسيخها سيكولوجيا"، بحيث لم يعد هناك ما يجمع بين الطرفين سوى انعدام الثقة المتبادل وغياب لغة التواصل والتفاعل البيني. وذلك على خلفية ما كانت تكنّه الجماعات والمكونات من مواقف سلبية حيال (دولة) طالما أثبتت عجزها – رغم كل ما بحوزتها من إمكانيات مادية ومعنوية – عن إثبات صدقية تمثيلها مصالح المجتمع (العراقي) الكلي، بدلا"من كونها أضحت مؤسسة تعمل لصالح جماعات أو مكونات بعينها على حساب مصالح جماعات ومكونات أخرى، كما عودتنا على ذلك طيلة تاريخها المعمد بالعنف والقسوة.

وعلى هذا الأساس، فقد واجهت (الدولة) العراقية إشكاليتان لا يمكن دون استيفاء شروط تخطيهما والمضي باتجاه حل ألغاز المآسي والكوارث والفواجع، التي لم تفتأ مكونات المجتمع العراقي من تجرع مرارتها والاكتواء بلظاها والاحتراق بسعيرها من حين لآخر كما لو أنها لعنة أبدية. هذا وقد تمثلت الإشكالية الأولى بتجاهل مسألة (تعريق) الدولة وحسم موقفها من الانتماء الى العراق أرضا"وشعبا"، دون تمييز أو تفضيل على أساس سياسي / حزبي أو إيديولوجي / عصبوي. أي بمعنى ان الدولة العراقية لم تكن منذ تأسيسها دولة (مجتمع) كلي، وإنما كانت – ولا تزال – دولة أصوليات ؛ إيديولوجية أو اقوامية أو طوائفية أو قبائلية أو عشائرية أو جهوية، والآن بات عليها أن تستحيل الى كيان مؤسسي يتمتع بالسيادة الوطنية والقوة الشرعية التي من شأنها السمو به فوق تلك الأصوليات الفرعية والعصبيات التحتية. أما ما يتعلق بالإشكالية الثانية، فقد تمثلت بعجز تلك الدولة وانعدام قدرتها على حيازة (هوية حضارية) عامة وشاملة عابرة للانتماءات التحتية والولاءات الفرعية، والتي طالما شكل غيابها عائقا" جديا"في تحوّلها من دولة (رعويات) أصولية (اثنية ومذهبية وقبلية) متكارهة، الى دولة (مواطنة) عراقية (معيارية ودستورية وإنسانية) جامعة وموحّدة.

وعلى هذا الأساس، فان قضية (استعصاء) حيازة الدولة العراقية لكينونة حضارية عليا تتميز بها وتدل عليها، وتكون لها بمثابة (هوية) وطنية جامعة تنضوي تحت رايتها – ولا نقول تنصهر في بوتقتها - مختلف أنماط الهويات والثقافات التي يتشكل من تفاعلها وتواصلها وتكاملها النسيج الفسيفسائي للمجتمع العراقي، ستبقى العائق الأكبر والتحدي الأخطر ليس فقط حيال معضلة (اغترابها) المزمن عن بيئتها الاجتماعية الحاضنة (الوطنية) فحسب، مثلما (فشلها) في استعادة سلطتها المنتهكة وإمكانية فرض هيبتها المستباحة فحسب، بل وكذلك ستمنح للجماعات والكيانات الأصولية المنفلتة المبررات الواقعية والمسوغات المنطقية، لكي تستمر بالتمترس داخل حصون عصبياتها الأولية والتحصن وراء جدران نوازعها البدائية.

***

ثامر عباس

في المثقف اليوم