قضايا

محمد محفوظ: حاجة العرب إلى الحكم الرشيد

مفتتح: بعيدًا عن طبيعة المواقف والقناعات من ظاهرة الربيع العربي وتحوُّلاتها المختلفة، من الضروري الالتفات إلى حقيقة عميقة في مسار هذه التحوُّلات الكبرى التي جرت ولا زالت تداعياتها قائمة في أكثر من بلد عربي. ويمكن بيان هذه الحقيقة كالآتي:  إن ما سُمِّي بالربيع العربي هي عبارة عن ظاهرة سياسية - مجتمعية عميقة جرت في بعض المجتمعات العربية،  وهي وليدة عوامل وأسباب عديدة، ولها جوانب مختلفة، ولا يمكن اختزالها في بُعد أو جانب واحد. فهي كأيِّ ظاهرة سياسية - مجتمعية، لها عواملها المتعدِّدة وأسبابها المختلفة، وإن هذه الظاهرة في تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة لا زالت قائمة ،ومن الصعب اختزال هذه الظاهرة وأمثالها في برهة زمنية وجيزة. وإن طبيعة المآلات التي وصلت إليها هذه الظاهرة، ليست نهاية المطاف، بل ثمَّة تحوُّلات قيمية ومجتمعية عديدة تحتاج إلى تظهير تشهدها مجتمعات الربيع العربي .

ونودُّ في هذا السياق الالتفات إلى طبيعة الخيارات والمآلات التي وصلت إليها جماعات الإسلام السياسي في بلدان الربيع العربي .

وقبل توضيح هذه الخيارات والمآلات، من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن جماعاتالإسلام السياسي ليست على رأي واحد أو قناعة سياسية ومجتمعية واحدة،  بل هي طيف من القوى والمجموعات التي تتبنىَّ المرجعية الإسلامية، وتتطلَّع إلى سيادة الإسلام والشريعة الحياة العامة للمسلمين، إلَّا أن هذه المجموعات متفاوتة ومتنوِّعة في خطابها السياسي ومقارباتها الاجتماعية وطبيعة نظرتها وقناعاتها إلى طبيعة اللحظة الراهنة وكيفية التعامل مع الأطراف والأطياف الأخرى. وبالتالي فإننا لا نتحدَّث عن مجموعات متجانسة في كل شيء، بل هي مجموعات متنوِّعة ومتعدِّدة إلَّا أنها جميعًا تتبنىَّ المرجعية الإسلامية .ولكونها جماعات غير متجانسة وتعيش التعدُّد في أكثر من مجال؛ لذلك لا يصح إطلاق أحكام ومواقف واحدة، على مجموعات متمايزة فكريًّا وسياسيًّا .

الأصولية والسياسة

لذلك فنحن نودُّ تركيز الحديث حول القوى السياسية الإسلامية التي تصدَّرت المشهد العام في دول الربيع العربي. فالأداء السياسي لحزب النهضة في تونس مغاير للأداء السياسي لحركة الإخوان في مصر .

فالأولى تعاملت بواقعية مع مشروع التحوُّل نحو الديمقراطية، وابتعدت في خطابها السياسي عن النزعة الدعوية التي تخلط بين إدارة ما هو كائن مع ما ينبغي أن يكون. وجماعة الإخوان في مصر تعاملت -في أدائها وخطابها السياسي- بنزعة دعوية طاغية، وصنعت للناس أوهامًا وآمالًا غير قادرة على تحقيقها في أقل التقادير في المدى المنظور، كما هيمنت على علاقاتها مع الأطراف والأطياف السياسية نزعة الهيمنة والسلطة. فالأطراف التي لا تتَّفق معها في الخطاب أو الأولويات أضحت من الفلول، ولا تتناغم مع خطابها وأدائها؛ لا موقع له في الخريطة السياسية .

وبالتالي فإن التباين والاختلاف في الخطاب والأداء بين المجموعات الإسلامية ،ليس ادِّعاءً يُدَّعى، وإنما هو حقيقة قائمة وشاخصة في كل بلدان الربيع العربي .

وعلى ضوء هذه الحقيقة نعمل على الاقتراب من تقويم الأداء السياسي لهذه الجماعات من خلال النقاط التالية:

1- ليس من ينجح في مشروع الدعوة قادر على النجاح في مشروع العمل السياسي وإدارة التنافس السياسي مع مختلف الأطياف في المجتمع .

فأغلب هذه الجماعات استطاعت -عبر أدوات وآليات عديدة- النفاذ لدى شرائح

المجتمع المختلفة، وتمكَّنت من تحقيق منجزات ومكاسب عديدة، سواء على مستوى الدعوةوإقناع الناس بالخطاب والمشروع الإسلامي،  أو على مستوى الخدمات ومشروعات الحماية الاجتماعية والاقتصادية للفئات الاجتماعية المهمَّشة.  ولكن هذا التميُّز في الحقل الدعوي والاجتماعي، لم يؤدِّ إلى تميُّز في الحقل السياسي. بل على العكس من ذلك نتمكَّن من القول: إن بعض هذه الجماعات ارتكبت خطايا في عملها وأدائها السياسي، مما أربك قاعدتها الاجتماعية، وأدخلها في أتون المقارنة مع المجموعات السياسية الأخرى. وعلى ضوء هذه الحقيقة يمكن الوصول إلى نتيجة أخرى، ومفادها: أن الجماعات الإسلامية في مرحلة الدعوة والأنشطة الاجتماعية والخدمية المختلفة، تتَّسع قاعدتها الاجتماعية وتزداد شعبية. وإن انخراطها السياسي ووصولها إلى الحكم يخسرها شعبيًّا، ويسحب من رصيدها الاجتماعي. وبالتالي فإن هذه الجماعات بحاجة إلى لياقة إذا صحَّ التعبير في العمل السياسي مختلفة عن لياقتها في العمل الدعوي .

وإن النجاح والتميُّز في الحقل الاجتماعي لا يساوي النجاح المضمون في الحقل السياسي.

فجماعة الإخوان في مصر في مرحلة الدعوة والأنشطة الاجتماعية والخدمية المختلفة ،تتصدر المشهد العام، ويشار إليها بالبنان في التميُّز وحسن الأداء .

ولكن حينما وصلت إلى الحكم وإدارة جمهورية مصر العربية من موقع السيطرة على الحكومة والرئاسة، فإنها ارتكبت الكثير من الأخطاء التي ساهمت في تبديد بعض مكاسبها في الحقلين الدعوي والاجتماعي .

وإذا استمرت هذه الجماعة بدون تصحيح أخطائها الفادحة،  فإنها ستستمر في التراجع وخسارة بعض قاعدتها الشعبية .

2- أبانت الجماعات الإسلامية عن خلل حقيقي في مشروع بناء التحالفات السياسية مع الأفرقاء الآخرين، وقدرة هذه التحالفات على البقاء في ظل صراعات سياسية واجتماعية .وينعكس هذا الخلل بشكل أساسي في رفض هذه الجماعات التعامل مع الحقل السياسي والمنافسين السياسيين بعقلية تسووية، تدفع هذه العقلية جميع الأطراف للتنازل من أجل بناء أوضاع سياسية أكثر استقرارًا وقدرة على الصمود أمام التحوُّلات السياسية المتسارعة .

فالإخوان مثلًا في مصر تمسَّكوا بنتائج الانتخابات البرلمانية، واعتبروها هي النتيجة التي تُخوِّلهم ممارسة السلطة بمفردهم أو بدون منافسين حقيقيين. لذلك -وبفعل هذه العقلية- خسروا بعض حلفائهم،  كما خسروا جرَّاء التباين في مشروع الترشيح لرئاسة الجمهورية بعض قياداتهم وكوادرهم الفاعلة. ولعل ما تمتاز به جماعة النهضة في تونس هو قدرتها على بناء التحالفات السياسية وعدم استعجالها الوصول إلى القمة السياسية. فهي تتحرَّك بواقعيةسياسية، وتعمل على بناء حياة سياسية مستقرِّة وملتزمة بمقتضيات الدستور. وإن هذا العمل يستحق من الجميع التنازل حتى لا تفشل العملية السياسية برمَّتها .

فالمهم ليس أن تصل جماعتي إلى السلطة، المهم بناء واقع سياسي جديد، يعرقل أيَّة نزعة استبدادية، أو يحول دون استفراد أيَّة قوة سياسية بالمشهد السياسي. وإن هذا الهدف الاستراتيجي يستحق من جميع الأطراف التنازل وإنجاز تسوية سياسية - تاريخية لصالح التحوُّل نحو الديمقراطية والاستقرار السياسي العميق .

فطبيعة تحوُّلات الربيع العربي ومحطاتها المختلفة، تجعلنا ندرك أن هذه التحوُّلات لا يمكن أن ينتصر فيها طرف انتصار كاسح مهما أوتي من قوة شعبية أو إرث تاريخي ونضالي .

فالتحوُّلات لا تفسح المجال لطرف واحد للتحكُّم في الساحة والمشهد .

من هنا فإن طبيعة التحوُّلات والقوى الفاعلة فيها تقتضي -أيضًا- بناء التحالفات ،والذهاب بعيدًا في مشروع التسويات السياسية. والقوى السياسية التي ترفض هذا النهج والخيار، فإنها شيئًا فشيئًا ستخرج من المعادلة القائمة. وهذا ليس تبريرًا لبعض المآلات، وإنما للقول: إن طبيعة المرحلة تقتضي التقاطع مع القوى السياسية المنافسة، وتنمية المساحات المشتركة معها، من أجل الخروج من المرحلة الانتقالية بأقل خسائر ممكنة .

3-  لا يمكن لمن يتوسَّل وسائل العمل السياسي المختلفة أن يحُقِّق إنجازات وانتصارات كاسحة، بحيث تُغيِّب جميع المنافسين أو المناوئين. فطبيعة العمل السياسي أنه يحُقِّق الغايات والأهداف على مدى زمني طويل ومتدرِّج في آن .

ولعل من الأخطاء البارزة التي وقعت فيها التيارات الإسلامية، أنها انخرطت في العمل السياسي بذهنية «لنا الصدر دون العالمين أو القبر»، وبالتالي فإن هذه الذهنية تفتح حالة المغالبة مع المنافسين إلى أقصى حالاتها، مما يُهيِّئ المناخ لصناعة الخصوم وخسارة الأصدقاء.

لهذا من الضروري أن تلتزم هذه الجماعات -وهي تنشط في الحقل السياسي- بمقولة الفلاسفة: «الوجود الناقص خير من العدم المطلق .»

وعليه فإن العمل السياسي لا يوصل إلى انتصارات كاسحة، وإنما يوصل إلى بناء شراكه واسعة مع بقية القوى، لإنجاز ما يمكن إنجازه .

وإن الكثير من الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها جماعات الإسلام السياسي، يعود -فيتقديرنا- إلى تلك الذهنية التي تحكَّمت في هذه الجماعات التي عاشت فترات طويلة من النضالالسلبي، وترى فيما سُمِّي بالربيع العربي فرصة استثنائية، مماَّ يدفعها نفسيًّا وسلوكيًّا للاستعجالفي مشروع التمكُّن. ومن المؤكد أن نزعة الاستعجال مع قصر التجربة وقلَّة الخبرة، يقود إلى ارتكاب خطايا أساسية، تضر بسمعة هذه التيارات وصدقيتها في العمل العام .

وخلاصة القول:  إن السياسة لا يمكن أن تمُارس وتُدار بذهنية الدعوة،  وإن الانخراط فيها بنسق ما ينبغي أن يكون، يجعلها ترتكب أخطاء تصل في بعض الأحيان إلى حماقات تحرق بعض أجزاء التاريخ النضالي لهذه التيارات والجماعات .

الدين وأنماط التديُّن

على المستوى المجتمعي ثمَّة خلط جوهري بين الدين بوصفه مجموعة من القيم والمبادئ المتعالية على الأزمنة والأمكنة، وبين أنماط التديُّن، وهي مجموع الجهود التي يبذلها الإنسان فردًا وجماعةً لتجسيد قيم الدين العليا. فكل محاولة إنسانية لتجسيد قيم الدين أو الالتزام العملي بها، تتحوَّل هذه المحاولة الإنسانية إلى نمط من أنماط التديُّن، قد يقترب هذا النمط من معايير الدين العليا وقد يبتعد. قد تكون أنماط التديُّن منسجمة ومقتضيات قيم الدين، أو قد تكون متباعدة أو مفارقة. ولكون حظوظ الناس في الالتزام متفاوتة ،كذلك هي أنماط التديُّن متفاوتة من فرد إلى آخر ومن بيئة اجتماعية إلى أخرى. وبالتالي فإن أنماط التديُّن ليست خارج سياق التطوُّر الإنساني. فطبيعة الظروف والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعيشها البيئات الاجتماعية،  ستنعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على أنماط تديُّنها وأشكال التزامها بقيم ومبادئ دينها. لذلك نستطيع القول: إن الإنسان (الفرد والجماعة)، وظروف هذا الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، وأنماط علائقه العامة ونوعية الثقافة ومنظومة القيم التي يحملها، هي من الناحية الواقعية التي تصنع أنماط تديُّن والتزام هذا الإنسان. فإذا كان الدين يساهم في صنع الإنسان، فإن الإنسان هو الذي يصنع نمط تديُّنه والتزامه الديني. لذلك نجد في الساحات الإسلامية والاجتماعية المتنوِّعة أنماط تديُّن متنوِّعة ومتعدِّدة، وكلها تُشكِّل حركة الدين في المجتمع. ولا يمكن أن نفصل بين قيم الدين وتاريخ المسلمين الذي هو نتاج جهد المسلمين الفردي والجماعي في تنفيذ قيم الدين والالتزام بهدي الإسلام وتشريعاته المختلفة. ولعل هذا ما يُفسِّر لنا وجود أفهام متعدِّدة ونماذج تاريخية متنوِّعة في إطار الإسلام الواحد.

وكل محاولة سلطوية أو دعوية - دينية لقسر الناس على فهم واحد أو معنى واحد للممارسة الاجتماعية، هي محاولة فاشلة ودونها خرط القتاد؛ لأنه خلاف طبائع الأمور، كما أن هذه المحاولات تساهم في إفقار المجتمعات الإسلامية على المستويين التاريخي والمعرفي .فالإنسان ليس كائناً سلبيًّا فيما يرتبط وعلاقته بقيمه الكبرى وتشريعات دينه. فهوكائن إيجابي ويتفاعل مع تشريعات دينه. وطبيعة موقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي تُحدِّد شكل وطبيعة النمط الديني الذي يُؤسِّسه الإنسان لبيئته أو لواقعه.

لأن أنماط التدين هي انعكاس مباشر لطبيعة الإنسان وطبيعة ظروفه وبيئته الاجتماعية. فإذا كان الدين متعاليًا على ظروف الزمان والمكان، وليس خاضعًا لمقتضيات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ فإن أنماط التدين على العكس من ذلك تمامًا؛ لأنها نتاج الظروف والبيئة، ولا يمكن أن تتشكَّل أنماط التديُّن بعيدًا عن جهد الإنسان ومستوى وعيه وإدراكه لعناصر واقعه وراهنه.

وثمَّة دائمًا مفارقة بين الدين وأنماط التديُّن. وهذه المفارقة تصل في بعض الأحيان أن تكون بعض حقائق وأنماط التديُّن هي مناقضة في جوهرها لمقتضيات الدين. وحينما تبرز المفارقة بين الدين والتديُّن، ثمَّة حاجة إنسانية ودينية ملحَّة للانخراط في مشروع الإصلاح الديني. والذي هو في بعض جوانبه محاولة لردم الهوَّة وتجسير الفجوة بين الدين وأنماط التديُّن التي تعيشها المجتمعات الإسلامية. فالدين في كل مراحله هو طاقة توحيدية في الواقع الإنساني، ولكن بعض أنماط التديُّن السائدة هي طاقة انشقاقية - تجزيئية لواقع العرب والمسلمين .

ولعل هذه المفارقة هي التي تُوضِّح طبيعة تجربة الإصلاح وفعاليته في المجتمعات الدينية. بمعنى أن المجتمع الإنساني في المرحلة الأولى لتجسيد قيم الدين وتفاعله الإنساني مع مبادئه، تكون حركة المجتمع في خط مستقيم مع الدين وتوجيهاته، ولكن بعد فترة من الزمن قد تقصر وقد تطول، تبدأ المفارقة بالبروز بين جهد الإنسان - المجتمع، وتوجيهات الإسلام ومعاييره الأخلاقية والمعنوية. وتبدأ هذه المفارقة بالاتِّساع، مما يُفضي إلى نتيجة عملية وواقعية ،وهي أن توجيهات الدين في وادٍ وحركة المجتمع في أغلبه في وادٍ آخر. مماَّ يُؤسِّس لمناخ اجتماعي وثقافي يفرض ضرورة الإصلاح وتجسير الفجوة والمفارقة التي تشكَّلت في التجربة العملية .

لذلك نجد أن كل التجارب الإصلاحية تستهدف بالدرجة الأولى خلق الانسجام والتناغم بين التاريخ والرسالة، بين الشريعة وفهم الشريعة، بين الدين والتديُّن. وإن جوهر الجهد الذي يبذله الإصلاحيون هو خلق التماثل بين القيم والواقع .

وإن جوهر المشكلة تتجسَّد في وجود مفارقة وابتعاد بين الدين والتديُّن، والإصلاح الديني يستهدف تجسير العلاقة وخلق التناغم بين حقائق الدين ومعطيات التديُّن. ولعل هذا هو أحد أهم القوانين الجوهرية التي تتحكَّم في سياق أي حركة إصلاحية في الاجتماعالإسلامي المعاصر .

ولو تأمَّلنا اليوم في طبيعة المشاكل الكبرى التي تعاني منها المجتمعات العربيةوالإسلامية المعاصرة لوجدنا أن من أبرز هذه المشاكل، هو شيوع أنماط من التديُّن، تتبنىَّ خيار العنف والإرهاب، وتعمل عبر هذه الوسيلة لإنهاء المفارقة بين الدين والتديُّن. ولكن المحصّلة العملية لذلك هو المزيد من الإخفاق والمآزق والتأزيم. فالعنف لا يجُسِّر الفجوة ،وإنما يُعمِّقها، والإرهاب هو سبيل تعميق المفارقة وليس إنهاءها .

ولعل هذا من أهم المآزق التي تعانيها الساحة العربية والإسلامية اليوم. فثمَّة جماعات وحركات عنيفة وإرهابية، تحمل لواء الدين وترفع شعاراته، إلَّا أن المحصّلة العملية لجهدها وأفعالها الإرهابية والعنفية، هو المزيد من تشويه الإسلام وتعميق المفارقة والفصام النكد بين الدين وأنماط التديُّن السائدة في الاجتماع الإسلامي المعاصر .

ويبدو أنه لا تجديد في العقل الإسلامي ولا إصلاح في الواقع الإسلامي، إلَّا بنقد وتفكيك أنماط التديُّن التي تنتج باستمرار ظواهر العنف والتكفير والإرهاب في الواقع المعاصر؛ لأن هذه الظواهر ليست رافعة للواقع الإسلامي، وإنما هي ومتوالياتها وتأثيراتها المتعدِّدة تزيد من الأزمات والمآزق، وتُفضي إلى تدمير النسيج الاجتماعي للمسلمين، وتجعل جميع البلدان العربية والإسلامية مكشوفة أمام الإرادات الإقليمية والدولية التي تستهدف أمن واستقرار المسلمين في كل بلدانهم وأوطانهم.

وإن إحباطات الراهن الإسلامي ينبغي ألَّا تقود إلى تبنيِّ بناء مجموعات وتشكيلات أيديولوجية تتبنىَّ خيار العنف والإرهاب سبيلًا لإنجاز رفعة وعزَّة المسلمين جميعًا؛ لأن هذا الخيار يُعزِّز الإحباطات، وساهم في تدمير ما تبقَّى من وحدة وتفاهم وألفة بين المسلمين بمختلف مذاهبهم ومدارسهم .

فالوعي الديني الصحيح والذي يرفض خيار العنف والإرهاب مهما كانت الظروف والصعاب، هو الذي يُؤسِّس لوقائع وحقائق إسلامية جديدة ،تُحرِّر الواقع الإسلامي من ربقة الأفهام العنفية التي تُقدِّم الإسلام بوصفه ديناً للقتل والتفجير والإرهاب .

ولعل من الأهمية في هذا السياق القول: إن نقد أنماط التديُّن ليس نقدًا للدين، وإن الوقوف ضد بعض أشكال التديُّن، ليس وقوفًا في مقابل الدين، وإن حرصنا على الدين ينبغي أَلَّا يقودنا إلى رفض عمليات النقد التي تتَّجه إلى أنماط التديُّن؛ لأننا نعتقد أن المستفيد الأول من عمليات النقد العلمي لبعض أنماط التديُّن هو الدين نفسه؛ لأن بعض أشكال التديُّن، تُشكِّل عبئًا حقيقيًّا على الدين والمجال الاجتماعي للدين .

وعليه فإن الضرورة المعرفية والاجتماعية تقتضي التفريق الدائم بين الدين وأنماط

التديُّن. وإن الكثير من البلاءات التي تواجه الواقع الإسلامي اليوم، هي نابعة من بعضأنماط التديُّن. وإن هذه البلاءات لا يمكن مواجهتها إلَّا بتفكيكها ونقدها من جذورها ،حتى نتحرَّر من سجنها، ونتفاعل بوعي وحكمة مع قيم الدين الأساسية، التي هي قيم العدالة والمساواة والحرية بعيدًا عن إكراهات بعض أنماط التديُّن التي لا تُقدِّم حلولًا، بل تضيف إلى مآزقنا مآزق جديدة .

العالم العربي ودولة المواطنة

لعلَّنا لا نأتي بجديد حين القول: إن أغلب المجال العربي بكل دوله وشعوبه يعاني من تحدِّيات خطيَّة وأزمات بنيويَّة، تُرهق كاهل الجميع، وتُدخلهم في أتون مآزق كارثية.

فبعض دول هذا المجال العربي دخلت في نطاق الدول الفاشلة، التي لا تتمكَّن من تسيير شؤون مجتمعها، مماَّ أفضى إلى استفحال أزماتها ومآزقها على كل الصعد سواء الاقتصادية أو الأمنية أو السياسية. والبعض الآخر من الدول والمجتمعات مهدَّد في وحدته الاجتماعية والسياسية، حيث هي قاب قوسين أو أدنى من اندلاع بعض أشكال وصور الحرب الأهلية.

ودول أخرى تعاني من غياب النظام السياسي المستقر، ولا زالت أطرافه ومكوِّناته السياسية والمذهبي، تتصارع على شكل النظام السياسي، وطبيعة التمثيل لمكوِّنات وتعبيرات مجتمعها.

إضافة إلى هذه الصور،  هناك انفجار للهويات الفرعية في المجال العربي بشكل عمودي وأفقي، مماَّ يجعل النسيج الاجتماعي مهدّدًا بحروب وصراعات مذهبية وطائفية وقومية وجهوية. ونحن نعتقد أن اللحظة العربية الراهنة مليئة بتحدّيات خطيرة، تهدّد استقرار الكثير من الدول والمجتمعات العربية، وتدخل الجميع في أتون نزاعات عبثية ،تستنزف الجميع وتُضعفهم، وتُعمِّق الفجوة بين جميع الأطراف والمكوّنات.

وفي تقديرنا، إن المشكلة الجوهرية، التي ساهمت بشكل أو بآخر في بروز هذه المآزق والتوترات في المجال العربي، هي غياب علاقة المواطنة بين مكوّنات وتعبيرات المجتمع العربي الواحد.

فالمجتمعات العربية تعيش التنوُّع الديني والمذهبي والقومي، وغياب نظام المواطنة كنظام متجاوز للتعبيرات التقليدية، جعل بعض هذه المكوّنات تعيش التوتُّر في علاقتها ،وبرزت في الأفق توتُّرات طائفية ومذهبية وقومية.. فالعلاقات الإسلامية - المسيحية فيالمجال العربي، شابها بعض التوتُّر، وحدثت بعض الصدامات والتوترات في بعض البلدانالعربية التي يتواجد فيها مسيحيون عرب.

وفي دول عربية أخرى، ساءت العلاقة بين مكوّناتها القومية، بحيث برزت توتُّرات وأزمات قومية في المجال العربي. وليس بعيدًا عنا المشكلة الأمازيغية والكردية والأفريقية.

وإضافة إلى هذه التوتُّرات الدينية والقومية، هناك توتُّرات مذهبية بين السنة والشيعة ،وعاشت بعض الدول والمجتمعات العربية توتُّرات مذهبية خطيرة تُهدِّد استقرارها السياسي والاجتماعي.

فحينما تتراجع قيم المواطنة في العلاقات بين مكوّنات المجتمعات العربية،  تزداد فرص التوتُّرات الداخلية في هذه المجتمعات؛ لهذا فإننا نعتقد أن العالم العربي يعيش مآزق خطيرة على أكثر من صعيد، وهي بالدرجة الأولى تعود إلى خياراته السياسية والثقافية .فحينما يغيب المشروع الوطني والعربي، والذي يستهدف استيعاب أطياف المجتمع العربي ،وإخراجه من دائرة انحباسه في الأطر والتعبيرات التقليدية إلى رحاب المواطنة.

فإن هذا الغياب سيدخل المجتمعات العربية في تناقضات أفقية وعمودية،  تهدّد استقرارها السياسي والاجتماعي.

وإن نزعات الاستئصال أو تعميم النماذج لا تُفضي إلى معالجة هذه الفتنة والمحنة، بل توفّر لها المزيد من المبررات والمسوغات.

فدول المجال العربي معنيَّة اليوم وبالدرجة الأولى بإنهاء مشاكلها الداخلية الخطيرة ،التي أدخلت بعض هذه الدول في خانة الدول الفاشلة، والبعض الآخر على حافة الحرب الداخلية التي تُنذر بالمزيد من التشظِّي والانقسام.

فما تعانيه بعض دول المجال العربي على هذا الصعيد خطير، وإذا استمرت الأحوال على حالها فإن المجال العربي سيخرج من حركة التاريخ، وسيخضع لظروف وتحدِّيات قاسية على كل الصعد والمستويات.

وإن حالة التداعي والتآكل في الأوضاع الداخلية العربية لا يمكن إيقافها أو الحد من تأثيراتها الكارثية، إلَّا بصياغة العلاقة بين أطياف المجتمع على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.

وإن غياب مقتضيات وحقائق المواطنة في الاجتماع السياسي العربي سيُقوِّي من اندفاع المواطنين العرب نحو انتماءاتهم التقليدية،  وعودة الصراعات المذهبية والقومية والدينية بينهم، وسيُوفِّر لخصوم المجال العربي الخارجيين إمكانية التدخُّل والتأثير في راهن هذا المجال ومستقبله.

فالمجتمعات العربية كغيرها من المجتمعات الإنسانية،  التي تحتضن تعدُّديات وتنوُّعات مختلفة، لا يمكن إدارة هذه التعدُّديات على نحو إيجابي إلَّا بالقاعدة الدستورية الحديثة )المواطنة( كما فعلت تلك المجتمعات الإنسانية التي حافظت على أمنها واستقرارها.

فالاستقرار الاجتماعي والسياسي العميق في المجتمعات العربية، هو وليد المواطنة بكل حمولتها القانونية والحقوقية والسياسية.

وأي مجتمع عربي لا يفي بمقتضيات هذه المواطنة فإن تباينات واقعه ستنفجر وسيعمل كل طرف للاحتماء بانتمائه التقليدي والتاريخي،  مما يصنع الحواجز النفسية والاجتماعية والثقافية والسياسية بين مكونات المجتمع الواحد.

وفي غالب الأحيان فإن هذه الحواجز لا تُصنع إلَّا بمبرِّرات ومسوِّغات صراعية وعنفية بين جميع الأطراف، فتنتهي موجبات الاستقرار، ويدخل الجميع في نفق التوتُّرات والمآزق المفتوحة على كل الاحتمالات.

لهذا فإن دولة المواطنة هي الحل الناجع لخروج العالم العربي من مآزقه وتوتُّراته الراهنة.

فدولة المواطنة هي التي تصنع الاستقرار وتحافظ عليه، وهي التي تستوعب جميع التعدُّديات وتجعلها شريكة فعليَّة في الشأن العام، وهي التي تجعل خيارات المجتمع العليا منسجمة مع خيارات الدولة العليا والعكس، وهي التي تُشعر الجميع بأهمية العمل على بناء تجربة جديدة على كل المستويات، وهي التي تصنع الأمن الحقيقي لكل المواطنين في ظل الظروف والتحدِّيات الخطيرة التي تمرُّ بها المنطقة.

والمجتمعات لا تحيا حق الحياة إلَّا بشعور الجميع بالأمن والاستقرار؛ لهذا فإن الأمن والاستقرار لا يُبنى بإبعاد طرف أو تهميشه، وإنما بإشراكه والعمل على دمجه وفق رؤية ومشروع متكامل في الحياة العامة.

وهذا لا تقوم به إلَّا دولة المواطنة، التي تُعلي من شأن هذه القيمة، ولا تُفرِّق بين مواطنيها لاعتبارات دينية أو مذهبية أو قومية.

فهي دولة الجميع، وهي التمثيل الأمين لكل تعبيرات وحراك المجتمع..

فالمجال العربي اليوم من أقصاه إلى أقصاه، أمام مفترق طرق، فإما المزيد من التداعي والتآكل،  أو وقف الانحدار عبر إصلاح أوضاعه وتطوير أحواله،  والانخراط في مشروعاستيعاب جميع أطرافه ومكوِّناته في الحياة السياسية العامة. فالخطوة الأولى المطلوبة للخروج منكل مآزق الراهن وتوتُّراته، في المجال العربي، هي أن تتحوَّل الدولة في المجال العربي إلى دولة استيعابية للجميع، بحيث لا يشعر أحد بالبعد والاستبعاد.. دولة المواطن بصرف النظر عن دينه أو مذهبيه أو قومه، بحيث تكون المواطنة هي العقد الذي يُنظِّم العلاقة بين جميع الأطراف .

فالمواطنة هي الجامع المشترك، وهي حصن الجميع الذي يحول دون افتئات أحد على أحد.

وجماع القول: إن دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات هي خشبة الخلاص من الكثير من المآزق والأزمات.

العالم العربي والحكم الرشيد

يعيش العالم العربي بكل دوله وشعوبه اليوم الكثير من التحوُّلات والتطوُّرات المتسارعة، حيث دشَّنت لحظة سقوط نظام بن علي في تونس عملية التغييرات والتحوُّلات التي لا زال تأثيرها ممتدًّا ومتواصلًا في كل أرجاء العالم العربي بمستويات وأشكال متفاوتة ومختلفة. ولا ريب أن ما يجري من أحداث وتطوُّرات في بعض البلدان العربية هو مذهل وغير متوقَّع، وكل المعطيات السابقة لا تؤشَّر أن ما حدث سيكون قريبًا.

لهذا فإن كل هذه التطوُّرات والتحوُّلات هي بمستوى من المستويات مفاجئة للجميع.

فالفكر السياسي العربي وخلال العقود الثلاثة الماضية كان يُبشِّر بأن الثورات والانتفاضات الشعبية لم تعد هي وسيلة التغيير السياسي في المنطقة، وأن ثورة 1979م في إيران هي آخر الثورات الشعبية في المنطقة.

لذلك فإن النخب السياسية في العالم العربي بكل أيديولوجياتها وخلفياتها الفكرية ،كانت تعيش حالة من اليأس تجاه قدرة الشعب أو الشعوب العربية على إحداث تحوُّلات دراماتيكية في واقعها السياسي وواقع المنطقة بشكل عام. ولكن جاءت أحداث وتطوُّرات وتحوُّلات تونس ومن بعدها مصر، لكي تُثبت عكس ما كانت تُروِّجه بعض الأيديولوجيات والنخب تجاه الجماهير وقدرتها على إحداث تغيير سياسي في واقعها العام. والملفت للنظر والذي يحتاج إلى الكثير من التأمُّل العميق هو أن جيل الشباب، أي جيل الإعلام الجديد من الفيسبوك وتوتير ويوتيوب، هو الذي قاد عملية التغيير، وهو الذي تمكَّن من تحريك الشارع العام في تونس ومصر. فالجيل الجديد الذي كانت تصفه بعض النخب والجماعات ،بأنه جيل ترعرع بدون قضية عامة يسعى من أجلها ويناضل في الدفاع عنها عكس أجيال الخمسينات والستينات، هو الذي قاد عملية التغيير، وبوسائله السلمية استطاع أن يحُرِّك كل النخب وكل شرائح وفئات المجتمع الأخرى.

لهذا فإن ما حدث ويحدث في العالم العربي اليوم هو مذهل، وقد أنهى حقبة وتداعياتأحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث كان الغرب ينظر إلى شرائح المجتمعات العربية المختلفة بوصفها مشروع قائم أو محتمل للإنسان الإرهابي الذي يُفجِّر نفسه، ويقوم بأعمال عنفية لا تنسجم وقيم الدين وأعراف العالم العربي وتقاليده الراسخة.

فما جرى في تونس ومصر، حيث حضر الشباب، ومارسوا حقهم بالتعبير عن الرأي ،أنهى على المستوى الاستراتيجي حقبة بقاء الشباب العربي تحت تهمة وتداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

فالنموذج الجديد الذي قدَّمه الشباب العربي في تونس ومصر وغيرهما من الدول العربية التي تشهد حراكًا اجتماعيًّا وسياسيًّا ومطلبيًّا هو أنه جيل يستحق أن يعيش حياة كريمة،  وأن تعاطيه الشأن العام عبر عنه خارج الأطر والأحزاب الأيديولوجية،  وإنما مارسه بطريقته الخاصة، والمذهل في الأمر أن هذه الطريقة غير المتوقَّعة هي التي آتت أكلها ،ونجحت في إحداث تغييرات وتحوُّلات سياسية واجتماعية كبرى في أكثر من بلد عربي. لهذا فإننا نعتقد أن المنطقة العربية بأسرها، تعيش مرحلة جديدة على أكثر من صعيد. وما نودُّ أن نؤكِّد عليه في هذا السياق هي النقاط التالية:

إن المجتمعات والشعوب العربية تستحق حكومات وأنظمة سياسية متطوِّرة ومدنيَّة، وتفسح المجال للكفاءات الوطنية المختلفة للمشاركة في تنمية الأوطان العربية وتطويرها على مختلف الصعد والمستويات.

والذي يلاحظ أن الدول العربية التي كانت أو لا زالت في منأى من موجة المطالبة بالإصلاحات والتغييرات، هي تلك الدول التي تعيش في ظل أنظمة وحكومات فيها بعض اللمسات أو الحقائق الديمقراطية، أو تمكَّنت من حلِّ بعض مشاكل شعبها الاقتصادية والاجتماعية،  ومع ذلك فإننا نعتقد أن هذه الموجة ستطال بشكل أو بآخر كل الدول والشعوب العربية.

ونحن نعتقد أن مسارعة الدول العربية في القيام بإصلاحات سياسية ودستورية واقتصادية، ستُقلِّل من فرص خروج الناس إلى الشارع إلى المطالبة بحقوقهم. وما جرى في تونس ومصر يُوضِّح بشكل لا لبس فيه أن المجتمعات العربية تستحق أوضاعًا سياسية واقتصادية وقانونية أفضل مما تعيشه الآن.

إن التحوُّلات السياسية الكبرى التي تحقَّقت في تونس ومصر،  وموجاتهماالارتدادية في أكثر من بلد عربي، تجعلنا نعتقد وبعمق أن المشاكل الكبرى وبالذات علىالصعيد السياسي متشابهة في أغلب الدول العربية. فالحكومات والأنظمة السياسية في هذه الدول هي أنظمة ذات قاعدة اجتماعية ضيِّقة، مع تضخم في أجهزتها الأمنية التي تمارس الإرهاب والقمع بكل صوره وأشكاله، مماَّ زاد من الاحتقانات، وراكم من المشكلات البنيوية التي يعيشها المجتمع والدولة في هذا البلد العربي أو ذاك.

وبفعل هذه الحقيقة تمكَّنت هذه الدول التسلطية من إفراغ كل الأشكال والحقائق الديمقراطية الموجودة في أكثر من بلد عربي من مضمونها الحقيقي،  حتى أضحت نموذجًا صارخًا للمقولة التي أطلقها المفكِّر المصري )عصمت سيف الدولة( بالاستبداد الديمقراطي. فالأشكال الديمقراطية أصبحت عبئًا حقيقيًّا على المجتمعات العربية ونخبها السياسية والاجتماعية والثقافية، لأنه باسم الديمقراطية يتم تأبيد السلطة، واحتكار عناصر القوة، وتستفحل من جراء هذا كل أمراض الاستبداد والديكتاتورية.

إن الإصلاح السياسي الذي نراه جسر العبور لكل الدول العربية إلى مرحلة جديدة، تُؤهِّلها لتجاوز بعض مشكلاتها، ومعالجة أزماتها الداخلية، ويحُصِّنها من خلال تطوير علاقة الدولة بمجتمعها تجاه كل التحدّيات والمخاطر.. أقول: إن هذا الإصلاح السياسي هو ضرورة حكومية - رسمية، كما هو حاجة وضرورة مجتمعية.

فهو (الإصلاح) ضرورة للحكومات العربية لتجديد شرعيتها الوطنية، وتوسيع قاعدتها الاجتماعية، ولكي تتمكن من مواجهة التحدِّيات المختلفة.. كما هو (أي الإصلاح) ضرورة وحاجة للمجتمعات العربية، لأنه هو الذي يخرج الجميع من أتون التناقضات الأفقية والعمودية الكامنة في قاع المجتمعات العربية، وهو الذي يصوغ العلاقة بين مختلف المكوّنات على أسس الاحترام المتبادل والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات.

ومن المعلوم أن الانغلاق في السلطة سمة من سمات الدولة التسلطية (على حد تعبير خلدون النقيب()1).

وهو يُعبِّر عن حالة غير طبيعية في مسيرة الدولة الحديثة، هي حالة التماهي بين السلطة والدولة؛ لهذا فإن العالم العربي بحاجة إلى أنظمة سياسية حديثة تستجيب لشروط العصر ،وتتناسب والدينامية الاجتماعية المتدفقة.

إن التجارب والتحوُّلات السياسية الكبرى تجعلنا نعتقد أن الشيء الأساسي الذي يجعل عمر الدول طويلًا وممتدًّا عبر التاريخ، ليس هو ترسانتها العسكرية وموقعها الجغرافي والاستراتيجي، وإنما هو قبول ورضا الناس بها؛ إذ إن كل تجارب الدول عبر التاريخ الطويلتُثبت بشكل لا لبس فيه أن حكم الناس بالإكراه، قد يطول، إلَّا أنه لا يدوم، وإن عمر الدول واستمرارها مرهون بقدرة هذه الدول على تحقيق رضا وقبول الناس بها. بمعنى أن الدول حتى ولو كانت إمكاناتها البشرية محدودة وثرواتها الطبيعية والاقتصادية ومتواضعة ،إلَّا أن رضا الناس بها، وقبول الشعب بأدائها وخياراتها، فإن هذا الرضا والقبول يجبر الكثير من نواقص الدولة الذاتية أو الموضوعية، ويُمدُّها بأسباب الاستمرار والديمومة.

فالذي يُديم الدول ويُوفِّر لها إمكانية الاستمرار،  هو مشاركة الناس في شؤونها المختلفة،  واحتضانهم إلى مشروعها،  وشعورهم بأنها (أي الدولة) هي التعبير الأمثل لآمالهم وطموحاتهم المختلفة.

وما جرى في تونس ومصر من أحداث وتحوُّلات سياسية سريعة يؤكّد هذه الحقيقة . فكل المؤسسات والأجهزة العسكرية لم تستطع أن تُدافع عن مؤسسة السلطة التي يرفضها الناس ويعتبرونها معادية لهم في حياتهم اليومية وتصوُّراتهم لذاتهم الجمعية والمستقبلية؛ لهذا فإننا نعتقد أن إسراع الدول في إصلاح أوضاعها وتطوير أنظمتها القانونية والدستورية وتوسيع قاعدتها الاجتماعية وتجديد شرعيتها السياسية، كل هذه العناصر تُساهم في إعطاء عمر جديد لهذه الدول.

فتحريك عجلة الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي في دولنا العربية ،أضحى اليوم من الضرورات والأولويات، التي تحول دون دخول دولنا العربية في أتون المشكلات والأزمات التي تعوق من مسيرتها ودورها في الحياة الوطنية والقومية والدولية.

ومن المؤكَّد أن اقتراب الدول العربية من قيم ومعايير الحكم الرشيد،  هو الذي سيعيد الاعتبار إلى المنطقة العربية، وهو السبيل المتاح والممكن اليوم للخروج من العديد من الأزمات والمآزق على الصعيدين الداخلي والخارجي.

وحده الحكم الرشيد بكل قيمه ومضامينه ومقتضياته، هو الذي سيُعيد العالم العربي إلى حركة التاريخ، ودون ذلك ستبقى المنطقة بكل ثرواتها البشرية والاقتصادية بعيدًا عن القبض على أسباب التقدُّم والاستمرار الحضاري.

دولة الإنسان

تعدَّدت الأيديولوجيات والأفكار والمرجعيات المفاهيمية والفلسفية التي سادتفي العالم العربي، وتمكَّن بعضها من الحكم وإدارة بعض الدول العربية على أسس ومبادئتلك الأفكار والأيديولوجيات، فأصبحت في العالم العربي دول تتبنىَّ النظرية الماركسية ،وتعمل بإمكانات الدولة إلى تعميم الرؤية الماركسية، وإخضاع كل الشرائح والفئات إلى تلك الرؤية الأيديولوجية، كما تشكَّلت دول وفق النظرية القومية، حيث عمل أصحاب هذه النظرية إلى تسيير شؤون الدولة والمجتمع وفق الرؤية والمعايير القومية.

وتعدَّدت في العالم العربي الدول التي تتبنىَّ رؤية أيديولوجية، وعملت على إخضاع كل مؤسسات الدولة إلى الرؤية الأيديولوجية،  التي تحملها وتتبناَّها النخب السياسية السائدة.

ودخلت هذه الأيديولوجيات في حروب وصراعات مفتوحة،  ولقد شهد العالم العربي -وعبر فترات زمنية مختلفة- تلك الصراعات والحروب التي عمل كل طرف على إثبات أيديولوجيته ومصالحه بعيدًا عن مصالح الأمة وأمن المجتمعات العربية. ومع أن هذه الأيديولوجيات، دخلت في حروب وصراعات دامية مع بعضها، إلَّا أن بينها قواسم أيديولوجية وسلوكية وسياسية واحدة.  ولعل من أهم القواسم المشتركة بين أصحاب الأيديولوجيات التي سادت في العالم العربي، وسيطرت بشكل أو بآخر إما على الدولة ومؤسساتها أو المجتمع ومؤسساته هو أن أصحاب هذه الأيديولوجيات لا يعتنون كثيرًا بحاجات الإنسان العربي ومتطلَّباته الأساسية.  فكل الجهود والإمكانات تُصرف باتجاه تثبيت وتعميم ونشر المقولات الأيديولوجية،  بعيدًا عن الاهتمام بحاجات الإنسان أو الإنصات إلى مطالبه ومطامحه.

لذلك فإن الكثير من ثروات وإمكانات الدول الأيديولوجية صرفت على نشر المقولات الأيديولوجية والحزبية، وكأن نشر هذه المقولات هو الهدف الأسمى والغاية العليا .ووفق هذا السلوك والتصرُّف الذي مارسته الدول الأيديولوجية، كما مارسته الجماعات الأيديولوجية،  ضاعت حاجات الإنسان فردًا وجماعة،  واضمحلَّت حقوقه الأساسية ،واعتبر الإنسان كقيمة وحقوق وكرامة في أدنى سُلَّم الاهتمام. ولا نحتاج إلى كثير عناء لإثبات هذه الحقيقة الناصعة في الكثير من الدول والتجارب. فيكفي أن تذهب إلى أي دولة أيديولوجية أو تقدُّمية في العالم العربي لاكتشاف هذه الحقيقة، حيث كل الإمكانات تتَّجه إلى الشعارات وتخليد الزعيم وإثبات صحَّة المقولات الأيديولوجية والحزبية التي قامت عليها الدولة، بينما الإنسان في هذه الدول يعيش العوز والضنك والصعوبات الحياتية المختلفة ،كما يعاني من الكبت والقمع والخوف الدائم من زُوَّار الفجر وأجهزة الاستخبارات.

فهذه التجارب والدول تحارب وبشعارات ثورية وتقدُّمية حقوق الإنسان، وتعمل على إبقاء مواطنيها يلهثون ليل نهار من أجل لقمة العيش اليومية؛ لذلك فإن هذه الدول لمتُحقِّق أي إنجاز يُذكر لمواطنيها، كما أنها لم تُحقِّق وخلال سنين طويلة من الحكم والسيطرة على مقاليد الأمور الشعارات التي رفعتها حينما وصلت إلى سدَّة الحكم.

فالدول التي رفعت شعار الوحدة لم تُنجز إلَّا المزيد من التجزئة والتشظِّي. والدول التي رفعت لواء الدفاع عن الطبقات المحرومة في المجتمع أضحت هذه الطبقات هي أول ضحايا هذه التجربة وهذه الدولة.

ويشير إلى هذه المسألة الدكتور برهان غليون(2) بقوله:  أزمة الدولة أعمق إذن مماَّ تبدو عليه عادة وكأنها أزمة نظام، إنها أزمة فكرتها ذاتها. وتلاشي روح الولاء للسلطة الوطنية والانتساب للمشروع الذي كانت تقترحه على المجتمع نابع بالضبط من انكشاف عجز السلطة هذه عن إنجازه، أي عن خيانتها له، وليس بسبب تحقُّقه. وهذا يعني -أيضًا- أنه نابع من تنامي الاقتناع بأن هذا المشروع بالصورة التي تبلور فيها لا يمكن أن يُشكِّل مدخلًا إلى التقدُّم الإنساني. وهكذا، وفي أقل من عقدين، أصبحت القيم التي كانت تُغذِّي لدى الجمهور الواسع شعبية دولة التقدُّم، وتُثير حماسة للانخراط فيها والتماهي معها، هي نفسها القيم التي تدفع الجمهور إلى رفضها والتنكُّر لها. لقد كان يكفي أن تظهر لا فاعلية البرنامج الوطني أو عيوبه، عروبيًّا كان هذا البرنامج أم قطريًّا، حتى تفقد الدولة توازناتها المادية والمعنوية، وتضيع هي نفسها هويتها وتفقد مقدرتها على استقطاب الولاء وتحقيق الاندماج والإجماع.

فالدول الأيديولوجية والتي استخدمت كل إمكانات الدولة لتعميم أيديولوجيتها وقهر الناس على خياراتها ومتبنياتها السياسية والثقافية، هي ذاتها الدول التي أجهضت كل مشروعات التحرُّر الحقيقي والخروج من مآزق الراهن. وهذه الدولة بنمطها القروسطوي وعنفها وجبروتها وعسكرتها لمجتمعها، أجهضت الكثير من الآمال والتطلُّعات .

لذلك فإن المطلوب اليوم هو الخروج من هذه الشرنقة الأيديولوجية، التي تُحيل كل شيء إلى قانون إما مع أو ضد، وبناء دولة القانون والإنسان، التي تسعى لصياغة قانون لضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، وإلى تأهيل الإنسان، وإطلاق حرياته وتطلُّعاته.

فإننا كعرب لم نحصد من الدول الأيديولوجية إلَّا المزيد من الصعاب والتراجع والتقهقر إلى الوراء. فالوحدة التي حلم بها الآباء انتهت إلى دولة أيديولوجية مغلقة تكرّس التجزئة وتنمّي العصبيات، وباسم التنمية والعدالة الاجتماعية حصدنا نمو رأسمالية الدولة وتضخَّمت شريحة الانتهازيين والوصوليين .

ولقد علَّمتنا التجارب أن الدول التي تنفصل عن مجتمعها، وتحاربه في معتقداته واختياراته الثقافية والسياسية، وتفرض عليه نظامًا قهريًّا، فإن مآلها الفشل وفقدان المعنى من وجودها. وهكذا وبفعل عوامل عديدة وعلى رأسها سيادة الدول الأيديولوجية التي لا ترى إلَّا مصالحها الضيِّقة، وتُوظِّف كل الإمكانات من أجل إثبات مقولاتها وأيديولوجيتها ،وضيَّعت بفعل ذلك مصالح شعبها وامتهنت كرامته، اختلطت المعايير، واشتبكت القضايا ،وسقطت الكثير من الشعارات المرفوعة. فالقتال أصبح داخليًّا، والحرب أضحت أهلية ،والتطرُّف والإرهاب أصبح من نصيبنا جميعًا. لهذا كلّه إننا أحوج ما نكون اليوم إلى تلك الدولة التي تعتبر أيديولوجيتها وشرعيتها هي في خدمة الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته بصرف النظر عن أصوله الأيديولوجية أو القومية أو العرقية.

إننا في العالم العربي بحاجة إلى تلك الدولة التي تحتضن الجميع، وتصبح بحق وحقيقة دولة الجميع .

والوصول إلى دولة الإنسان والقانون في العالم العربي ليس مستحيلًا، وإنما هو بحاجة إلى الكثير من الجهد المتواصل لإنجاز هذا التطلُّع التاريخي. وإن دولة الإنسان التي تصون حقوقه وتحفظ نواميسه وكرامته ليست يوتيبيا تاريخية، وإنما هي حقيقة قائمة، ولقد تمكَّنت بعض المجتمعات الإنسانية من تحقيقها.  وإن شعوبنا العربية بطاقاتها العلمية وقدراتها الاقتصادية وطموحاتها الحضارية وأشواقها التاريخية، تستحق دولة تكون رافعة حقيقية لهذه الشعوب، لا قامعة وكابحة لطموحاتها وتطلُّعاتها الضاربة بجذورها في عمق التاريخ والإنسان .

وإنه بدون توجُّه العرب نحو بناء دولهم الوطنية على أسس القانون وحقوق الإنسان ،فإن مشاكلهم ستتفاقم وأزماتهم ستستفحل وضغوطات الخارج ستؤثِّر على مصيرهم ومستقبلهم .

وإن التحوُّل نحو دولة القانون والإنسان بحاجة إلى الأمور التالية:

الإرادة السياسية التي تتَّجه صوب تجاوز كل المعيقات والمشاكل التي تحول دون بناء دولة القانون والإنسان، حيث إنه لا يمكن بناء دولة جديدة في العالم العربي بدون إرادة سياسية تُغيِّر وتُطوِّر وتُذلِّل العقبات وتواجه كل ما يدفع نحو إبقاء الأمور ساكنة وجامدة ومتخشّبة. فالإرادة السياسية بما تعني من قرار صريح وعمل متواصل ومبادرات نوعية وتطوير للمناخ والبيئة الاجتماعية والثقافية، هي من العوامل الأساسية للتحوُّل نحو دولةالقانون والإنسان في الفضاء العربي.

تحرير المجتمع المدني ورفع القيود عن حركته وفعاليته، حيث إن الدولة بوحدها لا تتمكَّن من خلق كل شروط ومتطلّبات التحوُّل. وإنما هي بحاجة إلى جهد المجتمع المدني، الذي يستطيع القيام بالكثير من الخطوات والأعمال في هذا الاتجاه؛ لهذا فإن رفع القيود اليوم عن أنشطة مؤسسات المجتمع المدني يُعدُّ من الأمور الهامة، التي تساهم في تعزيز الأمن الاجتماعي والمحافظة على الاستقرار السياسي. فالحاجة ماسَّة اليوم لتذليل كل العقبات التي تحول دون فعالية المجتمع المدني في العالم العربي. وإن الفرصة مؤاتية اليوم لإنهاء تلك الحساسيات التي تحملها بعض النخب السياسية السائدة، تجاه مؤسسات المجتمع المدني ووظائفها وأدوارها. فإن هذه المؤسسات ليست بديلًا عن الدولة، ولا تستهدف في أنشطتها تضعيف دور الدولة، بل هي مساند حقيقي ومؤسسي للدولة، كما أنه لا تقوم لها قائمة بدون دولة مستقرِّة وثابتة .

فالدولة اليوم في العالم العربي بحاجة إلى جهد مؤسسات المجتمع المدني،  كما أن المجتمع المدني بمؤسساته وهياكله، هو بحاجة إلى الدولة الحاضنة والراعية والضامنة لعمل مؤسسات المجتمع المدني. فالحاجة متبادلة، والأدوار والوظائف متكاملة. وإن الظروف السياسية التي يواجهها العالم العربي تتطلَّب بناء الدولة في الواقع العربي على أسس جديدة وبمضامين جديدة. فالدولة التي ألغت المجتمع وحاربت قواه الحيَّة هي أحد المسؤولين الأساسيين عن الواقع المتردِّي الذي وصلنا إليه جميعًا. وسنبقى نعيش القهقرى ما دامت الدولة العربية بمضمونها الأيديولوجي التي صحرت الحياة المدنية هي السائدة..  فثمَّة ضرورة ملحَّة اليوم لإعادة صياغة مفهوم ومضمون الدولة في التجربة العربية المعاصرة .

فالدولة التي لا تحترم حقوق الإنسان، وتتجاوز الدستور والقانون لأتفه الأسباب ،هي الدولة التي أخفقت في مشروعات التنمية والبناء الاقتصادي، وهي التي انهزمت أمام التحدِّيات والمخاطر الخارجية. والعلاقة جدُّ عميقة بين إخفاق الدولة الداخلي وهزيمتها الخارجية. ولا سبيل أمام العرب اليوم إلَّا بناء دولة الإنسان والقانون وصيانة الحقوق والنواميس، هذه الدولة حتى ولو امتلكت إمكانات محدودة وقدرات متواضعة، هي قادرة -بتلاحمها مع شعبها وبتفاني شعبها في الدفاع عنها- على مواجهة كل التحدِّيات والمخاطر .فلتتَّجه كل الطاقات والقدرات والكفاءات نحو إرساء مضامين دولة الإنسان في دنيا العرب.

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث

......................

هوامش:

(1) خلدون النقيب، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر.. دراسة بنائية مقارنة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية 1998م، ص531.

(2) برهان غليون، المحنة العربية الدولة ضد الأمة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى

1993م، ص111.

في المثقف اليوم