قضايا

"أفمن أسس بنيانه على تقوى الله ورضوانه خيرُ أم أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فأنهار به.. والله لا يهدي القوم الظالمين".. فمن حكمَ العدل َوصل.. ومن اتبع الظلم سقط..

أية قرآنية مُحكمة.. تنطبق تمام الانطباق على من أسسوا جمهورية العراق عام 2003 حينما طاوعوا المحتل على فرض رأيه وقوانينه على الشعب دون اعتراض، بعد ان حقق لهم المحتل ما طالبوه به من المكاسب المادية الشخصية دون مراعاة حقوق الله والشعب والدستور(الأمتيازات الخاصة).. هذا ما أعترف به ممثل المحتل الحاكم المدني في مجلس الحكم علنا وصراحة في كتابه سنة في بغداد.. دون اعتراض من احدٍ.

وحين كتب الدستور ب139 مادة مثلت القواعد الاساسية لحكم الدولة.. قواعد صادقت عليها الجمعية الوطنية.. الا أنهم أضافوا عليه خمس مواد دستورية من عندهم بعد الموافقة من الشعب عليه.. لذا جاءت المواد من 140- 144 مواد غير قانونية التنفيذ، وغير مصادق عليها من قبل الشعب – باطلة - ولا يجوز العمل بها.. فأخترقوها تحديا للقسم واليمين الذي اقسموه امام الشعب.

نصت المادة الاولى من الدستور على ان نظام الحكم في الدولة العراقية - دولة أتحادية - دون ذكر ان كانت فدرالية او كونفدرالية عبرَ عن معنى مقصود منهم في تداخل نظام الحكم.. فاذا طبقت الفدرالية فليس من حق أقليم الشمال تطبيق الدستور بأزدواجية المعايير.. أما اذا كانت فدرالية، فعلى الحكومة ان تشمل بها كل الأقاليم دون تمييز. في وقت ان المادة 113من الدستورقررت ان اقليم الشمال وسلطاته القائمة أقليما أتحادياً دون تحديد.. وهذا نقص في التشريع، النقص لا يعالج الا بأعادة مراجعة الدستور.

وتنص المادة (9) من الدستور الفقرة (ب) يحظر تكوين مليشيات عسكرية خارج اطار القوات المسلحة الا بقانون. ولم يستثني مليشيات البشمركة الكردية.. لكنهم منحوا حق تكوين حرس الحدودغير مستقل عن القوات المسلحة العراقية.لكن هذا الشرط ضرب عرض الحائط وعين رئيس اركان الجيش كرديا غير مؤهل لمثل هذا المنصب تحديا للدستور.. ,قبلت حكومة المركزاجراء مفاوضات حول رواتب البشمركة دون الاعلان عنها في مجلس النواب.. فكان التدخل واضحا وما جرَ هذا التداخل من مخالفات لازالت عالقة الى اليوم.

ومع كل الذي حدث من غموض التطبيق بموجب المادة 137، و138 من الدستور في توضيح شفافية النص هو الذي اوجد كل هذه الاشكاليات التي تحدث بين المركز والاقليم.. والتي نرجو لها ان لا تستمر.. كون ان التجربة السياسية في أقليم كردستان العراق.. تجربة رائعة بحاجة للاستفادة منها في كل العرا ق دون تمييز.

نقطة اخرى بحاجة الى توضيح من قبل المركز الخاصة بأرتكاب الجرائم الدولية والارهابية من قبل كل من ينتمي للطرفين.. في وقت تم التعامل مع المادة (21) من الدستور بضبابية التنفيذ.. فعلى من تقع المسئولية في التقصير.. اين المدعي العام صاحب الحق في الرأي والقول.. والقضاء هو المستقل الاول في حكم الشعب وتفسير الدستور.

وتبقى المادة (109) الخاصة بادارة النفط والغازاحدى اشكاليات التوافق بين المركز والاقليم باعتبار ان النفط والغاز ملك الشعب العراقي دون تمييز.. وبما ان التوزيع السكاني المتداخل ورغبة كل من المركز والاقليم بالحصول على النسبة الاكبر من العائدات ظلت المادة اشكالية الاشكاليات بين الطرفين.. لكن التعداد السكاني تقع مسئوليته على وزارة التخطيط التي لم يجلس على كرسيها من الكفاءات التي يمكنها تلافي النقص، وسبب كل هذا الخلاف هو المحاصصة الكريهة اللا قانونية التي طبقت في نظام الحكم وهي خارج مواد الدستور.. كل هذه الاخطاء نتجت من تغطية لتوافقات مصلحية غير مكشوفة بين الطرفين تبعها نقص في المعالجة والتنفيذ.وقل بصراحة خيانة الامانة وتحدي القسم واليمين.

وتبقى المادة (15) من الدستورالتي تبين حقوق الفرد في الحرية والعدالة الاجتماعية.. حبرا على ورق دون الحقوق خاصة بعد ان فشلت الحكومات المتعاقبة في اقرار العفو العام والتحقيق في المظلومية في القتل دون مسوغ قانوني ثبت.ونستطيع ان نقول ان مجلس القضاء الاعلى هو المتهم في التقصير.

ويبقى انتخاب الرئاسات الثلاثة على اساس المحاصصة والطائفية والمكونات السياسية اساس التخريب.. لم يشهد الوطن منذ 2003 الى اليوم مجيءرئاسات كفوة وشخصيات كريزماتية تستحق المنصب لذا بقي العراق في حالة الفرقة والتشرذم والمصالح الخاصة لا غير رغم المنافع المادية الباهضة التي خصت لها دون مراعاة حالة الوطن في التعمير والتغيير.

وتبقى شبكة الاعلام العراقي في خدمة السلطة لا المواطن لذا جرى التعتيم على كل المخالفات والمساوىء التي ارتكبت بحق الشعب من قبل مؤسسات الدولة دون مسائلة القانون والتقصد في عدم ذكر اسماء المخالفين.وخاصة في التعتيم على السراق والخونة والمارقين الذين استغلوا السلطة خارج القانون..

وتبقى اللجان التي كلفتت بكتابة الدستور من غير اصحاب الفقه الدستوري والقانوني وادخال رجال الدين في صياغة القوانين قد اثرت تماما على الحقوق العامة كما في المادة الثانية من الدستور التي نصت على ان لا يجوز سن مادة تخالف الشريعة الاسلامية في التنفيذ.وهذه المادة ضربة قاصمة للحقوق.

أمن اجل هذا التقصير جاء التغيير..؟

اليوم دولة فيها الفوضى عارمة في مسالة تعيين الوكلاء والمستشارين دون حدود.. وهي فرصة للاستغلال النادي والتقاعد للمحاسيب.ومعضلة توزيع المستحقات المالية دةن تعداد سكاني معتمد.. عقد الافاقيات المركزية من اختصاص المركز لكن الاقاليم تقوم بعقدها دون مبالاة المركز وهذا تجاوز على الدستور. ونصت المادة 104 على انشاء مجلس الخدمة لضبط التعينات وشروطها.زفضرب عرض الحائط واصبح التعيين للمسئولين دون قانون.وملايين المخالفات القانونية التي ترتكبها السلطة دون محاسبة القانون.

ان الذي يحدث في العراق اليوم هو ابطاء في مسيرة حضارة العراقيين مما ولد حالة الانقطاع بين الحاكم والمحكوم، واصبح حال النظام كالشجرة التي ماتت جذورها فجفت اورقها حتى تموت.

ونحن نقول كما قال القرآن: ان الذين كفروا.. سواءً انذرتهم ام لم تنذرهم لايؤمنون.وهكذا اصبح القدر الحقيقي للسلطة في موقعين السلطة والاستبداد فكيف تقف منهما..؟

الدولة نشأت على باطل ومن ينشأعلى باطل فهوباطل.. لكن العتب على مرجعية الدين التي تدعي انها تراقب العدل والقانون لماذا هذا السكوت وكيف يفسر؟.. ولاعتب عليها ما دامت من غيرالعراقيين.

من كان يدعي المعارضة ويقسم انه جاء من اجل الشعب مطئطئاً رأسه امامنا للذي قام بالتغيير.. اين هو اليوم من القسم واليمين.. بغض النظر عن الدين ام امذهب الباطل الذي كان يتمشدق به امام المواطنين.

نعم انتم اليوم تمثلون دولة الهولاكيين لذا لا عتب عليكم فليكتب التاريخ تاريخ المغول من جديد.

***

د.عبد الجبارالعبيدي

قد تبدو للوهلة الأولى بأنّ الضّرورة مُنتفيّة لإعادة قراءة مشروع الدّكتور عليّ الورديّ (1913/1995م)، وإنّ محاولة العودة إلى التّفاعل مع منجزه الكبير ما هي إلاّ محاولة الولوج في اللا جدوى، لأنّ المجتمع العراقيّ يُعَدُّ من أكثر المجتمعات عُرضَةً للتّقلُّب والتّحوّل الاجتماعيّ والسياسيّ على امتداد تاريخه، وبالتّالي ما جدوى أن يبقى الاهتمام قائماً بمفكرٍ عراقيّ قدّم نتاجه عن طبيعة المجتمع ومكوّناته الثّقافيّة قبل ستين عاماً تقريباً؟!

إنّ الموضوع بجملته لا يتمركز بالضّرورة حول الإيمان المطلق بما جاء به الدّكتور الورديّ، بقدر ما يرتبط بحاجة الرّاهن العراقيّ المُلحاحة لاستثمار الهدف الابستمولوجيّ لمشروعه، واشتغاله الحفريّ في تبيان مجاهيل المجتمع العراقيّ، الذي ما زال يعيش فوضى عارمة لا قرار لها في مختلف فعاليّاته وعلى كافّة الصُّعد.

فالدّكتور الورديّ من الأوائل الذين دشّنوا ثقافة النّقد الاجتماعيّ في بنية مجتمعيّة إطلاقيّه، تتحرّك وتتفاعل ضمن دائرة مُتبنيّات ثقافيّة جامدة، وكان من غير الممكن سماع صوت مُشاكس، يُغاير السّائد والمألوف لقناعاتِ النّاس وتقاليدهم، التي صَيّرها بعض المُنتفعين إلى مُسلّماتٍ وثوابتٍ مُقدّسة، أصبحت فيما بعد جزءاً مهمّاً من البنية الثّقافيّة والمعرفيّة للمجتمع العراقيّ، وهذا التجذير والقداسة جعلها - أيّ تلك القناعات -خارج أطر الّنقد العلميّ والموضوعيّ، بل وحتّى خارج إمكانيّة غربلتها وتصفيتها، ولعلَّ هذا أوّل الأسباب التي تضطرّنا إلى إعادة قراءة مشروع الدّكتور الورديّ والإشكاليّات التي اشتغل عليها، من غير استشعار أيّ ضجر أو ترهُّل أو استهلاك.

ومن هنا فإنّ المسوّغات التي تُعيدنا لمشروع الدّكتور الورديّ تبدو جَليّة ومقبولة الآن، ليس لأنّ الورديّ قام بدراسة المنظومة الاجتماعيّة العراقيّة وفَكّ مرموزاتها وأجاب عن أغلب إشكالاتها وحسب، بل لأنّه ضغط على جراحنا بقوّة من خلال استفزازنا داخل قرارة ما نحاول دائماً أن نغضُّ الطّرف عنه ونضعه في دائرة الصّمت القَهريّ، واستطاع زعزعة بعض اليقينيّات الواهمة (دّينيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً) والتي دائماً ما نبتعد عنها ونخشى مكاشفتها، فضلاً عن محاسبتها وإهمالها.

لذا، فمشروع الدّكتور الورديّ ما زال يحتفظ بقيمته وطراوته ولم تنفذ فاعليّته حتّى الآن، في حين تلاشت الكثير من الكتابات لمن جايل الورديّ ومن جاء بعده، لاسيّما في مَجالي الاجتماع والثّقافة.

ومن أهمّ الأسباب التي ساعدت على ديمومة مشروع الورديّ، هو أنّه لم يكن من جوقة المُثقّفين الذين لا يرتبطون بالاشتراطات الواقعيّة للراهن العراقيّ اليوميّ المُعاش، ولم يتغافل عن هموم النّاس ومشاكلهم ولم يُدر ظهره لها، بل نراه جابه المخزون الثقافيّ الشّعبيّ، الذي اعتبره من الرّكائز التي دائماً ما تعود بالنّاس إلى الماضي الرّاكد، أيّ أنّ ذلك المخزون الثّقافيّ الذي جابهه الورديّ وجعله تحت مجهره، هو المنبع الأساس الذي يُغذّي الراهن بكافّة التناقضات عن طريق ظهورها على الواقع كممارساتٍ سلوكيّةٍ يوميّة للفرد العراقيّ.

وكذلك من الأسباب التي تجعل منجز الدّكتور الورديّ مادّة مقروءة طازجة لم تؤثّر فيها عوامل التّقادم، هو كون الورديّ تحرّر من شِراك الإيديولوجيّة وشِباكها وهو يشتغل في تشخيص المخزون الثّقافيّ العراقيّ، وقد يكون هذا أمراً مستحيلاً في البحث العلميّ المتعلّق بموضوعة الإنسان والتّاريخ، بل أنّه تحرّر أيضاً من القيود المنهجيّة والأكاديميّة غير المنطقيّة لعلم الاجتماع ذاته، مما ساعده على امتلاك زمام الموضوعيّة، من غير إن تتصدّع تساؤلاته الإشكاليّة وتترهّل كُلّما تقادم الزّمن.

كان الدّكتور الورديّ دائم السّعي لإنتاج ثقافةٍ نقديّةٍ فاحصة، ووعي دائم الحِراك للفرد العراقيّ، عِوضاً عن قوالب الثّقافة المؤدلجة واطلاقيّتها، التي دائماً ما تصنع مخيالاً مُزيّفاً للنّاس وتُصيُّر بعض التّقاليد الموروثة على أنّها من الثّوابت والمرتكزات التي لا يُمكن تَخَطيها. وأيضاً من المبرّرات التي تُعيدنا إلى قراءة مشروع الورديّ وتجعله في صدارة الاهتمامات للقارئ والباحث، هو النّكوص الثقافيّ العراقيّ وتشظّيه منذ اكتشاف الورديّ مَواطن الوهن والخور في ذلك المنجز وحتّى الآن، حيث أنّ ما أنجزه وأبدعه المثقّف العراقيّ لم يَرقَ ليُصبح مكوّناً أساسيّاً من مكوّنات ثقافته، ولم يسع المثقّف العراقيّ لتصحيح هذا المسار الخاطئ، ولم يتمكّن من إنتاج رؤى مُغايرة ومُشاكسة لوعي الفرد العراقيّ المألوف. بل دائماً ما كان - ولعلّه حتّى الآن - ذلك المُنجز بمثابة المحاولات الفرديّة التي لم تتجاوز جانب الإرهاص عند مُنتِجيها، ومنذ أيام الدّكتور الورديّ وحتّى الآن لم يَخرج لنا مشروعاً ثقافيّاً كبيراً إلّا ما نَدَرَ، يعتمد الموضوعيّة والنّقد العلميّ المتحرّر من قيود الاستلاب والتّبعيّة، وبالتّالي يُنتج تفاعلاً ثقافيّاً يُفضي بنا بالضّرورة إلى تفاعلٍ اجتماعيّ.

وهذا لا يعني التّنكيل والتّقليل من شأنيّة الثّقافة العراقيّة برمّتها أو الحكم عليها بالفشل، بل هو إيضاح إلى أنّ منجزها ما زال متشظّيّاً هنا وهناك، ولم يستطع إنتاج منظومة وعي عراقيّة مستقلّة، لأنّ الكثير ممن اشتغل على إنتاج المنجز الثقافيّ في العراق، ولأسباب مختلفة، لم يندكّوا بواقع المجتمع والفرد ليكونوا في خطّ المواجهة مع كُلّ المتغيّرات التي تطرأ على الرّاهن اليوميّ للنّاس، وهذا ما أشار إليه الدّكتور الورديّ كثيراً، واستهجنه أكثير.

إنّ الرّاهن العراقيّ (سياسياً واجتماعيّاً) وما يكتنفه من صراعٍ واحترابٍ جَليّ، قد استشرفه الدّكتور الورديّ في الكثير من كتاباته، لأنّ شخصيّة الإنسان – بحسب الورديّ – هي نتاج ثقافته وانعكاس لها في الأعمّ الأغلب. والصّراعات السّياسيّة والدّينيّة والاجتماعيّة التي نشهدها اليوم تظهر لنا وبوضوحٍ النّزعة البدويّة لدى الكثيرين ممن تصدّروا المشهد، وبالتّالي فهم يديرون دفّة الأمور بمنطقِ البداوةِ والغَلَبَةِ والثّأرِ والاستئثار.

ولأنّ السّائد في العراق بمختلف المجالات، هو خاضع لذات العناصر الثّقافيّة التي اشتغل عليها الورديّ، بل وما زالت فاعلة وبقوّة بسبب وجود من يسعى وبكلّ جدٍّ لدوامها وإنعاشها، فإنّ اهمال ما أكَّد عليه الوردي كون العقل من منتجات المجتمع، قد يبدو أمراً مغالطاً ومجانباً للصّواب، وهذا ما يبقي الدّكتور الورديّ ومشروعه التّصحيحيّ إنعطافة كبرى في تاريخ العراق وثقافته، ما دام المنجز الثّقافيّ العراقيّ خاضعاً ومُذعناً لنفس التّقاليد – المُسَلّمات – الزّائفة.

وهذا ما قد نتحدّث عنه في مناسباتٍ لاحقة.

***

علاء البغداديّ - باحثٌ وكاتبٌ من العراق

 

كتب: ك.م. سيثا K.M. Seethi

ترجمة: علي حمدان

***

الان تورين عالم اجتماع فرنسي توفى في 9 من يونيو، 2023. وكان معروفا بإسهاماته العلمية العميقة في العلوم الاجتماعية في أوروبا والولايات المتحدة وامريكا اللاتينية وحتى في العالم الأفرو-اسيوي. لا يمكن اغفال تأثير تورين على المجال الاكاديمي. خلال مسيرته الفكرية، كرس تورين نفسه لفهم وتفسير العلاقة المعقدة بين الافراد والمجتمع، واشكال تمثلها المتنوعة. وذهبت أفكاره الى ما هو ابعد من الحواجز اللغوية، حيث الهمت علماء وقراء من خلفيات ثقافية مختلفة.

ولد تورين في عام 1925 في هير مانفيل-سورمير في فرنسا، ودرس في كل من جامعة كولومبيا، وجامعة شيكاغو، وجامعة هارفارد. لعب سقوط فرنسا في عام 1940 دورا كبيرا في تشكيل تاريخ تورين الشخصي ورحلته الفكرية. كانت هذه التجربة التحويلية لها تأثير كبير على رؤيته ونظرته للعالم. خلال دراسته في الولايات المتحدة خلال الخمسينات من القرن الماضي حضر تورين محاضرة لعالم الاجتماع الشهير تالكوت بارسونز. ومع ذلك بدلا من ان يستلهم من المحاضرة، تأثر كثيرا بوصف بارسونز للمجتمع ككيان مستقر ومتناغم. وقال " جعلني ذلك مريضا، وفي غضون ساعتين، فهمت لماذا كنت معارضا لتحليل بارسونز، كما هو الحال مع الكثير من الأمريكيين المنتصرين في الحرب. كان المجتمع مسألة بسيطة، فهم يعيشون فيه كمنزل به سقف وجدران. اما انا فكنت غير مرتاح في مجتمع يتسم بالسلوك غير السوي والانهيار ولم يعد يعرف ما يريده".

كانت محاضرة بارسونز نقطة تحول في رحلة تورين الفكرية. لم يؤدي ذلك فقط بتنشيط نظرته النقدية ولكنه أيضا حفز إصرارا لا هوادة لديه على تحدي المفاهيم المؤسسة للمجتمع. حفزه هذا على دراسة الديناميكيات الاجتماعية المعقدة، حيث سعى الى التصدي للتفاعل بين الافراد والمجتمعات التي يعيشون فيها، من خلال تحدي السرد السائد. شرع تورين في سعي لا ينقطع وراء المعرفة، بهدف فهم جوهر وجودنا الاجتماعي المتعدد الجوانب.

تبدا مسيرة تورين كباحث في المجلس الوطني الفرنسي في عام 1960، تولى منصب كبير الباحثين في المدرسة العليا للدراسات العملية في باريس.  هناك أسس مركز التحليل والتدخل الاجتماعي ( CADIS). يشمل عالم تورين الفكري علم اجتماع العمل، مع فترات مختلفة تركز على الجوانب العملية والتاريخية والفلسفية. خلال المرحلة الأولى، استكشف البعد العملي للعمل الاجتماعي. وفي وقت لاحق، قام بدراسة العمل الاجتماعي في سياق تاريخي، مع الاخذ في الاعتبار تطوره مع مرور الوقت. ثم تناول تورين العمل الاجتماعي من منظور فلسفي، حيث تفاعل مع أسئلة نظرية اعمق.

خلال مسيرته المهنية، بذل تورين جهودا جادة لدمج المناهج النظرية والتحليلية، والبحث الاجتماعي التجريبي. وتحليل الاحداث التاريخية الواقعية. يتضح التزامه بالاستكشاف متعدد التخصصات في مجموعة كتاباته المتنوعة، على سبيل المثال، الف تورين كتابا حول الجامعات وحركة الطلاب الامريكية، مما يظهر اهتمامه العميق بفهم المؤسسات التعليمية والحركات الاجتماعية. كما تابع بعناية تطور كندا الناطقة باللغة الفرنسية. واجرى ابحاثا مفصلة حول هذا الموضوع. كما قام بدراسات معمقة حول البلدان ما بعد الشيوعية في شرق أوروبا، وتعمق في التحولات الاجتماعية والسياسية الفريدة التي شهدتها هذه البلدان. كما كرس جزءا كبيرا من مجهوده العلمي في دراسة بلدان أمريكا اللاتينية، من خلال تعاطيه لمواضيع ومناطق متنوعة. تعكس اعمال تورين التفاني الذي يبديه في استكشاف الطابع المتعدد الاوجه للمجتمعات، باستخدام مجموعة متنوعة من الأساليب والمناهج لاكتساب نظرة ثاقبة لتعقيدات الديناميكيات الاجتماعية البشرية.

في بداية دراسته، كانت أبحاث تورين تركز على علم اجتماع الوعي العمالي. وخلال هذه الفترة، الف تورين اعماله الأولى في أمريكا اللاتينية. حيث قام بدراسة عمال مناجم الفحم وعمال الصناعات المعدنية في تشيلي. ومن الملاحظ ان كتابه  "المجتمع ما بعد الصناعي" صدر أيضا في هذا الوقت. ولقد تمحورت المرحلة الثانية من أبحاث تورين حول احداث هامة مثل احتجاجات مايو 1968 والانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية. وقد دفعت هذه التجارب اهتمامه العميق بدراسات الحركات الاجتماعية. بالتعاون مع مجموعة من الاكاديميين، وضع تورين طريقة "للتدخل الاجتماعي" واجرى سلسلة من الدراسات لفهم هذه الحركات وديناميكياتها. في دراساته التالية، تمحور اهتمامه أساسا حول مفهوم الذات، الذي يعتبره المبدأ المركزي القائم وراء أفعال الحركات الاجتماعية. لقد ركز بشكل كبير على قوة ودوافع الافراد داخل هذه الحركات. شكلت هذه المرحلة  تحولا نحو استكشاف اكثر فلسفية للموضوع ودوره في تشكيل التغيير المجتمعي.

في عام 1966، انضم تورين ، مدفوعا بكراهية شديدة بالنظام الاكاديمي القائم، الى جامعة نانتير Nanterre  المنشأة حديثا  بالقرب من باريس. لم يكن يعلم انه سيجد نفسه في مركز حركة الطلاب في أوروبا.  التي أصبحت بسرعة قوة ثقافية وسياسية مهمة. ومن بين الكثير من الكتب التي كتبت حول هذه الحركة، كان تورين يعتقد ان كتابه الخاص كان اكثر الكتب دعما للحركة، معترفا بان هذه الحركة "الثقافية" الناشئة تختلف عن الحركات" الاجتماعية" التقليدية.  لكنه أشار أيضا الى الصراعات بين هذه الحركة الثقافية والأيديولوجيات الماركسية والتروتسكية والماوية السائدة التي حاولت فهمها من الناحية السياسية البحتة. وقارن تورين هذا التصادم بوضع نبيذ جديد في قناني قديمة، مسلطا الضوء على الحاجة الى طرق جديدة للتفكير لفهم الديناميكيات المتغيرة في تلك الفترة. ونتيجة لذلك، وجد تورين نفسه في خلاف مع كل من الأساتذة المحافظين والجماعات السياسية اليسارية. يتبع.

***

 

لا عيب أن نتعلم من الآخرين، لنبدأ من حيث انتهوا، ونفيد من تجاربهم الغنية لنتجنب الإخفاق الذي وقعوا فيه في مراحل ما قبل النجاح، بعد أن نسينا ما علمه لنا أسلافنا، ووعوه هم وتعلموه بعد أن اقتبسوه منا، فالمثاقفة والتناقل الثقافي سمة الحياة البشرية في كل حين، ولا يكفي أن يكون أجدادنا عظماء، بل يجب أن نتعلم صنع العظمة ونمارسها.

وما أريد التحدث عنه على عجالة هو موضوع ونظام التعليم الابتدائي في العراق مقارنة بنظام التعليم الياباني، بسبب الإخفاقات الكبيرة التي شخصها المتخصصون في نظامنا، والتي تدفع الطلاب إلى كره التعلم، والتغيب المستمر، والتسرب من الدراسة وتركها، واعتماد أساليب الغش في الامتحان، ودفع الرشاوى من أجل النجاح، وأخيرا وليس آخراً قلة المبدعين، وقليل الموهوبين، بعد أن أصبحت الغاية من التعلم هي الحصول على وثيقة تتيح للطالب الحصول على وظيفة في إحدى الدوائر الرسمية لا أكثر، وبدون أي طموح أبعد من ذلك.!

ففي الوقت الذي يوجب النظام التعليمي العراقي خضوع الطالب للامتحان من الصف الأول الابتدائي، نجد نظام التعليم في اليابان يمتنع عن اجراء أي امتحان مهما كان نوعه للطلاب من الصف الأول إلى الرابع الابتدائي، لأنها مرحلة الإعداد المركزية التي تبنى وتقام عليها جميع المراحل التعليمية والحياتية الأخرى، فهم يعتقدون أن في هذه المرحلة التعليمية الحساسة هناك عشرات الدروس الأخرى التي هي أكثر أهمية من الامتحان؛ والتي يجب على الطالب تعلمها ابتداء، والتعود عليها بشكل مستمر، ليسهم في بناء نفسه وثقافته ومن ثم بناء المجتمع، والإسهام في تقدم وتطور البلد. من هنا نجدهم يقصرون تعليم الطلاب في هذه المرحلة الابتدائية والأساسية على أساسيات الحياة المعاصرة والنظام المجتمعي، فهم يعطون الأولوية لتعليم الطالب احترام السلوك والأخلاق، واحترام الناس الآخرين دون اعتبار لوضعهم المالي أو الوظيفي أو السلطوي، فالجميع متساوون في نظر الجميع، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، في وقت تخلينا نحن، وتخلت مناهجنا التعليمية عن هذه الجزئية المهمة في الحياة.

وهم يسعون إلى تعليم الطالب أهمية استقلال الذات بالشكل الأمثل، وتعويده على تحمل المسؤولية الفردية والمجتمعية، وإشعاره بأهمية العمل المشترك، ومن ثم تعليمه القدرة على ممارسة العمل المشترك ضمن الفريق، لتعليم الطلاب بشكل عام أهمية تقديس العمل مهما كان نوعه. ومن تجاربهم العملية التي تمارس باستمرار في جميع مدارسهم؛ تعليم الطلاب على المشاركة الجمعية رفقة الأساتذة لتنظيف المدرسة وجميع مرافقها يوميا، فالطلاب العراقيين الذين لا يشعرون بأهمية هذه المشاركة وقدسيتها؛ كونها تسحق الروح الطبقية لدى بعضهم، يقابلها تقاسم طلبة اليابان في تحمل المسؤوليات بكل أنواعها، فهم يتولون مثلا القيام بجميع أعمال المنظفين، طالما أنهم هم الذين تسببوا في وجود تلك الفوضى وإن لم تكن مقصودة، قبالة ذلك تشكو المدارس العراقية من قلة عدد عمال الخدمات والمنظفين، لا بسبب عدم التزام الطلاب بأبجديات النظافة فحسب، بل واحتقارهم لهذا العمل ولمن يقوم به وفق رؤية طبقية مقيتة،  في وقت لا تجد فيه وظيفة عامل نظافة في مدارس اليابان لأن طلابها هم من يتولى هذه المهمة.

وفي الوقت الذي يسهم فيه بعض طلاب المدارس الابتدائية العراقية في تلويث البيئة، وتحطيم الأشجار، وقطف الورود وسحقها، وإلقاء القمامة ولاسيما المخلفات البلاستيكية في كل مكان، تجد نظام التعليم الياباني يسعى إلى تعليم الطلاب أهمية تقدير البيئة وحفظها والحفاظ عليها والعناية بها لتبقى سليمة جميلة مشرقة.

وفي الوقت الذي يعتبر فيه نظام التعليم العراقي درجة الامتحان بكل أنواعه اليومي والأسبوعي والشهري والفصلي والسنوي هي الفاصل بين نجاح ورسوب الطالب الابتدائي، يسعى نظام التعليم الياباني إلى متابعة مهمة أن يتخصص التعليم في هذه المرحلة في تنمية قدرات المعرفة العامة النظرية والعملية والسلوكية والمجتمعية لدى الطالب، لا من أجل تحصيل الدرجات مثلما هو عندنا.

وفي الوقت الذي تعم فيه الفوضى مدارسنا وبشكل خال من أي وجه من أوجه التحضر والرقي والذوق، يؤكد نظام التعليم الياباني وباستمرار على وجوب التزام الطالب بالأدب والانضباط، وتقدير الوقت، والحفاظ على الموعد، والالتزام بأوقات الدوام والعمل، وبسبب هذا النظام نجد معدلات الحضور في المدارس اليابانية تقترب من النسبة المطلقة 100% في وقت تتراوح نسب الغياب في مدارسنا الابتدائية بين 10 إلى 25 بالمائة وتتجاوز هذه النسبة في بعض الأحيان.

وفي الواقع، بل الذي يحز في النفس كثيرا أننا أجدر من غيرنا باتباع تعاليم ديننا ومجتمعنا التي تدعو إلى الاهتمام بالصغار وفق قاعدة السلف "خذوهم صغارا" المستقاة من قول رسول الله ﷺ: "التعلم في الصغر كالنقش على الحجر"، فالتعليم في الصغر ممارسة عملية، وتمرين تقوية، وتهذيب سلوكي بنائي، وإسهام جاد في وضع أسس النشأة وفق مقاسات العلم والدين والإنسانية، وهي عملية معقدة تحتاج إلى الاهتمام الكبير بجميع أركانها العملية؛ ابتداء بـ"المربى" الذي يكون في هذه المرحلة ورقة بيضاء تنتظر الأقلام لتخط وتطبع عليها ما تشاء، مرورا بـ"المربي" الذي يجب اعداده إعدادا علميا وسلوكيا ومهنيا تحت رقابة صارمة، وصولا إلى "المنهج المقرر" الذي ليس شرطا أن يكون كتابا، فهو قد يكون دروسا نظرية واستطلاعية ومشاهدات حياتية وقصص

إن المنعطفات الحياتية الخطيرة التي يمر بها العالم اليوم، والتهديدات المباشرة لعالمنا العربي والإسلامي، تعتبر مسألة مصيرية حاسمة، تتطلب منا جميعا الإسهام في وضع مناهج التحصين المجتمعي وفق كل المتاحات ومنها إعادة بناء منظومات التعليم في جميع مراحله ولاسيما الابتدائية منها وفق سياقات التحضر والتمدن والمعاصرة، بعيدا عن التقليدية الموروثة بكل سلبياتها وتأخرها، فالتربية بوصفها سلوك تهذيبي يسعى وراء تحسين القدرات والتحصين من الخطأ لا تقف عند مستوى التعليم المنهجي وحده، ولا يكفي الطالب أن يتعلم القراءة والكتابة وحدهما، ولا أن يتحصل على درجات عالية في الامتحانات، طالما أن اللعب مثلا حق طبيعي نشأوي وتربوي في مرحلة الطفولة، وطالما أن التربية الأخلاقية هي التي تؤسس لباقي المراحل المهمة، وعلى الدوائر المتخصصة أن تراعي هذه الملاحظات وتعمل بموجبها من أجل غد مشرق، ليس مستحيلا أن نصله إذا صفت النوايا وأخلص المسؤول.

***

الدكتور صالح الطائي

على مدى أكثر من نصف قرن، بقيت توصيفات عالم الاجتماع علي الوردي للشخصية العراقية هي السائدة مثل نصوص مقدسة لا يمكن الطعن بها أو مخالفتها، ومنها قوله بالازدواجية التي وسم بها تلك الشخصية فأصبحت كأنها حقيقة غير قابلة للطعن والتشكيك، مع أن الرجل لم يقل يوماً بأن أحكامه قطعية، إنما كان يشير صراحة إلى إمكانية تغيير آرائه إن ظهرت له حقائق ومعلومات جديدة، وذلك من طباع العلماء وتواضعهم ويقينهم بمحدودية المعرفة الانسانية. ولو جاءت أحكام الوردي في دراسات سوسيولوجية باردة لما انتبه اليها أحد من الناس، ولمرت حتى على الأوساط الاكاديمية مرور الكرام، لكنه بما امتلكه من أسلوب بسيط ولغة مرنة وروح طريفة ساخرة، تمكن أن يتسيد حقبة زمنية طويلة على غيره من الأكاديميين والباحثين في مجال تخصصه، حتى أصبح بحق أباً لعلم الاجتماع العراقي – إن صحت التسمية – من دون منازع.

في كتابه " ثقافة التصلب .. منظور جديد لفهم المجتمع العراقي" الصادر عن دار الذاكرة للنشر والتوزيع يتصدى الباحث في الشأن العراقي منقذ داغر ومعه السيدة ميشيل كيلفاند من جامعة ستانفورد الأميركية أستاذة إدارة الثقافات المتعددة والحائزة على جوائز عديدة في مجالات علم النفس والعلوم السلوكية، للقيام بهذه المهمة غير المعتادة، تفنيد رأي الوردي في ازدواجية الشخصية العراقية، على الرغم من اعجابه بما قام به الوردي من جهود كبيرة في دراساته لطبيعة المجتمع العراقي . ولأن داغر بحكم تخصصه وميدان عمله في الإدارة العامة واستطلاعات الرأي العام يعتمد التوصيفات المستمدة من الأرقام والحقائق العلمية، ومنها أول استطلاع علمي شامل للرأي العام في العراق أجراه فريقه البحثي عام 2003 كشف فيه من خلال مقابلات زادت على المليون ونصف مقابلة مع مواطنين عراقيين عن حقائق جديدة بخصوص الكثير من المفاهيم الشائعة عن المجتمع والشخصية العراقية، مثل ازدواجية الشخصية والطائفية والقبلية وعدم المرونة التي تتسم بها تلك الشخصية بحسب ما هو شائع عنها. وهو على الرغم من شغفه بكتابات الوردي القادرة على تفسير الظواهر الاجتماعية في المجتمع العراقي بلغة بسيطة، فإن علامات استفهام كانت تدور في ذهنه عن صحة المنهج العلمي في تحليله الاجتماعي كما يقول " فقد كنتُ دوماً – كباحث- أجد صعوبة في تقبل التعميمات الاجتماعية بخاصة حينما تفتقد الى أدلة رقمية تجريبية، لقد كنتُ أتضايق حين أسمع إن العراقي مزدوج الشخصية مثلاً، ليس لأن ذلك لا يليق بالعراقي أو تحيزاً لانتمائي، بل لصعوبة تقبلي – علمياً – لفكرة التعميم اعتماداً على الملاحظات الشخصية". ويفسر الكتاب بعض الظواهر الاجتماعية السائدة في المجتمع العراقي، تفسيراً علمياً "بدلاً من شيطنة المجتمع العراقي وجلد الذات العراقية والثقافة المجتمعية السائدة في العراق، كما يبتعد عن الأحكام المسبقة التي ألصقت تلك الظواهر بشخصية العراقي في الأدبيات والمنتديات ووسائل التواصل العامة، ذلك أن كل الأسباب التي ساقها الوردي لتفسير ازدواج الشخصية لدى العراقي لا تبدو كافية لتفسير ما يحصل للعراقيين حينما يتناقضون في آرائهم وسلوكياتهم في مواقف مختلفة".

والخلاصة أن ازدواج الشخصية ظاهرة اجتماعية تحدث لدى كثير من الناس في كل المجتمعات البشرية بسبب الصراع الثقافي الذي يمكن أن تعيشه تلك المجتمعات، وهي ليست مرضاً نفسياً تعاني منه الشخصية العراقية لوحدها كما حاول الوردي ترسيخه في اذهان الجمهور والباحثين الاجتماعيين الذين ساروا على منواله، اعجاباً باسلوبه البسيط الذي يتناغم معه عموم القراء.

***

د. طه جزّع – كاتب أكاديمي

 

قلما نصادف مطبوع يتحدث فيه صاحبه عن أحوال وأهوال المجتمع العراقي، يخلو متنه من الإشارة – بهذا القدر أو ذاك - الى أحداث ماضي هذا المجتمع ويتطرق الى وقائع تاريخه القديم، ليس لأن كاتب المطبوع يدرك أهمية هذه الإشارة ويقيّم ضرورة تلك الالتفاتة، بقدر ما يراعي الحالة الذهنية والسيكولوجية المضطربة التي يبدو عليها الإنسان العراقي وهو يقارع ظروف ويصارع أوضاع واقعه الاجتماعي المرير . بحيث انه لا يتردد في الرهان على ما قد يجنيه من مكاسب (مادية ومعنوية) في حال كونه استطاع تحيين واستثمار تلك الأحداث والوقائع، طالما يلمس أنها لا تزال فعالة على صعيد الوعي وشغالة على صعيد العلاقات .

ولهذا ترى أن الغالبية العظمى من العراقيين لم يبرحوا مأخوذين بهول الصدمات المتتالية والانهيارات المستمرة، التي لم تفتأ تنهال فوق رؤوسهم كما اللعنات التي لا فكاك عنها ولا خلاص منها، حتى إن السؤال الذي يخامرهم عما جرى لهم في الماضي ويجري عليهم في الحاضر والمرجح انه سيداهمهم في المستقبل، بات لازمة لا تفارق شفاههم ولا يغادر وعيهم، بحيث لم يعد يخلو حديث من أحاديثهم عنه وفيه وحوله . إذ طالما قرأوا في كتب التاريخ والحضارة والدين التي تهيأت لهم فرص دراستها عبر مختلف مراحل الدراسة وأنماط التلقين التربوي، فضلا"عن أدبيات الأحزاب السياسية التي انخرطوا في صفوفها لاحقا"، ناهيك بالطبع عن سيل الخطابات الإيديولوجية التي تبثها وسائل الإعلام الخاصة بالدولة / السلطة المسماة (وطنية)؛ إن العراق كان في يوم ما مهدا"للحضارة العالمية وبوابة للتاريخ الكوني، وباكورة للوعي البشري؟! . أفلم يتناهى إلى أسماعهم - منذ نعومة أظفارهم حتى بلغوا من العمر عتيا - إن الأبجدية الإنسانية كانت قد اخترعت فوق ترابه، ولم تنبثق الأديان السماوية إلاّ من بين جنباته، ولم تشرّع القوانين الوضعية إلاّ وسط رحابه ؟! .

والحال، ربما يخطر على بال العراقيون تساؤل مفاده ؛ لماذا بعد كل هذا المزايا التاريخية والمناقب الحضارية آلت بنا الحال إلى هذا الدرك المزري والمآل المفجع من الانقسامات الاجتماعية، والصراعات المذهبية، والتهتكات الأخلاقية ؟! . ورغم أن مثل هذا التساؤل المشروع واردة، بلّه متوقع، من لدن جلّ العراقيين المأخوذين بهول الصدمات والمفاجئات، إلاّ أن أحدا"منهم لم يذهب بعيدا"في البحث عن مكمن الإجابات الحقيقية التي يمكنها أن تطفي ظمأ حيرتهم وتشفي غليل قلقهم . ولأجل ذلك نقول؛ أن على كل من يريد ويسعى – حقا "وصدقا"- للعثور على بغيته من الإجابات الواقعية لأسئلته الحائرة وتوقعاته القلقة ولواعجه الممضّة، الشروع بتوجيه دفة بحثه وتنقيبه – بتجرد ودون مسبقات طوباوية ومسلمات وقناعات زائفة - صوب مواريث (الماضي) القارة في قيعان متخيله الجمعي المحاط بأسيجة من الممنوعات والمحرمات، والتي طالما تغنى بمفاخرها المختلقة في كل حين، ورقص على أمجادها الملفقة في كل مناسبة، بحيث ستشيح تلك المواريث عن أحداث يندى لها الجبين لوضاعتها ووقائع تقشعر لها الأبدان لفضاعتها !! .

ولهذا علينا أن نقرّ ونعترف بحقائق ؛ ان إقليمنا (الجغرافي) ليس سوى سلسلة من الصراعات بين المراكز والهوامش، وأن موروثنا (التاريخي) ليس سوى سلسلة من الحروب والمذابح بين الأقوام والأعراق، وأن اعتقادنا (الديني) ليس سوى سلسلة من الكراهيات والاستقطابات بين الطوائف والمذاهب، وأن تكويننا (الاجتماعي) ليس سوى سلسلة من عمليات الكرّ والفر بين أهل الوبر وأهل المدر، وأن رصيدنا (الحضاري) ليس سوى  سلسلة من التهميش والاحتواء بين الثقافات  الجماعات والأقليات ! .

***

ثامر عباس

بودي في يوم المرأة لو نتوقف عن تبادل التهاني وارسال بطاقات التهنئة الملونة، بودي في يوم المرأة لو نتوقف عن أقامة الأحتفاليات في الدوائر الرسمية وغير الرسمية، بودي في يوم المرأة لونتوقف عن التقاط الصور والقاء القصائد الشعرية وغيرها من الفعاليات التي تعبر عن تكريمنا للمرأة في يومها وفي المقابل نمعن قليلا بما قدمناه لها (حكومة وبرلمانا ومجتمعا). دعوني أسطر امامكم عدد الخطط والستراتيجيات التي مازالت سارية المفعول الى يومنا هذا و التي كتبت من قبل خبراء ومستشارون ومختصون من أجل المرأة.

- الستراتيجية الوطنية للمرأة العراقية (2023 - 2030) والتي كان عنوانها (الستراتيجية الوطنية لتمكين المرأة)

- الستراتيجية الوطنية لمناهضة العنف القائم على النوع الأجتماعي ( 2018- 2030)

- الخطة الوطنية الثانية لأجندة المرأة والأمن والسلام (2021 - 2024)

- الستراتيجية الوطنية للصحة الأنجابية (2020- 2030)

كُرسّت تشكيلات رسمية لتمكين المرأة في كل وزارة وهيئة مستقلة ودواوين الأوقاف وفي كل محافظة، مما يشي و من خلال هذه الجهود بأن موضوع المرأة والنهوض بها ذو أولوية لصاحب القرار العراقي، ونحن منذ عام 2014 نعمل على تحقيق خطط الأمن والسلام ولكن يبدو ان كل ماتم تسطيره اعلاه هو حبر على ورق لم يتغلغل في العقل العراقي ولم يتبناه الرجال قبل النساء ولم تخصص له الميزانيات كما تخصص للبرامج الخدمية والأعمار وغيرها، ودليل ذلك بمجرد دخول عصابات أرهابية (داعش) الى عدد من محافظات العراق، كان هدفهم الأول النساء فلم تترك رذيلة الا واقترفوها بحق النساء حتى ليقف المرء مذهولا أمام ممارساتهم القذرة، وبعد تعافي العراق من افعال هذه العصابات وبعد تنفس الصعداء والعمل على توفير السياسات اعلاه لدعم المرأة، مرة أخرى و بمجرد تناقل المقاطع الفديوية عن المعنى الذي يتبناه الغرب لمصطلح الجندر (النوع الأجتماعي) حتى بادرت الحكومة الى تبني مصطلح آخر وتغيرت عناوين السياسات لتصبح متوائمة مع المصطلح الجديد، والغيت تشكيلات المرأة في العديد من المؤسسات الحكومية وهبت موجة عدائية للمرأة سببت الغاء حتى كلمة (تمكين) الكلمة العربية والمذكورة في القرآن الكريم وتحميلها معان ليست صحيحة ولم تجد المرأة من يقف بجانبها على الأقل للأبقاء على مصطلح (تمكين) الذي يشير الى الدعم والتقوية والتعزيز، ولكن هيهات هبت العاصفة وجرفت معها كل المكتسبات التي كانت حبرا على ورق لم تلق اذنا صاغية ولا نية صادقة للتنفيذ. هانحن الآن نعود ادراجنا ونحمل أشلاء مشاريعنا وخططنا التي مزقتها العاصفة لنحاول الوقوف من جديد ولكن الأرض من تحتنا رخوة لاتكاد تستطيع حملنا. وهنا أقول ماقيمة الأحتفال وتبادل التهاني بيوم المرأة اذا لم نستطع بناء الثقة ولم نجسّر الأقوال بالأفعال ولم تقوى شوكة مطالبتنا بما يكفي بحيث لاتنتزعها اي عاصفة أخرى، ماقيمة الأحتفال ولم تستطع النساء منذ 2008 الى يومنا هذا من أقناع مجلس النواب بتشريع قانون لتجريم العنف الأسري الذي حوادثه تغص بها مراكز الشرطة ودائرة حماية الأسرة والمرأة والطفل. لا احتفال و لا تهنئة ولا شعارات زائفة لتكريم المرأة مالم تتغير العقول و تتجذر التبنيات لتكون أصيلة في عمق الثقافة العراقية لاتهزها الهزاهز ولاتغيرها مقاطع يوتيوب او غيره من وسائل التواصل الأجتماعي

***

د.عامرة البلداوي

8-آذار-2024

أولا: مشكلة الإثبات بيت الأدوات وإسقاط الذات

إذا كان موضوع القيافة قد أصبح شبه مفقود في عصرنا لردع الشبهات التي تثار وهما حول بعض الأنساب فإنه-كما يقال-قد توصل العلم الحديث إلى نوع من الإثبات الذي يصل الوالد بولده على مستوى الشبه الوراثي المأخوذ من الحامض النووي للخلية، أو قد يوظف موضوع الفصائل الدموية في هذا المجال ولكن في باب نفي النسب لا إثباته، بحيث "يوجد عدد كبير من فصائل الدم الوراثية بجانب فصائل (أ ب و) بالإضافة إلى عدد آخر لا بأس به من البروتينات الوراثية على سطح وبداخل خلايا الدم الحمراء والبيضاء وفي كثير من إفرازات الجسم كالبصاق والمني، ويمكن حاليا تشخيص المئات من هذه العوامل الوراثية لغرض تحديد هوية صاحبها، وفي ذلك فائدة كبيرة في حالات القتل والاغتصاب، ففحص عينة صغيرة من الدم يمكن أن تساعد كثيرا في تشخيص الجاني .

فلقد أصبحت الطرق الوراثية تلعب دورا مهما ومتعاظما في البحث عن الجناة والمجرمين وإدانتهم حيث توفر أدلة علمية دقيقة وملموسة لا تعتمد على الحدس أو التخمين، فبلغت في يومنا هذا من الدقة بحيث يمكن التأكد من النتائج بدرجة كالتي بلغتها بصمات الأصابع، وتعتمد المحاكم في الفصل بالأبوة على فحوص الدم إلا أن المعلومات تستخدم في معظم الأحيان بيان عدم صحة ادعاء الأبوة أكثر من محاولة إثباتها".

إذ أن الحاملين للفصائل المتشابهة كثيرون ولا يمكن إحصاؤهم، ومن ثم فلا يمكن إثبات البنوة بمجرد وجود الفصيل المحتمل لدى الطفل الناتج عن وطء رجل لامرأة ؛سواء أكان هذا الوطء شرعيا أم غيره . فالناتج يكون بحسب الشخصين وفصائلهما كمعطيين للفصيل المحتمل عند الولد كقاعدة عادية.

بهذا فتكون الأم هي التي لا يمكن نفي الولد عنها لأنه خرج من بطنها، أما الرجل الذي كان سبب حملها فهو إما أن يكون الشخص الحقيقي في إنتاج هذا الحمل وإما أن لا يكون، وذلك لوجود نفس الفصيل لدى الرجل محل الإثبات عند أشخاص آخرين غيره؛ فلا يتبين حينئذ هل هو نفس الرجل صاحب الحمل أم غيره، لكن في حالة النفي فإنه إذا لم يوجد فصيل الطفل المحتمل والمتناسل من رجل وامرأة معينين بفصائلهما، فلا تثبت بنوته ضرورة، لأن فصيل الطفل غير ممكنة من الفصيلتين المحددتين لرجل وامرأة.

المثال على هذا: إذا كان للرجل فصيلة "ب" Bوللمرأة فصيلة "ب" B فإن الفصيلة المحتملة للطفل هي:وO، ب.إذن فالفصيلة المستحيلة للطفل هي:أ، أب.فيكون وجود هذه الأخيرة لديه نافيا لأبوة الرجل الذي يحمل فصيلة بA.

غير أنه توجد فصيلة قد لا يستساغ معها تحقيق هذا الإلغاء وهي اجتماع فصيلتي: أ، ب. والتي يحتمل معها وجود فصيلة:و، أ، ب، أب.ومن ثم فلا توجد فصيلة مستحيلة لدى الطفل في هذه الحالة، ولا يمكن نفي الأبوة بسبب هذه الفصيلة، فتبقى الأمور في مسألة الفصائل مجرد احتمال واستئناس في باب الإلحاق سواء كان الأمر مجرد إلحاق نسلي خلقي محض أو إلحاق نسبي شرعي كما سنرى شروطه و ظروفه في حينه، إضافة إلى هذا ما يمكن أن يقع من أخطاء تقنية في التحاليل المخبرية من إمكان وضع مصل خاص بهذا الفصيلة في تحليل فصيلة أخرى، فتكون النتيجة غير صحيحة بسبب خطأ إنساني قصدا وبغير قصد ، إذ المحلل أو الطبيب قد لا يتمتع بشروط العدالة الشرعية كما هو الأمر في باب القيافة و الشهادة كما سبق وبينا بإيجاز.

ثانيا: المعاهدات الدولية لا تسقط الأحكام الشرعية ولا السلامة الغريزية

فطرح هذا الموضوع في باب الولادة والنسب كنا نتوخى منه التنبيه على أن مسألة العلاقة النسلية والنسَبية الأسرية لدى الإنسان ليست مجرد علاقة مادية أو اجتماعية تواضعية محضة، وإنما هي ذات جذور عقدية وروحية وأخلاقية لابد من مراعاتها عند التشريع والتوظيف العملي للحقوق والواجبات .

كما أن المعاهدات الدولية المؤسسة على مجرد الرؤية المادية والتواضعية العلمانية للعلاقة بين الجنسين -ودون مراعاة التشريع الديني في ضبطها -لا يمكن لها أن تعطي الحل الأمثل لمشاكل البشرية وأزماتها الأسرية والنفسية والاجتماعية، وخاصة حينما تتذرع في صياغة قوانينها بالاعتماد على التقدم التقني أو الطبي الوراثي وما إلى ذلك.

إن المشكلة ليست في المادة أو ألآلة التقنية والمعطيات العلمية البحتة وإنما هي منحصرة في المتحكم بهذه المادة والموجه لها بحسب هواه، وأي هوى وانفلات وخسف فكري أسوأ من أن يتداول مما يسمى بالزواج المثلي والتناقش حول قانونيته في البرلمانات، لغاية أن أقرته بعض المحاكم بالولايات المتحدة الأمريكية والأوروبية والذي بمقتضاه قد يصبح قانونا ساري المفعول في كل أنحاء البلاد حسب قانونهم الفاسد.

فأي هوى وخسف مثل أن يصبح الجهر بالشذوذ الجنسي النسوي مادة إعلامية مهمة في مؤتمرات دولية كما حدث في مؤتمر بكين مثلا، إضافة إلى إقرار الإجهاض بضرورة وغير ضرورة مما يهدر معه حق الطفل والمرأة والرجل في النسب والوجود معا.

إنه الهوِيَّ في غياهب الظلمات والفساد، وإهدار النسل والأنساب ومعها الوجود الإنساني وكرامته عموما :"وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد " "وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون" "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين" .

من هنا فإن أهم ما يمكن تسجيله في التعديل الذي ركز عليه في مدونة الأسرة المغربية و ذلك من خلال خطاب الملك محمد السادس أمام مجلس النواب بمناسبة افتتاح الدورة الأولى للسنة التشريعية السابعة يوم 13شعبان 1424 الموافق10اكتوبر2003، هو النقطتين الثامنة والتاسعة المتضمنتين لمسألتين مترابطتين ومتناسبتين مع الموضوع الذي نحن بصدد دراسته وهما "الحفاظ على حقوق الطفل بإدراج مقتضيات الاتفاقيات الدولة التي صادق عليها المغرب ..."و"حماية حق الطفل في النسب في حالة عدم توثيق عقد الزواج لأسباب قاهرة، باعتماد المحكمة البينات المقدمة في شأن إثبات البنوة..." .

بحيث أن هذا الحق يمثل لب القضية في المشكلات الأسرية ونتائج اختلالها أو انضباطها، مما تنضوي تحته تفرعا كل العناصر الأخرى إما قبلا أو تبعا سواء تعلق الأمر بسن الزواج أو الولاية والمساواة والتعدد والطلاق والتطليق والمواريث وغيرها ...

من هنا فالمعاهدات الدولية إما أن تكون متناسبة مع مقتضيات العدالة ومفهوم النسب الشرعي الذي يخضع له كل البشر في تأسيسه الأسري أصالة -كما سنرى -وإما أن تكون غير متناسبة .

فالمناسبة يمكنها أن تصبح ملزمة شرعا إذا كانت مبنية على مبادئ العدالة والإنصاف واعتبار الشعور المشترك بين البشر بدون عنصرية عرقية أو جنسية، وبذلك فيكون توقيع المعاهدات بمثاب الموافقة على حلف الفضول الذي أيده النبي صلى الله عليه وسلم وأقر به بعد الإسلام، لأنه كان مبنيا على حفظ الحقوق ورد المظالم والوقوف في وجه الظالم و التناصر لمصلحة المظلوم والمعدوم، كما يروى عنه في ذلك قوله "لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، لو دعيت به في الإسلام لأجبت" .

أما غير المناسبة فإنها ستكون غير مقبولة ولا ملزمة شرعا أو عقلا وكذلك واقعا، لأنها تتنافى مع مقتضيات الإنسانية في مبدأ التوالد وارتباط الأصل بالفرع وتحديد الهوية وبالتالي ضمان الحقوق في كنف أسرة منضبطة ومتآلفة، لا في حضن ملاجئ وتكريس شيوعية المرأة الأطفال وإهدار نسبهم كما يصبو إليه المفسدون و الإباحيون وخاصة لدى الغربيين!

إذ عدم احترام النسبة بين الأب وابنه وأمه قد يؤدي إلى إهدار لحقوقه، وإهدار حقوقه يؤدي إلى إهدار حقوق أمه وإهدار حقوق أمه يؤدي إلى إهدار حقوق أبيه، فتكون المهدرات دائرية المسلك وعائدة بوبالها على الجميع، وبالتالي يضيع الأصل والفرع، وتندثر القيم الأسرية المبنية على التآلف والمحبة والغيرة والمساكنة والرحمة.

فهذا ما كانت ترنو إلى تحقيقه الجمهورية الوهمية الأفلاطونية المسماة غلطا بالجمهورية الفاضلة وهو ما تصبو إليه أيضا الصهيونية العالمية والماسونية والامبريالية الغربية وعلى رأسها الطاغية الأمريكية صاحبة الزعامة فيما تسميه بالنظام العالمي الجديد، والذي في حقيقته: انتكاسة إنسانية نحو الفوضى والإفلاس البشري العام بذريعة حقوق المرأة والطفل والإنسان وكذا الحيوان. نعرض لبعض من قوانين الجمهورية المذكورة ومدى تقاربها مع ما يطرح من حلول وترويج في الإعلام المعاصر لا تزيد الإنسانية إلا قربا من رعب مرض السيدا وسرعة انتشاره بدل الحد من خطورته!!

يقول أفلاطون في محاوراته:

"فإن كنت مشرعا، فعليك أن تختار للرجال الذين انتقيتهم أقرب النساء إلى طبيعتهم ثم تجمع بين هؤلاء و أولئك فيكون للجنسين معا نفس المسكن ونفس الطعام، ما دام من المحظور على أحد أن يملك شيئا لنفسه ويعيشون سويا!"

صورة هذا التعايش يحددها القانون التالي :"إنها تتعلق بالقانون الذي يترتب على القانون الحالي وعلى القوانين السابقة عليه .-وما هو ؟...هو أن نساء محاربينا يجب أن يكن مشاعا للجميع، فليس لواحدة منهن أن تقيم تحت سقف واحد مع رجل بعينه منهم، وليكن الأطفال أيضا مشاعا، بحيث لا يعرف الأب ابنه ولا الابن أباه...".

فهذا التعايش والشيوع بفساده يتأسس على فساد آخر وهو البناء الاجتماعي والأسري العنصري كما يقول: " من الضروري تبعا للمبادئ التي أقررناها أن يتزاوج هذا النوع الرفيع من الجنسين على أوسع نطاق ممكن وأن يتزاوج النوع الأدنى على أضعف نطاق ممكن ولابد من تربية الأطفال الأولين الآخرين إن كنا نود أن تحتفظ للقطيع بأصالته، ومن الناحية الأخرى فعلى الحكام أن يدركوا وحدهم سر هذا الإجراء كي يتجنبوا على قدر استطاعتهم كالخلاف داخل قطيع الحراس" .

أخيرا فيكون مصير الأطفال هو: "أما الأطفال فعندما يولدون يعهد بهم إلى هيئة تتولى شؤونهم، فتكون إما من رجال أو من نساء وإما من الجنسين معا مادامت المهام العامة مشتركة بين الرجال والنساء ".

فهذه النصوص لا تحتاج إلى تعليق وإنما جوابها هو قول الله تعالى "ولو اتبع الحق أهواءهم لفدت السموات والأرض ومن فيهن". "وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون " "وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم""قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون " .

فلنبحث عن الطيب ومسلكه عند أهل الحق من الأنبياء والرسل الذين أسسوا النسب الإنساني وحموا حقوقه من الطفولة إلى الكهولة.

***

الدكتور محمد بنيعيش

أستاذ الفكر الإسلامي والحضارة

وجدة، المملكة المغربية

إنَّ عِلْمَ النَّفْسِ قائمٌ على تَحليلِ العَالَمِ الداخلي للإنسان، وإرجاعِ حياته الباطنية إلى عناصرها البِدائية الأوَّلِيَّة، وربطِ السلوكِ اليَومي بتأثيراتِ العقلِ وإفرازاتِ الشخصيةِ وأساليبِ التفكيرِ، مِن أجْلِ فَهْمِ وُجودِ الإنسان كَكَائن حَي وحُر، والتَّحَكُّمِ بِمَسَارِه، والتَّنَبُّؤ بِمَصِيرِه . وكُلُّ إنسان لَدَيه حَيَوَات كثيرة وشخصيات مُتعددة، وَوَحْدَها اللغةُ هي القادرةُ على وَضْعِ الخُطوطِ الفاصلةِ بَين حَيَوَاتِ الإنسانِ، وتَحديدِ نِقَاطِ الاتصالِ والانفصالِ بَيْنَ شخصياته . وهذا لَيس غريبًا، فاللغةُ هي الطاقةُ الرمزيةُ التي تَجْمَع بَين السُّلوكِ والشُّعورِ في إطار التَّسَلْسُلِ الفِكري المَنطِقي .

واللغةُ لا تَتَجَسَّد حُلْمًا وواقعًا إلا في الأدب، باعتباره الشكل الإبداعي المُعَبِّر عَن عواطف الإنسان، والتَّعبير الفَنِّي المُظْهِر لأفكارِه وهَوَاجِسِه، كما أنَّ اللغة لا تَتَشَكَّل كِيَانًا وكَينونةً إلا في التاريخ، باعتباره الوِعاء الوُجودي للتُّرَاثِ الثقافي، والتأويل العقلاني للفِعْلِ الاجتماعي المُتَدَفِّق في الزمانِ والمكانِ . وهكذا تُصبح اللغةُ مِحْوَرَ التَّوَازُنِ بَيْنَ الغريزةِ الفِطْرِيَّةِ والإرادةِ الحُرَّة، ونُقْطَةَ الالتقاءِ بَيْنَ الرُّوحِ والمَادَّةِ .

وعِلْمُ النَّفْسِ على ارتباط وثيق بالأدبِ والتاريخِ - تأثُّرًا وتأثيرًا -، باعتبارهما مِن أهَمِّ العُلومِ الإنسانية التي تَهدِف إلى تَجذيرِ مَعرفةِ الإنسانِ بِوُجوده، وتحليلِ عَلاقته بالكائناتِ الحَيَّةِ والأنظمةِ الاجتماعيةِ وعَناصرِ الطبيعة .

ومِن أبرزِ الأمثلةِ على تأثير الأدبِ في عِلْمِ النَّفْسِ، رِوايةُ " لوليتا " (1955)، للروائي الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف (1899 - 1977)، وقد تَمَّ تَحويلُها إلى فِيلم سينمائي صدر في سنة 1962، مِن إخراج الأمريكي ستانلي كوبريك (1928 - 1999) الذي يَعتبره الكثيرون واحدًا مِن أعظم صُنَّاع الأفلام في التاريخ .

أبرزت الروايةُ مَواضيع مُثيرة للجدل، ومُنِعَتْ في الكثير مِن البُلْدَان بوصفها تتناول حالةً مُخالِفة للقانون، وسُلوكًا يُعْتَبَر تَحَرُّشًا جِنسيًّا بالأطفال، فبطلُ الرواية " هَمْبِرْت هَمْبِرْت " هو أستاذ أدب في مُنتصف العُمر، مريض بشهوة المُراهقين، يَرتبط بعلاقة جنسية معَ الفتاة دولوريس هيز ذات الاثنَي عشر عامًا، بعد أن أصبحَ زَوْجًا لأُمِّهَا، و " لوليتا " هو لقب دولوريس الخاص .

يعتمد أسلوب المؤلف في هذه الرواية على السَّرْد الذاتي، حيث يقوم " همبرت همبرت " بسرد قِصَّته معَ دولوريس مِن جانب واحد، كاشفًا عن مشاعره الذاتية وأحاسيسه الشخصية، مُحَاوِلًا كسب تعاطف القارئ، وهذه العلاقة المتوترة تنتهي بشكل مأساوي . وقَد قَدَّمَت الروايةُ تحليلًا نَفْسِيًّا للهَوَسِ الجِنسي بالصغيرات (البيدوفيليا) .

صارتْ " عُقْدَة لوليتا " (عُقْدَة الحِرمان الكبير ) مِن أشهر العُقَد النَّفْسِيَّة بَين المُراهِقَات، وهي وُقوع الفتاة في حُب رَجُل يَكْبُرها بِضِعْفِ عُمرها على الأقل، أوْ في عُمر أبيها، لَيْسَ هذا فقط، بَلْ إنَّها كذلك تُحاول لَفْتَ نَظَرِه وَجَذْبَ انتباهِه بِكُلِّ مَا تَملِكه مِن قُدرة على فِعْل ذلك . وغالبًا مَا يَكُون السببُ وراء ذلك هُوَ حِرمانها مِن والدها في الطفولةِ، أوْ فِقْدَانها لاهتمامه . وبما أنَّها لَمْ تَجِد الاهتمامَ داخل البَيْت، فإنَّها تَبحَث عَنه خارج البَيْت . وهذا دائمًا يَرجِع إلى أسباب نَفْسِيَّة عِند الفتاة أوْ أسباب اجتماعية تَتَعَلَّق بالمَادَّة . والجديرُ بالذِّكْر أنَّ مَلْءَ الفراغ العاطفي يَبدأ مِن داخل الإنسان .

ومِن أبرز الأمثلةِ على تأثير عِلْمِ النَّفْسِ في التاريخِ، نظريةُ التَّحَدِّي والاستجابةِ، التي وضعها المُؤرِّخ البريطاني أرنولد توينبي (1889- 1975)، وهو مِن أشهر المُؤرِّخين في القرن العشرين، ويُعْتَبَر أهَمَّ مُؤرِّخ بحث في مسألة الحضارات بشكل مُفصَّل وشامل .

ويُفَسِّر توينبي نُشُوءَ الحَضارات الأُولَى، أوْ كما يُسَمِّيها الحضارات المُنقطعة، مِن خلال نظريته الشهيرة الخاصة بـ " التَّحَدِّي والاستجابة "، التي يَعترف بأنَّه اسْتَلْهَمَهَا من عِلْمِ النَّفْسِ السُّلُوكي، وعلى وَجه الخُصُوص مِن عَالِم النَّفْس السويسري كارل يونغ (1875 - 1961) مُؤسِّس عِلْم النَّفْس التَّحليلي، الذي يَقُول إنَّ الفَرْدَ الذي يَتعرَّض لصدمة قَد يفقد توازنه لفترة ما، ثُمَّ قَد يستجيب لها بنوعين من الاستجابة:

أ - استجابة سلبية: تَتَمَثَّل في النُّكُوصِ والرُّجُوعِ إلى الماضي والتَّمَسُّك به، ومُحاولة استرجاعه واستعادته تعويضًا عن واقعه المُرِّ في مُحاولة يائسة، فَيُصبح الفردُ مُتَوَحِّدًا انعزاليًّا انطوائيًّا .

ب - استبجابة إيجابية: تَتَمَثَّل في تَحَدِّي الواقع والاعتراف بالصدمة ومُحاولة التَّغَلُّب عليها، فَيُصبح الفردُ مَرِنًا تفاعليًّا انبساطيًّا .

إنَّ " التَّحَدِّي والاستجابة " نظرية في التاريخ، اقْتَبَسَهَا توينبي مِن عِلْمِ النَّفْسِ السُّلُوكي (العِلْم الذي يَدرس العلاقةَ بين العقلِ والسُّلُوكِ مِن أجْلِ اكتشافِ أنماطِ السُّلُوكِ وخَصائصِ الأفعالِ)، وقامَ بتطبيقها على الأُمَمِ والحضاراتِ، فالأُمَمُ حِين تَتَعَرَّض للمخاطرِ العظيمةِ والأزماتِ الشديدة، وتَكُون هي الحَلْقَةَ الأضعف، ويَكُون تَوَازُن القُوى في غَيْرِ مَصلحتها، فإنَّها تَعُود إلى تُراثِها الحضاري، وذاكرتها المَاضَوِيَّة، في مُحاولة لاستجماعِ قُوَّتها، واستنهاضِ قُدرتها على مُواجهة التَّحَدِّي، فالتاريخُ لا يُمكِن استرجاعُه إلا بشكل تَمَاثُلِي أوْ تَشَابُهِي، ولا يُمكِن استعادته إلا كَمَأسَاةٍ أوْ مَلْهَاةٍ .

والحضارات - حَسَب نظرية توينبي - تَصْعَد أوْ تَسْقُط على قَدْرِ استجابتها للتحدياتِ والأزماتِ التي تُواجهها، فإمَّا أن تَنكمش على ذاتها، وتَتَقَوْقَع على نَفْسِها، وتَنسحب مِن الحياة، وتَرْجِع إلى الوراء، وإمَّا أن تَتَحَدَّى الواقعَ بالإبداعِ والابتكارِ في مُحاولة مِنها لتجاوزه، وصناعة واقع جديد مُنَاسِب لِمُتَطَلَّبَاتِ العَصْرِ ومُقتضياته .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لقد تضاربت آراء الكتاب والباحثين حول أسباب ديمومة تخلف منظومة الوعي الاجتماعي في المجتمع العراقي، كما لو أن هناك لعنة ميتافيزيقية أو تعويذة سحرية تطارده كظله عبر الأيام والسنين، دون أن يكون – على ما يبدو – أن هناك أمل بالخلاص من آثارها والنجاة من عواقبها، وهو الأمر أشاع بين الأفراد والجماعات حالة من البلادة الذهنية والنكوصية النفسية واللا - أوبالية الأخلاقية.

والغريب في الأمر إنه كلما ازدادت وطأة المعاناة التي يكابدها العراقيون ويرزحون تحتها، كلما كانوا أقرب إلى الاستكانة وأميل إلى الخنوع وأسرع إلى الطاعة، بحيث مكنوا كل من ساسهم وامتلك زمام أمورهم وتمكن من أعنة قيادهم، من إلباسهم رداء الفقر والجوع وسامهم صنوف الحرمان والهوان، فضلا"عن جعلهم (أكباش محارق) مجانية جاهزين للذبح فداء"لطيش سلوكه المتهور ونزوة قرارته المهلكة. 

والحقيقة أنه لو أمعنا النظر بأسباب هذه الحالة الارتدادية ومحصّنا جيدا"بمصادر صيرورتها، سنفاجئ ان الأمر لا يتعلق بأي غموض ولا يرتبط بأية غرابة في هذه القضية المحيّرة، بقدر ما هي حصيلة تراكم انحرافات وإخفاقات وتشوهات (النظم التعليمية) التي أخضع لها عقل الإنسان العراقي وتماها مع قيمها، عبر سلسلة متواصلة من مراحل (التدجين) البدياغوجي و(التنميط) الإيديولوجي الممنهج ؛ ابتداء بالمرحلة الابتدائية الأولية وصولا"الى المرحلة الجامعية النهائية، مرورا"بالمراحل الانتقالية المتوسطة والثانوية. بحيث ان هذا الإنسان المستباح لايكاد يخرج من هذه الدوامة إلاّ وقد اكتملت عمليات (تعليب) وعيه و(نمذجة) سلوكه و(تأطير) مخياله.

وإذا ما كان الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي (بيير بورديو) قد أشاح الستار عن الدور الخطير الذي تلعبه أنظمة التربية والتعليم في المجتمعات الرأسمالية المتطورة، من حيث تكريس التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والفكري بين طبقات المجتمع، ومن ثم خلق حالة من الشرعية الزائفة بين الحاكم والمحكوم تتمخض عنها وتترتب عليها، ليس فقط حالة من القبول والرضا السيكولوجي بين الفئات والشرائح الفقيرة إزاء (الهيمنة السياسية) المبطنة التي تمارس ضدها من لدن رموز السلطة فحسب، بل وكذلك حملها على الرضوخ والامتثال لشتى ضروب (العنف الرمزي) الذي تبرع في توظيفه واستثماره وسائل الميديا العملاقة. 

نقول إذا كان هكذا هو الحال في المجتمعات الغربية التي بلغ فيها وعي الإنسان بمواطنيته الحضارية شأوا متقدما"من النضج والاكتمال، كيف ينبغي لنا أن ننظر الى دور ووظيفة أنظمة التربية والتعليم في المجتمعات العربية بصورة عامة والمجتمع العراقي بشكل خاص، لاسيما وأن مناهجها وأساليبها مصممة لانتهاج سبل ملتوية تسعى من خلالها خلق أجيال من الكائنات (المحنطة) ذهنيا"و(المنمطة) سلوكيا"؟!. وعلى ضوء هذه الحقيقة البينة، لن يتأتى لكل من يعتلي صهوة السلطة في العراق ويروم إصلاح أوضاع شعبه ويضمن مستقبل أجياله، دون مراعاة تسلسل الأولويات التي من ِشأنها النهوض بواقع هذا المجتمع الذي لم تفتأ مكوناته المتشظية تندفع  صوب الحضيض الحضاري والإنساني على نحو متسارع.

ولعلنا لا نخطئ الحقيقة ولا نجانب الصواب إذا ما أجزمنا بواقعة أن سلامة (النظام التعليمي) لأي دولة، من حيث المحتوى العلمي والمعرفي الذي يشتمل عليه، ومن حيث طبيعة المناهج التحليلية والأساليب الإدارية التي يعتمدها، هي من يقرر – في المحصلة النهائية - مصير المجتمع ويحدد مسار تطوره الحضاري ايجابيا"أم سلبيا". ذلك لأن هذا النظام - المهمل عادة في البلدان الضعيفة والمتخلفة - أضحى يشكل في الوقت الحاضر (البنية التحتية) التي يقام عليها مدماك (الوعي الاجتماعي) برمته. وبعبارة موجزة، حيثما يكون عليه النظام التعليمي والتربوي في المجتمع المعني، سيكون عليه (وعي) مكوناته وجماعاته التي يتشكل منها نسيجه السوسيولوجي ومعماره الثقافي.  

***

ثامر عباس

العنف كلمة بدأت تأخذ مداها الواسع والمقلق في السنوات الأخيرة، حتى لا يكاد يمر يوم، بل ساعة إلا وللعنف فيه حصة. قبل أن نغوص بأسباب العنف، نعرفه بأختصار شديد. العنف: كلمة تعني لغةً الشدة والقسوة، أما أصطلاحاً فتعني معالجة الأمور بشدة وغلظة، أما في معجم لسان العرب يعني: الخرق بالأمر وقلة الرفق به، وهو ضد الرفق.

العنف نوعين، منه مايكون جسدي، ومنه اللفظي، وهو الذي يهمنا في بحثنا هذا. العنف اللفظي تنطلق أهميته، بل خطورته، بأنه البداية الممهده للعنف الجسدي. يبدأ العنف اللفظي بكلمات التحقير والتعنيف التي يشعر بها الضحية بالأهانة والأستهجان والأستهزاء، في محاولة يراد منها التصغير والتنقيص من الطرف الأخر لأستشعاره بالضعة سواء كانت مادية أو أجتماعية، من أجل سحق الخصم لأجل أستسلامه وأخضاعة وأرجاعه الى بيت الطاعة أو سحقه والتخلص منه بأعتباره طرف مقلق للطرف الآخر، لكي يسود الطرف المنتصر على الساحة، سواء كانت هذه الساحة أجتماعية أو أقتصادية أو عسكرية أو سياسية. فالعنف مجاله جداً واسع، يبدأ من الزوج والزوجة الى الأطفال، الى المدرسة الى،السوق الى السياسة، ويكاد يشمل كل نواحي الحياة.

أهمية موضوع العنف يأتي من خلال تصاعده بشكل محموم في مجتمعنا العراقي، وهو محل أهتمامنا، حيث تصاعد بشكل يثير الدهشة ومخاوف الشارع العراقي، والذي أدى تصاعده في السنوات الأخيرة  الى هجرة داخلية وخارجية، وقتل، وسفك للدماء رُوع من خلالها المجتمع، وفقد الكثير من طاقاته، وكفاءاته العلمية. وكلنا عاش العنف بكل أشكاله، الحكومي، والحزبي والطائفي والعشائري، وحتى الشخصي، وكيف هز المجتمع من الأعماق، مما ساهم بتصدعه وتمزيقه، وكاد أن يشعل حرب أهلية يستعر لظاها الى ماشاء الله، وتحرق الجميع، ويتمزق البلد، ويَمحى ككيان من الخارطة.

العنف مبعثه توتر النفس ومايختلج بها من صراعات وغليان، تغذيها طموحها الشره، وتسقيها الأفكار العدوانية، سواء كانت فكرية أم سياسية أم دينية، أو طائفية، وحتى عشائرية، فالعنف أما أن يكون سببه داخلي كما يعبر عنه فرويد بأنه تواصل مادي بين الطاقة النفسية للشخص والعالم المحيط، وهو نتيجة لعدم أشباع دوافع اللذة فيقود الى تراكم طاقة نفسية في اللاوعي، تخرج منه بشكل عنيف وهدام. ومن المهم نذكر هنا سؤال وجهه البرت أنشتاين الى عالم النفس النمساوي فرويد يسأله فيه، ماالذي يمكن فعله لحماية الجنس البشري من الحرب ولعنتها؟ فأجابه فرويد إجابة تقطر تشائم قائلاً: للأسف هذا مستحيل لأنني رأيت جذور الحرب في طبيعة الإنسان نفسه (العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد)، فقد يكون العنف اللفظي يبدأ من نكتة، أو مزحة بين أصدقاء، فتتحول الى مشادة بالأيدي، وربما الى القتل.

عادةً يكون المجتمع الذي خضع لقهر أجتماعي وسياسي طويل حساس جداً للكلمة، وغالباً ما تكون ردود أفعاله حادة وعنيفة، والسبب يعود الى ما يختزنه من طاقة مُعدة للأنفجار في ثنايا نفسة تبحث عن سبب لكي تنفجر، ويتخلص من عبئها الثقيل على نفسه، كما أن العادات والتقاليد تلعب دور فعال في سرعة الإثارة للكلمة، وخاصة المجتمعات العشائرية، حيث الكلمة التي يُشم منها رائحة التوهين والتصغير، قد تسهم في أشعال حرب عشائرية يذهب ضحيتها العشرات. من خلال ما قدمنا من أسباب نفسيه وأجتماعية للعنف، يجعل شعبنا العراقي في مركز دائرة العنف، فهو شعب سريع الأستفزاز والأثارة بعكس الشعب المصري، فالعراقي تجمعت ظروف أجتماعية وثقافية وسياسية جعلت منه أنسان سريع الغضب، وأعتقد مايحدث من مشاكل يومية على كل المستويات من العائلة أنتهاءً بالأحزاب والعشائر، تؤكد ما ذهبنا أليه. كما ذكرنا فأن للعنف كثير من الأسياب ولكن رأينا أن نُشير الى سببين كان لهما الأثر الواضح والكبيرفي المساهمة على ترسخ العنف في مجتمعنا، تاركاً بصمة عنفية لا تزال آثارها الى اليوم، بل يمكن أعتبارها ظواهر أسست للعنف في مجتمعنا العراقي، فأرتأينا بأخذ نموذجين أحدهما من التاريخ البعيد، وهو الصراع المعتزلي مع الحنابلة، والآخر من التاريخ القريب،ذلك الصراع الذي حدث بين الحزب الشيوعي العراقي مع حزب البعث العربي الأشتراكي في العراق منذ بداية النصف الأول من القرن الماضي، والذي أمتد الى نهاية سبعينيات القرن الماضي، حيث قام البعث بتصفية وتشريد الكثير من عناصر الحزب الشيوعي، وبطريقة وحشية.

بدأ الخلاف بين المعتزلة والحنابلة بأختلاف فكري، حيث تبنى المعتزلة فكرت الحرية الأنسانية، وأن الأنسان حر في أفعالة، وبالتالي هو مسؤول عنها شراً أو خيراً ، وهناك قضية أخرى أختلفوا عليها، وهي بماتسمى (قضية خلق القرآن) وهي مسألة كلامية حصل الجدل عليها الى أوجّه بين المعتزلة والحنابلة، حتى وصل الأمر الى الأستتابه أو القتل في عهد المتوكل العباسي الذي تبنى المذهب الحنبلي كأيديولوجيا للسلطة، والتي راح ضحيتها الكثيرون، والحقيقة لقد بدأ المعتزلة بتكفير من يختلف معهم بعد أن أدناهم المأمون العباسي من بلاطه وتبنى أفكارهم، وقد أضطهدوا الحنابلة وعلى رأسهم أمامهم أحمد بن حنبل، حيث قُدم للمحاكمة بسبب أفكاره التي تتعارض مع المعتزلة وخاصة في مسألة (خلق القرآن) مما أُعتبر أسلوباً تعسفياً في مواجهة من يُختلف معه عقائدياً، وهذا ما أوغر قلوب الحنابلة، وقاد الى معاملة المعتزلة بقسوة حين تبناهم الخليفة العباسي المتوكل بالله، وتعرضوا الى أضطهاد شديد من قِبل الحنابلة، وقد أضطر أحد المعتزلة الى الأعتكاف في بيته خمسين سنة لايبرح الخروج من بيته، وقادوا حرب كلاميه ضدهم، حتى ألف أحد أتباع بن حنبل المدعو حرب بن أسماعيل (المتوفي 288) كتاباً سماه كتاب السنة والجماعة شتم فيه فرق أهل الصلاة وخص بهم المعتزلة بقدر كبير من شتائمله، وقد تعمق الأنقسام الأجتماعي مع سيادة منطق التكفير، والذي وصل الى حد أن يقوم أحد زعماء الحنبلية المدعو الشيخ الحسن بن علي البربهاري الى أنشاء ميليشيا مسلحة أستولت على الشارع البغدادي والبصري (معمار الفكر المعتزلي ص355) والتي خُتمت بفتنة الكرخ التي أمر بها المستعصم بالله العباسي المتبني للحنابلة بأحراق محال ودور الكرخ الشيعية  ونهبها، وهتكوا النساء سنة 454 هجرية، على يد أبن الخليفة المستعصم، أبو بكر، ولم تكن حرب الكلمات التي يتقدمها التكفير والتي تنتهي بالسب والشتم فقط بين المعتزلة والحنابلة فقط، بل  أستفحل الأمر، حتى بات المعتزلة يكفر بعضهم بعضاً، والذي قاد هذا الأسراف بالتكفير الى أضمحلال وجود المعتزلة خاصة بالبصرة، وقد نقل ابو حيان التوحيدي صورةً سيئة عن تكفير المعتزلة لبعضهم، وخاصة الجُبائين، حيث وصل الأمر بهم الى تكفير الأب لأبنه فنرى تكفير أبو علي الجبائي لأبنه أبو هاشم الجبائي، وفي المقابل كفر الأبن أبو هاشم أباه أبو علي الجبائي. هذه الصورة للحرب الكلامية التي حدثت على أرض العراق في التاريخ البعيد، ولكن يمكننا أخذ صورة أخرى لهكذا نوع من تاريخنا الحديث وفي بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، حيث بدأ صراع محموم بين البعثيين والشيوعين العراقيين، والتي بدأت على شكل حرب كلامية عن طريق رفع شعارات تنديد وتحريض كلامي من قِبل الشيوعين ضد البعثيين الذين قاموا بمحاولة أغتيال للزعيم بعد الكريم قاسم، وكانت هذه الشعارات أمثال (أعدم أشنق لا تقول ما عندي وقت) و(ماكو مآمرة تصير والجبال موجودة)، حتى أدت هذه المماحكات الكلامية الى تشكيل مليشيات تسمى بأنصار السلام، كما تواصل العنف الكلامي عبر مسيرات وخطابات تتسم بالتشدد، وتفوح منها رائحة العنف، من خلال مسيرات ومهرجانات خطابية  في الموصل وكركوك أدت الى عنف مادي،راح ضحيتها أفراد من الجهة المقابلة، مما أوغر صدور البعثيين، حيث أضمروا للشيوعين الأنتقام، وفعلاً عندما أنقلب البعثيين في 8 شباط 1963 م على الزعيم عبد الكريم شكل البعثيون مليشيات الحرس القومي السيئة الصيت والتي سامت الشيوعين سوء العذاب والتي راح ضحيتها الكثير منهم، حيث مارس البعثيون أبشع أساليب التعذيب للشيوعيون حتى صار السحل بالشوارع، وأُعتدي على الكثير من النساء،وزُج الكثير منهم بالسجون والمعتقلات، وسجن نقرة السلمان سيئ الصيت شاهد على ماحدث، وهذا ما يذكرنا بفتنة الكرخ التي حدثت بين مليشيات الحنابلة التي أسسها الشيخ البربهاري وأهالي الكرخ من الشيعة، كما أُستخدمت ضد خصومهم من المعتزلة، ومن هنا تبدأ الحروب والنزاعات من فكرة تُنطق بلسان صاحبها فتتحول الى شرارة تحرق الأخضر واليابس. نحن ذكرنا مثلين لا للحصر وأنما كمثلين حصلا على أرض العراق كنتيجة لعنف الخطاب بين المتخاصمين، وبالعموم يحمل هكذا خطاب بين ثناياه فكرة تكفير وأقصاء الأخر عبر ما يحمله أحد أو كلا الخصمين لفكرة تملك الحقيقة المطلقة، والتي تتحول هذه الأفكار الى قناعة تامة عند هذه الأطراف مما يسمح أحدهم أو كليهما لنفسه الى ألغاء الأخر بكل الطرق المتاحة. لا شك بأن عنف الكلمة قد يكون أكثر أستفزاز للطرف الأخر، لما تحمله الكلمة من زخم يُثير حفيظة الطرف الآخر، قد تَحمله على رفع السلاح بوجه الطرف الأخر. أن حساسية الكلمة قد نجدها في بيئة تختلف تماماً في تأثيرها وحساسيتها في بيئة أخرى، وهذا يعتمد على الوضع التاريخي والأجتماعي والثقافي بين منطقة وأخرى أو بلد وآخر، والعنف ثقافة قبل أن يكون سلوك فمثلاً البدوي يقول الذي لا يجلب حقه بالسيف جبان، ونحن شهدنا في الآونة الأخيرة كثرة أستخدام العنف في المناطق الجنوبية، بين العشائر، والتي كانت آخرها في ناحية الأصلاح والتي راح ضحيتها مدير الأستخبارات العسكرية برتبة عميد ركن، في حين لم نجد هذا العنف بين عشائر الفرات الأوسط، وهنا يتبين أن للعادات والتقاليد والثقافة دور بارز ومهم في أستخدام العنف وعدمه، لذا يبقى الحوار هو الطريق الأنجع في صناعة السلم الأهلي، وبناء حياة أكثر أستقرار وأمان في المجتمع الواحد، وإن ما ذكرنا أعلاه من حوادث لانبغي من وراءها الا العبرة، لكي لا تتكرر المأساة التي حصدت الآلاف من أرواح شعبنا، وكلفتنا الكثير من الدماء، فالحوار هو سبيل الأحرار، وطريق العقلاء، ومسلك الأقوياء.

***

أياد الزهيري

 

1) من خلال الاختلاف السلوكي سواء على المستوى الروحي المحض أو المتلبس بالمادة لدى الإنسان قد تتحدد طبيعة الأرواح في عدة قضايا منها:التواصل وعدمه، كما نجده في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"[1].

فالتآلف والاختلاف سيتحددان أو لا بحسب توجه الأرواح لا الأبدان، ولهذا يبقى السلوك في أصله هو عمل الأرواح ابتداء، أما التصرف البدني فإنه تابع ومشخص ظاهري للإرادة ومقاصدها.

وهكذا نرى أن أصل المنهج الإسلامي في معرفة النفس يعتمد على الاعتبار الروحي بالدرجة الأولى لأنه المحرك الأول للبدن وأعضائه، إذ أن الروح يقوم بعمل التحريك وتحصيل الإدراك أولا فبعمل التصريف الهادف ثانيا، بعده بتقبل التكليف والخطاب المتضمن ثالثا ثم بتحمل مسئولية الجزاء رابعا.

فعند خاتمة المرحلة الدنيوية سيتم تخليص الروح من الجسد بإعادة السكون إلى أصله، بينما يبقى الشعور الروحي حاضرا، لأن الموت في الحقيقة يمثل عملية فصل الجانب الروحي عن الجانب الجسدي.

ونظرا للارتباط الذاتي المستأنس بوضعه بين نوع الروح ونوع الجسد، بحسب تأسسه السلوكي وبحسب انعطاف الذات على عناصرها، فقد يترتب ألم ذاتي عند هذا الانفصال؛يمكن تحديد مستواه بحسب تعلق الروح بالجسد إيجابا أو سلبا.

لأنه إذا كان الغالب على الشخص سلوكا روحانيا منعكسا إيجابا، حسب ما تقتضيه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فسيكون تعلق الجسد بالروح تعلقا فطريا وتشبتا مؤلما عند الفصل، للتوافق الحاصل بين فطرة الروح وفطرة الجسد.

أما إذا كان الغالب على السلوك عملا ماديا منعكسا على الروح سلبا، وصارفا إياها عن الغاية والفطرة الأصلية التي خلقت عليها ومن أجلها، فإن تكدر الروح بتكدر البدن قد يسبب توافقا أيضا بين العنصرين مما يؤدي إلى تشبثهما ببعضهما وتلاصقهما لحد التقرح عند الانسلاخ بالموت مما يؤدي أيضا إلى الألم، وهكذا باقي الحالات التي تكون عليها علاقة الروح بالجسد.

ولهذا فموضوع فصل الروح عن الجسد عند خاتمة السلوك قد جاء في القرآن دالا على صورة مؤلمة لا يسلم منها أي شخص مهما كان مستواه السلوكي وتوجهه الروحي والبدني، وهو ما نجده في قول الله تعالى :"كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون "[2]، وكذلك قوله تعالى :" وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ "[3].

يقول الله تعالى:"وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ"[4].

إن هذه الوحدة التكوينية لشخصية الإنسان في مرحلة خلق الروح أو الجسد، أو التحامهما مما ينتج كائنا واعيا وملموسا في آن واحد سيبني عليها الإسلام قواعد الاستكشاف النفسي بتقرير عناصر الوحدة النفسية سواء على مستوى الانطباع الذاتي الباطني أو الظاهري جوهرا وسلوكا عرضيا.

ويتجلى ذلك في التسلسل التالي:

السلامة العقدية: وعند مناقضتها يترتب: الانحراف العقدي والسلوكي

= توهم المماثلة = الميل بحسب التماثل = الوحدة الجنسية الشاردة.

2)  إن التقسيم الرئيسي للنفوس لا يعدو صورتين: إحداهما أصلية والثانية فرعية .

فالأصلية تمثل الواقع الحقيقي للنفس الإنسانية في طورها الأولي وتكوينها المبدئي، وفي موافقتها السلوكية والعقدية لما يقتضيه هذا التكوين الأصلي للنفس البشرية، وهذا ما يسمى بالفطرة أو غريزة التوحيد عند الإنسان كما تنص عليه الآيات التاليات، قول الله تعالى:"وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى! شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون، وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون "[5].

و" فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ "[6].

و" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) "[7].

كما قد نجد تبيينا نبويا في الموضوع يؤسس هذه الوحدة النفسية عند الإنسان وارتكازها العقدي كعنصر أساسي لتحقيق الوحدة في التربية وتقعيدها وضبطها وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه "[8] الحديث.

فهذه الأدلة قد تخط لنا الصورة الأولية للنفس البشرية، ولهذا فهي واحدة في تكوينها الروحي وواحدة في تكوينها الجسدي ومراحله، وعلى هذه الوحدة تنبني أيضا الوحدة الجنسية باعتبارها فرعا عن الوحدة الفطرية، وذلك لاعتبار المساواة العنصرية بين الرجل والمرأة وبين ما يتفرع عنهما من ذرية.

فنجد مثلا قول الله تعالى يؤكد هذه الحقيقة "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا"[9] وقوله:"ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون "[10].

ويبين هذا المعنى بصيغة حديثية قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:"كلكم لآدم وآدم من تراب...".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء"[11].

فالوحدة الجنسية قد تتخذ صورة دورية على مستوى التناوب بين الأصل والفرع، ولكنها مع ذلك تبدو تسلسلية الامتداد الفرعي، إذ الأصل يلد الفرع والفرع يلد الفرع فيصير حينذاك أصلا... وهكذا. وإلا فإن أصل الإنسان ينحصر في شخصية واحدة هي آدم عليه السلام كما نص عليه الحديث النبوي الشريف: "كلكم لآدم ".

هذه الوحدة الأصلية ووحدة التسلسل الفرعي لابد وسينتج عنها وحدة في الاعتقاد والسلوك، وهي التي نص عليها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باسم الفطرة، والتي قد تتحد النفوس في تمثُّلها والتواصل عن طريقها بحسب مستوى الالتزام بها عقيدة وسلوكا.

ولهذا فحينما ينحرف الشخص عن الفطرة قد يخرج عن دائرة الوحدة النفسية الإيجابية التي خلق عليها إلى ما عبر عنه القرآن الكريم في الآية:"لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذي آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون".

فالارتداد إلى أسفل سافلين قد يعني الخروج عن دائرة الفطرة والوحدة النفسية التي طبع عليها الإنسان أصلا وفرعا، ولكن هذه الوحدة المخترقة التي تمثل القاعدة في سلامة بنية الإنسان قد تترتب عنها وحدة شاذة لا تكاد تنفصل عن الوحدة الفطرية في جوهرها، وإنما هي وحدة عرضية وهمية مترتبة عن المضادة للوحدة الأصلية.

ولهذا فهي من جهة:وحدة، لأن الفطرة لا تنمحي جوهرا، ومن جهة أخرى هي: شرود وشذوذ ناتج عن اختراق الوحدة الفطرية اختراقا عرضيا مضادا لها مما أنتج مجموعة شذوذات وشرودات قد تجمعها وحدة يمكن الاصطلاح عليها بوحدة الشذوذ والشرود تجوزا، لأن كلمة الوحدة لا تتطابق مع واقع الشرود، وإنما نوظف المصطلح -كما قلنا- لأن الوحدة لا تكون إلا بالفطرة.

إذ مهما شرد الإنسان إلا وبقي لديه ارتباط بالفطرة ولو في شكلها العرضي، وستتجلى هذه الوحدة الشرودية في قول الله تعالى :"وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم، تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون"[12].

فالتشابه القلبي الذي تطابق عند هؤلاء هو في الحقيقة يمثل شرودا جماعيا مضادا للفطرة المبنية عليها نفس الإنسان، ولهذا فأوجه التوجه النفسي قد تنقسم إلى قسمين لا غير، عنهما تترتب النتائج بحسب التزام أحدهما.

ومن هنا فقد يحدث التشابه سواء فيما بين الموافقين للفطرة أو المخالفين لها، على مستوى الوحدة في المواقف والاتجاه، ويتجلى هذان القسمان بكل دقة ووضوح وإيجاز في قول الله تعالى:"ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"[13].

وعلى هذا التقسيم سيحدد الإسلام سلوك الناس ونوعية وحدة توجههم العقدي أو السلوكي، أعرض لنموذج منه في قول الله تعالى:"المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف و يقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم، إن المنافقين هم الفاسقون، وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم، ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم، كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلافهم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا. أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الخاسرون. ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والموتفكات، أتتهم رسلهم بالبينات، فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"[14].

فظلمهم لأنفسهم هو مخالفتهم للفطرة الأصلية التي تم على أساسها تكوينهم وذلك بنسيانهم لخالقهم .

***

الدكتور محمد بنيعيش - المغرب

أستاذ الفكر والحضارة

................................

[1] رواه مسلم والبخاري في كتاب بدء الخلق

[2] سورة العنكبوت آية 6

[3] سورة الأنعام آية 94

[4] سورة الأنعام آية 99

[5] سورة الأعراف آية 172

[6] سورة الروم آية 30

[7] سورة التين آية 4-5

[8] رواه البخاري، كتاب التفسير والجنائز

[9] سورة النساء آية 1

[10] سورة الروم آية 20

[11] رواه البخاري، كتال بدء الخلق

[12] سورة البقرة آية 118

[13] سورة الشمس آية 7-10

[14] سورة التوبة آية 67-70

 

إن سيكولوجية نفاد الصبر يمكن أن تجعل الانتظار أكثر احتمالا

بقلم: مات هيوستن

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

تشير الدراسات الجديدة حول تجربة نفاد الصبر إلى أن هناك ما هو أكثر من مجرد المدة التي قضيتها معلقًا إذا كنت تنظر على مدار الساعة في انتظار نتيجة الاختبار، أو تتململ تحسبًا لوصول قطار في أي لحظة، أو قمت بتحديث موجز الأخبار الخاص بك بشدة قبل إعلان مهم، فأنت تعرف مدى الإزعاج العميق الناتج عن الاضطرار إلى الانتظار، والعجز عن تسريع الأمور. متى تصل مشاعر نفاد الصبر هذه إلى ذروتها؟ هل الأمر كله يتعلق بالشعور بأنك انتظرت طويلاً؟

لمعرفة ذلك، قام فريق ثنائى  من علماء السلوك، أنابيل روبرتس من جامعة تكساس في أوستن وأيليت فيشباخ من كلية بوث لإدارة الأعمال بجامعة شيكاغو، باستطلاع آراء الأشخاص الذين ينتظرون في سيناريوهات مختلفة: أثناء الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. في عام 2020؛ وتوقع الإصدار العام المقرر لأول لقاح لكوفيد-19 في الولايات المتحدة؛ والركاب ينتظرون وصول حافلتهم.

في الدراسات حول الانتخابات ولقاح كوفيد-19، صنف المشاركون نفاد صبرهم في نقاط متعددة أثناء الانتظار. في المتوسط، كان نفاد صبر الناس يزداد كلما اقتربوا مما اعتقدوا أنه نهاية الانتظار. ولكن الأمر لا يقتصر على أن نفاد الصبر ينمو مع زيادة وقت الانتظار. يبدو أن هناك شيئًا محبطًا بشكل خاص بشأن اقترابك من نهاية فترة الانتظار. في دراسة الحافلة، كان هؤلاء الأشخاص الذين توقعوا وصول الحافلة في أي لحظة هم الذين شعروا بفارغ الصبر، حتى لو لم يكونوا بالضرورة ينتظرون كل هذا الوقت. وقد يفسر هذا سبب اكتشاف الباحثين خلال دراسة لقاح كوفيد-19 أن نفاد الصبر تجاه نهاية الوباء ظل ثابتا مع مرور الوقت: فالنهاية لم تكن تلوح في الأفق بعد.

وفقًا للباحثين، فإن العامل الرئيسي الذي يساهم في زيادة نفاد الصبر، خاصة قرب نهاية الانتظار، هو رغبتنا في إنهاء الانتظار - في الأساس، "الرغبة في إخراج هذا الشيء من عقلك أو شطبه من قائمة المهام الخاصة بك،" "، على حد تعبير روبرتس.ضع في اعتبارك هذا: إذا كنت تعمل على مشروع ما، أو تشارك في سباق، وكانت النهاية تلوح في الأفق، فإن الرغبة في إنجازها قد تحفزك على زيادة معدل سرعتك . في الواقع، يُظهر "تأثير التدرج في الهدف" أن "الناس يصبحون أكثر تحفيزًا لتحقيق أهدافهم كلما اقتربوا من النهاية"، كما يقول روبرتس.

ولكن عندما تكون عالقًا في انتظار رحلة، أو طاولة في مطعم، لفترة زمنية متوقعة، فليس هناك الكثير مما يمكنك فعله للوصول إلى هدفك بشكل أسرع؛ لا يمكنك الانتظار لفترة أطول لتسريع الأمور. لذا فإن الرغبة في التصرف، وإنهاء الأمر (أي إنهاء الأمر)، قد تتحول إلى "شعور سلبي بالإحباط ونفاد الصبر" قرب نهاية الانتظار، كما يقترح الباحثون.

يأتي المزيد من الأدلة لهذا التفسير من دراسات أخرى أجراها الباحثون والتي تضمنت انتظارات افتراضية. على سبيل المثال، عندما تخيل المشاركون استلام طرد ما في عدد معين من الأيام، قدروا أن نفاد صبرهم سيكون أكثر شدة إذا كانوا أقرب إلى وصوله، وكذلك رغبتهم في "إغلاقه".

إذا كنت في موقف يتعين عليك فيه تقديم المشورة لشخص ما بشأن المدة التي يتعين عليه الانتظار فيها، فإليك بعض المعلومات المفيدة. على سبيل المثال، إذا كنت ترسل طردًا لشخص ما، "قد يكون من المفيد المبالغة في تقدير نهاية الانتظار بدلاً من التقليل من مدة وصوله ،" كما يقول روبرتس، "حتى تتمكن في الواقع من جعل نفسك تنتظر قبل أن تشعر بهذا الشعور الشديد بنفاد الصبر". في نهاية الانتظار." قد ينجح نهج مماثل في سياقات أخرى، مثل عندما تخبر شخصًا ما عن الوقت الذي ستستغرقه العودة إليه.

يقول لي روبرتس إن النتائج الجديدة يمكن أن تكون مفيدة أيضًا لإدارة تجارب الانتظار الخاصة بك. على سبيل المثال، معرفة أن نفاد صبرك من المرجح أن يصل إلى ذروته في الدقائق القليلة التي تسبق وصول القطار الخاص بك يشير إلى أن هذا سيكون الوقت المناسب لحل   الكلمات المتقاطعة أو البث الصوتي (فقط احرص على عدم تفويت موعد الوصول).وعندما يكون هناك تحديث أو إعلان طال انتظاره وشيكًا، وليس هناك ما يمكنك فعله حيال ذلك، فقد تفكر في إعطاء عقلك لنشاط غير ذي صلة تمامًا - حتى ينتهي الانتظار أخيرًا.

(انتهى)

***

..................................

الكاتب: مات هيوستن/ Matt Huston محرر وكاتب مهتم بعلم النفس والصحة العقلية والثقافة. قبل انضمامه إلى Aeon+Psyche، كان عضوًا في هيئة التحرير في مجلة Psychology Today لما يقرب من عقد من الزمان. لقد كتب عن مجموعة متنوعة من المواضيع في مجال السلوك البشري، بدءًا من العلاج عن بعد إلى الإدراك الاجتماعي إلى التكاثر في العلوم النفسية.

مقالات من تحرير الكاتب على مجلة أيون:

https://aeon.co/users/matt-huston

وصلتني هذا الأسبوع ثلاثةُ أسئلةٍ، أظنُّها نموذجاً للنقاشات غير المفيدة، أي تلك التي أدعو أصدقائي الكرام للزهد فيها. لعلَّ القارئَ العزيز يذكر أنَّ مقالاتي الأخيرة تناولت مسألة الحداثة وحاجتنا إليها وبعض الفروق الرئيسية بين عصر الحداثة وعصر التقاليد. وفي هذا السياق، كتب أحدُ الأعزاءِ متسائلاً «ما هو مفهوم الحداثة الذي تقصده». وسأل آخر عن المقصود بالعصر، وهل أعني العصر في المفهوم الإسلامي أم الغربي. وتناول الثالث فكرة التقليد، ولماذا نعرضها في سياق سلبي نوعاً ما، مع أنَّ الدولَ الصناعية المتقدمة تتمسك بتقاليدها وتفخر بها.

وذكّرني هذا بأسئلة مماثلة واجهتها في أوقات سابقة، عن المقصود بالمساواة والحرية والقانون وأمثالها. بديهي أنني لا أمانع من تلقي هذه الأسئلة أو غيرها. لكنَّني أودُّ أن يهتمَّ القارئ بالموضوع المطروح للنقاش وليس الألفاظ المستعملة في عرضه. وذكَّرني هذا بمشروع لأحدِ زملاء الدراسة يتضمَّن شرحاً لديوان «أغاني الحياة» للشاعر التونسي الشهير الراحل أبي القاسم الشابي. خصَّص الزميل فصلاً من 20 صفحة تقريباً لشرح العنوان، وقد أفرط في تعداد معاني كلمةِ «أغاني» وكلمةِ «الحياة» واستعمالاتهما المنفردة والمجتمعة وتاريخ ظهور الكلمة ومواطن تَكرارها، وسياقاتِ استعمال كلمة «الحياة» في القرآن وكلمة «أغاني» في شعر العرب القديم... إلخ.

وقد علَّق الأستاذ على هذا العمل بأنَّه قليلُ الفائدة، وطلب حذفَ الفصل كله، فغضب الزميل أشدَّ الغضب، واعتبر قولَ الأستاذ إهانةً لشخصه؛ لأنَّه استغرق في هذا العمل نحو ستة أشهر. ولسوء الحظ فإنَّ غضبَه انتهى بتركه الدراسة والكتابة والابتعاد عنهما تماماً.

والذي يهمني بيانه أننا نستعمل الألفاظ والمصطلحات في السياقات المتعارفة في هذا الزمان، ولا نخترع لها معاني من عندنا، كما نتجنَّب الاستعمالات المخصوصة أو الغريبة. ولا بدَّ أنَّ القراءَ يعرفون أنَّ موضوعَ البحث وسياق الكلام يحددان المعنى الدقيقَ للفظ والمصطلح. وقد التفت أهلُ القلمِ للفارق المتوقع بين الاستعمال السياقي والاصطلاحي وبين الاستعمال اللغوي الدقيق، فوضعوا للأول عنواناً هو «الاستعمال الإجرائي» الذي يعني أنَّه يؤخذ كما يفهم في العرف السائر بين الناس أو بحسب السياق، حتى لو اختلف قليلاً عن المعنى اللغوي الدقيق.

وهذا سائر في كل العلوم واللغات كافة. ونعلم مثلاً أنَّ القرآن الكريم استعمل العديد من الألفاظ في معنى غير معناها اللغوي، وأطلق عليها دارسو الشريعة اسم «الحقيقة الشرعية» تمييزاً لها عن نظيرتها اللغوية. ونعلم أيضاً أن بعض الألفاظ تستعمل في حقول علمية عدّة، فتنصرف إلى معنى مختلف في كل من تلك العلوم.

ومثل ذلك المعاني المرتبطة بالسياق. وأذكر أستاذاً لنا كانَ يسأل مازحاً: لقد رأيت الله، فهل رأيته أنت؟ وفي بعض الأحيان كانَ يسأل الطلبة المستجدين قائلاً: يرى الفلاسفة أنَّك حيوانٌ ناطق، فهل أنت كذلك؟ وكنا ننكر تلك الأقوال في بداية عهدنا به، ثم تعلمنا أنَّه كان يقصد تحديداً إيضاح تأثير السياق والموضوع وإلزاماته.

لا يستطيع الكاتب شرح كل مصطلح يستعمله في كل مقال. ولو فعل لضاعت فكرة المقال الرئيسية. ثم إنَّه لا ضير في أن نختلفَ قليلاً أو كثيراً في تحديد معنى الكلمة، بل حتى فكرة المقال كله، فمقال الرأي هدفه إثارة الذهن، ودعوة القارئ للتفكير في المسألة المطروحة. ولو نجح الكاتب في إثارة ذهن القارئ فقد حقق غرضه كاملاً، حتى لو اتخذ القارئ موقفاً معارضاً كلياً لفكرة المقال. ليس غرضي من الكتابة إقناع القراء بأي شيء، بل مشاركتهم في التفكير وتفصيح الأسئلة التي أراها ضرورية أو مفيدة. أما النتائج فهي تخص كل قارئ بمفرده.

زبدة ما أردت دعوة القراء الأعزاء إليه، هو: كُفّوا عن الانشغال بالكلمات والألفاظ، وخذوها كما تفهمونها في النظرة الأولى، فليس المقصود غيرها، فإن تبيّن خطأها فلن تسقط السماء على الأرض. نحن نخطئ كل يوم ونكرر أخطاءنا، ثم نكتشفها فنصحح، وهذه طبيعة الحياة.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

كنا مقتنعين، أن تسمية «الحَشاشين»، جماعة حسَن الصَّباح(ت: 518 هجريَّة)، شوهت مِن قِبل الرَّحالين الأوروبيين، وفي مقدمتهم ماركو بولو(لويس، الحشاشون. الأمين، الإسماعيليون والمغول ونصير الدّين الطُّوسيّ)، وعلى أنهم يتخيلون الجنَّة تحت تأثير المخدر، يرونها مِن خلال الحدائق الغناء، المزروعة لهذه الغاية. ملتُ حينها إلى رأي المؤرخ حسن الأمين(ت: 2001) في «الإسماعيليون...»، مِن أنَّ الغربيين دسوا فرية تعاطي الجماعة «الحشيش»، للقيام بالاغتيال، بينما، حسب الأمين، اعتبر تسميتهم بـ«الحشاشين» نسبة لحشائش الأدوية.

لكنَّ بعد العمل في كتاب «صرعى العقائد المقتولون بسبب ديني قديماً وحديثاً»، وجدنا أنَّ جماعة عُرفت بـ«الحشيشية»، ينفذون الاغتيالات، والمؤرخ كان زيديّاً، قبل ماركو(1254-1323م)، قال: «قومٌ في تلك الدِّيار، يرمون نفوسهم على الملوك، فيقتلونهم ويُقتلون، ويرون ذلك دينيًّا»(ابن دَعثم، السّيرة الشَّريفة المنصوريَّة). تحدث المؤرخ ابن دعثم(ت: 615 هجريّة/1218م) عن أربعة أسرى مِن «النَّزاريّة».

كذلك كان الحشيش معروفاً، بدلالة التَّحريم، وفق «زَهر العريش في تحريم الحَشيش»، لبرهان الدِّين الزِّركشيّ(ت: 794هـ)، ووجود «الجُنينة تصغير جنة، من أخبث بقاع الأرض... تعرف ببيع الحشيشة، التي يبتلعها أراذل النَّاس، وقد فشت هذه الشَّجرة»(المقريزيّ، المواعظ والاعتبار).

حتَّى قيل الشِّعر في تناولها، مع التَّوصية بزراعتها، وتبنت ذلك جماعة دينيّة: «دع الخمر واشرب مِن مدامة حيدر/ معنبرة خضراء مثل الزَّبرجد»(المصدر نفسه). هذا الوقت غير البعيد عن القرن السَّادس الهجري، أي وجود النِّزاريَّة، وممارستهم للاغتيال. كان الحشيش يستخدم مكيفاً للدماغ، وقيل عنه «في الحشيش مِن الإسكار والإفساد»(الزَّركشي، زهر العريش).

لهذا أنَّ تسمية تلك الجماعة بالحشاشين، ليست نسبة للأدوية، إنما إلى المخدر، ولا هي اختلاق أوروبي. تجدر الإشارة إلى أنّ الحشاشين تخلوا عن الاغتيال بعد جمع العقيدة الدّينيَّة السّياسيَّة والمخدر في دافع الاغتيال، واتجهوا إلى الدّعوة، العام(608هـ)، حسب مؤرخ معاصر للحدث(ابن الأثير، الكامل في التّاريخ).

إنَّ ما مِن جماعةٍ دينيَّةٍ سياسية مسلحةٍ، تمارس الاغتيال دون فتوى، أو تحت مخدر العقيدة، أو المادة المكيفة، وأخطرها عندما تمارس بيد الدّين السّياسيّ، لأنَّ التّنفيذ يكون واجباً مقدساً، فكم حاول «الإخوان المسلمون» التنصل مِن اغتيال المستشار أحمد الخازندار(1948)، حتى فضح الأمر أحد أقطابهم عبد العزيز كامل(ت: 1991)، في بحث القضية مع حسن البنا(اغتيل: 1949)، ومدبر الاغتيال عبد الرحمن السّنديّ(ت: 1962)، والسؤال: «مَن يتحمل دم الخازندار»؟ قال السّنديّ: «عندما يقول الأستاذ إنه يتمنى الخلاص مِن الخازندار، فرغبته في الخلاص منه»(كامل، في نهر الحياة)، ورغبة «الإمام» يعني فتوى، والبنا لدى الإخوان «الأستاذ» و«الإمام».

لم يُقتل فرج فودة(1992) إلا بفتوى، أيد تنفيذها في المحكمة الإخواني محمَّد الغزاليّ(ت: 1996)، وعندما قَدم شابٌ متطرف وغرز سكينه في عنق نجيب محفوظ(1995) كان بفتوى، فهو لم يقرأ كتاباً له، كان المنفذ مخدراً بالفتوى.

لم تغتل القوى الدّينيَّة أحداً داخل العراق، إلا بفتوى، وبينهم الثمانمئة شاب أصحاب شعار «نريد وطناً»(2019)، فالجماعات التي تنفذ متدينة بطاعة أوليائها، لا تتحرك إلا بفتاوى «جهاديّة»، ومَن يطلع على «دليل المجاهد»(1993) سيجد(213) فتوى، بينها قتل نساء، وأطفال، وتفجير قطارات، وسرقة بنوك، وتزوير عملة، وما قتلت جماعة الزّرقاوي ولا البغدادي، مِن العراقيين، إلا بفتاوى مِن قضاتهما. هذا، وخلال عملي في «صرعى العقائد...» ظهر وراء كلّ قتيل فتوى تُشرع قتله، والمنفذون مخدرون بطاعة المفتين.

أقول: إنَّ منفذ الاغتيال، لابد أنه وقع تحت تأثير مخدر: عقيدةٍ، أو فتوى، أو حشيش، مارست الاغتيال، عبر التّاريخ، سُلطات وجماعات، وكان يُعرف بـ«البيات»، ومِن عجبٍ أنَّ فصيلاً خارجيّاً قد حَرمه، قبل تخلي الحشاشين بقرون، وهم «الأخنسيَّة»، أتباع أخنس بن قيس، «حرموا الاغتيال والقتل والسَّرقة بالسِّر»(الشّهرستانيّ، الملل والنّحل).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

تعرّف الهوية الوطنية، بأنها مجموعة من القيم والعادات والتقاليد  والأعراف والمُثل، التي تميز ما بين الشعوب أو الأمم عن الأخرى، كما تعد الثقافة بمفومها العام، هي بناء للشخصية، وقوة ودعم للهوية الوطنية لدى الأفراد داخل المجتمع.

ولا شك فأن الهوية الوطنية تلعب دوراً كبيراً في بناء المجتمع والدولة موحدة، لذا فهي تعتمد أو تقوم على عدة عوامل وعمليات تكون في غالب الأحيان نتيجة للتأثيرات الاجتماعية والتربوية الموروث منها وغير الموروث، بالاضافة الى ما حملت من رواسب تأريخية مضافة اليها عبر تأريخها الحضاري داخل الامة، وكذلك ما يشمل تأريخ الشعوب الأخرى من عوامل يضاف لهُويتها الوطنية في كل أرجاء العالم، فضلاً على التأثيرات القادمة من المناطق الاقليمية المحيطة للدولة جراء أختلاطها بالمجتمعات فيما بينها عبر التأريخ، وبما يترك فيها من تشكيلات، تشكل فيما بعد أضافة لعاداتها وقيمها التي ستكون جزءاً لا يتجزء منها، أو تشكل أعراف تتعارف الناس عليه فيما بعد، بعد مرور حقبة من الزمن.

إلا إن هنالك من أهم وأبرز العناصر التي تلعب دورًا في صناعة ثقافة الى الهوية الوطنية للفرد داخل المجتمع، تقف في مقدمتها، التربية والتعليم، حيث تلعب دورًا حاسمًا في بناء الهوية الوطنية، كما تتضمن هذه العملية أسلوباً من خلال توجيه الأفراد نحو قيم وتقاليد الوطن وفهم تأريخه وثقافته، فاللغة لها موقعها في بناء الهوية الوطنية، ذلك من خلال استخدام لغة مشتركة فيما بين أفراد المجتمع، فضلاً لما ترتبط من مشاعر متبادلة وفهم قواعدها، لانها أحد المكونات الأساسية للتواصل والتماسك الوطني بين أفراد المجتمع الواحد، فتعد جزء أساسي للتقارب والفهم والتواصل الذي يعمق ما يصبو اليه الانسان، أضافة لسهولة الادراك والوعي لما تطرح من مفاهيم.

أما التأريخ والتراث الوطني للدولة، فهو يساعد في تعزيز الانتماء للهوية الوطنية، ذلك أن تأريخ الأمة وتراثها يشكلان جزءًا هامًا في بناء الهوية الوطنية.

كما الحال لعبت الفنون والثقافة الشعبية بعدها المؤثر في تعزيز الهوية الوطنية، من خلال ما تعكس التعبيرات الفنية والثقافية جوانب مهمة فيها، والذي يطلق عليه بالانخراط المجتمعي والمشاركة في الأنشطة المجتمعية العامة والاجتماعية الخاصة، التي تعزز الانتماء وتعمل على توحيد الأفراد ضمن المجتمع الوطني الواحد.

أضافة الى ما يقدمه الإعلام ووسائل الاتصال من دور فاعل في نقل القيم والتقاليد الوطنية وبثها وتعزيزها للإنتماء، ومنحها قوة مضافة وترسيخ لكل المفاهيم الحقيقية التي تخدم المجتمع والدولة.

فضلاً عن إعطاءها المواطنة الفاعلة دورها الحقيقي، من خلال المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث تساهم في تعزيزها، ومن الجدير بالذكر أن هذه العوامل تتفاعل مع بعضها البعض، وتختلف بآختلاف الثقافات والسياقات الاجتماعية بين مجتمع وآخر.

لقد شكلت الثقافة والتراث دورًا هامًا في تعزيز الهوية الوطنية وتمييز الشعوب عن غيرها، بما تمتلك من أرث يخدم المواطن الذي يعتز بثقافته وأرثه، وهذا ما يتاتى أيضاً من خلال الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي عند الفرد، الذي يؤثر بدوره في بناء وتماسك الدولة، فضلاً عن الخبرات الشخصية والتجارب، وهذا ما أكدته الكثير من الدراسات الاجتماعية والنفسية، بأن التجارب الشخصية والتجارب الحياتية لها دورها في بناء الهوية الوطنية، إذ يتم تشكيلها من خلال تفاعل الفرد مع بيئته وتجاربه الحياتية، التي تضيف رصيداً آخر في التعزيز بين الوطن والمواطنة والإنتماء، فالانتماء الاجتماعي يؤثر في المجموعات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد مهما تعددت قومياته وأديانه وأعراقه، وخلق الشعور الايجابي للإنسان  في تشكيل الهوية الوطنية، حيث يمكن أن يؤثر التفاعل مع المجموعات المختلفة على تشكيل وجهات نظر الفرد وقيمه، والاقتراب بين افراده وعدم الشعور بالدونية والاغتراب، فيدفع كل الاطراف داخل خيمة الدولة بحب الأرض أو الوطن أو الدولة التي يشعر بالزهو في أنتماء الفرد اليها.

القيم التربوية عند الإنسان

لقد أكد أغلب الدراسات التربوية والنفسية والدراسات التي تشمل علم الانسان والبيئة، إن القيم التربوية لها دور كبير في تنمية الهوية الوطنية للإنسان، فهي تبلور الشخصية وتدفع بها الى الانتماء والولاء للوطن، كما تعد التربية وسيلة لنقل القيم الوطنية والتأريخ والثقافة الخاصة بالدولة، من خلال تعريف الأفراد بالجوانب الإيجابية للدولة والإنتماء اليها، فهم يتعلمون الفخر بوطنهم والاحترام لقيمه، كما يشجع التركيز على التربية الحقة  بإحساس الفرد بالانتماء والولاء للدولة، وهذا بدوره سيعزز الروابط الاجتماعية والتفاعل الإيجابي بين ذات الفرد وما يحيطه مع الآخرين،  وبالتالي يعد الفرد جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الوطني، وهو مدعو هنا للمشاركة في تطويره وتحسينه، وهذا ما يعزز الشعور بالمسؤولية والمشاركة الفعّالة في بناء الوطن.

أضافة الى أنه يساعد التركيز على التربية الوطنية في تشكيل هوية الفرد وفهمه لمكانته والمسؤولية الملقاة على عاتقه، ويتمثل ذلك في تطوير قيمه الشخصية بما يتلاءم مع القيم الوطنية، كما يمكن للتربية الوطنية أن تدفع بالتواصل بين أفراد المجتمع الواحد من خلال فهمهم للثقافة واللغة الواحدة أو الشعور الواحد، مما يساعد ذلك في تعزيز التفاهم وتقدير التنوع الثقافي داخل الوطن الواحد. ويمكن للتربية الوطنية أن تلعب دورًا في مقاومة التأثيرات السلبية الخارجية وبناء حصانة ثقافية لدى الأفراد.

بشكل عام، يعزز التركيز على القيم التربوية، الفهم العميق للفرد لهويته الوطنية وتساهم في بناء مجتمع قوي ومترابط، قادر على مواجهة التحديات التي تعصف بالدولة، أو النيل من قيم المجتمع الأصيلة فيه أو تحريف المفاهيم والتراث، وحتى العادات التي تعارف أفراد المجتمع الواحد عليها عبر أجيال متعاقبة.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

بقلم: فريديريك جريمو1.

ترجمة: مراد غريبي

***

يظهر اسمه في جميع مطالب النقابات (حتى أن هناك إضرابات مخصصة له)، ويتم إنشاء علامات التصنيف للتنديد بالإرهاق المهني الذي يمكن أن يعزى إلى طالب غير عادي، والتقارير والإجازات المرضية يومية في كل مدرسة.

في قاعة المعلمين، يسمع الرثاء من مدرسة لم تعد لديها القدرة على استيعاب الطلاب ذوي الإعاقة، المصابين بالتوحد على رأس الموكب. كأس المدرسة الشاملة ممتلئ.

لذلك من المهم أن نسأل شيئين:

أولا، أن إدماج الجميع، الذي يسمح لكل طفل، بغض النظر عن اختلافه، الجلوس على مقاعد المدرسة مثل أي شخص آخر، هو أحد أفضل الأشياء التي حدثت للمدارس العامة.

ثانيا، حقيقة أن مشكلة جديدة تنشأ في العمل وأن الأمر يتطلب الابتكار والإبداع لحلها، وتجديد الذات والمهنة في هذه العملية، هو أمر جيد للعمال ومهنتهم. وعلى وجه التحديد، يشكل الإدماج نموذجا جديدا للمعلمين، ولكنه نموذج "متناقض"، استخدم مصطلح (دي جوليجاك2 وهانيك3)4.

ويستند إلى القيم الإنسانية القوية التي يحملها الأساتذة تاريخيا. تعليم جميع أطفال الأمة، ومكافحة التمييز، وعدم ترك أي طالب على جانب الطريق.. أليس هذا ما اشتركوا فيه؟ ولكن في الوقت نفسه، يبدو أن هذا النموذج يضر بالمهنة بأكملها.3504 فريديريك جريمو1

لماذا وما السبب؟ بطبيعة الحال، يرتبط هذا ارتباطا وثيقا بنقص الموارد التي لا يبدو أن الحكومات وحدها هي التي تراها. كيف يمكن لأي شخص أن يتخيل تضاعف عدد الأطفال ذوي الإعاقة في المدارس إلى ثلاثة أضعاف تقريبا في عشرين عاما دون أي تمويل إضافي للتعليم، مع النظر لتخفيض عشرات الآلاف من الوظائف؟

وبدقة يتم التركيز على الوسائل. إن منع المعلمين من القيام بعمل جيد من خلال عدم تزويدهم بالموارد هو حيلة فجة وبالية (ولكنها فعالة) لتقويضهم ومؤسستهم في هذه العملية. ولكن السم يمكن أيضا أن يقطر بصمت، في قطرات صغيرة، خلال سنوات من السياسات النيوليبرالية التي انتهت ليس فقط إلى إصابة المعلمين بالمرض، ولكن أيضا جعلهم يعتقدون أن الطلاب ذوي الاحتياجات التعليمية الخاصة هم السبب في أمراضهم.

ومع ذلك، فإن ما هو علامة على صحة العامل الجيدة هو أولا وقبل كل شيء قدرته على القيام بعمل جيد. ويستند ذلك إلى استقلاليته الإجرائية من ناحية وإلى معنى نشاطه من ناحية أخرى. ثلاثون عاما من الإصلاحات الإدارية لم تصادر تدريجيا الخبرة المهنية للمعلمين فحسب، بل طمست أيضا معنى عملهم.

انتهى الأمر بالمدارس الشاملة إلى لعب دور حصان طروادة لهذا المنطق النيوليبرالي. اليوم، هو المثل الأعلى، رأس الحربة للمفارقات المفروضة في قلب مهنة المعلمين والتي تنتهي بدفعهم إلى الجنون والجنون. وكيف لا تكون كذلك عندما تضطر، من ناحية، إلى أن تصبح مهندسا لمدرسة يمكن للأطفال ذوي الإعاقة الوصول إليها، ومن ناحية أخرى، يطلب منك توحيد تعليمك أكثر فأكثر، وإجراء التقييمات باستمرار، وحتى قريبا لاستخدام الأساليب والأدلة المعيارية.

لا يمكن أن تكون المدرسة واحدة من الدمج في نفس الوقت مثل سرير بروكست5، ولا يمكن تمزيق المعلمين إلى أجل غير مسمى بين مثل هذه الأوامر المتناقضة ... ما لم يمرضوا جميعا أو يرفضون الطلاب ذوي الإعاقة بشكل جماعي، وهو ما قد يحدث في نهاية المطاف إذا لم يوقف أي شيء التدمير المنظم لمهنة التدريس عبر العالم.

***

29/2/2024

.............

1- مدرس التربية الخاصة، باحث في العلوم التربوية ومؤلف

2- فانسان دي جولجايك هو عالم اجتماع فرنسي وأستاذ جامعي فخري.

3- فابيان هانيك عالمة اجتماع العمل العيادي، أستاذة بجامعة باريس7.

4- لهما كتاب مشترك بعنوان: الرأسمالية التناقض. نظام يدفع إلى الجنون/ الصادر سنة 2015 عن دار ساي، باريس

5- شخصية من المثيلوجيا اليونانية

 

احيانا تصيبني خيبة عارمة أتساءل فيها لمن انا اكتب؟. وما دوري كمثقفة تجاه الجماهير؟. صحيح أننا نعيش في زمن متوحش غير مسبوق من الأنانية والافراط في التمثيل حيث استطاعت التقنيات الذكية بصيغتها الذكية أن تكون محط جذب لدى الجميع بفعالية، تمارس عليها كل اشكال الهيمنة والتحكم والاستحكام. غير اننا حقيقة نعيش في واقع غير واقعي استطاعت الجماهير خلق فضائها ومجتمعها الخاص وتشكيله. لكن ماذا لو كان كل شيئ وهم وتوهم؟

الحقيقة اليوم اننا نعيش في لحظة تاريخية مفصلية كل شيء جديد حولنا. نعم، لقد استطعنا خلق وتثبيت موطئ قدم لنا في هذه الوالم الفتوحة، لكن المشكلة هي في اننا لا نعيش في هذا العالم بشكل منصف ومتساوي بل اننا عبارة عن مجتمع مفعول به، مستهلك يصدر تاريخ من الجهل المستأنف لكن مع فارق بسيط وملحوظ، وهو أن تفاهة الجماهير اصبحت متشاركة مع الجميع وموثقة رقميا وهذه كارثة العصر.

إن هذا الواقع، هو بفعل سلسلة من العبادة الوثنية التي تطورت في وجدان الجماهير دون تفكر والتي استطونت  بحبكة اسهمت استحكاما بليغا في مطارد عقول الناس والتأثير بها عبر تقنيات واختراعات غير مألوفة بلغت حد العبادة الجديدة، لكن من نوع اكثر عنفا وتحكما وعبودية يترتب عليها تمثلات مرضية نفسية وثقافية واجتماعية تشبه الادمان بكافة مفاهيمه، بفعل غياب قوانين وثقافة ترعى هذه التحديات وإمكانية التحكم بها. فهل يستطيع اليوم احدكم الاستغناء عن جهاز التلفون الذكي لدقائق أو ساعات أو ربما شهور بالتأكيد لا لانه، قد يعاني من هوس الاكتئابي والعزلة والاغتراب.

إلى هذا الحد وصل بنا الاستحكام الممنهج بفعل مجتمعات يمارس عليها سياسة القطيع والتجارب البشرية حيث بات الإنسان عبارة عن رقم قيمته هي في الأرباح التي تجنيها الشركات العملاقة. فالسؤال البديهي الذي يفترض الجميع أن يجيب عنه هل هذا التطور خدم البشرية واراحها ام مأسس لنوع جديد من المظالم والاستعباد والعبودية والعنف غير المسبوق؟.

إن ثورة المعرفة والذكاء الاصطناعي يجب أن تريح الإنسان وليس أن تجعله يعيش في متاهات التغرب والعزلة وفقدان القيمة والهوية، وأن تنعم عليه بالراحة الاقتصادية والنفسية والفكرية والإنسانية. فأين الإنسان اليوم من كل ذلك. فالانسان اليوم أصبح مبرمجا شبه آلي ولم يستطع تطوير منهجية تخدم وقعه السياسي عبر بناء مجتمعات جديدة تختلف عما سبق من الاضطهاد والاستغلال والاستبداد والفساد عبر تحقيق العدالة المساواة والحرية.

إن ما نعانيه اليوم خطير جدا بل مدمر لان الإنسان غير قادر على تحقيق هوية تليق به بفعل التفاوت والطبقية والحروب غير المتكافئة في المعرفة وصناعة المعلومات فكل تلك التحديات تحتاج إلى استقرار وميزانيات مادية وانفتاح حضاري وفكري تؤسس لصناعة معرفة وطنية وقوانين تراعي وتحمي المواطن من كافة تلك الجرائم التي تعتري البشرية وتستبيح الخصوصية وتطارد عقل الانسان بالتفاهات والمصفوفات الرقمية التي عجز الإنسان فيها عن خلق واقع جديد بعيد عن الاستعمار والهيمنة والسيطرة ولو افتراضيا.

***

اورنيلا سكر

صحافية متخصصة في الدراسات الاستشراقية

 

الدورة السادسة لجمعية الأمم المتحدة للبيئة

إختتمت أعمال الدورة السادسة لجمعية الأمم المتحدة للبيئة (UNEA)، التي إنعقدت تحت شعار: "تحقيق الوحدة العالمية من خلال الدبلوماسية البيئية"،خلال الفترة من 26/ 2 الى 1/ 3/ 2024، في مقر برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) في نيروبي بكينيا.

الجمعية الأممية هي أعلى هيئة لصنع القرار في العالم بشأن البيئة. تأسست الجمعية في عام 2012 بقرار من مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (ريو+ 20)، الذي عقد في البرازيل. وهي تعتبر منتدى العضوية العالمي الوحيد المعني بالشؤون البيئية على كوكب الأرض، الذي يوفر منصة فريدة لاتخاذ القرارات الجريئة والأفكار الجديدة لرسم خطة جريئة للعمل البيئي الجماعي.

تعقد الجمعية إجتماعاتها كل عامين، بهدف تحديد أولويات السياسات البيئية وتطوير التشريعات الدولية في هذا الشأن. وتتاح خلالها الفرصة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة لمعالجة القضايا البيئية الحرجة التي تواجه كوكب الأرض، بشكل جماعي.

وقد بدأت الجمعية منذ إنشائها حقبة جديدة من التعددية يولى فيها الاهتمام للقضايا البيئية بنفس مستوى الاهتمام الذي تحظى به القضايا العالمية الرئيسية الأخرى، مثل السلام والأمن والصحة.

ووافقت الجمعية خلال السنين المنصرمة على قرارات مهمة بشأن موضوعات مثل مكافحة الاتجار غير المشروع بالحياة البرية، وحماية البيئة في مناطق النزاع المسلح، والتنقل الحضري المستدام، من بين أمور أخرى.

ونتيجة للمناقشات التي جرت في دورة جمعية البيئة لعام 2022، بدأت المفاوضات بشأن أول صك دولي ملزم قانونا لإنهاء التلوث البلاستيكي، والذي من المتوقع أن تكتمل بحلول نهاية عام 2024.

عستضافت الدورة السادسة، برئاسة رئيستها د.ليلى بنعلي، وزيرة الأنتقال الطاقي والتنمية المستدامة المغربية، عددا قياسيا من المندوبين، بلغ نحو 6 آلاف، بما في ذلك 7 رؤساء دول و139 وزيرا ونائب وزير، بالإضافة إلى خبراء وناشطين وممثلي الصناعات المختلفة.

وركزت الدورة على الكيفية التي يمكن بها لتعددية الأطراف أن تساعد في معالجة الأزمة الكوكبية الثلاثية المتمثلة في تغير المناخ، وفقدان الطبيعة والتنوع البيولوجي، والتلوث والنفايات، بهدف المساعدة في استعادة الانسجام بين البشر والطبيعة، وتحسين حياة الأشخاص الأكثر ضعفاً في العالم ومن خلال القيام بذلك، ستدعم الدورة السادسة للجمعية تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وستتيح، بدعم من العلوم القوية، والتصميم السياسي، والمشاركة مع المجتمع، فرصة لحكومات العالم، ومجموعات المجتمع المدني، والمجتمع العلمي، والقطاع الخاص، لتشكيل السياسة البيئية العالمية.

وتمحورت الدورة السادسة حول أهمية الاتفاقيات البيئية متعددة الأطراف في التغلب على الأزمة العالمية ثلاثية الأبعاد والمتمثلة في الفوضى المناخية وفقدان التنوع البيولوجي والتلوث.

وعلى الرغم من حالة عدم اليقين الاجتماعي والاقتصادي التي نشأت في أعقاب جائحة كوفيد-19 والتوترات الجيوسياسية المتزايدة الحالية، تميز العامان الماضيان بانتصارات مهمة للغاية للتعاون البيئي .فعلى سبيل المثال، عام 2022، اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة بحق الإنسان العالمي في بيئة نظيفة وصحية ومستدامة، مما فتح المجال لإجراء تغييرات دستورية وقانونية على المستوى القُطري لصالح البيئة والإنسانية.وفي العام نفسه، تمت الموافقة على إطار كونمينج - مونتريال التاريخي للتنوع البيولوجي العالمي، والذي يتضمن تدابير لحماية مليون نوع من الحيوانات والنباتات التي هي على وشك الانقراض. وفي حزيران 2023، وقعت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة على ما يسمى بمعاهدة أعالي البحار، للحفاظ على التنوع البيولوجي البحري في المناطق الواقعة خارج نطاق الولايات الوطنية. وفي تشرين الثاني 2023، تم الإعلان عن اتفاق طال انتظاره بشأن تمويل "الخسائر والأضرار" للبلدان الضعيفة المتضررة بشدة من تغير المناخ في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ بدبي (كوب 28).

وخصصت الدورة السادسة للجمعية يوما لمناقشة هذه النجاحات وغيرها، والنظر في الكيفية التي يمكن بها للحكومات اتخاذ إجراءات واسعة النطاق وموحدة، بما في ذلك التمويل الكافي، لتنفيذ الاتفاقيات متعددة الأطراف التي وقعتها. وفي الوقت نفسه، ستركز الدورة السادسة على الالتزامات الجديدة وعلى الوفاء بجميع الالتزامات القائمة بالفعل.

لقد حددت المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة إنغر أندرسن المجالات الستة ذات الأولوية في الدورة السادسة للجمعية ، وهي ندرة المياه، والتعدين المسؤول، وإدارة المعادن - وخاصة الفوسفور، والتكنولوجيات التي تغير المناخ، وتمويل الإجراءات البيئية، وتنفيذ إطار كونمينغ - مونتريال.وقالت:"كل ما يتعين علينا القيام به هو أن نجتمع وننفذ هذه الحلول العالمية التي وعدنا بها بعضنا البعض حتى نتمكن من تأمين المستقبل للبشرية جمعاء، والعيش على كوكب صحي ومزدهر".

وركزت المفاوضات قبل وأثناء الجمعية على القرارات المقترحة التي قدمتها الدول الأعضاء والإعلان الوزاري الذي سيتم اعتماده في ختام الجمعية. وتهدف القرارات إلى تحديد وترتيب أولويات التحديات المشتركة والحلول الممكنة. كما أنها تحدد مجالات العمل ذات الأولوية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة.

وجاء في التقرير المقدم للجمعية:يعلم الجميع جيدا أننا نعيش أزمة كوكبية متفاقمة: تتمثل في أزمة تغير المناخ، وأزمة فقدان الطبيعة والأراضي، وأزمة التلوث والنفايات.، التي تلقي بظلالها على كل شخص يعيش على هذا الكوكب، بغض النظر عن الجنسية أو اللون أو العقيدة أو الجنس.والمطروح على الدورة السادسة ضمن الحلول والمعالجات مناقشة 20 قرارا ومقررين، تتطرق لموضوعات مثل تعديل الإشعاع الشمسي، والتعدين، والتصحر، ودورية الصناعة الزراعية لقصب السكر، والمبيدات الحشرية شديدة الخطورة، وزيادة قدرة النظم البيئية والمجتمعات المحلية على مواجهة الجفاف، والتعاون الإقليمي من أجل جودة الهواء، من بين أمور أخرى.

وكذلك القرارات التي يمكن أن تسرع الانتقال إلى الوصول إلى مستوى انبعاثات صفري صاف. وتحسين نوعية الهواء الذي نتنفسه والماء الذي نشربه. والإعداد لإدارة المحيطات والبحار لمواجهة التهديدات المقبلة. وبناء قدرة الناس على الصمود في مواجهة الجفاف. ودعم الجهود الدولية لإصلاح الأراضي المتدهورة.

وهناك قرارات من شأنها أن تعزز الإجراءات المتعددة الأطراف لمعالجة الظلم المناخي. وقد أطلق العنان لمحادثات عالمية حول التقنيات الناشئة التي ستزود الدول بالعلم والحكمة لاتخاذ الخيارات الصحيحة لصالح الناس والكوكب. وساعدت في نشر ثقافة (استخراج- وتصنيع- وهدر) الموارد التي تمثل القلب الملتوي لأزمة الكوكب الثلاثية - كما تم تسليط الضوء عليه في تقرير توقعات الموارد العالمية لعام 2024 الصادر عن الفريق الدولي المعني بالموارد.

وتأمل قيادة الجمعية وضع الخلافات السياسية جانبا.وقد حان الوقت للتركيز على حماية هذا الكوكب الأزرق الصغير الذي يعج بالحياة. وحان الوقت للتركيز على هدفنا المشترك: الطريق نحو مستقبل مستدام وآمن، يمكننا من خلاله اتخاذ قرارات سليمة وآمنة. ويمكننا أن نفعل ذلك من خلال الاتفاق على القرارات المعروضة لتعزيز العمل المتعدد الأطراف اليوم وغداً، وتأمين العدالة والإنصاف بين الأجيال.

وذكُرت القيادة المشاركين: لقد نجحت الروح التي يتحلى بها الجميع في نيروبي، مراراً وتكراراً، في تحقيق تعددية الأطراف في مجال البيئة. وقبل عامين، أصدرت هذه الجمعية قراراً تاريخياً بإطلاق المفاوضات من أجل التوصل إلى وضع صك عالمي بشأن التلوث بالمواد البلاستيكية، وهي العملية التي ينبغي اختتامها هذا العام. لقد قدمتم للعالم جرعة أمل كان في أمس الحاجة إليها. ولقد أظهرتم للعالم أن تعددية الأطراف العالمية في مجال البيئة ما زالت متاحة. إنها طريقة ناجعة. وهي متواجدة لتبقى.لذا، المطلوب اليوم الإتحاد مرة أخرى والتوصل إلى قرارات قوية، قرارات يمكن أن يكون لها تأثير حقيقي. وهذا يلبي احتياجات ملايين الأشخاص الذين يعانون بالفعل تحت وطأة ازمة الكوكب الثلاثية. وهذا يدعم الأسس البيئية التي سيرتكز عليها مستقبل يتسم بالسلم والعدل والاستدامة.

وكتبت انغر أندرسن: لا يمتلك العالم قائمة مهام بيئية فحسب، بل يمتلك قائمة حتمية من المهام البيئية التي يجب الاضطلاع بها – في سنة 2024 ولعقود قادمة من الزمن.فيجب علينا أن نبطئ من وتيرة تغير المناخ ونتكيف معه، ونحمي الطبيعة والتنوع البيولوجي ونعمل على إصلاحهما، ونوقف تدهور الأراضي والتصحر، ونقضي على التلوث والنفايات. وإذا ما اضطلعنا بذلك على النحو الصحيح، فسنتمكن من بناء مستقبل يفيد غالبية الناس وليس القلة فحسب، على النحو المنصوص عليه في أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة.

وإختتمت: لذا يجب علينا جميعا، في الدورة السادسة لجمعية الأمم المتحدة للبيئة، أن نسعى جاهدين لإيجاد استراتيجيات جديدة لتنسيق غرف القيادة. دعونا نتعلم من بعضنا البعض ونطبق دروس الماضي على المستقبل. ولنبدأ بالوفاء بالالتزامات العديدة التي من شأنها أن تحافظ على سلامة كوكبنا وتجعل الإنسانية في أتم صحة وعافية.

***

د. كاظم المقدادي

شذرات من خواطر عبد الله العروي لسنة 1968

الحرية أساس النماء والتفوق الذاتي والوطني والجهوي والحضاري. سرعة حركية المعلومة والفكرة العلمية بين الأفراد والجماعات، في سياق مجتمع مؤسساتي مسؤول ومنفتح يضمن ترسيخ الخلاصات في الأذهان، تقوي التماسك بين أفعال وسلوكيات الشعوب والمعارف المتنوعة وتطور التكنولوجيا والعلوم المختلفة. إنها خلاصة أطرحها للنقاش مستحضرا شذرات من كتاب التاريخاني عبد الله العروي "خواطر الصباح، يوميات (1967 – 1973)". فما ترتب عن الثورات الثقافية الغربية في القرنين السابع والثامن عشر، إضافة إلى ما تجسد من وضوح تام في التعاطي مع مفهوم القطيعة المنهجية والإبستمولوجية مع تراث الماضي، أفرز نموذجين حضاريين غربيين متباينين: النموذج الأمريكي والنموذج الأوروبي. لقد رصص الأمريكان الأسس المعرفية والثقافية الضامنة لاستمرارية تفوقهم العالمي في مجمل القطاعات الحيوية. لقد صقلوا التراث الحضاري البريطاني متجاوزين إياه في كل المجالات. التربية والتكوين والتنشئة بالولايات المتحدة الأمريكية تخضع لشروط الجودة العليا وقوة ارتباطاتها بالدرابة اليدوية والمعرفة الثقافية ووفرة الإنتاج المادي والاطلاع الواسع بالقانون وثقافة تدبير الشأن العام. لقد أكدت صفحات التاريخ أن ما ورثته المجتمعات العربية عامة والمجتمع المغربي خاصة من الدول المستعمرة، لم تتحول إلى فرص سانحة لتسريع تحقيق النماء على أساس نجاعة فعل الموارد البشرية والرفع من مستوى تفاعلها مع الطبيعة بإمكانياتها وقواها، وما تستدعيه من كشوفات علمية وتقنية للسيطرة عليها وسبر أغوار أسرارها.

الأمريكيون، يقول العروي (ص 45)، يتكلمون كما يتنفسون (كلام ديمقراطي) وبدون تمتمة الإنجليز المصطنعة (كلام أرستوقراطي). الطلبة الأمريكان غير معتادين على "التصميم". وأضاف أنه ليس مقتنعا بأن الطريقة الكلاسيكية التي يفخر بها الأوروبيون، والتي ورثناها نحن المغاربة المحدثون عن الفرنسيين، هي المثلى. نعم، يبرر العروي، إن "التصميم" يفرض أحكاما مسبقة، وإنه يحد من حرية التفكير. قلما نجد عند الطالب الأوروبي، وبالأحرى العربي، تلك العفوية التي نلمسها عند الأمريكي. كلما ضعف مستوى الحرية، كلما زادت حدة التمتمة في النقاشات والجدالات والمبالغة في "تصميم" الخطابات السياسية والإفراط في النفاق الاجتماعي والثقافي، وكلما توسعت الهوة بين العقلين النظري والعملي ....

وللتعبير على المفارقات السالفة الذكر، قدم العروي ما وقع للطيفة زوجته في أمريكا: "هذا الصباح طرقت لطيفة باب مكتبي وهي في غاية الاضطراب. قالت إنها كانت تقود السيارة في طريقها إلى الجامعة والمطر يتهاطل بغزارة. شعرت أنها اصطدمت بشيء، لكنها لم تعرف ماذا بالضبط. فضلت أن تلحق بي في الحال وتخبرني بالحادث. قالت إنها لا تعتقد أن أحدا رآها إذ بدت لها الطريق فارغة تماما. هدأت روعها وطلبت منها أن تذهب في الحين عند الطبيب ليكشف عن حقيقة حالها. بعد نصف ساعة تقريبا حضر شاب قال إنه طالب في الجامعة وإنه صاحب السيارة. كيف توصل إلي؟ هذه هي لوس أنجلس! هذه هي أمريكا! تظن أنك وحيد في صحراء ثم تكتشف أن كل ما تقوله يسجل وما تفعله يصور. اللافت للانتباه هو أن هذا الطالب الذي لا يتجاوز عمره العشرين سنة كلمني بهدوء ورصانة كما لو كان محاميا محنكا. قال إنه لا يود أن يذهب إلى القضاء إذ لا يليق بطالب أن يقاضي أستاذا رغم أن المخالفة تعد من أخطر المخالفات في أمريكا. وشرع يحكي ما حصل لبعض من غادروا مكان الحادث وكيف أدى بهم ذلك إلى الإفلاس. وأخيرا اقترح علي أن نتفاصل على أساس أن أتحمل تكاليف إصلاح سيارته وتعويضه على مصاريف النقل أثناء عملية الإصلاح. قال هذا وهو مقتنع أنه يحسن إلي".

تعقيبا على هذا الحدث، دعانا العروي أن نقارن بين التربية التي أدت إلى هذا التصرف وتربيتنا نحن إذ نجد الشاب فوق العشرين لا يقدم ولا يؤخر رجلا إلا مصحوبا بأحد أقاربه. وأضاف: "قبل الحماية كان ابن السابعة عشر يغامر لأنه كان يعرف قواعد المجتمع. كانت تربيتنا ملائمة للواقع. ثم جاء الاستعمار فأقصى المغاربة عن المجال العمومي. حاصرهم في بيوتهم أو بيوت الله فأصبحوا كلما تخطوا عتبتها يواجهون عالما غريبا عنهم يجهلون قواعده. هذا هو أصل العجز المتمكن في نفوسنا".

تعبيرا على جودة التعليم الأمريكي، تطرق العروي في نفس الكتاب لطبيعة العلاقة بين المتعلم والأستاذ: " لا يسجل بين قائمة المستمعين إلا من له اهتمام حقيقي بالموضوع. الطالب هناك كالمشاهد في قاعة العرض، أدى ثمن المقعد فينتظر أن يستمع إلى محاضرة شيقة. ينصت، يتفهم، لا يضيع أية دقيقة إذ الدقيقة ثمينة..... الأستاذ في أمريكا يحضر كل يوم عمل إلى مقر الجامعة – الدراسة مكلفة – لا يضيع وقتا يساوي مئات الدولارات. يلح أن يكون الأستاذ تحت اليد كلما احتاج إلى إرشاده (العادة: الأستاذ يترك باب مكتبه مفتوحا)".

الفجوة بين تطور الحضارتين الأمريكية والأوربية تتفاقم. على لسان لطيفة يقول العروي: "لا وجه للمقارنة بين الطبيب الأمريكي والطبيب الفرنسي. لا ينحصر امتياز الأول في جودة التجهيزات بل يتعلق أساسا بالعناية. تتكلم طويلا عن حرارة الدكتور ديغنم وعن برودة واستعلاء فيلي الفرنسي الذي لم يستطع إنقاذ نعمان". الوضعية الصينية والروسية والهندية تحتاج إلى تعميق البحث والتأمل. جهود بناء الحداثة بالمغرب بتراكمات السياسات والبرامج الرامية إلى عصرنة مؤسساته واقتصاده تكتسب يوما بعد يوم شرعية نعتها بالخصوصية مقارنة مع الدول العربية والإفريقية (تنامي القدرة على الندية في العلاقات الدولية). تواكل عدد كبير من الأفراد واعتمادهم على الوساطات في استغلال التسهيلات التي تقدمها التكنولوجيات الحديثة والمعلوميات للاستفادة من الخدمات العمومية والخاصة تثير نوعا من القلق. المواطن يقاوم بشكل لاإرادي عروض تقوية مواطنته، مفضلا المكوث في وضعية الرعاية. عدد كبير من الفاعلين في القطاعين الخاص والعام (إخواننا وأخواتنا وأصدقاؤنا وأقربائنا ...) يقاومون إرادة التغيير لما يجنون من وضعية الجمود من منافع غير مشروعة. الآليات التكنولوجية والمنظومات المعلوماتية أوعية زاخرة بمقومات الحداثة ودعامات تقوية المواطنة في التعبيرات السلوكية للمواطن. المغرب يحتاج إلى ناخبين من نوع جديد لخلق المنطق التنموي المطلوب لإنتاج النخب على أساس الكفاءة والنجاعة والشفافية.

علينا اليوم، كمغاربة، أن نصرخ بكل ما نملك من قوة في فضاء الغربان التي تنعق فوق رؤوسنا متوقعين نهايتنا. علينا أن نردد على مسامعهم: نحن ذوات لا تحتضر، عزائمنا تتجدد، فلا تنتظرون رحيلنا عن تراب وطننا أو التفريط ولو بشبر من ترابه. الآفاق المغربية واعدة وعلى المغاربة طلب الكلمة.

***

الحسين بوخرطة

"أيّها الأثينيّون لقد حكمتم عليّ بالإعدام وهذا لا يحزنني بل يُسعدني لأنني انتصرت على أعدائي. أفضل أن أموت حراً على أن أعيش عبداً...". سقراط

1- مقدمة:

يعد سقراط (469-399) مَعْلماَ في تاريخ الفلسفة بعامة والحكمة الفلسفية في اليونان بخاصة. ويعد واحدا من أكبر أساطنة الفلسفة القديمة في بلاد الإغريق القديمة. ولد سقراط في أثينا حوالي 470 ق.م من أب يحترف مهنة النحت ومن أم تمتهن حكمة النساء (مولدة للنساء). عمل في البداية في مهنة النحت ثم تركها ليشتغل في الحكمة والفلسفة (1).

يقول آدير إنه عندما كان سقراط في أواسط عمره كان يمتلك بين كتفيه رأساً كرأس الإله الأسطوري ساتير ذي الذيل الطويل وأذني الفرس (إشارة إلى العظمة والنبوغ)، ويقال إن أنفه كان أفطس، فيه فتحتان شديدتا الاتساع، وله عينان متقدتان كعيني الحدأة، وشفتان غليظتان، وكان كرشه ضخما يهتز أمامه عند المسير. ولم يكن سقراط من طراز الناس المتبجحين الذين تستهويهم المظاهر، فلقد كان يرتدي ثيابا بسيطة، وينتعل في العادة حذاء قديما عفا عليه الزمن.

كان سقراط كما يبين آدير قبيح المنظر، قصير بدين دميم، بارز العينين كبير الأنف في قبح، واسع الفم بالي الثياب، ولكن الله أراد لهذا الجسد أن يكون مسكنا لعقل إنساني متفرد وروح ذكية قوية جميلة. فلم يكن يضاهي قبح جسده إلا جمال نفسه ورجاحة عقله وقوة شكيمته وصدق أخلاقه ونبل شجاعته. ومع كل ما منحه الله لسقراط من ذكاء وعبقرية إلا أنه كان يعلن أنه لا يعرف شيئا وأنه ليس حكيما ولكنه فيلسوف محب للحكمة فكثيرا ما قال: "أنا أعرف شيئا واحدا وهو أنني لا أعرف شيئا " (2).

وقد عرف عن سقراط ولعه الشديد بالحوار فكان يجوب طرقات المدينة ويغشى ساحاتها في طلب الحوار والجدل مع العامة والخاصة من الناس لا يوفر أحدا البتة. وكان في حواره هذا يبز جميع خصومه من مفكرين وعلماء وحكماء وسوفسطائيين حتى ذاع صيته وطبق الآفاق. وقد ألب على نفسه الطبقة العليا في أثينا لأنه كانت يمقت هذه الطبقة ويحتقرها لما تجره على الشعب من ظلم وقهر وويلات. واستطاع خصومه من المفكرين والسياسيين أن يوجهوا إليه تهما عديدة باطلة أهمها: أنه يكفر بآلهة المدينة ويدعو إلى آلهة جديدة ويفسد عقول الناشئة والشباب.

وكان رهط من تلاميذ سقراط يلتفون حوله ويلازمونه وكأنهم ظلاله، ومن أشهرهم أفلاطون وزينوفون، مفتتنين بذكاء المعلم ومأسورين بشخصيته الكاريزمية المؤثرة وذكائه المفرط. وأصبح يطلق على هذه الجماعة التي استسلمت طواعية لسحر شخصية سقراط اسم "السقراطيون"، وكان من أهمهم أفلاطون الذي قال في سقراط، بعد أن بلغ في فكره الفلسفي شأوا كبيرا: "من بين كل الرجال الذين قابلتهم في حياتي، كان سقراط الأكثر حكمة واستقامة".

كان سقراط تاعسا مع زوجته، ويقال إنه شاهد امرأة تحمل نارا فقال نار تحمل نارا والحامل شر من المحمول ". وكان كسولا لا يصلح لشيء في نظرها، وقد أهمل زوجته وأولاده أيضا ولم يستطع أن يوفر لهم الكريمة. ومن الصعب معرفة الطريقة التي كان يحصل فيها سقراط حياته، فهو لم يعمل في حياته في مهنة ولم يتقاض أجراً على التعليم الذي كان يقوم به، وكان يأكل عندما يدعوه تلامذته لتناول الطعام على موائدهم.

وكان سقراط بطلا محاربا شجاعا تشهد المعارك التي خاضها على بسالته وشجاعته وحسن تدبيره. وقد عرض نفسه مرارا عديدة للخطر وأنقذ حياة القائد الأثيني " السيبيادس" في المعاركة بعد أن اخترق صفوف الأعداء الداخلية (3 ).

وقد قدم سقراط إلى المحاكمة بتهمة الإلحاد وإفساد عقول الشباب ، ورفض سقراط أن يلتمس عفوا من المحكمة التي أدانته بالإعدام وشرب سم الشكران. وكان سقراط يستطيع أن يحصل على البراءة ولكنه سخر من قضاته وسفههم كما أنه كان يستطيع الهرب من سجنه بمساعدة تلامذته ولكنه رفض كل ذلك وقام بإعدام نفسه على خلاف العادة إذ هو من طلب السم وتجرع كأسه حتى آخر قطرة منه ومات وهو يبتسم بين تلامذته وأصدقائه الذين كانوا يجهشون ببكاء مرير على أستاذهم الكبير. ويعدّ سقراط أول شهيد للعقل والفلسفة في تاريخ الإنسانية ولذلك أطلق عليه شهيد العقل وأطلق على إعدامه " مقتل العقل " وقد أدينت ديمقراطية أثينا تاريخيا بإقدامها على هذه الجريمة الكبرى بحق الفلسفة. ونال سقراط بمقتله خلودا فكريا وفلسفيا ينقطع نظيره. فالطريقة التي أعدم بها جعلته بالإضافة إلى ما هو عليه أشبه بأسطورة للفلسفة والعقل والذكاء والحكمة. " هكذا مات سقراط وحفر موته إلى البد في ذاكرة الأجيال ذكرى شخصيته المدهشة "(4).

ويعود الفضل لسقراط في القضاء على الحركة السوفسطائية، وتحرير الوعي اليوناني من الإرباك والتشويش والاضطراب في الرؤية الذي نشرته تلك الحركة. وقد افتتح سقراط بفلسفته مرحلة جديدة في ازدهار الفلسفة اليونانية، ومهّد لتلميذه أفلاطون تطوير هذه الفلسفة إلى آفاق جديدة، انتهت إلى ذروتها على يد تلميذ الأخير أرسطو.

2- سقراط فيلسوفا:

اقر سقراط المبدأ السوفسطائي بأن " الإنسان مقياس الأشياء" وما دام الأمر كذلك فيتوجب على الإنسان أن يعرف نفسه وعلى هذا الأساس أطلق سقراط شعاره المشهور "أيها الإنسان اعرف نفسك" وهو الشعار الذي نجده مدونا على معبد دلفي المشهور. وفي هذا الأمر يقول شيشرون بأن سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض وحول النظر عن البحث في الطبيعة إلى البحث في الإنسان نفسه" وهكذا اتجهت الحكمة السقراطية للبحث في ماهية الإنسان بدلا من البحث في مظاهر الحياة الإنسانية.

كان بروتاغوراس زعيم السوفسطائيين يرى بأن المعرفة تتكون من إحساسات أما سقراط فعلى خلاف ذلك كان يعتقد بأن المعرفة تتكون من إدراكات كلية أي من أفكار ومعان صحيحة يقرها الناموس الكوني في الإنسان ، ورفض أن تكون المعرفة خاضعة لمجرد إحساسات فردية مختلفة لا يحكمها قانون ولا ينظمها كيان معرفي محدد وواضح. ومن هذا المنطلق فإن سقراط يرى أن المعرفة كامنة في النفس كمون النار في الحجر وأن هذه المعرفة كلية شمولية تحكمها قوانين ونواميس عامة لا تغاير فيه بين البشر. وهذا يعني أنه يرفض هذه النسبية المطلقة التي يبحثها ويقرها السوفسطائيون ويقر بوجود حقائق كونية ثابتة تسجل حضورها في كل زمان ومكان.

لقد رفض سقراط البيان السفسطائي الذي يعتمد على محاججات لفظية قوامها التلاعب بالألفاظ والكلمات وتشويه الحقائق. وعمل على بناء المفاهيم العلمية التي تنتظم في أنواع وأجناس وعمل على تحديد هذه المفاهيم تحديدا يمتنع عليه الخلط والتداخل مع بعضها البعض وذلك من أجل بناء الحقيقية التي تمتنع على التزييف والتحريف والدجل السفسطائي المعروف

ومن جهة أخرى أقر سقراط مبدأ توأمة المعرفة والفضيلة فالفضيلة معرفة وكذلك المعرفة فضيلة بذاتها. فالمعرفة هي التي توجه الإنسان إلى الفضيلة ومن غير المعرفة تصبح الفضيلة فعلا بهيميا لا قيمة أخلاقية فيها. فالمعرفة هي التي تكسب الفعل الإنساني خاصته الأخلاقية ومن غير معرفة يستحيل أن نتحدث عن فضيلة أخلاقية(5 ).

أراد سقراط أن يصلح ما أفسده السوفسطائيون وأن يعيد إلى العقل ثقته بالحقيقية والفضيلة. فالسوفسطائيون كانوا يرون بأن النفس شهوة وهوى أما سقراط وعلى خلاف ذلك كان يرى أن الإنسان روح وعقل يسيطر على الحس ويعقله. وبالتالي فإن الإنسان بوصفه كينونة عاقلة يبحث عن الخير والفضيلة ويستلهمهما وهو وفقا لهذه الطبيعة العاقلة يرفض الرذيلة والخطيئة. فالجهل بذاته يولد الخطيئة والرزيلة أما المعرفة الحقة فهي التي تولد فينا حي الخير والسعي إليه.

فالقوانين كما يراها سقراط عادلة؛ لأنها صادرة عن العقل، ومطابقة للطبيعة الحقة، وان ما في العقل من القوانين هي صورة لقوانين إلهية غير مكتوبة بل مرسومة في قلوب البشر، فمن يحترم القوانين كما يحترم العقل والنظام الإلهي. والإنسان يريد الخير دائماً ويرفض الشر. وعنده أن الفضيلة علم، والرذيلة جهل، أما الدين فهو تكريم الضمير النقي للعدالة الإلهية.

آمن سقراط بالخلود، وان النفس متمايزة عن الجسد، ولا تفسد بفساده، بل إنها تخلص منه بالموت، لأنه سجن لها، وتعود بعد ذلك إلى طبيعتها الصافية. لقد أحدث سقراط تأثيراً هائلاً في الحياة العقلية عند أهل أثينا، مما أدى الى حنق بعضهم عليه، فلفقوا له اتهاما بإنكار الآلهة الشعبية، وإفساد عقول الشباب، فَحُكِمَ عليه سنة 399 ق.م بتجرع السم، وقضى بعد أن تجرع سم الشوكران.

ولم يسجل سقراط تعاليمه في كتب أو مصنفات أو مذكرات. بل كان يحاور الناس في الطرقات وفي المحافل العامة وفي كل مكان يمكن أن يجتمع فيه الناس. وكان السؤال لديه فنا ومحاورة ومنهجا.

3- منهج سقراط أو الحوار السقراطي:

ما قدمه سقراط للإنسانية يتمثل في عبقرية المنهج وفي فن الحوار الفلسفي. فإليه يعود الأصل في منهج التفكير المنظم الحكيم الذي يولد الحقائق ويفجر المعرفة في عقل الإنسان. ويأخذ منهج الحوار الفلسفي عند سقراط مرحلتين متكاملتين تقتضي إحداهما الأخرى في عملية توليد المعرفة وتفجير ينابيعها. ويطبق على المرحلتين مرحلتا التهكم والتوليد. وقد قيل عن منهجه بأنه منهج الثعلب وفن الوصول إلى الحقيقية باكتشاف التناقضات في قول الخصم.

أولا: مرحلة التهكم:

تتمثل هذه المرحلة في فن التساؤل السقراطي وعبقرية الكشف عن التناقض في قول الخصم. ويطلق على هذه المرحلة بمرحلة المخاض التي تسبق وتمهد لمرحلة التوليد، في هذه المرحلة يطرح سقراط أسئلة عدة على مخاصمه متصنعا الجهل بها، ويتظاهر بتسليم ما يتضمنه قول محدثيه، ثم يلقي الأسئلة تباعا وهي أسئلة تجترح نفسها من مواطن التناقض والضعف في قول الخصم. وهو في هذه العملية ينتقل من قول إلى سؤال لازم منه ومن فكرة إلى فكرة أخرى حيث يدفع الخصم إلى تيهٍ من المعلومات المتضاربة المتناقضة فيوقع خصومه في التناقض والحيرة والدهشة والإحساس بالضعف والجهل والضياع وعدم القدرة على تنظيم الأفكار وتحقيق التساوق والانسجام بين جوانب القول والتفكير. وعندها تأتي اللحظة التي يعترف فيها الخصم بضعفه وجهله وعدم قدرته على امتلاك الحقيقية هذه التي يبحث عنها سقراط ويولدها. وتهدف هذه المرحلة إلى تحرير العقل من المعرفة السوفسطائية الناقصة وهي ما يطلق عليه العلم الزائف، ومن ثم إعدادها لقبول الحقيقية.

ثانيا: مرحلة التوليد:

المرحلة الأولى ن مرحلة التهكم، إعداد وتهيئة لمرحلة التوليد، وقد أطلق على المرحلة الأولى مرحلة المخاض التي تصيب المرأة بالإعياء والوهن أثناء الولادة حيث تسلم نفسها للداية لتساعدها في عملية الإنجاب. وفي مستوى المنهج فإن الخصم يصاب بحالة من الوهن والإعياء ويقر بضعفه وزيف معرفته. وعند ذلك يتدخل المعلم الحكيم سقراط ليعيد له تصنيف الحقائق وترتيبها وتوليدها في أعماق الخصم فيكشف له عم طبيعة التناقضات التي وقع فيها ثم يحررها من هذا التناقض ويعيد صقلها من جديد لتخرج في حلة معرفية جديدة سقط منها صدأ التناقض وزيف المعرفة. وباختصار في هذه المرحلة يساعد سقراط خصمه على التبصر والنظر والكشف وامتلاك الحقيقية ناصية الحقيقية وهذه هي مرحلة توليد الحقائق. فالتوليد هو استخراج الحق من النفس وكان سقراط يقول في تثمين هذا المنهج أنه كان يمارس مهنة أمه وكانت قابلة (مولدة النساء) ولكنه يولد الحقائق الكامنة في عقول الرجال.

4- التربية عند سقراط:

وهب سقراط التربية منهجا في العمل والتفكير والتكوين. وفي منهجه هذا يعلمنا كيف تصنع الحقائق وكيف ترتسم القيم وكيف تتفجر المعرفة في عقول الأطفال والناشئة عبر الحوار التربوي. وليس غريبا أبدا أن يكون منهج سقراط أحد أركان التربية الحديثة وقد أطلق عليه المنهج الحواري التوليدي أو المنهج السقراطي الذي يعتمد في تحرير عقول الأطفال من دائرة الجمود التي تفرضها المناهج التقليدية التي تعتمد على التلقين والاستظهار والجمود في تكوين العقل. وليس غريبا أيضا أن نجد مفكرا ثائرا مثل باولو فرايري ينادي بهذا المنهج السقراطي في كتابه المشهور " تعليم المقهورين ". اهتم سقراط بالتربية وكان مربيا بمنهجه وتعاليمه وحواره ودعوته إلى الفضيلة.

لقد أثر سقراط في التربية تأثيرا شمل المضمون والطريقة:

1- لقد أعطى سقراط للتربية مضمونها الأخلاقي وربط بشكل جوهري بين المعرفة والفضيلة. كما أنه أكد على هذه المعرفة التي تتوغل في أعماق الإنسان بدعوته التي لا تنقطع للبحث في النفس ومعرفة النفس بوصفها أشرف المعارف واسماها.

2- أما فيما يتعلق بالمنهج فإن المنهج العقلي الذي قدمه سقراط للإنسانية منهج تربوي بمعالمه وخطواته وغاياته. فهو المنهج الذي ينمي العقل ويفجر المعرفة ويسقط عن العقل صدأ الجمود ويحرر العقل من الترويض والوقوع في مصائد الجمود والتلقين.

3- كان سقراط يعتقد أن الأهداف الحقيقية للتربية تكون في تنمية عقل الفرد وصقل قواه العقلية وتمكينه من التفكير منهجيا في مختلف جوانب الحياة المعرفية من أجل الوصول إلى الحقائق اليقينية.

ومما لا شك فيه أن منهج سقراط والأهداف التي يعلنها ما تزال حتى اليوم غاية تنشدها التربية الحديثة التي ما زالت تعاني وتعاني من الطرائق التربوي الجامدة الساكنة التي تميت العقل بدلا من أن تحييه وتسطح المعرفة بدلا من أن تجعلها أكثر عمقا.

ومهما قيل في فضل سقراط على التربية وعلى الفلسفة فإن القول لن يفيه حقه. ويكفيه أنه أنجب للإنسانية عقلا فريداً فذاً عبقريا خالداً وهو عقل تلميذه الخالد أفلاطون مؤسس التربية المثالية. ويكفي سقراط فخرا أنه كان أول من رفع الشعار الفلسفي " أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك" فدعا إلى عمق المعرفة الذي يتمثل في النفس الإنسانية، ويكفيه أنه أول من أعطى للمعرفة طابعا أخلاقيا، ويكفيه أيضا أنه حرر العقل الإنساني من أباطيل النسبية التي أسس لها السوفسطائيون. وفوق ذلك كله يكفيه أنه أول من سطر منهجا عقليا فلسفيا يتسم بالقدرة على بناء المعرفة وتطويرها.

5- خاتمة:

معظم النظريات تأفل مع الزمن وأكثرها يذوب في ثناياه، ولكن بعضها يومض ويزداد توهجا مع استطالات الأيام وتعاقب الأزمان. وها هو سقراط بفلسفته وشموخه الأخلاقي وعبقريته الفلسفية يتوهج دائما في كل عصر ويكبر مع الأيام ويزداد ومضا في كل الأزمان. ولا ريب أنه الفيلسوف الذي فجر ينابيع المعرفة معلما ومربيا وفيلسوفا وحكيما. وها هو ما زال ملهما للفكر ومنبراً للهداية في التربية ومرجعا فريدا في الأخلاق الإنسانية.

وها نحن اليوم ما زلنا نقف في القاعات وفي المدارج نستلهم منهجه الحواري الذي بقي المنجم التربوي العظيم الذي لا ينقطع مداده في التربية والتعليم، وها نحن نقول أيضا أن كل تربية لا تنهج منهجا سقراطيا محكوم عليها بالإخفاق والعدم. ومهما قيل في سقراط سيبقى بفلسفته وسيرته معْلماً أخلاقياً وصرحاً فكريا فلسفياً يندر مثيله في التاريخ الإنساني. ويطيب لنا في هذه الوقفة الاختتامية أن نقف مع الأبيات الخالدة لشاعر الكبير أحمد شوقي الذي ألمح إلى عظمة سقراط في تناوله كأس المنية دفاعا عن الشرف والكرامة والحقيقية:

قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا

كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا

*

أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي

يبني وينشئُ أنفـساً وعقولا

*

سـبحانكَ اللهمَّ خـيرَ معـلّمٍ

علَّمتَ بالقلمِ القـرونَ الأولى

*

أخرجـتَ هذا العقلَ من ظلماتهِ

وهديتَهُ النـورَ المبينَ سـبيلا

*

سقراط أعطى الكـأس وهي منيّةٌ

شفتي مُحِبٍّ يشتهي التقبيـلا

*

عرضوا الحيـاةَ عليه وهي غباوة

فأبى وآثَرَ أن يَمُوتَ نبيـلا

*

إنَّ الشجاعةَ في القلوبِ كثيرةٌ

ووجدتُ شجعانَ العقولِ قليلا

*

وإذا أصيـبَ القومُ في أخلاقِـهمْ

فأقـمْ عليهـم مأتماً وعـويلا

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية - جامعة الكويت

.......................

هوامش المقالة ومراجعها:

1- أحمد أمين، وزكي نجيب محمود، قصة الفلسفة اليونانية، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1935، ص105.

2- أحمد أمين، وزكي نجيب محمود، قصة الفلسفة اليونانية، مرجع سابق، ص107.

3- ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، مكتبة العارف، بيروت، 1985، ص 11.

4- ثيوكاريس كيسيدس، سقراط مسألة الجدل، الفارابي، ترجمة طلال السهيل، 2001، ص 249.

5- لمزيد من التفاصيل حول سقراط انظر: فرانسيس ولف،سقراط، ترجمة منصور القاضي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 2002.

 

بقلم: توماس إم ورد

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

أصبح اسمه الآن مرادفًا للأحمق، إلا أن دليله على وجود الله كان صارما للغاية  في العصور الوسطى.

لست كبيرًا بما يكفي لأتذكر قبعات الأغبياء، لكنني أتذكر رسمًا توضيحيًا تربويًا لصبي حزين يجلس في زاوية الفصل الدراسي يرتدي قبعة مدببة بينما ينظر زملاؤه بسعادة إلى معلمته. أوضح لي أستاذي أن القبعة المدببة كانت تسمى قبعة الغبى وكانت تستخدم في العصور القديمة لإذلال ومعاقبة الحمقى، أي الطلاب الذين لا يستطيعون أو لا يريدون تعلم دروسهم. وكان الدرس الذي تعلمناه واضحا: ربما لم يعد لدينا قبعات مدببة، ولكن الحزن والنبذ وحدهما ينتظران الأطفال الذين يكون أداؤهم سيئا في المدرسة.

ومن المفارقات أن جون دونز سكوت (حوالي 1265-1308)، الذي سُمي على اسمه، كان أداؤه جيدًا جدًا في المدرسة، مما أثار إعجاب زملائه الفرنسيسكان في أكسفورد كثيرًا لدرجة أنهم أرسلوه إلى جامعة باريس. أكسبه تألقه في باريس في النهاية منصبًا مؤقتًا ولكن مرموقًا وهو منصب الوصي على ماجستير اللاهوت. كانت كتاباته، على الرغم من صعوبتها، مؤثرة بشكل كبير في الفلسفة واللاهوت الغربيين، لدرجة أن الجامعات في جميع أنحاء أوروبا أنشأت كراسي للفكر الاسكتلندي جنبًا إلى جنب مع كراسي مخصصة للتوماوية. في القرن التاسع عشر، أعلن الشاعر اليسوعي جيرارد مانلي هوبكنز أن سكوت هو "أكثر من يحرك معنوياتي نحو السلام"، وفي منتصف القرن العشرين، استطاع الراهب الشهير توماس ميرتون أن يقول إن دليل دونز سكوت على وجود الله هو أفضل ما تم تقديمه على الإطلاق.

على الرغم من هذا الإرث المرموق، في وقت مبكر من القرن السادس عشر، كان الإنجليز المتعلمون يستخدمون كلمة "Duns" كمصطلح للإساءة. في عام 1587، كتب المؤرخ الإنجليزي رافائيل هولينشيد أنه "لقد أصبح مثلًا شائعًا في السخرية أن نطلق على شخص دونس الذي لا معنى له أو لا يعرف شيئًا، وهو ما يكاد يكون أحمق".يشرح جون ليلي في كتابه Euphues: تشريح الذكاء (1578): " ربما يكون الازدراء الإنساني للأساليب والأسلوب المدرسي - الذي تُقرأ عنه نصوص سكوت الملتوية أحيانًا وكأنها محاكاة ساخرة - تفسيرًا مناسبًا للربطد المؤسف بين "الأحمق" و"المجتهد" في "دونز". يجب أن يكون الإنسان أحمقًا ليضيع وقته في قراءة جون دونز سكوتس!

قطعة من كتاب الجمل الثاني (1475-1500) بقلم جون دونز سكوت بإذن من BnF، باريس.

ويظل سكوت شخصية مستقطبة، ولكن منتقديه من ذوي التوجهات الإنسانية سوف يشعرون بالرعب عندما يعلمون أننا هنا، في القرن الحادي والعشرين، نشهد إحياء سكوت. مرة أخرى، يأخذ الفلاسفة واللاهوتيون والمؤرخون الفكريون سكوت على محمل الجد، أحيانًا بروح الإعجاب وأحيانًا بسخرية عاطفية، ولكن على الرغم من ذلك، على محمل الجد. مما لا شك فيه أن هذا يرجع إلى حد ما  إلى التقدم الذي أحرزته اللجنة الاسكتلندية الدولية، التي أكملت في السنوات الأخيرة إصدارات نقدية لاثنين من أعمال سكوت الضخمة في اللاهوت الفلسفي: Ordinatio وLectura. نظرًا لأن هذه الأعمال وغيرها أصبحت متاحة بشكل أكبر، فقد ازدهرت المنح الدراسية لسكوتس. ووفقاً للباحث في سكوتس توبياس هوفمان، فإن 20 في المائة من جميع منحة سكوتس الدراسية التي تم إنتاجها على مدى السنوات السبعين الماضية تم إنتاجها في السنوات السبع الماضية. يوفر هذا الاهتمام المتزايد بسكوتس فرصة جيدة مثل أي مناسبة أخرى لتقديم هذا المفكر اللامع والغامض إلى جمهور جديد.

قد تبدو بعض اهتمامات سكوت اللاهوتية للوهلة الأولى غير ذات صلة للقراء العلمانيين، ولكن بالنسبة لسكوت كان اللاهوت موضوعًا في حد ذاته وسياقًا للانخراط في نشاط فلسفي مميز: من مشكلة الكليات إلى مشكلة العالميات. على أسس السلطة الأخلاقية، من العلاقة بين العقل والجسد إلى العلاقات بين العقل والكلمة والعالم، ومن وضوح اللغة الدينية إلى الأدلة العقلانية على وجود الله،لدى سكوت شيء مثير للاهتمام ليقوله في معظم المجالات الفرعية الرئيسية للفلسفة المعاصرة.

ولسوء الحظ، ليس هناك الكثير مما يمكن أن نقوله عن حياته. من المحتمل أنه وُلد في بلدة دونز في اسكتلندا، عام 1265 أو 1266. انخرط في الحركة الفرنسيسكانية عندما كان طفلاً، وأرسله رؤساؤه الفرنسيسكان إلى دار دراستهم في أكسفورد، ربما حوالي عام 1280. هناك درس الفنون الحرة ومرت لدراسة اللاهوت. ورسم كاهناً سنة 1291.

بحلول أوائل تسعينيات القرن التاسع عشر، كان قد اتخذ خطواته الأولى باعتباره لاهوتيًا محترفًا، حيث ألقى محاضرة في أكسفورد حول أحكام بيتر لومبارد، وهو كتاب دراسي قياسي في اللاهوت كان بمثابة المنهج الفعلي لدورات اللاهوت في جامعتي أكسفورد وباريس طوال القرنين الثالث عشر والرابع عشر. لكنه بدأ أيضًا ما كان بمثابة اهتمام جانبي مدى الحياة بالكتابة عن أرسطو، وأنتج تعليقات على معظم الأعمال المنطقية، وعلى الأقل بدأ تعليقات على الروح والميتافيزيقا، والتي أنهىها لاحقًا في باريس.

من غير المعروف سبب إرسال سكوت إلى هناك. ومن غير المعروف أيضًا سبب وفاته المفاجئة.

واصل إلقاء المحاضرات عن الجمل بعد انتقاله إلى باريس في وقت ما قبل بدء العام الدراسي عام 1302. وتشكل النسخ المنشورة من هذه المحاضرات الجزء الأكبر من إنتاجه الأدبي. لدينا ثلاث إصدارات مختلفة: القراءة الأولى، المكتملة والمنشورة في أكسفورد؛Ordinatio الأوسط، بدأ في أكسفورد؛ والتقارير اللاحقة، وهي مجموعة متنوعة من تقارير الطلاب عن محاضرات سكوت. ومن بين هذه الكتب، يعد كتاب Ordinatio هو الأكثر صقلًا وهو الأقرب إلى التعليق الكامل الذي كتبه سكوت على الجمل - كلمة "ordinatio" نفسها تعني تقريبًا "تم تحريرها بعناية".

في عام 1303 تم نفيه مؤقتًا من باريس لدعمه البابا بونيفاس الثامن على الملك فيليب الرابع في نزاعهما حول فرض الضرائب على ممتلكات الكنيسة. ليس من المعروف ما فعله سكوت خلال هذا المنفى، ولكن من المحتمل أنه عاد إلى أكسفورد وربما أمضى جزءًا من الوقت على الأقل في إلقاء المحاضرات في كامبريدج. وبعد عام، تمكن من العودة إلى باريس، حيث حصل أخيرًا في عام 1305 على درجة الدكتوراه في اللاهوت وترأس لمدة عامين منصب الوصي على درجة الماجستير في اللاهوت. خلال فترة وصايته، ترأس سكوت "النقاش الدائر"، وهو حدث أكاديمي رسمي حيث يمكن للجمهور طرح أسئلة على المعلم حول أي موضوع. نشر سكوت لاحقًا مجموعة من أسئلة النقاش بناءً على هذا الجدل.

في عام 1307، غادر سكوت باريس وتولى منصبًا أقل شهرة بكثير كمحاضر في بيت الدراسات الفرنسيسكانية في كولونيا. سيكون للمحاضر في مثل هذا البيت مسؤولية التدريس الأساسية للرهبان المقيمين في ذلك البيت. بالمقارنة مع البيت الفرنسيسكاني في باريس، ناهيك عن جامعة باريس، كان البيت الفرنسيسكاني في كولونيا بمثابة منطقة راكدة. من غير المعروف سبب إرسال سكوتس إلى هناك. ومن غير المعروف أيضًا سبب وفاته المفاجئة عام 1308، أي بعد حوالي عام من وصوله إلى كولونيا.

من المخيب للآمال بالطبع أن يكون لدينا القليل من المعلومات حول حياة سكوت. ومع ذلك، يوجد في هذا النقص درس حول الهدف الحقيقي لحياة سكوت. لا نعرف سبب إرساله إلى كولونيا في ذروة نجاحه في باريس، لكننا نعلم أنه من الفرنسيسكاني جدًا تجنب الثناء الدنيوي. كان سكوت، على أية حال، راهباً فرنسيسكانياً، والنظام الديني الذي أسسه القديس فرانسيس يسمى رسمياً نظام إخوة فرانسيس الصغار، كدليل على الفقر والتواضع اللذين كانوا يطمحون إليهما. من السهل أن نتخيل قبول سكوت الفرنسيسكاني طوعًا لوظيفة في كولونيا من شأنها أن تمنحه وقتًا أقل للكتابة، وفرصة أقل لإبهار أقرانه المؤثرين في النزاعات الفلسفية، وبالتالي شهرة ومكانة أقل مما كان سيحصل عليه لو بقي في المدينة. باريس.

ونظرًا لدعوته كراهب وكاهن فرنسيسكاني، فليس من المستغرب أن يكون وجود الله وطبيعته وكيف ينبغي لنا أن نعيش في نور الله هما الموضوعان الرئيسيان (ولكن ليس فقط) في عمل سكوت الفلسفي. ولكن سيكون من الخطأ النظر إلى جهود سكوت الفلسفية على أنها محاولات لترشيد العقائد الراسخة مسبقًا - وهذا سيكون غير عادل لسكوت، نظرًا للمعايير الجدلية العالية للغاية التي وضعها لنفسه.

لقد كان واثقًا من أننا نستطيع معرفة وجود الله من خلال عمل العقل الطبيعي دون مساعدة.

إحدى العقائد التي اعتقد أن الفلسفة يمكن أن تثبتها هي وجود الله. بصفته لاهوتيًا كاثوليكيًا،آمن إيمانا راسخا بوجود الله، لكنه اعتقد أيضًا أن الفلسفة، أو العقل الطبيعي، يمكن أن تثبت أن هناك طبيعة عليا هي السبب الأول لكل شيء آخر، وهي الغاية النهائية التي من أجلها يوجد كل شيء. وهو أفضل كائن ممكن. علاوة على ذلك، فإن هذه الطبيعة العليا لها عقل وإرادة، وكذلك شخصية، ولها كل الصفات الإلهية التقليدية مثل الحكمة والعدالة والحب والقوة. باختصار، يعتقد سكوت أن الفلسفة، دون مساعدة اللاهوت، يمكنها إثبات وجود الله.

قضيته مفصلة، وقد شرحت فيما يزيد عن 30 ألف كلمة في كتابه Tractatus de primo Principio - وهو عمل قمت بترجمته مؤخرًا وكتبت تعليقًا عليه (سيصدر هذا العام مع شركة Hackett Publishing Company) -تمرين موهوب بأسلوب مدرسي للغاية. إنها تطور نوعًا من الحجج الهجينة، متأثرة بكل من   الحجج "الكونية" الأرسطية-التوماوية التي تقترب من الله من البنية السببية للعالم، والحجج "الوجودية" الأنسلمية التي تحاول إثبات وجود الله الفعلي من خلال السمات المميزة لفكرة الله. ويعده المتخصصون على نطاق واسع بمثابة الجهد الأكثر صرامة لإثبات وجود الله في فترة العصور الوسطى.

ولكن في حين كان سكوت واثقًا من أننا نستطيع معرفة وجود الله والعديد من الصفات الإلهية من خلال العمل دون مساعدة من العقل الطبيعي، فإنه لم يعتقد أننا نستطيع بهذه الطريقة معرفة كل ما يمكن معرفته عن الله. كمسيحي، كان سكوت يعتقد أن الله هو "ثالوث" من الأقانيم الإلهية - ثلاثة أقانيم يشتركون في الطبيعة الإلهية الواحدة. لكنه لم يعتقد أننا يمكن أن نعرف هذه الحقيقة عن الله بمعزل عن الوحي الإلهي. لقد قام بتوسيع هذا التواضع الفكري ليشمل عقائد مسيحية أخرى معروفة، مثل قيامة الموتى: لقد اعتقد أن الفلسفة يمكن أن تظهر أنه من المحتمل أن يكون لدى البشر أرواح خالدة، ولكن هذا الإيمان بقيامة الموتى (وبالتالي إعادة توحيد البشر) (أرواح في أجساد) هو شيء يؤمن به الإيمان، لا يتعارض مع العقل ولكن لا يمكن اكتشافه عن طريق العقل.

وبينما اعتقد سكوت أن بعض التزاماته الدينية لا يمكن إثباتها بالعقل، فإنه لم يعتقد أن التزاماته الدينية تتعارض مع أي شيء يمكن أن يثبت العقل صحته. وفي هذا الصدد، يعد سكوت وريثًا لتقليد طويل من الفكر المسيحي الذي يؤكد الانسجام بين الإيمان والعقل. هنا يتفق سكوت مع توما الأكويني: كلاهما يعتقد أن وجود الله يمكن إثباته، لكن كون الله ثالوثًا لا يمكن إثباته.

ومع ذلك، لم يكن سكوت والأكويني متفقين في كل الموضوعات. أحد الاختلافات الأكثر شهرة بين هذين المفكرين العظماين في العصور الوسطى يتعلق بآرائهما حول كيفية عمل كلماتنا ومفاهيمنا عندما نحاول التفكير والتحدث عن الله. يعتقد كل منهما أن فكرنا ولغتنا يتطوران من تجربتنا للعالم من حولنا. وقد أدرك كل منهما أن الله ليس من بين هذه الأشياء المألوفة التي يتم اختبارها. لذا، بالنسبة لكلا المفكرين، من المهم بنفس القدر تقديم نوع من النظرية حول كيفية تفكيرنا والتحدث بشكل متماسك وهادف عن الله باستخدام مفاهيم وكلمات مصممة خصيصًا لأشياء محدودة ومعقولة. تبنى الأكويني وجهة النظر القائلة بأن مفاهيمنا وكلماتنا، عند تطبيقها على الله، لها معنى مماثل فقط. على سبيل المثال، "الحكمة" عند تطبيقها على الله لا ترتبط إلا بالقياس مع "الحكمة" عند تطبيقها على مخلوق، مثل سقراط.

قدم سكوت نظرية مختلفة قليلاً. لقد جادل بأن بعض كلماتنا ومفاهيمنا على الأقل لها نفس المعنى تمامًا عند تطبيقها على الله كما هو الحال عند تطبيقها على المخلوقات - فهي "أحادية اللفظ" (نفس المعنى)، وليست مجرد متشابهة. "الوجود" في حد ذاته هو أهم هذه المفاهيم والمصطلحات الأحادية. يعتقد سكوت أنه عندما نقول “الله موجود” و”سقراط موجود”، فإن كلمة “الوجود” لها نفس المعنى تمامًا في أحدهما كما في الآخر.

يؤكد كوتس أن هذه هي بالضبط الفجوة التي تفصل بين المخلوقات والله.

بالنسبة للبعض، يعتبر هذا الرأي مذهلا، بل ومخزيا. يعتقد الكتاب المؤثرون مثل عاموس فونكنشتاين وجون ميلبانك أن عقيدة سكوت في الوحدة أحدثت تغييرات هائلة في المجتمع الغربي.

في كتابه الإصلاح غير المقصود (2012)، يجادل براد جريجوري بأن الوحدة أدت إلى "تقنين تجاوز الله" وصعود العلمانية، وهي تسطيح وجودي يتساوى فيه الله والمخلوقات ميتافيزيقيًا، والله هو مجرد كيان نظري آخر بين الكيانات الأخرى. يمكن التخلص من العديد منها إذا كانت النظريات العلمية البديلة تشرح البيانات بشكل أفضل من البدائل اللاهوتية. مع تقدم العلم وتراجع الحاجة إلى الله، أصبح المعتقد والممارسة الدينية ينزلان أكثر فأكثر إلى عالم العاطفة والإيمان الأعمى. وأخيرا، فإن العلوم، التي تعمل الآن على افتراضات طبيعية تماما، أعطيت وحدها المسؤولية عن الوصف الموضوعي للعالم.

وسواء رحب المرء بهذه التغييرات المجتمعية أو أعرب عن أسفه لها، فإن الأغبياء يعلمون أن سكوت لا يمكن أن يكون مسؤولاً عنها. إن الاعتقاد بأننا نحن البشر نمتلك مفهومًا ينطبق على الله بنفس القدر كما ينطبق على المخلوقات لا يعني أو حتى يوحي ولو عن بعد بأن الله موجود تمامًا كما توجد المخلوقات. إن عقيدة سكوت المثيرة للجدل حول الوحدة غير ضارة باللاهوت، في أسوأ الأحوال.

لرؤية ذلك، من المهم أن نأخذ في الاعتبار أن عقيدة سكوت حول الوحدة هي في حد ذاتها مدعومة بنظرية المفاهيم التي بموجبها تكون معظم مفاهيمنا معقدة في حد ذاتها، ويمكن تحليلها إلى مكونات مفاهيمية أبسط. على سبيل المثال، المفهوم الأكثر عمومية الذي يمكننا من خلاله التفكير في مخلوق، باعتباره مخلوقًا، هو الوجود المحدود. هذا المفهوم المعقد لا ينطبق على الله. لكن المفهوم المعقد للوجود اللانهائي ينطبق على الله – في الواقع، وفقًا لسكوت، هو المفهوم الأكثر ملاءمة لدينا (من العقل الطبيعي وحده) للتفكير في الله. وبالطبع الوجود اللانهائي لا ينطبق على أي مخلوق.

لكن لاحظ أن كلًا من هذه المفاهيم – الوجود المحدود والوجود اللامتناهي – معقد، ويتضمن كل منها الوجود كعنصر مفاهيمي بسيط. لذا، من وجهة نظر سكوت، إذا كان الشيء كائنًا محدودًا، فهو كائن؛ وبالمثل، إذا كان الشيء كائنًا لا نهائيًا، فهو كائن. في هذا المستوى المفاهيمي الأبسط، لدينا مفهوم واحد فقط للوجود ينطبق على الله والمخلوقات. لا يمكن أن تكون هناك "فجوة" أكبر من تلك الموجودة بين المحدود واللانهائي - ويؤكد سكوت أن هذه هي بالضبط الفجوة التي تتسع بين المخلوقات والله. لكن هذه الفجوة لا علاقة لها بحقيقة أن مفهومي الوجود المحدود والوجود اللامتناهي يشتركان في المكون المفاهيمي البسيط للوجود على هذا النحو. إذا كان هناك خطأ في عقيدة سكوت حول الوحدة، فلا يمكن أن يكون ذلك بسبب الفشل في مراعاة الفجوة بين الله والمخلوقات. قد يعترض النقد ذو الصلة على نظريته حول المفاهيم المعقدة التي أدت إلى ظهور نظريته عن الوحدة - ولكن هذا موضوع لفلسفة العقل وفلسفة اللغة، وليس اللاهوت.

يعلن سكوت مرارًا وتكرارًا أن الله هو الخير الأسمى، بل الخير نفسه، وأن الله هو الحقيقة نفسها. ونظرًا لفهمه لكيفية عمل مفاهيمنا عندما نطبقها على الله  - لم يعتقد سكوت أننا عندما نسمي الله "صالحًا" أو "حقيقيًا"، فإننا نجهل ما يعنيه صلاح الله وحقيقته. بالتأكيد، لا يمكننا أن نفهم صلاح الله اللامتناهي، لكن يمكننا أن نكون واثقين من أنه إذا كان صحيحًا أن الله صالح، فإن صلاح الله واضح لنا.

إن وضوح الخير الإلهي يعمل كنوع من القيد المفاهيمي لتنظير سكوت حول علاقة الله بالأخلاق. نجد عند سكوت سببين أو مصدرين للمعايير الأخلاقية: من ناحية، اعتقد سكوت، متبعًا أرسطو، أنه يتجلى من طبيعة البشر ما هو جيد وما هو سيئ بالنسبة لنا، وهذا النوع من "الخير الطبيعي" ينتج عنه مجموعة واسعة من المعايير حول الصواب أو الخطأ. ولكن من ناحية أخرى، أكد سكوت على حرية الله في النظام الأخلاقي. وصايا الله – على سبيل المثال، تحب قريبك كنفسك؛ لا تقتل – فهي تولد التزامات أخلاقية، ولا يلزم أن تتبع أوامر الله بكل الطرق ما يمكن تمييزه بمجرد التفكير في الطبيعة البشرية. يعتبر سكوت أن الأمر لآدم وحواء بعدم أكل ثمرة شجرة معينة في جنة عدن - لو لم يأمرهم الله بعدم القيام بذلك، لما كان ذلك خطأ. لكن حرية الله في الأخلاق نفسها لا تنفي ما يمكننا اكتشافه بأنفسنا حول الصواب والخطأ، ولا تستلزم أن معايير الله الأخلاقية الموضوعة بحرية يمكن أن تقلب النظام الأخلاقي الطبيعي.

يبتكر سكوت ويخترع نوعًا جديدًا تمامًا من الكيانات: خاصية يمكن للمرء أن يمتلكها على الأكثر.

إن الواقعية حول الطبائع المشتركة تنبع من لغز فلسفي ليس اسميًا للخوض فيه: إذا كانت الإنسانية شيئًا نتشاركه جميعًا، فما الذي يجعلنا الأفراد الذين نحن عليه؟ بمعنى آخر، إذا كانت إنسانيتنا الجماعية واحدة، فما الذي يفسر وجود الكثير من الناس؟

للإجابة على هذا السؤال، طور سكوت مذهبه حول "haecceity"/ الهرطقة.: كل فرد ينتمي إلى النوع الذي ينتمي إليه بسبب طبيعته المشتركة، أما الفرد فهو بسبب طبيعته. كلمة "الهرطقة" تعني حرفيًا "thisness".  إنها تلك الميزة الفريدة لكل واحد منا، والتي تجعل من كل واحد منا إنسانًا مميزًا. كل نوع آخر من الخصائص التي يمكن أن يمتلكها أي كائن - اللون، الشكل، الحجم، العمر، والمكان،وما إلى ذلك - يمكن من حيث المبدأ مشاركتها مع شيء آخر. لذلك، لا يمكن لهذه الخصائص القابلة للمشاركة أن تفسر فرديتنا. لذلك يبتكر سكوت ويخترع نوعًا جديدًا تمامًا من الكيانات: خاصية يمكن للمرء أن يمتلكها على الأكثر. إن ذكاءك هو تلك الميزة الخاصة بك والتي لا يمكن أن يتمتع بها أحد غيرك.

لمعرفة مدى جذرية هذه النظرية، فكر في إجابة توما الأكويني على السؤال حول ما يميز الأشياء التي تشترك في طبيعة مشتركة. يعتقد الأكويني أن كل فرد لديه قطعة معينة من المادة بكمية معينة، وهذه القطعة من “المادة الكمية” تعمل على تفرد الأشياء الفردية. إذن أنا وأنت نشترك في الإنسانية، ولكن أنا أنا بسبب حالتي وأنت أنت بسبب قضيتك.

هناك شيء مفيد وبسيط في نظرية الأكويني، لكن سكوت ينتقدها على أساس أنه حتى لو افترضنا أنك وأنا لا نستطيع مشاركة نفس المادة في نفس الوقت، فإنها تظل هي المادة نفسها، حتى لو كانت كمية معينة من المادة،قابلة للمشاركة (حتى ولو في أوقات مختلفة فقط) وبالتالي فهي غير مناسبة لجعل الشيء الفردي هو الفرد ذاته. إن حماقة سكوت هي في الواقع نوع جديد من الأشياء في تاريخ الميتافيزيقا: شيء حقيقي، شيء يميز الشيء الذي يمتلكه حقًا - ولكنه شيء فريد تمامًا لحامله.

تظل نظرية سكوت عن الخداع إحدى وجهات نظره التي حددها البعض على أنها ذات أهمية تاريخية عالمية. في كتابه "عصر علماني" (2007)، قال تشارلز تايلور، مستوحى من لويس دوبري، إن أوكهام الاسمي وسكوتوس الواقعي يشتركان في التركيز على الفردية التي تعطي "مكانة جديدة للخاص"، وتمثل "نقطة تحول رئيسية في تاريخ الحضارة الغربية، خطوة مهمة نحو أولوية الفرد التي تحدد ثقافتنا.

أعترف أنني كثيرًا ما أميل إلى التوصل إلى استنتاجات تاريخية شاملة حول شخصيات العصور الوسطى التي أعمل عليها. إذا كان بإمكاني تصديقهم، فقد أعتبر بحثي أكثر أهمية مما هو عليه الآن وأواصل عملي بقوة أكبر. بروح تايلور، على سبيل المثال، يمكنني القول إن أوكهام وسكوتوس، جنبًا إلى جنب مع سلفهم الأكويني، مع التركيز على الأفراد الذين يشتركون فيهم هؤلاء الثلاثة، أدى إلى ظهور أولوية الفرد التي تحدد ثقافتنا. أو بنفس الروح ولكن بإحساس أكبر من الجرأة، قد أقول إن الأكويني، بإجابته المادية لمشكلة التفرد، جنبًا إلى جنب مع سكوت وأوكهام، اللذين آمنا بوجود المادة، بشروا معًا بالمادية السائدة. للعلوم والثقافة المعاصرة.

من الممكن تمامًا لشخص في القرن الحادي والعشرين أن يتساءل في القرن الرابع عشر عما إذا كان الله موجودًا.

بطبيعة الحال، سوف يتطلب الأمر عقلاً متهوراً لتصديق أي من هذه الادعاءات: فالصلات المرسومة بين الأكويني، وسكوتوس، وأوكهام ليست قوية بما يكفي لتوحيدهم كأسباب مشتركة للأحداث التاريخية المنسوبة إليهم.لكن هذه هي النقطة: إن النظرية الاسمية تتعلق إلى حد ما بالأفراد (بما أنها تدعي أن هناك أفرادًا فقط)، ونظرية الهيكية هي أيضًا بمعنى ما بالأفراد (بما أنها بالإضافة إلى الأفراد كيان فردي). ). الطبيعة المشتركة). لكن هذه النظريات تدور حول الأفراد بمعنى مختلف تمامًا، تمامًا كما أن حل الأكويني المادي لمشكلة التفرد يتعلق بالمادة بمعنى مختلف تمامًا عن، على سبيل المثال، توماس هوبز باعتباره ماديًا عندما يتعلق الأمر بالعقل البشري.   ولذلك، لا ينبغي جمعها معًا كأسباب مشتركة لنفس الحدث التاريخي. إن إنكار أوكهام لوجود شيء اسمه الطبيعة البشرية يبدو وكأنه نوع من الإنكار الذي من شأنه أن يؤثر على الطريقة التي يعيش بها الناس العاديون حياتهم، إذا وصل الأمر إلى التأثير عليهم.  ويمكن قول الشيء نفسه عن تأكيد سكوت على وجود شيء اسمه الطبيعة البشرية. ولكن سيكون من المدهش إلى حد ما ــ ومجرد صدفة ــ أن يكون لإنكار وتأكيد نفس الرأي بالضبط نفس التأثير على الطريقة التي يعيش بها الناس حياتهم.

وباعتباري أحد الباحثين في سكوت، فإنني أرحب بتجدد الاهتمام بسكوتس في هذا القرن. لكن الطريقة الأكثر إثمارًا للانغماس في هذا الاهتمام، خاصة بالنسبة لأولئك الذين بدأوا للتو رحلتهم الفكرية مع دونز سكوت، هي ببساطة محاولة التعامل معه وفقًا لشروطه الخاصة، ومعالجة الأسئلة الفلسفية واللاهوتية الرئيسية مع سكوت، ومقاومة مطالب الراوي. ومن الملح أن نضع هذه السمة أو تلك من سمات فكر سكوت ضمن سرد يشرح لماذا وصلنا إلى ما نحن فيه الآن. من الممكن حقًا لشخص في القرن الحادي والعشرين، كما كان الحال بالنسبة لشخص في القرن الرابع عشر، أن يتساءل عما إذا كان الله موجودًا، أو ما إذا كانت الكليات حقيقية، أو ما إذا كانت الأخلاق الموضوعية تتطلب مشرعًا إلهيًا.   عندما نطرح هذه الأسئلة الآن، فإننا نطرح نفس الأسئلة التي طرحوها في ذلك الوقت. وبفضل جهود الحمقى الذين حافظوا على ذاكرة سكوت حية لقرون عديدة، وقاموا بتحرير ونقل نصوصه وكتابة المقالات والكتب في محاولة لشرح تفكيره، يمكننا أن نرحب بسكوتس في ألغازنا الخاصة حول هذه الأسئلة وغيرها. ونظرًا لسرعة الفلسفة، فإن عام 1308 ليس بعيدًا.

(انتهى )

***

.......................

المؤلف: توماس إم وارد/ Thomas M Ward: أستاذ مشارك في الفلسفة بجامعة بايلور في تكساس. وهو مؤلف كتاب "أمر بالحب: مقدمة لجون دونز سكوتس" (2022) ومترجم "رسالة دونز سكوت حول المبدأ الأول" (ستصدر قريبًا في عام 2023).

 

في أقسى إساءة للعلم وللمرأة في آن واحد قام الكونغرس الأمريكي بالتدخل بشكل سافر، وأمر بإقالة أعظم ثلاث سيدات في العالم مرة واحدة!!!

كلودين جاي رئيسة جامعة هارفارد، وليز ماجيل رئيسة معهد ماساشوستس، وسالي كورنبلوث رئيسة جامعة بنسلفانيا... وبعد جلسة استدعاء في الكونغرس 7 ديسمبر أمر بإقالة الثلاثة، والسبب واحد وهو التعاطف مع الفلسطينيين ومعاداة السامية!!

والقصة متشابهة وهي تصريحات أدلت بها هذه السيدات في مناسبات مختلفة، تؤكد حق الطلبة في التعاطف مع المظلومين في غزة، ورفض السلوك الأمريكي المشين في تأييد إسرائيل تأييداً أعمى، حيث أظهرت الرئيسات الثلاثة على غير تنسيق بينهن مواقف متشابهة تفرضها عليهن الموضوعية والكرامة والإنسانية في نصرة المظلوم، وتأييد حق الطلبة في الصراخ ضد الظلم، وهو ما تفرضه كرامة العلم وحياده، والعلم رحم بين أهله والحكمة رحم بين أهلها، والشرف الأكاديمي رحم بين أهله، وقد أثبتت هؤلاء السيدات أن الفائض الحضاري ينتج فائضاً أخلاقياً، وأن المثقف لا يمكنه أن يقف على الحياد عندما تسحق الكرامة الإنسانية، وأنه لن ينحاز للأسطورة الميثولوجية على حساب مبادئه في حقوق الإنسان والقانون الدولي، ولا يمكنه أبداً أن يلزم الصمت وهو  يشاهد التغول السياسي الفاجر، حين يجلس الوحش على العرش ويذهب الجميل إلى المقصلة.

لا يمكن للمثقف أن يقف على الحياد حين يكون الصراع بين توجه كهنوتي يلعن العقل والمنطق والقانون، وبين بشر يطالبون بحقهم الإنساني في الحياة، في مواجهة ميثولوجيا عمياء تقسم الناس إلى شعب مختار، وشعوب غوييم. فالشعب المختار لا يسأل عما يفعل، وتبرر جرائمه وفظائعه بأنها إرادة الله، أما الغوييم فقد فصلت الكهنوتيات الدينية الزائفة مكانهم في خدمة الشعب المختار، وقرأ نتنياهو علناً نصوص سفر أشعيا الآمرة بالانتقام منهم ومن أطفالهم ونسائهم بدون رحمة، وقال بوضوح إنكم أيها الأشاوس امتداد لجيش أشعيا!!.

إنها أمانة أن تحافظ على كرامة العلم والمعرفة في مواجهة تغول كهذا، وأن تتحمل مسؤولياتك، فلا يجوز أن يسجل في التاريخ أن هارفارد وماساشوسيتس وبنسلفانيا كانت خرساء صامتة في مواجهة أسوأ انتهاك لحقوق الإنسان في الأرض.

إنهن رموز أعظم مؤسسات تعليمية في العالم، وفي تصنيف أعظم 500 جامعة في العالم عام 2023 حلت جامعة هارفارد في المركز الأول، ومعهد ماساشوستس في المركز الرابع، وجامعة بنسلفانيا في المركز السادس... ولعلها المرة الأولى التي تصل فيها النساء في وقت واحد لهذه المناصب العظيمة في الأكاديميا والعلم.

لا مبالغة مهما قلناه في كفاءة هؤلاء السيدات الثلاثة، والمعايير التي تفرضها هارفارد وبنسلفانيا وماساشوستس على الطلبة للالتحاق بهذه الجامعات تجعل الوصول إليها مقتصراً على العباقرة، فما بالك بالأستاذية فيها، والعبور في مدارج الترقيات التي تفرض أشد المعايير العلمية المتصورة حياداً ونزاهة وموضوعية، وما بالك بالوصول إلى رئاسة هذه الجامعات الأعرق والأعلى في العالم....

ولكن هذا المجد الأكاديمي المذهل وهذا النجاح الأسطوري، لم يشفع لهن في طاحونة السياسة، وانكشف المجتمع الأمريكي عن انحسار فاضح لمنزلة العلم والأكاديميا في مواجهة السياسة، واستطاع اللوبي المستفرس في الكونغرس أن يسحق قيم الحضارة الحديثة بالضربة الفنية القاضية، فأسقط كرامة العلم الأكاديمي، وأسقط مكاسب المرأة الحرة، وأسقط قيم الإنسانية في التعاطف مع المظلومين، وأشبع نهمة واحدة هي نهمة الحقد الأعمى ضد كل ما هو جميل.

في جامعة هارفارد على سبيل المثال فإن حصاد هارفارد من جوائز نوبل خلال 129 عاماً قد بلغ 161 فائزاً من أصل 900 جائزة منحتها هارفارد خلال مائة وعشرين عاماً، وهو الرقم الأعلى في العالم، وكان فيهم 78 عضواً في الهيئة التدريسية لهارفارد، و55 محاضرًا فيها، و80 خريجاً منها، وقد جمع هؤلاء 43 من جوائز نوبل في الفيزياء، و 55 في الكيمياء، و51 في الطب، و46 في الاقتصاد، و 8 في الآداب، و10 في السلام، ولا شك أن نوبل تقدم فقط للشخص الأهم في العالم وفق تقييم لجنة عريضة من أكبر الشخصيات العلمية والأكاديمية في العالم.

ولن تتأخر ماساشوستس وبنسلفانيا عن المراكز العشرة الأولى حتماً، وهذا كله يجعل منزلة هذه الجامعات هي الأعلى في العالم على المستوى العلمي والأكاديمي.

وإضافة إلى اغتيال العلم والمعرفة، فإن هذا السلوك الهمجي هو أيضاً بطش بجهود المرأة في التمكين، واعتداء سافر على مكتسباتها، وربما أستطيع الجزم بأنها المرة الأولى التي تصل فيها النساء في وقت واحد إلى هذه المواقع القيادية على المستوى الأكاديمي في العالم، وبذلك صرن أمثولة ملهمة للنساء في العالم، وبات حضورهن في الحقل الأكاديمي أوضح الأدلة على قدرات النساء ومواهبهن، وحقهن في قيادة الحياة.

وقناعتي أن خروج هذه السيدات القادة عن مواقعهن المتقدمة ليس نهاية الطريق بل من المؤكد أنهن سيتعرضن لمضايقات وملاحقات وتشويه سيرة، وهذا قد بدأ بالفعل، ويسعى أولئك الذين اغتالوا العلم والمعرفة أن يمارسوا نهمتهم في الانتقام من رموز العلم بالأساليب الرخيصة إياها، واختراع فضائح، وهو ما تقوم به هذه الكيانات الجاقدة ضد كل ما هو مختلف في الفكر والسلوك.

إنها اللحظة المناسبة لتنطلق حملة دولية للدفاع عن كرامة العلم والعلماء، والدفاع عن سمعة الجامعات العريقة وما قدمته للبشرية من إنجازات علمية وعملية، وتوفير حصانة للعلماء القادة من مكر السياسيين ومؤامراتهم وكيدهم الرخيص في العبث بقيم الحضارة وأخلاقها.

هل ستعلن الأمم المتحدة يوم السابع من ديسمبر يوماً عالمياً للدفاع عن العلم والعلماء، أو اليوم العالمي لكرامة الأكاديميا، بحيث تصل الرسالة واضحة أن أولى السلطات الخمسة بالاستقلال والكرامة هي السلطة الأكاديمية، وإن أي تغول تمارسه سلطة من السلطات الأربعة ضد الأكاديميا هو انهيار كامل في القيم الديمقراطية والحضارية.

وهو يوم يستحق أن يعلن من جانب آخر كيوم عالمي للدفاع عن المراة الناجحة، وتقدير كفاءاتها ومعارفها ومواهبها، ووجوب حماية هذه المكتسبات والحفاظ على الدور الإلهامي للمرأة الناجحة في العالم بعيداً عن صخب السلاح ومكر السياسة.

***

ا. د. محمد حبش

متى ظهر اليسار العربي في التاريخ الحديث؟، وكيف تشكل؟، وكيف تمظهر؟، وكيف استمر؟، ومن هو اليساري الحقيقي؟ وكيف يكون المرء يساريا؟، وما إسهام اليساريين العرب في قضايا أمتهم؟، وما آرائهم وموقفهم وأخطائهم ومراجعاتهم؟ ـ ولماذا تراجع دور اليسار وحضوره وفاعليته؟، وما أزمته التي لا يكف أصحابه عن تردادها والنقاش حولها وطرح الحلول؟ وما موقف اليسار من الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان ومن الأنظمة المستبدة ومن الحركات الإسلامية ومن ثورات الربيع العربي ومن الانقلابات العسكرية وغير العسكرية؟، وهل لليسار العربي مستقبل؟

وقبل أن أجيب على تلك التساؤلات، دعونا نفسر اليسار العربي في التاريخ تفسيرا سوسيولوجيا فأقول: في الأول من آيار عام 1907 كانت هناك مظاهرات على أحد شواطئ لبنان، تعلن عن توجه جديد يتبناه مجموعة من المثقفين والطلاب الذين درسوا في أوروبا وعادوا إلى لبنان، حاملين معهم أفكارا اشتراكية، وقبل ذلك " أحمد فارس الشدياق"، في جريدته الشهيرة" الجوانب"، نشر مقالا عن الحركات العمالية، ضمنه كلمة" الاشتراكية" في استخدام عربي لها .

وفي دمشق في الثامن من آذار عام 1912 أصدر حلم الفتيان العدد الأول من جريدة الاشتراكية، ودعا فيه إلى المذهب الاشتراكي في المساواة والحقوق والواجبات قبل الحرب العالمية الأولى، وبعد ثورة 1908 في تركيا، شاء نوع من الديمقراطية النسبية في الدولة العثمانية، فظهرت الصحف وتأسست الأحزاب، كما ظهر الجناح اليساري في الحركة الوطنية .

أما إذا انتقلنا لليسار المصري فنجده قد بدأ على الطلاب المصريين العائدين من أوروبا والذين بدأوا في نشر الأفكار الاشتراكية عند عودتهم في بداية العقد الأول من القرن العشرين، وقد تأسس الجزب الشيوعي الأول في مصر، في الثامن والعشرين من أغسطس عام 1921، وكان أول حزب شيوعي في القارة الإفريقية والساحة العربي.

تبنى الحزب الماركسية اللينينية، وعٌرف بالحزب الاشتراكي المصري، وعقد مؤتمره الأول في العشرين من يوليو في عام 1922، وتقدم بطلب للانضمام إلى الأممية الثالثة الكومنتيرن،ثم نجح الحزب في عقد مؤتمره الثاني يومي السادس والسابع من يناير عام 1923، وقرر تسمية الحزب بالحزب الشيوعي المصري، وأقر البرنامج العام للحزب، وانتخب لجنة مركزية .

وقد تبعه الحزب الشيوعي اللبناني عام 1924 ،والذي أسسه المصري – اللبناني " فؤاد الشمالي"، واللبناني " يوسف يزدك"، والأرمني " أرتن ماديميان"، وكان أمينه العام " خالد بكداش"ـ وكان الحزب الشيوعي اللبناني، هو الحزب الثاني في بلاد الشام، بعد الحزب الفلسطيني الذي تأسس في مارس عام 1919 .

نشأ اليسار العربي متزامنا مع قيام الاتحاد السوفيتي وقيام ما سمى بالمعسكر الاشتراكي، وفي منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، كان اليسار العربي، قد دخل في مرحلة اليسارية الثانية، وهي مرحلة سوفيتية في عمومها، وفرنسية في الاستثناءات الحزبية وارتبطت بالحزب الشيوعي الفرنسي .

وفي هذه المرحلة ستشهد اليسارية الثانية غلبت الاستراتيجيات الدولية الكبرى على السياسات الاجتماعية الوطنية.

وفي الخامس عشر من آيار عام 1948 قيام ما يسمى بدولة إسرائيل، والتي بها اعترف الاتحاد السوفيتي بعد دقائق من إعلانها، فتبعه الشيوعيون العرب، حتى وصف الحزبان الشيوعيان في سوريا والعراق، تدخل العربي لإنقاذ فلسطين بالتدخل الرجعي، ودعا بعض قادة الحزب الشيوعي في مصر إلى تأييد إسرائيل لأنها تمثل مرحلة أرقى من التطور الاجتماعي، وهي مرحلة الرأسمالية، في حين أن الدول العربية تمثل مرحلة العلاقات الإقطاعية .

ظهرت الأحزاب الناصرية التي رفعت لافتات الاشتراكية، وكان أبرزها حركة القوميين العرب، وحزب البعث العربي الاشتراكي قبل أن ينقسم إلى فرعين : سوري، وعراقي، بعد وصول الحزب إلى السلطة في البلدين على إثر انقلابين عسكريين؛ ففي سوريا قام بعض الضابط من القسم اليساري لحزب البعث السوري بانقلاب عسكري في الثامن من آذار عام 1963، وفي نهاية الستينات من القرن الماضي تأثر جيل جديد في العالم العربي بما يجري في العالم اليساري من ثورات فيتنام وكوبا، والثورة الطلابية في فرنسا، وظهور الجماعات الماوية والترتوسكية، ردا على التحجر الإيديولوجي بالاتحاد السوفيتي .

في لبنان برز يسار جديد من خارج الحزب الشيوعي، فتم تأسيس لبنان إشتراكي على يد مجموعة من الطلبة اللبنانيين في منتصف الستينيات، في حين انفصل التيار اللينييي عن الحزب الشيوعي اللبناني ليتحول لاحقا إلى اتحاد الشيوعيين اللبنانيين.

وفي تونس برزت كل من مجموعة الدراسات والعمل الاشتراكي، ومجلة "آفاق"، وفي مصر بعد انحسار اليسار فترة الخمسينيات والستينيات، وامتلاء معتقلات النظام باليساريين والشيوعيين، عاد اليسار للظهور مطلع السبعينات مدفوعا بتفجر القضية الوطنية بعد هزيمة 1967 والحراك الطلابي في الجماعات .

ومع عودة التعددية الحزبية في منتصف السبعينات، كانت العودة الرسمية لليسار، واستمر الصعود حتى أواخر الثمانينيات قبل أن ينحسر اليسار مرة أخرى  بسبب تضييق الرئيس حسني مبارك على المجال العام .

وفي ديسمبر عام 1991  انهار الاتحاد السوفيتي واتجه عدد من القيادات الاتجاهات اليسارية إلى تجاوز المجال السياسي إلى المجتمع المدني والحقوقي، واستمر مسار انحسار اليسار إلى مطالع الألفية الجديدة، والتي شهدت اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، والحرب على أفغانستان والعراق عامي 2001، 2003 .

وفي أواخر 2010 جاء ثورات الربيع العربي، ووجد اليسار العربي فيها فرضة حقيقية للعودة، حيث شارك حزب العمال الشيوعي التونسي من اللحظات الأولى، كما شاركت مجموعات وافراد يساريون، سواء من خلال الاتحاد التونسي للشغل أو من خارجه.

وفي مصر كان الحزب الشيوعي المصري من الداعين إلى إضراب الخامس والعشرين من يناير، وكذلك الاشتراكيون الثوريون، وغيرهم من المجموعات القومية المحدودة، إلا أن اليسار التونسي المصري شهدا رسوبا في اختبار الانتخابات بعد رحيل نظام بن علي وحسني مبارك، وصعدت القوة الإسلامية الجاهزة، ما زاد من أزمة اليسار العربي، وعمقها، ودفع بعض الأصوات اليسارية إلى تحليلات متطرفة تتماهى مع خطابات الأنظمة السابقة، وتدعي أن ثورات الربيع العربي تخطيط أمريكي لاستبدال نظاما بآخر، وضرب المقاومة والممانعة وتقسيم الدول العربي.

وبعد هذه الجوالة التي غصناها عبر التاريخيانية التي أعشقها وهي تاريخيانية أستاذي عبد الله العروي، أود أن الإجابة على الأسئلة التي بدأتها، ولابد أن أنهيها من خلال سؤال محوري واحد وهو هل ولي اليسار إلى غير رجعة؟ ..، والإجابة تكون بلا وألف لا ..، فهل يمكن أن ننسى تلك التحولات اليسارية الكبرى في أمريكا الجنوبية والوسطي، والكاريبي (600 مليون) كما يقول نايف حواتمة، صعود الثورة الكوبية بقيادة يسارية جذرية، وكسر الحصار من حولها في العالم، ما عدا الجار الشمالي، هذه التحولات الكبرى أدت إلى اعتراف إدارة الرئيس الأمريكي السابق بارك أوباما بفشل سياسات الحصار الأمريكي على مساحة 47 عاما، وكسر تعليق عضوية كوبا في منظمة الدول الأمريكية واستعادة حقها بين أسرة دول الأميركتين (3 حزيران / يونيو 2009)، وعلى الطريق كسر حصار الجار الجبار الشمالي .

كذلك لا ننسى التطورات العلمية التكنولوجية والاقتصادية العملاقة في الصين، فيتنام، والعملية العسكرية في كوريا الشمالية بإدارة قيادات يسارية، في الهند يتحالف يسار الوسط كما يقول نايف حواتمة (حزب المؤتمر) مع اليسار الماركسي وبالعودة للشعب، والانتخابات الديمقراطية وبرامج جامعة بين ثورات ما بعد التصنيع " العلم والمعرفة، العلمانية، والمساواة في المواطنة، التقدم والعدالة الاجتماعية .

كذلك لا ننسى التطورات نحو اليسار في جنوب إفريقيا (أكبر اقتصاد في إفريقيا، 47 مليون)، في أنجولا، ورياح العديد في عديد  أقطار أفريقيا السمراء، إنها عمليات النهوض العاصف الكبير في مسار شعوب العالم الثالث والجنوب نحو عالم الحداثة والعدالة الاجتماعية مع مطالع القرن الحادي والعشرين .

على الضفة الأخرى أزمة النظام المالي الرأسمالي العالمي الطاحنة اجتاحت اقتصاد بلدان المركز الرأسمالي العالي التطور، وامتدت على مساحة العالم أكثر وأكثر بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، واستفحلت أكثر وأكثر بعد حادث السابع من أكتوبر الماضي والتي تسمى بحادثة طوفان الاقصى .

خلاصة القول إن الأزمة في الرأسمالية كما قال نايف حواتمة دفعت بلدان أنظمة المركز الرأسمالي بلدان " المليار الذهبي" إلى العمل على وقف " الانهيار الشامل لاقتصاد السوق الحر " بالتدخل الواسع للدولة في الاقتصاد "بالتأميم " لغة أوروبا و" الاستحواذ" و" الشراء" باللغة الأمريكية وهو ذاته " التأميم وتملك الدولة" .. " الرقابة والمساءلة والمحاسبة" من جانب الدولة على المفاصل الاقتصادية من بنوك وشركات، حتى إلى "أشكال من الحماية "، وكل هذه العمليات مستمدة من التجارب الاشتراكية السابقة والراهنة.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي – كاتب مصري

...................

المراجع

1- نايف حواتمة: اليسار العربي رؤيا النهوض الكبير "نقد وتوقعات".

2- اليسار العربي.. كيف نفهمه؟ | الجزء الأول | قراءة ثانية.. يوتيوب.

3- اليسار العربي.. كيف نفهمه؟ | الجزء الثاني | قراءة ثانية.. يوتيوب.

ظل مفهوم الوصول إلى المعلومات لفترة طويلة حجر الزاوية في المجتمعات الديمقراطية. إنه حق أساسي يمكّن الأفراد، ويعزز الشفافية، ويخضع المؤسسات للمساءلة. ولكن مع التقدم التكنولوجيا، يجب أيضًا أن نفهم ما يعنيه الوصول إلى المعلومات.

على مر التاريخ، كان النضال من أجل الوصول إلى المعلومات محوريًا في حركات التغيير الاجتماعي. من الطباعة إلى الإنترنت، جلبت كل قفزة تكنولوجية فرصًا وتحديات جديدة. واليوم، نقف على شفا تحول نموذجي آخر، حيث يتوسع التركيز من مجرد البيانات إلى الخوارزميات التي تشكل عالمنا.

في السنوات الأخيرة، أصبحت الخوارزميات منتشرة بشكل متزايد في عمليات صنع القرار في مختلف القطاعات، من التمويل إلى العدالة الجنائية. وتتمتع هذه "الخوارزميات التنظيمية" بنفوذ كبير، ومع ذلك تظل أعمالها الداخلية مخفية عن التدقيق العام. وعلى هذا النحو، برز الحق في الوصول إلى الخوارزميات التنظيمية كقضية ملحة في السعي لتحقيق الشفافية والمساءلة.

ولتقدير أهمية الحق في الوصول إلى الخوارزميات التنظيمية، يجب علينا أولاً فهم السياق التاريخي والأسس القانونية لحقوق الوصول إلى المعلومات. فمن قانون حرية المعلومات إلى الاتفاقيات الدولية، هناك نسيج غني من التشريعات التي تهدف إلى تعزيز الشفافية والانفتاح على المطالب الديموقراطية.

علاوة على ذلك، مع استمرار التكنولوجيا في تشكيل عالمنا، تطورت الطرق التي يمكننا من خلالها الوصول إلى المعلومات. إن ما كان يستلزم ذات يوم تقديم طلب رسمي للحصول على وثائق حكومية يشمل الآن التنقل في النظم البيئية الرقمية المعقدة وفهم عمليات صنع القرار الخوارزمية.

إن انتشار الخوارزميات في دواليب الحكم يحمل في طياته الكثير من الوعود وأيضا المخاطر. فمن ناحية، توفر هذه الأدوات الحسابية إمكانية تحقيق الكفاءة والموضوعية واتخاذ القرارات المستندة إلى البيانات. ومن ناحية أخرى، فإنها تثير أيضًا مخاوف بشأن التحيز والتمييز.

وبما أن الخوارزميات أصبحت تمارس تأثيرًا أكبر على حياتنا، صار من الضروري اتخاذ موقف نقدي لدورها في تشكيل النتائج المجتمعية. وسواء كان تحديد الأهلية للحصول على الخدمات الاجتماعية أو التنبؤ بالعودة إلى الإجرام، فإن هذه الأنظمة تتمتع بقوة هائلة ويجب أن تخضع لتدقيق صارم.

على الرغم من فوائدها المحتملة، فإن الخوارزميات التنظيمية لا تخلو من بعض العيوب. ومن أهمها مسألة الشفافية – أو الافتقار إليها. وفي كثير من الأحيان، تظل الأعمال الداخلية لهذه الأنظمة محاطة بالسرية، مما يترك الأفراد المتضررين في حالة من الجهل بشأن كيفية اتخاذ القرارات.

علاوة على ذلك، فإن الخوارزميات ليست محصنة ضد التمييز، مما يعكس التحيزات المتأصلة الموجودة في البيانات التي تدربت على أساسها. وهذا يمكن أن يؤدي إلى إدامة وتفاقم عدم المساواة، وخاصة بالنسبة للمجتمعات المهمشة.

واستجابة للتصدي لهذه التحديات، تشكلت هناك جوقة متزايدة من الأصوات التي تدعو إلى قدر أكبر من الشفافية الخوارزمية. ومن منظمات المجتمع المدني إلى صناع القرارات السياسية، هناك اعتراف واسع النطاق بالحاجة إلى تسليط الضوء على هذه الأنظمة الغامضة.

وتتخذ الجهود الرامية إلى تعزيز الشفافية الخوارزمية أشكالا عديدة، بما في ذلك المبادرات التشريعية، وحملات المناصرة، والحلول التكنولوجية. ومن خلال وضع هذه القضايا في مقدمة الخطاب العام، يمكننا أن نبدأ في مساءلة الخوارزميات ــ والمؤسسات التي تنشرها ــ عن أفعالها.

وإدراكًا لأهمية هذه القضية، بدأت بعض الحكومات في جميع أنحاء العالم في اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنظيم عملية صنع القرار الخوارزمي. فمن اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي إلى قانون المساءلة الخوارزمية في كاليفورنيا، هناك مجموعة متزايدة من التشريعات التي تهدف إلى معالجة التحديات التي تفرضها هذه الأنظمة.

وفي الوقت نفسه، تتخذ شركات التكنولوجيا أيضًا خطوات لتعزيز الشفافية والمساءلة في خوارزمياتها. وسواء كان ذلك من خلال تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي القابلة للتفسير أو إنشاء آليات تدقيق مستقلة، فهناك اعتراف بأن الوضع الراهن لم يعد قابلاً للاستمرار.

وبينما نتطلع إلى المستقبل، فمن الواضح أن الحق في الوصول إلى الخوارزميات التنظيمية سيلعب دورًا متزايد الأهمية في ضمان الشفافية والمساءلة في الحوكمة. ومع ذلك، فإن إعمال هذا الحق سيتطلب جهودًا متضافرة من صناع القرارات السياسية وخبراء التكنولوجيا والمجتمع المدني.

أحد السبل المحتملة لتحقيق هذا الهدف هو من خلال إنشاء إطار قانوني يعترف صراحة بالحق في الوصول إلى الخوارزميات التنظيمية. ومن خلال تكريس هذا المبدأ، يمكننا أن نزود المواطنين بالأدوات التي يحتاجون إليها لجعل الخوارزميات ــ والمؤسسات التي تنشرها ــ مسؤولة عن أفعالها.

وفي الختام، فإن التحول من الحق في الوصول إلى المعلومات إلى الحق في الوصول إلى الخوارزميات التنظيمية يمثل تطورا حاسما في فهمنا للشفافية والمساءلة في تدبير الحكم. ومن خلال التصدي للتحديات التي تفرضها هذه الأنظمة الغامضة، يمكننا رسم مسار نحو مستقبل أكثر عدلا وإنصافا وديموقراطية.

***

عبده حقي

هناكَ قاعِدَةٌ معروفةٌ عندَ الأُصوليينَ السُّنَّة، وهذهِ القاعِدَةُ تقول:" تتغيَّرُ الأحكامُ بِتَغَيُّرِ الأزمان". ولايرادُ من "الأزمان" هنا معناها الفلسفي ؛ حيثُ يعرِّفُ الفلاسفَةُ " الزمان" بِأَنَّهُ : مقدارُ الحركةِ. ولايرادُ منها معناها الفيزيائي والرياضِيّ. حيثُ اختلفَ الزمانُ في فيزياء نيوتن الذي اتسمَ بصفةِ الاطلاق عنهُ في فيزياء اينشتين الذي اعتبر الزمانَ بعداً رابِعاً واعتبرَهُ نِسبِيّاً. الزمان عند الفقهاء هو التغيُّراتُ والظُروفُ المُحيطَةُ بنا.

ولكِنَّ السؤالَ الذي يطرحُ نفسَهُ هنا هو: كيف تتغَيَّرُ الاحكامُ الالهيَّةُ الثابِتَةُ في الواقعِ وَنَفسِ الأمرِ؟ ويُجيبُ أصحابُ هذهِ القاعِدَةِ : بأنَّنا لانعني بالاحكام التي يُغَيُّرُها الزمان هي الاحكامُ الالهيَّةُ الثابِتَةُ بل نعني بها الاحكامُ المُتَغَيِّرَةُ، فهذهِ هي الاحكامُ التي تَتَغَيَّرُ بتَغَيُّرِ الأزمانِ.

هذا مايقولُهُ مشهورُ الأُصوليينَ من اهلِ السُّنَّةِ، ولكنَّ الأُصوليينَ الشيعةَ قالوا بقاعِدَةٍ أُخرى هي:" الاحكامُ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ موضوعاتِها". ومعنى هذهِ القاعدةِ، أَنَّ الازمانَ لاتغيِّرُ الأحكامَ الشَّرعِيَّةَ وَانَّما تُغَيِّرُ موضوعاتِها، وتبقى  الاحكامُ على ثَباتِها، ومن خلالِ الأمثِلَةِ تَتَضِحُ هذهِ القاعِدَةُ.

فعلى سبيلِ المثال، نقولُ: أنَّ الخمرَ حرامٌ وَنَجِسَةٌ، هذانِ حُكمانِ للخَمرِ غير قابلينِ للتغيير والتبديلِ ولكن اذا تغَيَّرَ الموضوعُ والذي هو "الخمرُ" هنا، وانقلبَ خَلّاً فحينئذٍ يصبح ماكان خمراً بانقلابِهِ خلّاً حلالاً وطاهراً. الذي غَيَّرَهُ الزمانُ. هنا ليس الحكم؛ لانه ثابتٌ من الأول بحرمة الخمرِ ونجاستها، وثابتٌ للخَلِّ بالحلِيَّةِ والطهارَةِ. الذي تَبَدَّلَ هو الموضوعُ الخارجي الذي هو الخمرُ بانقلابِهِ خلّاً. مثال آخر : الخَشَبَةُ المُتَنَجِسَةُ بالبولِ اذا أحرقَتْها النارُ واستحالَتْ رماداً تكونُ  طاهرةً. هذهِ الخَشَبَةُ التي كانتْ نَجِسَةً اصبحتْ طاهرةً لانَّ الموضوعً تَغَيَّر. وقد ضرب الفقهاء مثلاً آخرَ وهو : الكلبُ المطمورُ في أرضٍ ملحِيَّةٍ لمئاتِ السنين بحيثُ استحالَ الى ملحٍ فهنا نقول بالطهارة بسبب تبدل الموضوع الخارجي. مع ملاحظة أنَّ المالكِيَّةَ  قالوا بطهارةِ الكلب.

هذه الموضوعاتُ هي موضوعاتٌ حِسِيَّةٌ، ولكن هناك حالات من التغير تظرأ على الموضوع بتغيّر بعض الصفات وهذه الصفاتُ ليست حسيَّةً مشاهدةً بالحاسة البصريَّةِ، ومثالُها: الدم، الفقهاء يقولون بحرمةِ بيعِ الاعيان النجسة كالدمِ اذا لم تكن له فائدةٌ مُحَلَلَةٌ مقصودةٌ  لدى العُقَلاءِ، في السابق، لم تكن للدم فائدةٌ محلَلَةٌ مقصودةٌ لدى العقلاء، بل كانت فائدتُه فائدةً مُحَرَّمَةٌ وهي شُربُهُ، أما اليومَ، فتحققت فوائدُ كثيرةٌ للدم وهي اعطاؤُهُ للمرضى من اجل انقاذ حياتهم، فاصبحت لهُ فائِدَةٌ مُحَلَلَةٌ مقصودةٌ لدى العقلاء  وبالتالي يجوز بيعُهُ. فهنا الموضوع وهو " الدمُ" بقِيَ نفسه ولكن وجدت فيه صفاتٌ جديدةٌ لم تكُنْ معروفَةً في السابِقِ، وكأَنَّهُ صارَ موضوعاً جديداً ؛ ولذا جازَ بيعُهُ من اجلِ انقاذ جريحٍ أو اسعافِ مريضٍ.

وَأحياناً يبقى الموضوع على ماهو عليه، ولكنّ الصفةَ التعاقديَّةَ تُغَيِّرُ الحكم مثالهُ : الرجل والمرأة قبل العقدِ كانا أجنبيينِ عن بعضهما البعض، لايحلُّ لكل منهما لمس الآخر أوتقبيله أو سائر الاستمتاعات الاخرى، ولكن بعد العقد يحل لهما كلَّ شيء، الذي احدث التغيير هي الصفةُ التعاقديَّةُ التي انضمت الى الموضوع. اذن الاحكام لاتتغير بتغير الازمان، وانما الزمن يحدث اما تغييرات حِسيَّة في الموضوعِ أَو تغييرات في الصفات كالمنفعة المحللة المقصودة في الدم والتي تجيزُ لنا بيعَهُ، أو الصفة التعاقدية التي التي حدثت  للموضوع فغيرته من حرمة لمس المرأة قبل العقد الى حليّة سائر الاستمتاعات بعد العقد.

هذا الموضوع طويل ومتشعب ولاتسعه هذه المقالة، وانَّما هي مجرد اثارات عسى ان ينتفع القارئ الكريم بها.

***

زعيم الخير الله

 

يعد الجابري أحد أهم رموز الإنسانيات العربية خلال الربع الأخير من القرن العشرين، نظراً إلى ما قام بن من حفريات في طبقات النصوص التراثية والتأسيسية للحضارة العربية الإسلامية، وراح يفكك ما تجمع من الركام الميثولوجي الذي اعتبره شاهداً على استقالة العقل، لكن أهميته تعود إلى التأسيس لقراءة منهجية للتراث العربي الإسلامي وفق مقاربة نقدية، والعمل على ترغيب القارئ العربي لقراءة ما اختاره من نصوص التراث.

موضوع قراءتنا اليوم يدور حول مشروع محمد عابد الجابري الفكري، حيث أحاول تسليط الضوء على الأفكار الأساسية في هذا المشروع، وعلى بعض النقد الذي تلقاه مشروع الجابري، وخصوصا من جورج طرابيشي، والذي استغل على نقد مشروع الجابري قرابة ربع قرن، فربما كان هذا أهم ناقد لأهم مفكر، وقد شكلا كلاهما أشهر حالة نقد في تاريخ الفكر العربي المعاصر تقريبا.

تكون مشروع الجابري من سلسلة كتب أساسية، في مقدمتها كتاب" تكوين العقل العربي"، وهو الكتاب الأساس الذي صدر عام 1984، وكان له عند صدوره صدى عميق، ثم كتاب " بنية العقل العربي"، وهذين الكتابين يمثلان النواة الصلبة في مشروع الجابري، وبعد ذلك صدر كتابان آخران أقل قيمة من الكتابين السابقين ضمن المشروع، وهو " كتاب العقل السياسي العربي"،  و" العقل الأخلاقي العربي". وبطبيعة الحال هناك كتب أخرى يمكن اعتبارها من رواتب المشروع الفكري للجابري، مثل كتاب " نحن والتراث.. قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي ".

وهذه الكتب جميعا اشتغلت على أسئلة ومشكلات وقضايا هامة في مشروع الجابري، وقد انطلقت من حادث مؤلم أصاب العالم العربي في أواخر ستينيات القرن الماضي، وهي هزيمة مصر من إسرائيل في حزيران لعام 1967، حيث أحدثت زلزالا عنيفا على قلوب كثير من المثقفين العرب وعقولهم وعلى رأسهم الجابري ـ لأن حجم الأمل كان لديه كبيرا، خصوصا بعد الخطاب القومي الناصري الذي صنع لهم من الحبة قبة ومن النملة فيل، ثم تبين له أن حجم الوهم كان أكبر من حجم الأمل، فألتفت الجابري يبحث عن أسباب الهزيمة وأسرارها في الواقع العربي والثقافة العربية.

وقد كان هناك سؤالا يدور في خلد الجابري وهو: هل نحن في حالة أزمة؟، وهل الهزيمة مجرد تعبير عن نتيجة للأزمة ؟، أم أن هذه الهزيمة تمثل حالة عابرة ؟

وهنا يجيبنا الجابري بأننا في أزمة مستفحلة، لا تدور فقط في سطح الحياة العربية، بل تدور في جذورنا المعرفة إلى ما سماه بـ "العقل العربي"، والعقل العربي يحتاج إلى وقفه لفهمه، فالجابري في "تكوين العقل العربي" ينبهنا أنه لا يقصد بالعقل العربي مجموع الأفكار التي يعبر العربي عن اهتماماته ومشاغله، بل بالعقل العربي بوصفه "الأداة المنتجة" لهذه الأفكار، وهذه الأفكار، إما أن تكون أفكار منفعلة، أو تكون أفكار فاعلة. والأفكار المنفعلة قد سمها بعض الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين من أمثال " لالاند" (العقل المكون)،  والتي تم تكوينها في نسيج الثقافة العربية، و"الأفكار الفاعلة"، سموها "العقل المكون".

وهنا نجد الجابري في مشروعه مهتم بتشريح الأفكار الفاعلة والمكونة في العقل العربي، وذلك بنظره المسؤولة عن أزمة العقل العربي.

إذن فالسياق النفسي الذي تشكيل من خلاله مشروع الجابري، هو سياق الشعور بالأزمة، أما السؤال الرئيس والذي هيمن على مشروعه، فهو سؤال النهضة العربية، وذلك من خلال السؤال الشهير: لماذا تخلف العرب عن غيرهم؟

والجابري يعيد طرح هذا السؤال، لأنه يعتقد أن جميع المحاولات الإصلاحية السابقة، قد فشلت في مهمتها منذ مجيئ "جمال الدين الأفغاني" حتى "زكي نجيب محمود"، وذلك لأنها تناولت التراث والفكر فقط، وأهملت الأداة المنتجة لهذا الفكر؛ أي أهملت العقل الفاعل المكون للفكر، لكن هذا العقل لم يأت من فراغ، وإنما يرتبط بإطار مرجعي، مثل الكرة المطاطية المربوطة بحبل مطاط.

وفي نظر الجابري أن لكل أمة إطارها المرجعي الذي يحدد عقلها الفاعل، وهذا الإطار له طبيعة شبه ثابتة لزمن طويل، فمثلا العقل اليوناني القديم قد سيطرت عليه "الفلسفة النظرية" وشكلت إطاره المرجعي، بينما العقل الغربي الحديث ارتبط بـ"الطبيعة والعلم التجريبي" ؛ في حين تشكل الإطار المرجعي للعقل العربي من خلال " النص الديني" ذو البنية الثابتة الجامدة "، والذي يعني الموروث الديني الاجتهادي وليس نص الوحي القرآني.

هذه هو الإطار الذي تشكلت فيه البنى الثقافية والفكرية المعرفية المسؤولة عن عجز العقل العربي في إنتاج حلول لمشكلاته في نظر الجابري، والإنسان العربي للأسف في نظره معجون بتراثه الديني، وهذا التراث إن صح التعبير هو بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به، ومن ثم فهو المسؤول عن مدخلات العقل ومخرجاته، وهو المسؤول عن المعاجلة لهذه المدخلات أيضا، ثم توقف الجابري عند طريقة المعالجة هذه  فقال:" إن بنية العقل العربي تتكون من ثلاثة أنظمة  في إنتاج المعرفة ومعالجاتها،  وهي تشبه أنظمة الحاسوب أو الهاتف، والنظام المعرفي الأول: العرفاني، والثاني: النظام البياني، والثالث: النظام البرهاني، واعتبر الجابري النظام الأخير أفضل من السابقين لكونه يدعو للعقلانية.

والنظام الأول البياني هو نسبة إلى البيان وهو الوضوح في اللغة، وهو الذي تنتمي إليه علوم اللسان العربي، وكذلك ينتمي إلى هذا النظام علوم الفقه واًصوله وما شابه ذلك، وهذه العلوم عبارة عن رسائل لإيضاح الرسالة الدينية، ولكن نواتها الصلبة هو اللسان العربي المبين؛ ما يعني أن هذه العلوم تعتمد بشكل أساسي على فقد اللغة، ولهذا يعد النظام البياني نتاج عقل عربي أصيل.

وأما النظام الثاني وهو العرفاني كما سماه، وهو نسبة إلى العرفان، أي المعرفة القلبية والحدسية، ويدخل في هذا النظام كل علوم التصوف والفرق الباطنية والغنوصية ـ والمعرفة في هذا النظام ليست وسيلتها الحدس.

أما النظام الثالث وهو البرهاني وقد استعار الجابري تسمية هذا النظام من "ابن رشد"، (الذي كان يتعصب له تعصبا شديدا)، وهو النظام الذي تنتمي إليه معظم مذاهب الفلسفة والمنطق الصوري، وقد سمى بـ" البرهاني" لأن وسيلته في المعرفة هو " العقل".

والجابري انتقد النظام العرفاني انتقادا شديد واعتبره قد ساهم في تعطيل العقل البرهاني الذي يربط النتائج بالمقدمات، وجعله عقلا غيبيًا يؤمن باللامعقول، ولذلك وصفه الجابري بالعقل المستقيل عن العمل في الوجود والحياة  وذلك لكونه يرى العالم من منظور سحري.

وهنا نجد الجابري يعلي من لواء العقلانية في نقده للعقل العرفاني من خلال تحيزه للعقل البرهاني، حيث يصفه بأنه " الأيقونة" التي خسرها العقل في مرحلة العرفان فسقط، وقد حمَل الجابري معظم المسؤولية في ترسيخ المذهب العرفاني الدخيل على العقل العربي من خلال الشيح الرئيس "ابن سينا".

وهنا نعود إلى سؤال النهضة الذي سأله الجابري، وهو لماذا تأخرنا وتقدم الآخرون؟

وفي اعتقاد الجابري أن فشل كل المحاولات الإصلاحية السابقة، تكمن في أنها تناولت التراث والفكر العربي فقط وأهملت الأداة المنتجة، وهي العقل، وكيف تكون ومما يتكون ؟ وما المعطيات التي تحدد سلوك وطريقة هذا العقل ؟، لأننا بحسب الجابري إذا أردنا أن نجيب على سؤال النهضة وعن أسباب جمود وتقهقر العقل العربي بإجابة واضحة علينا أن نعود إلى دراسة تكوين العقل العربي والأداة التي قد تصنع التقدم كما قد تفضي إلى التأخر.

وانطلاقا من هنا بتتبع مسار تشكل العقل العربي وتتبع مصادره المعرفية التي أسست له، ولأن كل عقل محكوم بفضائه الثقافي بوصفه الإطار المرجعي لهذا العقل عندما مثلا يريد أن يفكر، فيفكر استنادا إلى هذا الإطار المرجعي الثقافي، وذلك من خلال ما بداخله من مفاهيم وتصورت وأفكار مسبقة تكون بها في الماضي.

وبناءً عليه هذا يدفعنا كما يقول الجابري لإعادة طرح سؤال النهضة مجددا لكن بطريقة مختلفة ليصبح السؤال على الشكل التالي: طالما أن كل عقل بطبيعة الحال يحمل الجديد في تكوينه الثقافي، فما البنى الثقافية والفكرية والمعرفية التي أدت بالعقل العربي إلى التأخر وأدت بالعقل الآخر إلى التقدم ؟

كلمة السر هنا بحسب الجابري تكمن كما ذكرنا من قبل في نوعية الثقافة المسيطرة ونوع ماهية التراث المهيمن عليها، فمثلا العقل اليوناني هو عقل فضائه الثقافي فلسفي – منطقي، والعقل الأوروبي الغربي هو عقل مرتبط بالعالم الطبيعي والمنطق العلمي، وأما العقل العربي فهو عقل وجداني – عاطفي ينطلق من النظرة الدينية ومرتبط بسلطة النص الثابتة، فإذن العقل العربي ذو بنية جامدة ثابتة وذلك من خلال تكونه الثقافي الماضي، وهذا ما جعل هذا العقل يعيش دائما في الماضي ويفكر بطريقة ماضوية رغم تغير الأحوال والأزمان والأمكنة.. إلخ.

أما ما الذي أدى إلى ثبات هذه البنية العقلية العربية على مر العصور وإلي اليوم؟ ؛ ولماذا ظلت البنية العقلية العربية ثابتة رغم اختلاف العصور والمراحل ورغم كل التطور والتقدم الذي طرأ ظل العقل العربي ثابت إلى اليوم فما السبب؟

اعتقد السبب كما يرى الجابري يعود إلى عصر التدوين في القرن الثاني الهجري، هذا العصر الذي شكل محطة تاريخية أساسية لتكون البنية العقلية العربية وثباتها، ففي هذا العصر كُتب كل الموروث العربي سواء الإسلامي أو الجاهلي. كذلك في هذا العصر جُمعت اللغة العربية من الأعراب وتم تدوينها وتقعيدها، كذلك في هذا العصر ظهر النحويون ووضعوا علوم اللغة من نحو وصرف وغيرها. كما جٌمع الحديث وكتب السيرة وبرز فقهها وعلم الكلام، وبدأت فيه أيضا إرهاصات ترجمة علوم الأوائل مترافقة مع بدء ظهور فلاسفة العرب.

وقد قدم كل هؤلاء اسهاماتهم وانتاجاتهم ليشكل هذا الإنتاج المنوع البنية الثقافية العربية والمرجع الأساسي لهذا العقل العربي الذي بقيَ دائرا منذ ذلك الزمن وحتى اليوم في فلك هذه الثقافة التي تكونت وتشكلت في عصر التدوين.

وهنا يطرح الجابري وجهة نظره، وهي أن العقل العربي كان محكوما بثقافته وتراثه، وهذا التراث متغلغل بشكل كبير بين ثنايا الوعي واللاوعي عند الإنسان العربي. إذن الإنسان العربي متعلق بهذه الدرجة بتراثه، ومن ثم كما يرى الجابري لا يمكن أن يكون حديثنا عن التخلي الكامل عن هذا التراث أو حتى لا يمكن اللجوء إلى عملية إسقاط لهذا العقل العربي مثلا في سياق حضاري آخر ومختلف عنه بشكل كامل.

ولذلك فالطريق الأمثل كما يرى الجابري تكون بإقامة علاقة صحيحة ما بين العقل العربي وهذا التراث، وهذا الأمر يكون بإعادة قراءة هذا التراث من واقع سياقه الزمني، والظرفي، والمكاني، قراءة نقدية موضوعية، وستعمل هذه القراءة على تنقية هذا التراث من كل الشوائب والأساطير والمرويات وكل ما يوجد به من مسبقات ثابتة كي نستطيع بعد ذلك أن نستخرج من هذا التراث ما يصلح مثلا لزمن وعصر اليوم.

وانطلاقا من هنا يبدأ الجابري بتحليل الخارطة المعرفية التراثية المكونة والمشكلة لبنية العقل العربي، وذلك بعد دراسة مكثفة ليتوصل الجابري بأن الجابري محكوم بثلاثة بني وأنظمة معرفية وهي التي شرحناها من قبل.

وقد انتقد طرابيشي مشروع الجابري، فيما سماه " نقد نقد العقل العربي "،  حيث يرى فيه أن كل مشروع الجابري يقوم في نقد العقل العربي على اصطناع قطيعة معرفية " بين فكر المشرق والمغرب، وعلى التمييز بين " مدرسة مشرقية إشراقية " و " مدرسة مغربية برهانية "، وعلى التوكيد على أن رواد " المشروع الثقافي الأندلسي – المغربي " – ابن حزم وابن طفيل وابن رشد وابن مضاء القرطبي والشاطبي –تحركوا جميعهم في اتجاه واحد "، هو اتجاه رد بضاعة المشرق إلى المشرق "، و" الكف عن تقليد المشارقة " و " تأسيس ثقافة أصيلة مستقلة عن ثقافة أهل المشرق ".

وكتاب " نقد نقد العقل العربي " لطرابيشي يتصدى لتفكيك تلك " الأبستمولوجيا الجغرافية " ؛ من منطلق التوكيد على وحدة بنية العقل العربي الإسلامي، ووحدة النظام المعرفي الذي ينتمي إليه، بجناحيه المشرقي والمغربي، ووحدة المركز الذي تفرعت عنه دوائره المحيطة. فلا التحول من دائرة البيان إلى دائرة العرفان أو دائرة البرهان، يعني انعتاقًا من جاذبية نقطة المركز، ولا التنقل بين الخانات يمكن أن يُشكل خروجًا عن رقعة شطرنج العقل العربي الإسلامي، الذي يبقى يصدر عن نظام أبستمي واحد، مهما تمايزت عبقريات الأشخاص، وعبقريات الأماكن.. وللحديث بقية!!

***

أ. د. محمود محمد علي – كاتب مصري

.....................

المراجع

1- كتابات الجابري الأربعة: تكوين العقل العربي، وبنيته، والعقل السياسي والأخلاقي، نشرة مركز دراسات الوحدة العربية.

2- قناة يوسف حسين: ملخص عن مشروع محمد محمد عابد الجابري النقدي حول تكوين وبنية العقل العربي.. يوتيوب.

3- قناة بلقيس الثقافية:  فصول | الجابري ومشروع نقد العقل العربي.. يوتيوب.

بقلم: ريك لويس - محرر مجلة الفلسفة الآن

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

***

في صباح يوم غائم، توجهت شيلا إلى المقهى وأسقطت حقيبة ظهرها بخشونة على الأرض بجوار كرسيها المعتاد. على الفور قال لها صوت: "أوه! إحذري!" دارت حول نفسها ولكن لم يكن هناك أحد هناك. "لا، لا، هنا"، قالت حقيبة ظهرها.

"الكمبيوتر المحمول." أخرجت جهاز الكمبيوتر الخاص بها، والذي بدا سالما بسبب معاملتها المتعجرفة له، وفتحته بحذر. هل تركت مقطع فيديو قيد التشغيل؟ قال مكبر الصوت المدمج: "هذا أفضل". "ضعيها على الطاولة بعناية."

"اعذرني؟"

"يا عزيزي، بالتأكيد لا يمكنك أن تنسى؟ أنا أنت. هنا فقط."

صرخت شيلا على وجه السرعة إلى صانع القهوة: "مرحبا، قم بإلغاء مشروب اللاتيه الثلاثي! منزوعة الكافيين بالنسبة لي.

"لا، أنت حقا هنا." قال الكمبيوتر المحمول. "كنا نفكر بالأمس في مركز الوعي ومكان وجوده. يتذكر؟ بدا الدماغ قابلا للتلف للغاية، واسفنجيا للغاية، بحيث لا يكون آمنا. لذلك قمت بتحميل ذكرياتنا وشخصيتنا إلى السحابة ونقلت مركز وعيي إلى جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بك... أمممم، "الخاص بنا". فقط كوني متأنية معها، هذا كل ما أطلبه. لقد تركت ما يكفي من الوعي المتبقي في جمجمتي لإدارة الوظائف الأساسية مثل المشي إلى المقهى وطلب الكرواسون. يجب أن يكون الأمر على ما يرام، فنحن نعمل بشكل أساسي على الطيار الآلي في أيام الاثنين على أي حال.

***

ربما ستستمتع بهذه المشكلة: فهي تتعلق بك في الغالب!

يغوص كتابنا في سيل من المشكلات الفلسفية حول العقل والذات. على سبيل المثال، هل يتم اتخاذ قراراتك بحرية أم أنك تقوم فقط بأداء رقصة حتمية محددة سلفا بين السبب والنتيجة؟ هل هويتك كفرد شيء ثابت ودائم؟ أم أنها تتغير؟ هل يعتمد على ذاكرتك؟ هل هي قابلة للقسمة؟ العائد؟ هل تمكنك الاستعارات من نمذجة العالم؟ هل عقلك في النهاية مجرد مجموعة من الخلايا العصبية؟ "اعرف نفسك"، هذا ما أمر به النقش الموجود على واجهة معبد أبولو في دلفي، وهي النصيحة التي أيدها سقراط بحماس، وأصبحت هدفا للفلسفة منذ ذلك الحين. إذن، كما ترى، أنت على حق تماما في التفكير في نفسك من حين لآخر، وحتى في قراءة مجلة تتحدث عنك تماما. سقراط يقول ذلك!

هل لديك عقل أم من الأفضل أن تقول أنك عقل، ربما هو الذي يملك جسدك؟ هل عقلك هو نفس دماغك؟ أم نفسك؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فهل عقلك يمتلك نفسك، أم العكس؟ هل يمكن لعقلك أن ينجو من موتك الجسدي عن طريق نقله إلى جهاز كمبيوتر، أو ربما تحميله على السحابة (مع أو بدون قيثارة)؟ هذا سؤال لا نتناوله هنا، على الرغم من أن دان دينيت، ذلك العالم الفيزيائي والمعرفي الشهير، قال إنه من الناحية العملية مستحيل لأن عمل دماغك داخل جمجمتك يتأثر ببيئته الكيميائية الشخصية للغاية، وهو أمر يمكن أن لا يمكن تكرارها في الكمبيوتر.

لدينا مقالتان للبحث عن الإرادة الحرة. هذا موضوع يرتبط ارتباطا وثيقا بالأسئلة المتعلقة بطبيعة العقل. غالبا ما ترتبط نظرية العقل لدى الفيلسوف بنظرية موازية تتعلق بحرية الإرادة. يقول أحد مؤلفينا إنه إذا كانت الإرادة الحرة فكرة متماسكة على الإطلاق، فقد تتمكن يوما ما من تعزيز مقدار الإرادة الحرة لديك عن طريق تناول حبوب منع الحمل.

ويمكن القول أن هذا الموضوع يتناول جوانب متنوعة من الطبيعة البشرية. لكن هذا يفترض وجود شيء اسمه الطبيعة البشرية. لقد شكك الكثير من الفلاسفة في هذا. على سبيل المثال، اشتكى الوجوديون من أن الحديث عن الطبيعة البشرية يفترض مسبقًا فكرة الجوهرية، وهي فكرة أن هناك طريقة نحن عليها بشكل طبيعي أو ينبغي أن نكون عليها. يرفض الوجوديون ذلك صراحة، قائلين إننا نخترع أنفسنا ويجب أن نستمر في اختراع أنفسنا طوال حياتنا.

من ناحية أخرى، آمنت فيليبا فوت بالطبيعة البشرية واستخدمتها كأساس للأخلاق، كما ترون من مذكراتها التي أعيد اكتشافها مؤخرا إلى مجلة الفلسفة الأن، والتي نُشرت أخيرا في هذا العدد.

ربما الطبيعة البشرية ليست ثابتة ولكن من الواضح أن البشر يتشاركون في العديد من الخصائص العقلية. إذا لم يكن الأمر كذلك، فمن المحتمل أن نجد أنه من المستحيل التعامل مع بعضنا البعض. إن قدرتنا على التعاطف، وقدرتنا على فهم بعضنا البعض، تعتمد على افتراضات (لا يمكن اختبارها بشكل مباشر) مفادها أن الآخرين يشبهوننا في كثير من النواحي من حيث تصوراتهم، وقدراتهم العقلية، واستجاباتهم العاطفية. أنت تشبهني قليلا، لذا أستطيع أن أحاول أن أفهمك، ولو بشكل ناقص.

ما الذي يجعلك أنت؟ ماذا لو تم تقسيم جزء منك أو تكراره؟ ماذا لو قام شخص ما بقص الأنسجة التي تربط بين نصفي الكرة في دماغك؟ هل سيكون هناك اثنان منكم بعد ذلك؟ أيهما سيمتلك السيارة؟ هل يجب أن يكون مركز وعيك موجودا في نفس مكان دماغك الجسدي؟ يبدو بديهيا. ومع ذلك، اعتقد أرسطو أن القلب هو مقر الذكاء، وهذا لم يمنعه من العمل أو تدريس الفلسفة. هل يمكنك نقل مركز وعيك خارج رأسك، مثل شيلا، أو ربما إذا استخدمت كاميرات عن بعد لتغيير الموقع الذي ترى منه العالم؟

تتكاثر الأسئلة إلى ما لا نهاية، والمساحة ضيقة جدا للتعامل معها جميعا. لكن الأخبار المذهلة التي أُعلنت للتو (انظر صفحة الأخبار لدينا) هي أن الباحثين تمكنوا من ربط ثلاثة أدمغة بشرية معا بشكل مباشر، مما مكن أصحابها من اللعب بشكل تعاوني، بدون كلمات، ولعب لعبة تشبه لعبة تتريس، مما يجعل هذه القضية الأكثر أهمية لدينا على الإطلاق.

***

........................

المصدر:

https://philosophynow.org/issues/130/You_and_Your_Mind

 

إن من يتابع الحراك الديني على المستوى الشعبي والرسمي/ الدولتي والمعرفي في تاريخنا المعاصر، سيجد ذاك الصراع المعلن أو الخفي بين أصحاب التيارات الدينيّة السائدة في الساحة السياسيّة والشعبيّة والمعرفيّة حتى اليوم، رغم قدمها في الخطاب الإسلامي، حيث تعود إلى مراحل متقدمة جداً من تاريخ الخلافة الإسلاميّة، وخاصة عندما بدأ يوظف الدين لتبرير التناقضات والصراعات الاجتماعيّة والسياسيّة من بداية قيام الحلافة الإسلاميّة بعد وفاة الرسول، وتاريخ هذه القضية في الإسلام يعود في الحقيقة إلى الفتن التي وجدت في الصدر الأول كمقتل عثمان، ومعركة الجمل وصفين، حيث بدأ المسلمون يتساءلون عن معنى الإيمان والكفر، وعن المعاصي أهي بقضاء نافذ، وأمر لا مرد له كما تروج ذلك السلطة الأموية، أم أن الإنسان مسؤول عما يقترفه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر؟ وما هي حدود هذه المسؤولية؟ هذه التناقضات والصراعات التي تمظهرت فكرياً  بين أصحاب الإرهاصات الأوليّة للتيار العقلاني، كما هو الحال عند (غيلان الدمشقي وجعد بن درهم، وعموم المعتزلة)، وغيرهم ممن أكد على حرية الإنسان وإرادته في تقرير مصيره، وبين أصحاب التيار الجبري الذي قال به (جهم بن صفوان) وتبناه مشايخ السلطان مع الحكم الأموي،  ثم مع الخلافة العباسيّة بشكل خاص كالحنابلة الذين فسح لهم في نشر تيارهم بشكل واسع الخليفة "المتوكل" الذي تبني فكرهم وجعله فكر الخلافة الإسلامية 232 للهجرة وصولاً إلى وهابيّة ودواعش العصر. ففي تاريخنا المعاصر، لم تزل المذاهب والعديد من الفرق الإسلاميّة قائمة وتمارس نشاطها، حيث نجد دولاً عربيّة وإسلاميّة ما زالت تتخذ من هذا المذهب أو ذاك، أو من هذه الفرقة الكلاميّة أو الدينيّة أو تلك، توجهاً دينيّاً لها، فهذه مالكيّة المذهب، أو أباضيّة، أو شافعيّة، وتلك زيديّة، أو اثنا عشريّة، وتلك تدعي الوسطيّة في الإسلام، وغيرها اعتمدت الفكر الأشعري أو الماتريدي.. وغير ذلك. الأمر الذي جعلنا نحمل معنا حتى تاريخه، تلك الصراعات الدمويّة والكراهية بين أصحاب هذه المذاهب والفرق الدينيّة. وبالتالي هذا يتطلب منا أن نعيد قراءة أهم المواقف الفكريّة العقيديّة التي لازالت تمارس نشاطها في حياتنا الاجتماعيّة والسياسيّة، محاولين كشف الأبعاد الحقيقيّة على الأقل لهذه المواقف، ودورها في زرع الخلاف بين أبناء أمتنا في تاريخنا المعاصر، والمساهمة بشكل فاعل في زيادة تخلف هذه الأمّة، علما أن الخلافات ذاتها وفي معظمها تدور حول قضايا غيبيّة ولاهوتيّة وضنيّة، لا يمكن ملامستها في الواقع، أو الحكم عليها علميّاً، كصفات الله، وخلق القرآن، والحساب والعقاب، ومرتكب الكبيرة، وعذاب القبر وغير ذلك من قضايا سُجن وعُذب ونُفي وقُتل الكثير ممن كان يأخذ بها أو عافها من المختلفين بالرأي حولها.

التيار الجبري:

الجبر لغة:

جاء في معجم المعاني الجامع – (معجم في اللغة العربيّة):

جبَرَ يَجبُر، جَبْرًا وجُبُورًا وجِبارةً، فهو جابِر، والمفعول مجبور – للمتعدِّي.

والجبر اصطلاحاً: هو إجبار وإكراه لإنسان على فعل أمر ما دون إرادته ورغبته.

وفي المصطلح الديني: هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الله. وكما يقول الشهرستاني في الملل والنحل: سُمِّي الجَبريَّة بذلك لأنهم يقولون: إن العبد مُجبر على أفعاله، ولا اختيار له، وأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى، وأن الله سبحانه أجبر العباد على الإيمان أو الكفر. (1). وهذا ما قال به "أبو حسن الأشعري" في كتابه (مقالات الإسلاميين): (هو إجبار الناس وإرغامهم على فعل شيءٍ من غير إرادةٍ أو مشيئة لهم. ويرى الجَبريَّة أن الناس لا اختيار لهم في أفعالهم، ولا قدرة لهم على أن يغيِّروا مما هم فيه شيئًا، وإنما الأفعال لله سبحانه؛ فهو الذي يفعل بهم ما يفعلونه، وجعلوا هذا مطلقًا في جميع أفعالهم، فإذا آمن العبد أو كفر فإن الإيمان أو الكفر أو الطاعة أو المعصية التي وقعت منه، ليست فِعلَه إلا على سبيل المجاز، وإنما الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه؛ لأن العبد لا يستطيع أن يغير شيئًا من ذلك.). (2)

و(الجبرية أصناف، هناك الجبرية الخالصة لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل بالأصل. وهناك الجبرية المتوسطة، وهي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة، وهذا ما قال به الأشاعرة في نظرية الكسب.  وهذا ما جعل المعتزلة يعدون الأشعريّة جبريّة.). (3).

و"الجَبْرية أو المجبرة"، هي فرقة كلاميّة وجدت في الإسلام كما وجدت في غيره من الديانات التوحيديّة الثلاثة، وجوهر عقيدتها، هو أنها تؤمن بأن الإنسان مسيّر وليس مخيراً لأنه لا قدرة له على اختيار أعماله، ولذلك فقد اعتبرها علماء أهل السنة والجماعة. من الفرق الضالة المخالفة لمنهج وعقيدة الإسلام الحق. أي مخالفة لأهل السنة والجماعة. ويقال إن أول من قال بهذا المذهب الباطل هو "الجعد بن درهم" مؤدب "مروان  بن محمد" آخر خلفاء بني أميّة، ولذا كان يلقب بـ"مروان الجعدى"، (4).

هذا وقد اعتبر الأشاعرة وأهل السنة عموماً الجبريّة في المقام الأول لوصف أتباع جهم بن صفوان (ت 746) وذلك لأن الأشاعرة يعتبرون عقيدتهم بموقف وسط بين القدريّة والجبريّة، ومن ناحية أخرى اعتبر المعتزلة أن الماتريديّة والأشعريّة بمثابة جبريّة لأنهم حسب رأيهم رفضوا العقيدة الصحيحة المتمثلة في الإرادة الحرة. وكذلك استخدم الشيعة (الزيديّة والاسماعيليّة والإماميّة الاثني عشريّة) مصطلح الجبريّة أو المجبرة متهمين به الأشعريين والحنابلة. مع أن الحنابلة والسلفيين عموما ينتقدون جميع الفرق الكلاميّة مثل القدريّة والجبريّة والمرجئة والجهميّة والمعتزلة وينعتونهم بالضالين. (5).

المرجعيّة المقدسة للجبريّة:

لقد اعتمد الجبريّة على نصوص مقدسة من القرآن والحديث لتأكيد موقفهم هذا، كقوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ).{التغابن: 11}. وقوله تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾. [الأنفال: 17]. وقوله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ). {التكوير: 28}.  وقوله صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). رواه الترمذي. (6).

مبادئ الفرقة الجبريّة:

إن أهم هذه المبادئ وأشهرها عندهم، هو مبدؤهم الخاص بأفعال العباد، وإن العباد في أفعالهم مجبرون، وكل ما يصدر عنهم إنما يصدر اضطرارًا، فليس لهم إرادة أو قدرة أو اختيار، فالعبد - كما يقولون - كالريشة المعلقة في الهواء، يُسيِّرها الهواء حيث يشاء؛ فكذلك العبد، هو في يد القدر يُسَيِّره حيث يشاء؛ فجميع أفعال العباد اضطراريّة، والله تعالى أوجد الفعل في العباد، كما أوجده في الجمادات والنباتات، وإذا نُسبت الأفعال إلى العباد، فإنما تنسب مجازًا باعتبار المحل، ولا تنسب إليه حقيقة.

نفي الصفات عن الله والقول بخلق القرآن:

لقد نفت الجبريّة قدم صفات الله، والكلام صفة من صفات الله؛ فإذا كان الكلام، صفة قديمة لله كان القرآن باعتباره كلامًا إلهيًّا قديمًا، وهم ينكرون القدم، إلا للذات الإلهيّة وحدها، ومن ثم فلا يكون الكلام قديمًا، ولا تكون صفات الله قديمة، وينبني عليه القول بخلق القرآن.

لقد اعتقدوا أن الله واحد في ذاته، بمعنى: أنه غير مركب من أجزاء، وأنه لا شريك له في ذاته، بمعنى: أنه غير متعدد، وهو واحد في أفعاله، فلا شريك له، ومن هنا، ذهبوا: إلى أن الله تعالى، لا يتصف بصفات زائدة عليه من العلم والقدرة، والإرادة وغيرها.

وهم لا يصفون الباري تعالى، بصفة يوصف بها الخلق؛ لأن ذلك يقتضي تشبيه الله تعالى بالمخلوقين، ولذلك نفوا وصف الله تعالى، بأنه حيٌّ، عالٍ، سميع، بصير، غني، حكيم، رحيم، ونفوا هذه الصفات عن الله تعالى، وما يماثلها مما يوصف به الخلق. وأخذوا بالآية: (ليس كمثله شيء).

موقفهم من الجنة والنار:

يؤمنون بأن حركات أهل الخلدين -الجنة والنار- تنقطع، وأن الجنة والنار، تفنيان بعد أن يتنعم أهل الجنة، ويتعذب أهل النار المدّة التي قدرها الله تعالى.

الإيمان عند الجبرية:

إن الإيمان عند الجبرية، يتحقق بمجرد المعرفة، حتى ولو لم يقر باللسان أو جحد اللسان؛ فمن عرف بقلبه، فهو مؤمن، حتى لو أنكر وكفر بلسانه.

المعرفة تَجِبُ بالعقل قبل ورود السمع؛ إذ أن العقل يمكنه معرفة الخير والشر، ويمكن أن يصل إلى معرفة ما وراء الطبيعة والبعث.

انكار تجسيد الخالق:

ينكر الجبريون أن يكون الله تعالى على العرش، أو أن له كرسيًّا، أو أن يكون في السماء دون الأرض، بل الله في نظرهم في كل مكان. وهم ينفون رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة. (7).

هكذا نرى أن الجبريّة يقحمون انفسهم في مناقشة وتأكيد قضايا تتعلق بالخالق ولا يعلمها إلا هو، وعلى هذا الأساس كفروا الناس وزندقوهم وقتلوا بعضهم، وبخاصة الفلاسفة العرب والمسلمين الذي رفضوا النقاش بهذه القضايا الغيبيّة، بغض النظر عن كل ما قدموه من قضايا تتعلق في علوم الحياة الماديّة والفكريّة معاً.

الرد على الجَبريَّة:

في التحليل السوسيولوجي والأنثربويولوجي (الأناسي) تعتبر الجبريّة في سياقها العام موقفاً سلبيّاً من الحياة بالنسبة للإنسان ودوره ومكانته في هذه الحياة، فتاريخ المجتمعات البشريّة من خلال الدراسات التاريخيّة للعصور البشريّة، بين لنا بأن بناء هذه الحياة في كل مفرداتها الماديّة والروحيّة قام بها الإنسان منذ أن صنع وسائل إنتاجه الأوليّة بيده، وصولا إلى كل حالات تطور هذه الوسائل، وما تركته هذه الوسائل ذاتها من تغيير في حياة الإنسان وإعادة تشكيل هذه الحياة بشكل مستمر مادياً وفكريا وفقاً لمصلحة من يتحكم بإدارة هذه الحياة في أفرادها ومجتمعاتها ودولها.

إن النص المقدس (القرآن والحديث) كثيراً ما أشار إلى حريّة الإرادة الإنسانيّة في اختيارات وممارسة أو نشاط هذا الإنسان في بيئته الطبيعيّة والاجتماعيّة معاً.

فالآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 272]. وقوله تعالى ({قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقوله تعالى: ({إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلي رَبِّهِ سَبِيلاً} [الإنسان: 29]، وقوله : ({اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصّلت: 40].

روى الشيخانِ عن الخليفة عمر بن الخطاب قوله: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى). (رواه البخاري ومسلم.).

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره.) رواه البخاري.

لا شك أن حالة التشابه في الآيات بين الجبر والقدر واضحة هنا، ولكن علينا أن ننتبه إلى قضيّة أساسيّة في التعامل مع هذا النص المتشابه، فالذين في قلوبهم زيغ يتبعون الموقف الجبري خدمة لمصالح أنانيّة ضيقة تحقق لهم وللسلطان الذي يعملون على خدمته منافع كثيرة، لذلك هم يعملون على دفع الناس لتبني الجبر بغية تجهيل الناس وتغييب عقولهم عن حقيقة أمرهم وما يحيط بهم. أما الذين يأخذون بمقاصد الدين وجوهره الحقيقي وخدمته للإنسان ورقيه وتقدمه، فهم يؤكدون على أن الإنسان حر في إرادته وتفكيره وهو مخير في أمره، وعلى هذا الأساس هناك الكثير من أصحاب هذا الرأي من رجال الدين حوصروا تاريخيّاً من قبل السلطات الحاكمة المستبدة ومشايخ السلطان وتاريخنا العربي والإسلامي ماضياً وحاضراً يدلنا على ذلك.

ملاك القول: لنتخذ من العقل وحريّة الإرادة في أعمالنا وتفكيرنا ما يؤكد إنسانيتنا ودورنا في صنع تاريخا.. هنا فقط نؤكد إنسانيتنا وبأننا خلفاء على هذه الأرض كما قال عنا النص الديني المقدس نفسه.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

..............................

الهوامش:

1- (الملل والنحل للشهرستاني جـ 1 ص ـ 87). الناشر مؤسسة الحلبي.

2- (مقالات الإسلاميين – أبو الحسن الأشعري - جـ 1 صـ 338). الناشر مطبعة الدولة – استانبول

3- (موقع اليوم السابع: من هم "الجبرية".. ولماذا رآهم أهل السنة والجماعة "فرقة ضالة"؟ محمد عبد الرحمن.).

كذلك يراجع : (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي جـ 2 صـ: 349).

4- المرجع ذاته. موقع اليوم السابع.

5- الويكيبيديا.

6- (موقع اسلام ويب.عقيدة القدرية والجبرية .(ولمعرفة عقيدة الجبرية والقدرية راجع كتب العقيدة، وراجع الفتاوى التالية مع إحالاتها: 9192، 36591، 35375.) كما وردة في مقال الموقع ذاته.

7- للاستزادة في معرفة مبدئ الجبرية راجع: موقع المعلومات: ما هي الفرقة الجبريّة. محمود عاطف.

يقول نيتشه: عندما نكون متعبين  تهاجمنا من جديد تلك الأفكار التي هزمناها منذ مدة طويلة.. هل هو عودة المكبوت؟ هل بناء لم يكن صلب، هل تغيرت المعاني في الفهم سلبًا، أم إيجابًا؟ النضج أم التدهور! نحاول في هذه السطور أن نبين كيف يكون التحليل النفسي ضياء للمعرفة عما يدور في دواخلنا، إذا ما سلمنا جدلًا بأن النفس تعرف مسعاها، ونحن نتفق مع دواخلنا بهذه المعرفة، ولكن لا نريد أن نعرف!! هل هذه المعرفة مؤلمة؟ هل هي تاريخ غابر به من الخجل ما لا نريد معرفته فيصطدم بجدار الحقيقة، وما أدراك من الحقيقة،  التي تكمن فينا ونحاول ازاحتها إلى موضوعات جانبية نبررها، نسقطها، ننقلها إلى موضوع آخر لكي لا نعرفها، ونحن نعرفها حق المعرفة، وندركها في وعينا وفي لا وعينا، نكبتها خجلًا أو خوفًا، أو نصطنع الضد منها بوصفه خير وسيلة لضبط الرغبة المحظورة وكبتها كما يقول "مصطفى زيور".

تؤكد لنا المعرفة النفسية المعمقة في النفس أن عناصر الوعي المتخيل في الفكر هي عناصر الوعي نفسها التي نمنحها عادة أسم الأفكار، هذه الأفكار هي وعينا بهذا الموضوع، أو ذاك، وهي بكل الأحوال تتكون بعدة طرائق من التفكير وقوة تقديرها، أعني تأثيرها فينا، والشعور بها في لحظات حينما تداهمنا بلا سابق انذار، وهو يمكن أن يكون تفكير رمزي، لا نستطيع رفضه، ويجبرنا على قبوله، والمهم هنا يعلمنا التحليل النفسي كيف نُكونْ  هذه الصورة على أنها أثرٌ مادي رغم أنها عنصر غير حي، ويلعب الدور الأساس في أما تدهور صحتنا، أو رفضه، وحتى لو رفضناه سيعود يومًا بشكل آخر محرف!! وهنا يصدق نيتشه حينما يرى:  تهاجمنا من جديد تلك الأفكار التي عرفناها وتعاملنا معها وسلطنا الضوء عليها بضياء التحليل النفسي قبل الخوض في العلاج ليكون الشفاء. ويقول "سارتر" لا يمكننا قبول تصور تضاف بموجبه الوظيفة الرمزية على الصورة من الخارج، يبدو لنا، ونأمل أن نكون قد أوضحنا إلى حد ما أن الصورة رمزية في جوهرها وبنيتها بذاتها، ولا يمكن لأحد أن يقمع وظيفة الصورة الرمزية من دون التسبب في تلاشي الصورة نفسها. ونقول كيف تأسست وأَنبنت ؟ وكيف تم استدعائها في تلك اللحظة من المكان والزمان، ومن استدعاها ؟ هذه التساؤلات يجيب عليها التحليل النفسي بشكل مسهب ومستفيض بالمعرفة الحقة، من فرويد مرورًا إلى أنا فرويد وهيلين دويتش وميلاني كلاين، وحتى من خرج على التحليل بإتجاهات جديدة منهم الفرد آدلر، أو كارل يونغ، أو غيرهم، وصولا إلى عمق ما طرحه جاك لاكان في رؤيته الأعمق في مفاهيم سيجموند فرويد، وسبر أغوار النفس.

التحليل النفسي يعرفنا باستبصار ما يدور في دواخل أنفسنا، وهو ما كان يعنيه  مصطفى زيور بضياءٍ، ومن ثم فهو شفاء، وقوله نقلا عن فرويد: إن المريض الرئيس الذي يشغلني حاليًا هو نفسي. ويؤكد " مصطفى زيور" النفس أثناء جهادها للمعرفة، لا تقتصر على أن تكون مرآة تعكس الأشياء، لأن الانتقال من المعرفة المشوشة إلى المعرفة الواضحة الجلية، ضياء وشفاء للنفس معًا. فلو كان الشخص الذي يعرف أنه يوسوس ويحاول جاهدًا استبعاد الفكرة التي تجعل منه يوسوس، ولكنه كلما حاول وبحث وناقش مع نفسه، تعاظم وسواسه، فنراه حينما يطرح أتفه مسألة نراه يثير مسائل أخرى تعذبه مثل المسألة التي يحاول طرحها، ويظل يدور في حلقة مفرغة لا يستطيع رفضها، أو يعززها ليبذل جهودًا مضنية في استبعادها، وهو على معرفة تامة بما يفكر به، ويقوم بفعله، يقوم بالفعل ونقيضه، لذا فالتحليل النفسي كما عبر عنه سيجموند فرويد بأنه ينقلنا ليس من الشقاء  إلى السعادة، وإنما إلى شقاء مرضي إلى شقاء عادي، فكما تتطلب الحياة الهادئة راحة البال يتطلب التفكير الناجح التركيز وصفاء الذهن. 

يرى "جاك لاكان " إن مفهوم الفهم هذا له دلالة واضحة جدًا، إنه المنطلق الذي جعل منه "ياسبيرز " تحت إسم علاقة الفهم، ركيزة كل عطاءه في علم النفس المرضي، وهذا المفهوم يؤدي إلى التفكير بأن أشياء مفهومة في حد ذاتها، فإذا حزن شخص مثلا، فَمَرد ذلك إلى أنه لم يحصل على ما رغبت فيه نفسه، إلا أنه ليس هناك أبعد عن الصواب من هذا القول، ذلك لأن هناك أشخاصًا ملكت أيمانهم كل ما ترغب إليه قلوبهم وأنفسهم،  إلا أنهم مع ذلك يبقون في حزن شديد، فالحزن إذًا هو شغف من طبيعة مغايرة تمامًا. وهذا المفهوم الذي هو مفهوم المفهوم لا تتم الإشارة إليه إلا كعلاقة متموضعة دومًا على الحدود، كلما تم الإقتراب منها أصبحت بعيدة المنال كما يقول لاكان. ويضيف " لاكان" أيضًا  أن كل ما هو سيكولوجي في السلوك الإنساني يخضع لإضطرابات جدًا عميقة، ويتضمن مفارقات جدًا واضحة، إلى حد تستحيل فيه معرفة ما يمكن فعله بشأنه كي يتسنى التفريق في مجاله بين الخيط الأبيض والخيط الأسود. فالتحليل النفسي معرفة قل نظيرها ومختلفة عن العلوم النفسية التي دائمًا تأخذ أجزاء من النفس وتكتفي بها، وكأنها جشطالت غير متكامل الأجزاء، فمعرفة حدة الشخصية، أو دراسة أبعاد الإندفاعية والغضب، أو بعض الأنماط المعرفية عن ظاهرة جزئية في النفس، أو دراسة أنماط محدودة من النفس وربطها باضطراب نوع من أنواع الشخصية وغيرها، لا يمنح التعرف على ما يدور بكل ما فيها وأقصد هنا النفس ، وتساؤلنا كيف تتم المعرفة ؟ وكيف يمكن الإهتداء بكلية النفس ومعرفتها؟ في حين أن المعرفة الكلية بالموضوع دون تجزءته تجعل صاحبها يبصر بعمق لما يجري في نفسه، وهو ضياء للمعرفة.

 يبين لنا التحليل النفسي عدة مواقف في حياتنا النفسية نستدل بها في  بعض الأحيان بالفطنة رغم انها موجودة فينا، لم تغادرنا منذ تكونها من الطفولة،  وأزاء ذلك فقول سيجموند فرويد

وقد أكدت التجربة هذه،  فعادة ما يتم اختزال نسيان الانطباعات والمشاهد والتجارب في "حجبها" فعندما يتحدث المريض عن هذا الشيء "المنسي"، نادرا ما يفشل في إضافة: بقوله  الواقع كنت أعرف ذلك دائما، أنا فقط لم أفكر في ذلك. غالباً ما يعبر عن خيبة أمله لأنه لا يستطيع التفكير في ما يكفي من الأشياء التي يمكن أن يتعرف عليها على أنها "منسية".

والتي لم يفكر فيها مرة أخرى منذ حدوثها، كما ورد هذا النص عند فرويد في مقالة التذكر والتكرار، من خلال،  ترجمة الصديق الاستاذ محمد أمين، ويضيف فرويد أيضًا: من العمليات النفسية التي يمكن مقارنتها بالانطباعات والتجارب كأفعال داخلية بحتة، والتخيلات، والعمليات العلائقية، والعواطف، والارتباطات، فيجب النظر إليها بشكل منفصل في علاقتها بالنسيان والتذكر،  يحدث هنا في كثير من الأحيان أن يتم "تذكر " شيء ما ولا يمكن "نسيانه"  أبدًا لأنه لم يتم ملاحظته مطلقاً في أي وقت، ولم يكن واعياً أبدًا، فضلا عن  ذلك  يبدو أنه لا علاقة له على الإطلاق بالعملية النفسية ما إذا كان هذا "الارتباط" واعياً أم لا. ثم نسيها أو لم يستحضرها إلى الوعي أبدًا.

لا نجافي الحقيقة كثيرًا، أو نبتعد عنها إذا ما أطلعنا على أفكار ونظريات التحليل النفسي بكل اتجاهاته، أنه يدلنا على معرفة ما يدور بدواخلنا، وإذا ما تمعنا به بعمقق لوجدنا أنفسنا نضع أصابعنا على مواضع نعرفها، ولكننا نخاف الغوص فيها، لأنها بؤر ربما ضحله، بها ذكريات مؤلمة نسيناها وتناسيناها، فما هو بداخلنا يمكن أن يقدم لنا التحليل النفسي خدمة الضياء له، وبالتحليل النفسي يكون العلاج منه، إن وجدنا لذلك من بدٍ له وضرورة، ولا يوجد في إنسان اليوم من يبرأ  مما رشح في داخله من آلم ترك الذكريات، فالتحليل النفسي هو الضياء، وهو الشفاء.

***

د. أسعد شريف الامارة

 

وفي العصر الرقمي الذي نعيشه اليوم، أصبحت مخاطر الشمولية أكثر انتشارا من أي وقت مضى. الشمولية هي نظام سياسي لا تعترف فيه الدولة بأي حدود لسلطتها وتسعى إلى تنظيم كل جانب من جوانب الحياة العامة والخاصة. مع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبح لدى الحكومات والشركات إمكانية وصول غير مسبوقة إلى المعلومات الشخصية للأشخاص، مما يسمح لهم بمراقبة الأفراد والسيطرة عليهم على مستوى لم يسبق له مثيل من قبل. في هذا المقال، سوف نستكشف السياق التاريخي للشمولية، وتأثيرها في العصر الرقمي، والشخصيات الرئيسية في هذا المجال، والتطورات المستقبلية المحتملة.

تتمتع الشمولية بتاريخ طويل، مع أمثلة مثل ألمانيا النازية، وروسيا الستالينية، وكوريا الشمالية الحديثة. سعت هذه الأنظمة إلى الحفاظ على السلطة من خلال المراقبة والرقابة والتلاعب بالمعلومات. مع ظهور الإنترنت، أصبح لدى الحكومات والشركات أدوات جديدة تحت تصرفها لمراقبة مواطنيها والسيطرة عليهم. على سبيل المثال، يستخدم نظام الائتمان الاجتماعي في الصين البيانات من كاميرات المراقبة، والنشاط عبر الإنترنت، والمعاملات المالية لتحديد تصنيف لكل فرد، وهو ما يحدد مدى وصوله إلى الخدمات والفرص. يعاقب هذا النظام المعارضة بشكل فعال ويكافئ الولاء للدولة، مما يخلق ثقافة الخوف والرقابة الذاتية.

إن تأثير الشمولية في العصر الرقمي يتجاوز سيطرة الحكومة. قامت شركات مثل فيسبوك، وجوجل، وأمازون بجمع كميات هائلة من البيانات عن مستخدميها، والتي تستخدمها للإعلانات المستهدفة والتلاعب. تتمتع هذه الشركات بالقدرة على التأثير على الرأي العام، وتشكيل النتائج السياسية، وحتى التأثير على الانتخابات. إن الفضيحة الأخيرة التي تورطت فيها شركة كامبريدج أناليتيكا، والتي استخدمت بيانات فيسبوك لاستهداف الناخبين في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، تسلط الضوء على مخاطر قوة الشركات غير الخاضعة للرقابة في العصر الرقمي.

ومن الشخصيات الرئيسية في مجال مخاطر الشمولية في العصر الرقمي المبلغين عن المخالفات مثل إدوارد سنودن وتشيلسي مانينغ، الذين كشفوا عن برامج المراقبة الحكومية وانتهاكات حقوق الإنسان. لقد خاطر هؤلاء الأفراد بحريتهم وسلامتهم لتسليط الضوء على مدى سيطرة الدولة في العصر الرقمي. أثارت أفعالهم جدلا وأدت إلى إصلاحات في بعض البلدان، لكنهم واجهوا أيضا ردود فعل عنيفة واضطهادا من السلطات.

بالإضافة إلى المبلغين عن المخالفات، لعب النشطاء والصحفيون والأكاديميون أيضا دورا حاسما في رفع مستوى الوعي حول مخاطر الشمولية في العصر الرقمي. تعمل منظمات مثل مؤسسة الحدود الإلكترونية ومنظمة العفو الدولية ومنظمة مراسلون بلا حدود على حماية حقوق الخصوصية وحرية التعبير وحقوق الإنسان على الإنترنت. تدافع هذه المجموعات عن حقوق مستخدمي الإنترنت، وتتحدى الرقابة والمراقبة، وتعزز الشفافية والمساءلة في ممارسات الحكومة والشركات.

وعلى الرغم من هذه الجهود، فإن مخاطر الشمولية في العصر الرقمي لا تزال تتطور. يشكل التقدم في التكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي، والتعرف على الوجه، وجمع البيانات البيومترية تهديدات جديدة للخصوصية والحرية. وتستخدم الحكومات والشركات هذه الأدوات بشكل متزايد لمراقبة الأفراد والسيطرة عليهم، مما يؤدي إلى مستقبل يتم فيه إسكات المعارضة وتآكل الاستقلالية. ومن الضروري أن يظل المجتمع يقظا ومقاوما لهذه التعديات على الحريات المدنية.

في الختام، فإن مخاطر الشمولية في العصر الرقمي حقيقية ومنتشرة. من المراقبة الحكومية إلى سيطرة الشركات، يواجه الأفراد تهديدات غير مسبوقة لخصوصيتهم وحريتهم واستقلاليتهم. تعمل الشخصيات الرئيسية مثل المبلغين عن المخالفات والناشطين والمنظمات بلا كلل لحماية الحقوق على الإنترنت، لكن المعركة لم تنته بعد. إن الوعي والنشاط والدعوة ضرورية لحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان في العصر الرقمي. ومع استمرار التقدم التكنولوجي، يجب على المجتمع أن يظل يقظا واستباقيا في الدفاع ضد الشمولية بجميع أشكالها. يعتمد مستقبل الحرية والديمقراطية على جهودنا الجماعية لمقاومة الاستبداد ودعم القيم الديمقراطية في العصر الرقمي.

***

محمد عبد الكريم يوسف

ما هو الدين؟ ومن اين نشأ؟

لو جمعت الاجابات التي كتبت عن هذين السؤالين ووضعتها في باخرة لغرقت!. والاشكالية الاعقد انك لو قراتها كلها لما وصلت الى تعريف او مفهوم للدين، ولما ارحت دماغك بالوصول الى مصدر نشأته فتخلص الى نتيجة، ان الفلاسفة والعلماء بتنوع اختصاصاتهم قد استعصى عليهم الاتفاق على تعريف محدد للدين، وما اذا كان قد نشأ من عقل الحيوان البشري ام من قوة مجهولة، ، وما اذا كانت قد خلقت الكون قوة تتجاوز نفسها يدعوها بعضنا الله.. تواصل اهتمامها وعنايتها بما خلقته. ولماذا يقدم كل دين نسخته الخاصة به عن هذه القوة المدعوة الله ، وعما تريده منا، وماذا سيحدث للناس بعد موتهم ما اذا كانوا سيتحلون الى رماد وينتهون أو انهم الى عالم آخرسيبعثون؟!

سنبدأ هذه الحلقة في موقف علم النفس من الدين بأشهر أربعة في موقفين متضادين:

علماء النفس والدين

كانت العلاقة بين علم النفس والدين في النصف الاول من القرن العشرين ضعيفة ومرتبكة وفيها اشكالية خلاصتها ان عالم النفس لا ينظر للدين باهتمام وجدية، وان المتدين لا يعتبر علم النفس علما، ما يعني ان علم النفس والدين لا يمكن التوفيق بينهما، وانه من المستحيل ان يكون هناك علم بأسم علم نفس الدين. وبقي هذا الحال الى سبعينيات القرن الماضي، ففيه بدأت (المصالحة) وظهرت مقالات ومنشورات توظف علم النفس في تحليل موضوعات دينية، تطورت الى محاولات طموحة بينها ظهور كتاب في 1988 بعنوان علم نفس المعرفة الدينية لـ(واتس وويليمز Watts&Wplliams) ليشهد عقد التسعينيات الاعتراف علميا بعلم النفس الديني.

سنبدأ بايجاز مواقف فريقين متضادين من اشهر علماء النفس والاجتماع، نطرحها بموضوعية وحيادية، أي أن دورنا هو الناقل لوجهة النظر وليس الناقد لها..ونبدأها ب(شيخ) النفسانيين، سيجموند فرويد.

1- سيجموند فرويد:

بدأت تأملات فرويد الأولى حول الدين من أوجه التشابه بين الأعراض العصابية والممارسات الدينية، وتتدرج في ايضاح رأيه بالدين عبر عدد من مؤلفاته، بدأ اهمها بالطوطم والتابو(1913)، ومستقبل وهم، وخلل في الحضارة، وانتهى بموسى والتوحيد (1937)، وصف الدين فيها بانه "عصاب قهري عام". واعلن ان التحليل النفسي كان آخر من تصدّى بالنقد للنظرة الدينية للكون، بأن ردّ اصل الدين الى عجز الطفولة وقلة حيلتها، وردّ مضمونه الى بقاء رغبات الطفولة وحاجاتها حتى سن النضج. موضحّا بأنه لا يتضمن على التحديد دحض الدين، لكنه ضروري لمعلوماتنا عنه، واننا (فرويد) لانتناقض مع الدين الا حين يدّعي انه ذو اصل الهي.

وعن اصل نشوء الدين يجيب فرويد بأنه اكتشف مبدأ " القدرة المطلقة للافكار " الذي يوجد بدوره في اساس السحر، وأنه مضى في نشوء الكون بمقارنته نقطة فنقطة بعصاب الوسواس القهري، وبيّن ان كثيرا" من مسلمات الحياة النفسية البدائية لا تزال فعّالة لذلك الاضطراب الغريب.

والواقع ان نظريات التحليل النفسي تفسر الدين بدلالة (وهم) ناجم عن تفكير مرغوب فيه يشكل بديلا لشخص الأب، وتصف الدين بأنه علاقة وهمية تتوسط بين العالم النفسي الداخلي للانسان وبين العالم الخارجي الذي يعيش فيه، ناجمة عن عمليات اسقاطية.واوضح في كتابه " مستقبل وهم " ان الدين ينبع من عجز الانسان في مواجهة قوى الطبيعة بالخارج والقوى الغريزية داخل نفسه.مع التوضيح بأن وصفه للدين بانه (وهم) لا يعني القول بأنها خاطئة بل يعني انها تخضع لمنطق الرغبة وليس منطق الحقيقة، تماما مثل وهم سكرتيرة بعمر عشرين سنة..تحلم بانها ستتزوج مديرها ذي الستين عاما.

ولقد ذهب فرويد الى ابعد من وصفه للدين بأنه " وهم " بقوله ان الدين " خطر " لأنه يميل الى تقديس مؤسسات انسانية سيئة تحالف معها على مر التاريخ. فضلا" عن ان ما يقوم به الدين، يضيف، من تعليم الناس الاعتقاد في وهم وتحريم التفكير النقدي بأن يجعله مسؤلا" عما اصاب العقل من فقر.

ومع أن فرويد وصف الدين بأنه حالة سيكولوجية لقضية وهمية، فأنه لم يسفّه العقائد الدينية ولم يقل عنها انها كاذبة.

2- فروم:

يعرّف فروم الدين بأنه (أي مذهب للفكر والعمل تشترك به جماعة ما، ويعطي للفرد اطارا للتوجيه وموضوعا للعبادة). ويرى أن الدين على أنواع، فهنالك أديان توحيدية وأخرى متعددة الالهة، غير أنه يركز في نوعين يطلق عليهما: الأديان الانسانية humanistic والأديان التسلطيةauthoritarian . ويقصد بالنوع الأول ألاديان التي يأتي بها أشخاص مثل بوذا، الذي يعدّه معلما عظيما ويصفه " بالمستنير " الذي أدرك حقيقة الوجود الانساني وتحدث باسم العقل وليس باسم قوة فائقة على الطبيعة. أما الأديان التسلطية (يقصد السماوية) فان العنصر الجوهري فيها هو الاستسلام لقوة تعلو على الأنسان، والطاعة فيه هي الفضيلة الأساسية والعصيان هو الخطيئة الكبرى. وكما تصور هذه الأديان (التسلطية) أن الاله قوي شامل القدرة ومحيط علما بكل شيء، فانها تصور الانسان بالمقابل على أنه عاجز، تافه الشأن، ولا يشعر بالقوة الا بمقدار ما يكتسب من فضل الاله ومعونته عن طريق الاستسلام التام. فالاله في الدين التسلطي رمز للقوة والجبروت، وهو الأعلى لأن له القوة الأعلى، والانسان الى جواره لا حول له ولا قوة، على حد تعبير فروم.

وينّبه فروم الى أن الدين التسلطي العلماني (أو الدنيوي) يتبع هذا المبدأ نفسه. فهنا يصبح الفوهرر أو " ابو الشعب " المحبوب، أو الدولة، أو الوطن الاشتراكي..موضوعا للعبادة، وتصبح حياة الفرد تافهة، وتتألف قيمة الانسان من انكاره لقيمته وقوته.غير أن فروم يفضل ما يسميه الدين الانساني على الدين التسلطي، لأن هدف الانسان في الدين الانساني هو أن يحقق أكبر قدرة من القوة، لا أكبر قدر من العجز، والفضيلة هي تحقيق الذات لا الطاعة، والايمان هو يقين الاقتناع المؤسس على تجربة المرء في مجال الفكر والشعور لا على تصديق قضايا وفقا لذمة المتقدم بها. والمزاج السائد فيها هو الفرح، فيما المزاج السائد في الدين التسلطي هو الحزن والشعور بالذنب، يضيف فروم.

3- يونج:

اذا كان فرويد (ضد أو عدو) الدين فان يونج (مع أو صديق) الدين. ولهذا السبب فقد دعمته الكنيسة، ليس فقط لأنه مع الدين بل لأنه انشق على فرويد واختلف معه في طروحاته بخصوص الجنس وعقدة أوديب واللاشعور والدين. فالقاريء لنظرية فرويد يستنتج منها أن الانسان هو الذي خلق الدين فيما يستنتج من نظرية يونج أن الدين بنظامه الأخلاقي هو الذي خلق الانسان.

ولقد بدأ اهتمام يونج بالدين بعد أن انفصل عن فرويد وتخلص من سلطته عليه، وتأسيسه مدرسة أو منهجا أسماه (علم النفس التحليلي)، فتوجه نحو دراسة الأساطير والرموز القديمة والطقوس وعادات الشعوب البدائية والاحلام وامراض العصابيين وهلوسات الذهانيين..وخلص الى نتيبحة عدّ فيها شخصية الفرد نتاجا ووعاء يحتوي تاريخ اسلافه. ورأى أن الأساطير والتقاليد القديمة والرموز والأفكار المجردة تنتقل من جيل لآخر عبر مفهوم أطلق عليه مصطلح اللاشعور الجمعي Collective Unconscious الذي يعدّه مخزن آثار الذكريات الكامنه التي ورثها الانسان عن ماضي أسلافه، وأن الدين هو من بين الأمور التي يحتويها هذا اللاشعور الجمعي الانساني بصورة طبيعية بوصفه مسألة فطرية، ويستنتج: بما أن الدين أقرته المجتمعات عبر تاريخها الطويل، وما تزال، اذن فهو حقيقة موضوعية.

ويعرّف التجربة الدينية بانها شيء تسيطر عليه قوة خارجة عنّا، وأنها تتسم بضرب خاص من الخبرة العاطفية هي الخضوع لقوة أعل.ويرى ان انعدام الشعور الديني يسبب كثيرا من مشاعر القلق والخوف من المستقبل والشعور بعدم الامان والنزوع نحو الرغبات الغريزية.

4- فرانكل:

لموقف فرانكل الايجابي من الدين واقعة في منتهى القسوة. فهو طبيب نفسي نمساوي أمضى خلال الحرب العالمية الثانية ثلاث سنوات في أحد المعسكرات النازية.وكان والده وأخوه وزوجته قد لقوا حتفهم في معسكرات الموت. وعن هذه التجربة القاسية والمرعبة أصدر عام 1959كتابا بعنوان (من معسكر الموت الى الوجودية) أعاد طبعه عام 1963 بعنوان (الانسان يبحث عن المعنى) وصف فيه الاذلال والمهانة والرعب والتعذيب التي عاشها في السجن، وشرح كيف استطاع هو وآخرون أن يعيشوا نفسيا في ظروف معسكر الموت.واستنتج بأنه استطاع أن يحافظ على توازنه الانفعالي لكونه نجح في ايجاد معنى لمعاناته المريرة التي ربطها بحياته الروحية، وأن روحه هي التي أعطته الحرية لتجاوز ظروف..الابادة فيها متوقعة كل ساعة.

والذي جعل فرانكل يتحول من منهجه الفرويدي الى منهج روحي وجودي هو أنه لاحظ أن السجناء الذين كانوا معه في معسكر الاعتقال كانوا على نوعين، الأول:شحبت وجوههم وهزلت أجسامهم وصاروا جلدا على عظم، والثاني:صمدوا وظلوا في صحة جسمية ونفسية أفضل.. وتبين لي بعد دراستهم، أن الصنف الأول فقدوا الأمل في الخلاص وصاروا كالمحكوم بالاعدام الذي ينتظر لحظة التنفيذ، فيما النوع الثاني كان لديهم ايمان ديني او روحي منحهم القدرة على تحمل المعاناة والتعلق بالحياة.

ويعتقد فرانكل ان الامراض النفسية وبخاصة الكبت تنشأ حين لا يكون للفرد غرض او هدف في العيش او الحياة، وأن الانسان يكون أكثر مقاومة للمرض النفسي وأسرع تعافيا منه اذا كان في حياته معنى يشكل له هدفا وغاية، وأن الايمان من أهم المعاني التي تمنح لحياة الانسان معنى وجدوى، ويكون لوجوده أهمية ومغزى، اوصلته الى ابتكار طريقة جديدة في العلاج النفسي أسماها (العلاج بالمعنى Logo Therapy)، يوظّف فيها الأفكار والنصوص الدينية التي يعتقد بها المريض في تصحيح ما لديه من أفكار مرضية أو مغلوطة.وابتكر نوعا جديدا من العصاب أسماه (عصاب اللامعنى أو الفراغ الوجودي) حدد أهم أعراضه بالشعور بالملل والتعاسة والفراغ الداخلي وعدم الرضا والاحساس بأن الحياة لا لون ولا طعم لها بالرغم من أنه لا يوجد سبب واضح لهذه الأعراض.ويعزو فرانكل أسباب العزلة والاغتراب الى فشل صاحب المعاناة في أن يجد معنى واحساسا بالمسؤولية ازاء وجوده. وبهذه الانجازات فقد عدّته مجلة تايم الأمريكية بأنه يمثل المدرسة النمساوية الثالثة في العلاج النفسي بعد فرويد وأدلر.

ونوضّح، من جانبنا، أن في الفلسفة الوجودية فريقين من الوجوديين، الأول: وجوديون مؤمنون، ويمثلهم جابريل مارسيل وكارل يسبرز من الفلاسفة، وفرانكل من علماء الطب النفسي. والثاني: وجوديون ملحدون، ويمثلهم هايدجر وسارتر من الفلاسفة، ورولو مي من علماء النفس.

ويرى الفريق الأول (المؤمنون) أن للانسان طبيعة بشرية خلقه الله بمقتضاها، ثم بعد ذلك يختلف الناس ويتباينون، فيما ينكر الفريق الثاني (الملحدون) أن للانسان شيئا أسمه الطبيعة البشرية، لأنه لا يوجد الربّ الذي تمثل وجود هذه الطبيعة..كما يرون.

مؤكد انك ستتساءل عن موقفنا نحن من الدين.. ولك ان تجده في كتابنا (الدين والسلطة).. وقد نوجزه في مقالة قادمة..مع تساؤل لك: مع ايهم انت من هؤلاء الأربعة في موقفهم من الدين؟

***

أ.د. قاسم حسين صالح

بعد جدالات الأسبوعين الماضيين، قد يسألني القارئ العزيز: لنفترض أنَّنا أردنا التَّحررَ من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتطلباته، فما الذي يتوجب فعله كي ننجز هذه المهمة؟

الواقع أنَّ عدداً من الأصدقاء قد وجَّه هذا السؤال فعلاً. لكنّي لاحظت أنَّ بعضهم استعمل عبارات توحي بالقلق من تحوّل كهذا. من ذلك مثلاً، قول من قال إنَّ الانتقال للحداثة سيؤدي للتخلي عن الدين. ومثله قولهم إنَّ الصين واليابان وكوريا وحتى بريطانيا، لم تتخلَّ عن تقاليدها القديمة حين قرَّرت ركوبَ قطار الحداثة، فلماذا نطالب نحن بالتخلي عن تلك التقاليد؟

ويتراءَى لي أنَّ هذا النوع من الأسئلة، يستبطن رغبةً قوية في التَّحرر من قيود الماضي، لكنَّه - من ناحية أخرى - يشير إلى تخوّف من الكلفة النفسية والاجتماعية، التي ربَّما تترتَّب على اتخاذ القرار. الذين يطرحون هذه الأسئلة، يحاولون القول بطريقة ضمنية: هل لديكم طريقة لتخفيف الكلفة، نظيرَ ما فعل الصينيون أو اليابانيون مثلا؟

حسناً، دعنا نقل من حيث المبدأ إنَّنا لا نملك دليلاً نهائياً قاطعاً، على أنَّ طريقة الحياة الحديثة أو نظيرتها التقليدية، خالية من العيوب والنواقص. في كل من الحياتين فضائل وفيها نواقص. لكن الذي ندّعيه أنَّ فضائل الحداثة أوسعُ وأعمقُ من نظيرتها التقليدية، كما أنَّ عيوبَها أيسرُ علاجاً وأقلُّ مؤونةً. ومن هنا فإنَّه يصعب جداً إقناع الناس باختيار هذا الطريق أو ذاك. إنَّها مسؤولية فردية. بوسع كل فرد منا أن يتأمَّل في حياته الخاصة والخيارات التي أمامه، ثم يختار ما يراه اقربَ لمصلحته أو تطلعاته. وفي كلا الحالين سيجد ما يكفي من المبررات لدعم هذا الخيار أو نقيضه.

إنَّ التحرر من حياة التقاليد ليس صعباً جداً من الناحية المادية، لكنَّه - على أي حال - يحتاج إلى تبني «رؤية كونية» جديدة، أي القواعد الكبرى التي يقوم عليها فهم الإنسان لذاته وعالمه، وعلاقته بالبشر والأشياء في هذا العالم. من بين تلك القواعد، أريد التأكيد على ثلاث:

الأولى: الإنسان محور الحياة في هذا الكون، ولحياته وكرامته أولوية مطلقة على كل شيء آخر. وهو - من حيث المبدأ - كائن عقلاني وأخلاقي. الإنسان «الفرد» حر في اختيار عقيدته وثقافته وطريقة حياته ومتبنياته القيمية وتطلعاته المستقبلية. وهو مسؤول بصفة شخصية عن خياراته.

الثانية: لكل من الدين والعلم نطاق خاص في حياة الفرد، لا يتعداه. يستهدف الدين توفير السكينة الروحية، وتعميق صلة الإنسان بالله والنظام الكوني الذي سخره له. ويستهدف العلم استكشاف هذا النظام واستثماره، ومن ثم تطوير حياتنا، وتعزيز ازدهارها المادي والأخلاقي. تشترك القيم الدينية والعقلية البحتة في وضع المعايير التي تساعدنا في تعيين ما هو صالح وما هو فاسد، ماديا وأخلاقيا.

الثالثة: الزمن عنصر جوهري في مفهوم الحداثة وتحديد القيمة العلمية للأفكار. التاريخ حركة دائبة إلى الأمام. ما يأتي أصح وأكمل مما مضى. التفاعل بين البشر وعناصر الطبيعة، هو المصدر الأول للمعرفة. ومواصلة العقل لتعامله النقدي مع الأفكار والمعلومات، تؤدي دائما إلى فهم أفضل للإنسان والكون المحيط به. لا قدسية للزمن بذاته، ولا تفضيل لحقبة على حقبة، لكن بالنظر إلى محورية الجهد البشري في صناعة التقدم، فإن ما يأتي سيكون غالبا أكمل وأصح مما مضى.

هذه القواعد الثلاث تحدد - في اعتقادي - الخط الفاصل بين عصر التقاليد وعصر الحداثة. اعتناقها كرؤية حاكمة ومعيارية، هو ما يجعل الإنسان منتميا إلى العصر الجديد. لا يتعلق الأمر بلباس قديم أو جديد، ولا لغة محلية أو عالمية، ولا مصادر معلومات خاصة ولا آيديولوجيا أو دين بعينه. يمكن للإنسان الحديث كما التقليدي، أن يكون متديناً أو ملحداً. ويمكن له أن يعيش في مدينة حديثة أو في أعماق الريف. ما هو مهم هو تكوينه الذهني ورؤيته للعالم، هل تنتمي للعصر القديم أم تتفاعل مع العصر الجديد.

***

د. توفيق السيق – كاتب وباحث سعودي

 

بقلم: جولييت زانيتا

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

ليلة الزفاف (تاريخ العلاقة الزوجية الحميمة) لعائشة ليمبادا، مراجعة بقلم جولييت زانيتا

ماذا "بعد الاحتفال بالزواج، وكيف يكون الختام؟ "وسط الصمت والجهل والخوف، كان للأزواج الشباب في القرن التاسع عشر طقوس وأماكن ليكونوا "وحدهم أخيرًا". بالتراضى، وبدون عنف.

إن إلقاء الضوء على هذه المناطق الرمادية" التي تشكل البعد "الحميمي، وحتى السري" لليلة الزفاف، هو طموح عائشة ليمبادا. من خلال أطروحتها، في La Nuit de noces "ليلة الزفاف"، شرعت في تناول هذا الشيء الذي لا يترك سوى آثار قليلة، في الواقع، مادة ضئيلة للغاية أمام المؤرخ.

تغطي دراسة هذا الحدث، الاستثنائي والعادي، القرن التاسع عشر الطويل في فرنسا. ولئن كانت الأيام الأولى من هذا القرن تحمل أثر التحولات في المؤسسة الزوجية، فإن الفترة التي تنتهي فيها الدراسة تتزامن مع تطورات اجتماعية وأخلاقية ودينية، فضلا عن ثورة جنسية أولى.

المصادر وتأثيرات المصدر

يتكون العمل من سبعة فصول. تركز المرحلة الأولى على التوتر بين الصمت المفروض والكشف عن توقعات ليلة الزفاف (الفصول 1، 2، 3)، ثم يتم تحليل طقوس هذه الليلة وأماكنها وأزمنتها (الفصلان 4 و 5). . أخيرًا، تركز عائشة ليمبادا على القبض على العروسين فى ليلة الزفاف (الفصلان السادس والسابع).

لكتابة هذه القصة، كان التحدي الأول الذي واجهته عائشة ليمبادا هو التغلب على فكرة أن ليلة الزفاف عادة لم تترك أي أثر . تسلط  المؤلفة الضوء على العديد من المصادر التي تتناول هذا الموضوع: الخيال، والكتابات الأكاديمية، والمقالات، والقصص الشخصية، والمصادر المطبوعة، والبطاقات البريدية، وسجلات المحكمة. إنها وثائق مع قليل من الثرثرة تسمح لنا بالتقاط خطابات مختلفة حول هذه الليلة الأولى. تكمن أصالة هذا العمل في استغلال الأسباب الزوجية القانونية. هذه المادة، التي لا يمكن للباحثين الوصول إليها عادة، تسمح للمؤلف بملاحظة الشهادات الواردة مباشرة من الزوجات والأزواج.

في الفصل السادس، تشير عائشة ليمابادا إلى أن هذه المصادر القضائية الكنسية تجعل من الممكن فهم المشاعر التي تمر عبر الأفراد، والتي غالبًا ما يصعب على المؤرخين الوصول إليها. حيث تقدم الروايات معلومات عن مجموعة واسعة من المشاعر، تركز الشهادات في سياق قانوني على الجانب السلبي من المشاعر.

وبعد عشر صفحات تقريبًا – وربما متأخرًا قليلًا – تستحضر عائشة ليمبادا "الأثر المصدري" (ص 219) الذي يشكله هذا التوثيق، نتاجًا لسياقه، أي الانفصال. وهذه الإجراءات تتم في الواقع من قبل الزوجات والأزواج الذين يرغبون في الانفصال والذين يطلبون فسخ الزواج أو إبطاله.

من الجهل إلى الرغبة

يشرح الفصل الأول، "خيال ليلة الزفاف"، كيف اجتاز القرن التاسع عشر تمثيلات مبنية بقدر ما تعكس ممارسات الأفراد والسلطات. وينشأ تناقض بين تكاثر الخطابات المتعلقة بالجنس والرقابة على هذه الخطابات، عندما لا تتعلق بالمعرفة أو الطب.

إذا كان الفصل الثاني، "مصنع الجهل"، يبدأ باقتباس من تعليق على se marie (1893) لإميل زولا يسلط الضوء على التربية الجنسية غير المتكافئة بين الجنسين، فإن عائشة ليمبادا سرعان ما تترك الخيال لتقرأ شهادات الأزواج. وهي تحلل بناء الجهل الأنثوي، لا سيما من خلال التربية الجنسية القائمة على النوع الاجتماعي والطبقي. أما الفصل الثالث، بعنوان “محاربة الجهل الزواجي”، فقد اتخذ وجهة نظر معاكسة للفصل الأول من خلال دراسة الخطابات العلمية حول ليلة الزفاف، وخاصة الطبية والدينية، وتحليل كيفية تحول هذه اللحظة إلى قضية اجتماعية وسياسية.

ويقترح الفصل الرابع استكشاف "الرغبات في العلاقة الحميمة" في القرن التاسع عشر، العصر الذهبي للحياة الخاصة. تصف المؤلفة سيناريو ليلة الزفاف، مستعرضة مراحله الجماعية والفردية، ومحددة الممارسات الشعبية والبرجوازية. من خلال رغبة الزوجين المتزايدة في أن يكونا "وحيدين أخيرًا"،وفقًا للصيغة المعمول بها، يتم تقويض الاحتفالات الجماعية. تقترب عائشة ليمبادا أيضًا من الليلة الأولى من خلال مادية المكان (سكن الزوجة، شقة الوالدين، غرفة الفندق المحلية أو أثناء ليلة الزفاف).

وبعد التأمل في الطقوس والأماكن، يتناول الفصل التالي، "إتمام الزواج"، مسألة الوقت الذي يدرسه أزواج المستقبل وعائلاتهم بعناية. عادة ما يتم اللقاء الجنسي الأول في الليل، في ليلة الزفاف أو بعد بضعة أيام. موافقة الزوجة مرغوبة ولكنها تتأثر بـ "المعيار الاجتماعي والثقافي والديني" (ص 171) للواجب الزوجي.

في غرفة نوم الزوجين

يقدم الفصل السادس تأملًا في "صعوبات العلاقة الحميمة الأولى". إن مسألة التأثير هي مسألة مركزية، ولكن يصعب على المؤرخ الوصول إليها. من خلال تسليط الضوء على الآليات الجنسانية التي تحدد المؤسسة الزوجية والتوقعات المجتمعية لليلة الزفاف، تلقي عائشة ليمبادا الضوء على الاستراتيجيات الدقيقة التي يستخدمها الأزواج أثناء الليل.

يمكن للمرأة أن تصر على عدم موافقتها على الزواج، بينما بالنسبة للرجل فإن هذا سيكون بمثابة اعتراف بالضعف وافتقار إلى الرجولة. بعد استكشاف العلاقة الحميمة الأولى في غرفة نوم العروس، يركز الفصل الأخير ("في سرير العروس والعريس") على الحياة الجنسية في ليلة الزفاف. وإذا كانت مسألة الدخول بالزواج تنسج خيطاً مشتركاً في جميع أنحاء العمل، فإنه يتم التدرج في الفضاءات والأزمنة: من الأوقات الجماعية (الوجبات، الكرة) إلى الأوقات الفردية (الليل، شهر العسل).

الخيال المحيط بعذرية الأنثى يجعلها قضية رئيسية في ليلة الزفاف. تراقب عائشة ليمبادا  الطريقة التي يبحث بها الزوجان عن آثار هذه العذرية. وتعود في الوقت نفسه إلى البناء الثقافي والأخلاقي والعلمي لخيال العلاقة الجنسية الأولى.

الامهات

إذا كانت ليلة الزفاف، والجماع المتوقع خلالها، يتعلق بشخصين، فإن  هناك شخصية أخرى  حاضرة ضمنيًا في العمل: شخصية الأمهات. ويبدو أن دورهن مركزي، سواء قبل الزفاف أو بعد ليلة الزفاف. وهن حاضرات في مختلف الطقوس التي تسبق الدخول، منها على سبيل المثال «موعد نوم العروس» (ص41). ويتأكدنن بتكتم من اكتمال ليلة الزفاف، من خلال فحص آثار الفراش أو وجوه الزوجين في اليوم التالي. يمكنهن أيضًا خلق علاقات غير شرعية غير مرغوب فيها بين المتزوجين حديثًا (هذه هي الصورة السلبية لحمات الزوج التي تم نقلها في ثمانينيات القرن التاسع عشر). وحتى قبل الزواج، من المتوقع منهن أن يعتنين بالتثقيف الجنسي القليل لعروس المستقبل، للتحايل على جهل الإناث أو حتى تعليم الذكور، حتى لا يعامل الرجال زوجاتهم بوحشية.

تاريخ الاغتصاب الزوجي

وبعكس قصة ليلة الزفاف هذه، فهي في النهاية قصة اغتصاب زوجي تقدمه عائشة ليمبادا. بفضل خلفيتها في تاريخ المرأة والجنس، فإنها تسلط الضوء على الديناميكيات الجنسانية التي حكمت القرن التاسع عشر الطويل وأثرت على تمثيلات وتجارب ليلة الزفاف. يشكل التفكير الذي تم إجراؤه حول موافقة الزوجين إحدى المساهمات الرئيسية في هذا العمل، والتي قد تستفيد من استكشافها، ولا سيما من خلال الحوار مع عمل ماييل برنارد*.

من الفصل الأول، تستحضر عائشة لمبادا موضوع "الاغتصاب الزوجي" الذي يظهر في الأدب والصحافة ويظهر أيضًا تحت اسم "الاغتصاب القانوني". وتؤكد بعد ذلك على الارتباط بين الجهل والاغتصاب من خلال غياب الثقافة الجنسية، مما يمنع الشابات من فهم وتقدير علاقتهن الأولى.

وبعيدًا عن الخطاب المقدم في الصحافة والدوائر الطبية، تقوم عائشة ليمبادا بتحليل شهادات الأفراد الذين يعتبرون ليلة زفافهم بمثابة اغتصاب. فهي تطرح، على سبيل المثال، في فصل "إتمام الزواج"، العلاقة بين الزواج المدني والاحتفالات الدينية، التي كانت النساء الكاثوليكيات يعتبرنها اغتصابا (ص 183).

***

............................

* ماييل برنارد، تاريخ موافقة الأنثى. من صمت القرون إلى عصر القطيعة، باريس، آركي، 2021.

المراجعة: جولييت زانيتا/ Juliette Zanetta طالبة دكتوراه في جامعة لوميير ليون الثانية (مختبر الأبحاث التاريخية في رون ألب - UMR 5190). أطروحته التاريخية، التي تركز على العنف الجنسي بين الأزواج، تحمل عنوانًا مؤقتًا "من الموافقة الضمنية إلى الاغتصاب الزوجي". لتاريخ العنف الجنسي بين الأزواج (مقاطعات ألب ماريتيم، رون، سين، ثمانينيات القرن التاسع عشر - ثمانينيات القرن العشرين)"، تحت إشراف ساندرا بري ومانويلا مارتيني.

المؤلفة: عائشة ليمبادا / Aïcha Limbada أستاذة مشاركة ودكتورة في التاريخ المعاصر (جامعة باريس 1 بانثيون السوربون) وباحثة مشاركة في مركز تاريخ القرن التاسع عشر. وهي حاليا عضو في المدرسة الفرنسية في روما.

 

بقلم: تيم لوت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كيف وجدت طريقي للخروج من الاكتئاب بفضل كتابات القس الإنجليزي الذي جلب البوذية إلى الغرب؟.

منذ أن كنت طفلاً، كنت حساسًا جدًا لفكرة أن العقل البشري غير قادر في نهاية المطاف على فهم العالم (بنفس الطريقة التي يبدو بها الآخرون فقط بعد حدوث فاجعة أو حدث صادم وغير متوقع): كل شيء فى تناقض ومفارقة، ولا أحد يعرف الكثير على وجه اليقين، بغض النظر عن اعترافه بعكس ذلك.

إنها عقلية غير مريحة، ونتيجة لذلك، شعرت دائمًا بالحاجة إلى بناء صندوق مفاهيمي في ذهني كبير بما يكفي ليناسب العالم. يبدو أن معظم الناس لديهم موهبة إنكار تناقضات الحياة أو تجاهلها مع سيطرة متطلبات العمل والحياة. أو يقعون في أيديولوجية، ربما دينية أو سياسية، تبدو وكأنها تجعل العالم مكانًا مفهومًا.

لم أتمكن أبدًا من دعم أي من الاستراتيجيتين. كان الشعور بالفوضى العقلية الزاحفة يتسلل دائمًا إلى أطراف حياتي. ولعل هذا هو السبب وراء إصابتي باكتئاب حاد عندما كنت في السابعة والعشرين من عمري، ولم أتعافى لعدة سنوات.

وكانت نتيجة ذلك كتابي الأول، وهو عبارة عن مذكرات بعنوان "رائحة الورود المجففة" (1996). وبينما كنت أبحث عنه، قرأت أعمال عالمة النفس دوروثي رو، وهي من أتباع الفلسفة البوذية الهادئة، السرية تقريبًا. سر، لأن رو كانت تعرف ما يعنيه مصطلح «بوذي» في الخيال الشعبي (كما حدث معي) - التفكير السحري، وقرع الجرس التبتي، ولصق رقائق الذهب على تماثيل بوذا.

الحقيقة لا يمكن العثور عليها عن طريق تقطيع كل شيء إلى أجزاء مثل طفل مدلل من خلال كتابات رو، تعرفت لأول مرة على آلان واتس، وبدا وكأنه فيلسوف غير متوقع. أثار اسمه صورة مندوب مبيعات السلع الورقية في منطقة صناعية إقليمية صغيرة. لكن من خلال واتس وكتاباته، تعرفت مباشرة على أفكار بوذية الزن. كنت متشككًا في البداية، إذ كنت أرى أن بوذية الزن ديانة وليست فلسفة. لم أكن مهتمًا بالحقائق الأربع النبيلة، أو المسار الثماني، وبالتأكيد لم أؤمن بالكارما أو التناسخ.

ومع ذلك، فقد قرأت بعض كتب واتس. لقد كان لهم تأثير كبير علي. يعد "معنى السعادة" (1940) و"حكمة انعدام الأمن" (1951) أساسين مثيرين للإعجاب لعمله، وقد أكدا على ما علمني إياه رو بالفعل: أن الحياة ليس لها معنى جوهري، تمامًا كما تفعل مقطوعة موسيقية. لم يكن لديك معنى داخلي. نقطة'. كانت الحياة، بلغة الزن، يوجين - نوع من اللاهدف السامي.

لقد أظهر لي واتس، مثل رو، كيف نبني معانينا الخاصة عن الحياة. لا يوجد شيء مسلم به، وبما أن كل شيء غير مؤكد، يجب علينا أن نجمع رؤية عالمية قد تتناسب تقريبًا مع الحقائق، ولكنها لا تكون أبدًا سوى تخمين - خيال عملي. وهذا أيضًا فهم نموذجي لفلسفة زن، وهو أن الحياة لا يمكن وصفها، بل تجربتها فقط. إن محاولة رؤية الحياة بأكملها تشبه محاولة استكشاف كهف واسع به علبة من أعواد الثقاب.

وعلى الرغم من إعجابي بذلك، إلا أنني نسيت أمر واتس بعد أن انتهيت من كتبه، وتابعت مسيرتي المهنية ككاتب خيالي. لقد سئمت من التأمل. وبعد سنوات، دفعتني موجة سيئة في حياتي إلى الهاوية مرة أخرى. في عام 2004، توفي ثلاثة من الأصدقاء المقربين في تتابع مفاجئ. واحد مات امام عيني وقتل آخر. وثالث مات بالسرطان. لقد عاد اكتئابي -  وهذا الشعور الأصلي باللامعنى - عاد إلى الظهور. التفت إلى واتس مرة أخرى. هذه المرة، كان الأمر كما لو كنت أقرأ لحياتي العزيزة.

كان آلان واتس غزير الإنتاج خلال 58 عامًا من عمره. توفي عام 1973، بعد أن أنتج ليس فقط 27 كتابًا، بل أيضًا عشرات المحاضرات، وكلها متاحة على الإنترنت. كانت ذات عناوين مثيرة للاهتمام مثل "أن تكون غامضًا"، و"الموت"، و"العدم"، و"القدرة المطلقة". توقفت عن كتابة الروايات وشقيت طريقي عبر كل واحدة منها بدلاً من ذلك.

لقد عثرت على قرص DVD لرسوم متحركة لواتس من تأليف تري باركر ومات ستون.و اكتشفت أن فان موريسون كتب أغنية عنه وأن جوني ديب كان من أتباعه. لكنه ظل غير معروف إلى حد كبير في بريطانيا، على الرغم من أنه كان إنجليزيًا، وإن كان في الخارج.

ولد واتس في تشيسلهرست، كينت، في عام 1915. كان والده مندوب مبيعات لشركة إطارات ميشلان وكانت والدته ربة منزل وكان والدها مبشرًا. في وقت لاحق من حياته، كتب واتس عن الرؤى الغامضة التي راودته بعد معاناته من الحمى عندما كان طفلاً. خلال عطلاته المدرسية - عندما كان طالبًا في مدرسة كينغز كامبريدج - سافر مع المتحمس للبوذية فرانسيس كروشو، الذي كان أول من أبدى اهتمامًا بالديانات الشرقية.

بعيون ثاقبة مثل أليستر كراولي، وصف نفسه بأنه "فنان روحي".

في سن السادسة عشرة، كان واتس سكرتيرًا لمحفل لندن البوذي، الذي كان يديره المحامي كريسماس همفريز. لكن واتس أفسد فرصته في الحصول على منحة دراسية في جامعة أكسفورد لأنه تم الحكم على إحدى مقالات الامتحان بأنها "متعجرفة ومتقلبة". وعلى الرغم من ذكائه الواضح، لم يحصل واتس أبدًا على شهادة جامعية بريطانية. ربما تكون هذه إحدى صفاته الأخرى التي تتوافق مع روحي - فأنا أيضًا تركت المدرسة بمرحلتين فقط، ومثل واتس، أتعلم ذاتيًا.

عندما كان شابا، عمل واتس في شركة طباعة ثم في أحد البنوك. خلال هذا الوقت، انضم إلى "المعلم المارق" الصربي ديميتري ميترينوفيتش - أحد أتباع المعلم الروحي الأرمني جي آي غوردجييف وعالم الباطنية الروسي بي دي أوسبنسكي - الذي كان له تأثير كبير على تفكيره.

في سن الحادية والعشرين، في عام 1936، حضر المؤتمر العالمي للأديان في جامعة لندن. هناك، سمع عالم الزن الشهير دي تي سوزوكي يتحدث، وتم تقديمه إليه. وفي وقت لاحق من ذلك العام، نشر واتس كتابه الأول "روح الزن".

وفي نفس العام التقى بالوريثة الأمريكية إليانور إيفريت، التي كانت والدتها تنتمي إلى دائرة زن البوذية التقليدية في نيويورك. تزوج من إليانور في عام 1938 وانتقلا إلى أمريكا، حيث تدرب ليصبح كاهنًا أسقفيًا قبل أن يترك الخدمة عام 1950، وبذلك انفصل نهائيًا عن جذوره المسيحية. ومنذ ذلك الحين ركز على دراسة الأفكار الفلسفية الشرقية وإيصالها إلى الجماهير الغربية.

شعرت بالانجذاب الشديد إلى آلان واتس. ليس فقط لأفكاره، ولكن له شخصيا. لم يكن واتس فيلسوفًا أكاديميًا جافًا. بعيون مغطاة وثاقبة مثل أليستر كراولي، كان مهرجًا ومفكرًا، واصفًا نفسه بأنه "فنان روحي". وصفه ألدوس هكسلي بأنه "رجل فضولي". "نصف راهب ونصف مشغل لسباق الخيل." وافق واتس بكل إخلاص على توصيف هكسلي. كان يحمل عصا فضية "من أجل التفاخر الشخصى"، وكان يتسكع مع كين كيسي وجاك كيرواك (حتى أنه تم تقليده في "على الطريق" بدور آرثر ويل). كان صوته الذي تلقى تعليمه في المدرسة الإنجليزية العامة غنيًا وعميقًا، مثل صوت النبي، وكانت ضحكته مثيرة ومعدية.

لكن أفكاره هي التي أثارتني أكثر. لقد كان، إن لم يكن الأقدم، فمن المؤكد أنه أهم مترجم للأفكار الفلسفية الشرقية إلى الغرب. في بعض النواحي، كانت تفسيراته جذرية - على سبيل المثال، رفض فكرة الزن الأساسية عن الزازن (التي تنطوي على قضاء ساعات في التأمل التأملي) باعتبارها غير ضرورية. "تجلس القطة حتى تتعب من الجلوس، ثم تنهض وتتمدد وتبتعد"، كان تفسيره المتسامح لزازن. وكان تعليقه على المتحمسين الغربيين للزن أقل تسامحاً بعض الشيء، حيث سخر منهم ووصفهم بأنهم "المدرسة المتوترة... الذين يبدو أنهم يعتقدون أن الزن يجلس أساساً على مؤخرتك إلى أجل غير مسمى". لقد كان من دواعي الارتياح الكبير أن أقرأ هذا لشخص مثلي، الذي وجدت فكرة الإفراط في التأمل غير صحية مثل فكرة الإفراط في العادة السرية.

رفض واتس أيضًا المفاهيم التقليدية للتناسخ والفهم العام للكارما كنظام للمكافآت والعقوبات يتم تنفيذه مدى الحياة بعد الحياة. لقد كان هذا النهج الراديكالي هو الذي جعل أفكاره جديدة للغاية - ولم يكن لديه وقت للحكمة التقليدية، حتى من أولئك الذين ادعوا أنهم يعرفون زن من الداخل والخارج.

إن فكرة التجول بعصا مجازية لضرب نفسك بها هي فكرة غريبة على معلم الزن. لقد تحولت العديد من أفكار الزن إلى فلسفة "العصر الجديد"، وتحولت أساسًا إلى تفكير بالتمني، وهراء شبه ديني، وأوهام نرجسية لـ "جيل أنا". ولكن قبل أن يسيطر عليها البيتنيك والهيبيون، كانت فلسفة الزن، كما وصفها واتس، متشددة وعملية ومنطقية، وفي بعض النواحي، ذات لهجة إنجليزية غريبة، حيث كانت تحتوي على خيوط عميقة من الشك والفكاهة (لن ترى قديسين مسيحيين يضحكون أبدًا. لكن معظم حكماء الزن لديهم ابتسامة على وجوههم، مثل بوذا).

إن الزن والطاوية أقرب إلى العلاج النفسي منها إلى الدين، كما أوضح واتس في كتابه العلاج النفسي بين الشرق والغرب (1961). إنها تدور حول إيجاد طريقة للحفاظ على شخصية صحية في ثقافة تميل إلى تشابكك في الكثير من الروابط المنطقية اللاواعية. من ناحية، يُطلب منك أن تكون "حرًا"، ومن ناحية أخرى، يجب عليك اتباع مطالب المجتمع. مثال آخر هو التعليمات التي يجب أن تكون عفويًا.

هذه الأنواع من العوائق، أو الروابط المزدوجة، وفقًا لكتابات الزن، تنتج توترًا داخليًا، وإحباطًا، وعصابًا - وهو ما تسميه البوذية "دوكا". رأى واتس أن وظيفته، من خلال فلسفة الزن، هي تعليمك التفكير بوضوح، حتى تتمكن من الرؤية من خلال التفكير التقليدي إلى مكان يمكن أن يكون فيه عقلك في سلام داخل ثقافة كان من الممكن أن تكون مصممة لتوليد القلق.

ولكن، على الرغم من أنه كان كاتبًا مسليًا يقدم أفكاره بوضوح رائع، إلا أن واتس كان يواجه مهمة صعبة - ويرجع ذلك أساسًا إلى أن فلسفة الزن والطاوية تتعارضان بشكل أساسي مع العقل الغربي. يجد الفلاسفة الغربيون والعلمانيون أن المفكرين الشرقيين محبطون لأن الحكماء البوذيين ليس لديهم نفس التركيز على قوة اللغة والعقل والمنطق لتحويل الذات أو "المعرفة"، بالطريقة التي يفكر بها الغربيون في الكلمة.

إن الألغاز، أو الكوان، التي يتحدث بها مفكرو الزن مصممة لإثارة أعصابك وتجعلك تدرك مدى عدم كفاية الكلمات - سواء كانت كلمات منطوقة أو حوارات داخلية - لها أي معنى. يؤكد الزن على الحدس والموشين، أي العقل الفارغ، أكثر من التخطيط والتفكير. والوضع المثالي هو أن عقلك يمكن أن يتحرر من المايا (وهو ما يعني كلا من الوهم واللعب) وبالتالي تحقيق نوع من الرنين أو الانعكاس الفوري أو مونين، والذي يمكن ترجمته بشكل غريب إلى الآن/العقل/القلب.

وهذا يجعلها غريبة عن التقاليد الفلسفية الغربية، التي تميل إلى عدم الثقة في العفوية، لأنها من المفترض أنها تمهد الطريق لهيمنة الغرائز الحيوانية الغاشمة والعواطف الخطيرة. لكن فكرة التجول بعصا غليظة مجازية تضرب بها نفسك إذا ارتكبت خطأً، أو انجرفت وراء عواطفك، هي فكرة غريبة على معلم الزن.

أخيرًا، تم استخدام الزن من قبل محاربي الساموراي، الذين كان عليهم أن يضربوا على الفور دون تفكير وإلا سيموتون. في الروح السليمة، يكون الحدس أكثر أهمية من التفكير الواعي. ملايين السنين من التطور جعلت الإنسان اللاواعي حكيمًا، وليس متهورًا. يمكن العثور على أفكار مماثلة في الكتب الحديثة مثل كتاب "/ غمضة  Blink" لمالكولم جلادويل، والذي يؤكد على قيمة ردود الفعل العفوية.

ظهر الزن كرد فعل على المجتمع الياباني التقليدي والطقوسي الذي خرج منه. لا بد أن هذا قد أثر في واتس، الذي نشأ في وقت لم يكن فيه المجتمع البريطاني - الضيق الأفق والانطوائي والتقليدي - مختلفًا تمامًا عن عالم اليابانيين "المتوتر" الذي يسيطر على نفسه. وفي مثل هذا المجتمع يصبح السلوك العفوي مستحيلا.

كلمة Zen هي طريقة نطق يابانية لـChan، وهي الطريقة الصينية لنطق الكلمة السنسكريتية الهندية Dhyana أو Sunya، والتي تعني الفراغ أو الخواء. هذا هو أساس الزن نفسه - أن كل الحياة والوجود يعتمد على نوع من الفراغ الديناميكي (وجهة نظر يدعمها الآن العلم الحديث، الذي يرى أن ظواهر المستوى دون الذري تظهر وتختفي في "الرغوة الكمومية").**

ومن وجهة النظر هذه، لا يوجد "أشياء"، ولا فرق بين المادة والطاقة. انظر إلى أي شيء عن كثب بما فيه الكفاية - حتى لو كانت صخرة أو طاولة - وسوف ترى أنه حدث، وليس شيئًا. كل "شيء" يحدث في الحقيقة. وهذا أيضاً يتفق مع المعرفة العلمية الحديثة. علاوة على ذلك، لا يوجد "تعدد الأحداث". هناك حدث واحد فقط، له جوانب متعددة، يتكشف. نحن لسنا مجرد ذوات منفصلة محبوسة في أكياس من الجلد. نحن نخرج من العالم، وليس إليه. كل منا تعبير عن العالم، ولسنا غرباء في أرض غريبة، أو مجرد صدفة وعي في عالم أعمى غبي، كما يعلمنا علم التطور.

ربما يكون التركيز على اللحظة الحالية هو السمة الأكثر تميزًا لدى Zen. في علاقتنا الغربية مع الوقت، والتي نختار فيها الماضي بشكل قهري من أجل تعلم الدروس منه ومن ثم التخطيط لمستقبل افتراضي يمكن فيه تطبيق تلك الدروس، تم ضغط اللحظة الحالية إلى شريحة صغيرة على مدار الساعة بين الماضي الواسع والمستقبل الذي لا نهاية له. Zen، أكثر من أي شيء آخر، يدور حول استعادة وتوسيع اللحظة الحالية.

إنه يحاول أن يجعلك تفهم، دون مناقشة هذه النقطة، أنه لا يوجد أي غرض للوصول إلى أي مكان إذا كان كل ما تفعله، عندما تصل إلى هناك، هو التفكير في الوصول إلى لحظة أخرى في المستقبل. الحياة موجودة في الحاضر أو لا توجد في أي مكان على الإطلاق، وإذا لم تتمكن من فهم ذلك، فأنت ببساطة تعيش خيالًا.

بالنسبة لجميع كتاب الزن، الحياة، كما كانت بالنسبة لشكسبير، تشبه الحلم: عابرة وغير جوهرية. "لم تنشق لك صخرة الدهر". لا يوجد أمن. قال واتس إن البحث عن الأمان يشبه القفز من أعلى منحدر بينما يتمسك بصخرة من أجل الأمان: وهم سخيف. كل شيء يمر ويجب أن تموت. لا تضيعوا الوقت في التفكير بطريقة أخرى. لم يكن لدى بوذا ولا أتباعه الوقت الكافي للتفكير في الحياة الآخرة. يمكن اعتبار عقيدة التناسخ بشكل أكثر دقة بمثابة ولادة جديدة مستمرة للموت طوال الحياة، ومجيء وذهاب الطاقة العالمية المستمرة، التي نحن جميعًا جزء منها، قبل الموت وبعده.

التحدي الآخر الذي يواجه المفكرين الغربيين عند التعامل مع الزن هو أنه، على عكس الدين والفلسفة الغربية، لا يوجد قانون أخلاقي محدد. الحقائق النبيلة ليست تعاليم أخلاقية. في زن (على عكس بوذية ماهايانا مع "مسارها الثماني") لا يوجد حكم على الخير أو الشر، باستثناء أن كليهما ضروريان لجعل الكون ديناميكيًا.

وكما قال الفيلسوف اليوناني هيراقليطس، لا توجد فكرة عن "الخير" لتدمير "الشر"، أو العكس. لا يمكن تدمير الشر، مثلما لا يمكن تدمير الخير، لأنهما قطبان متضادان للشيء نفسه، مثل قطبي المغناطيس. التدمير ضروري مثل الخلق. يجب أن توجد الفوضى إذا أردنا أن نعرف ما هو النظام. كلا الجانبين من الواقع، في حالة توتر مع بعضهما البعض، ضروريان للحفاظ على استمرار اللعبة بأكملها: وحدة الأضداد.

وهذا يمكن أن يؤدي إلى بعض المنطق الأخلاقي الصادم إلى حد ما. عندما سئل الملحن الأميركي وأتباع الزن جون كيج: "ألا تعتقد أن هناك الكثير من المعاناة في العالم؟"، أجاب: "أعتقد أن هناك القدر المناسب من المعاناة". وهذا يلخص، ولكنه يسخر إلى حد ما من الزن. النظرة العالمية - أن الظلام والنور، السلبي والإيجابي، الين واليانغ، كلها أجزاء ضرورية من الكل الشامل.

تكمن وراء هذا التفكير فكرة مفادها أن الأخلاقيين، بالنسبة لأتباع زن البارعين، يشكلون خطرًا لأنهم سيدمرون كل شيء في سعيهم لتحقيق رؤيتهم لـ "الخير".  قد يؤدي الجشع الصريح إلى تدمير القرية المحلية للحصول على ثرواتها ونسائها - لكن هذا لن يكون سيئًا للغاية لأنه سيحافظ على الثروة والنساء.

إن الموقف "القطعي" تجاه الحياة يمنحنا المعرفة الميتة، وليس المعرفة الحية

ومع ذلك، إذا كنت في حملة أخلاقية، فسوف تدمر كل شيء في أعقابك. ومن يستطيع أن ينكر أن تاريخ القرن العشرين يدعم وجهة النظر هذه، حيث تسببت الإيديولوجيات النازية والشيوعية في إحداث مثل هذا الدمار؟ ففي نهاية المطاف، كان هتلر مثالياً أيضاً. لذا فإن كونفوشيوس - الذي لم يكن، باعتراف الجميع، جزءًا من تقليد الزن، على الرغم من تأثيره عليه - لا يضع القيمة الأعظم على الخير المطلق، بل على "القلب الإنساني"، أو جين. إذا كان قلبك إنسانيًا، فمن غير المرجح أن ترغب في ارتكاب أي شر كبير، حتى بدون رؤية أخلاقية عظيمة لإرشادك. وحتى إذا قمت بذلك، فإن الضرر الذي تسببه سيكون محدودًا بمصلحتك الشخصية.

ربما يكون هذا الافتقار إلى مدونة أخلاقية واضحة هو السبب وراء عدم كون فلسفة الزن مناسبة تمامًا للعقل الشاب أو غير الناضج. في الخمسينيات من القرن الماضي، انتقد واتس استيلاء البيتنيك على زن في كتابه Beat Zen وSquare Zen وZen (1959). ويبدو أن القدرية الواضحة للزن تفتح الباب أمام الأفراد "ليفعلوا ما يريدون". اعتقد واتس أن فرقة البيتس كانت طفولية، على الرغم من أنه أشار إلى أن سلوكهم كشف أيضًا عن مفارقة ذكية: أن القدرية المطلقة تعني الحرية المطلقة. وهنا أيضًا يمكنك النظر إليها من كلا الجانبين.

في الواقع، أن الزن  ليس قدريًا. بل إنها تقبل شيئًا تجد الفلسفة الغربية صعوبة في فهمه، وهو أن حقيقتين متناقضتين ممكنتان في نفس الوقت. يعتمد الأمر فقط على الطريقة التي تنظر بها إلى الأمر. إن العالم ليس عالمًا متسقًا منطقيًا، ولكنه عالم متناقض للغاية. مرة أخرى، هذا موضح في العلم، الذي يوضح أن شيئين يمكن أن يكونا واحدًا في نفس الوقت - الضوء، على سبيل المثال، يعمل كجسيم وموجة. يقول أساتذة الزن نفس الشيء عن حياة الإنسان. ربما أنت تفعل ذلك. ربما "إنه" يفعلك. لا توجد طريقة لمعرفة أيهما. إنها مثل رقصة رسمية بارعة لدرجة أنك لا تستطيع معرفة من يقودها ومن يتبعها.

في حين أنه من المنعش أن فلسفة زن مدعومة بطرق عديدة من خلال المعرفة العلمية الحالية، إلا أنها أيضًا نقد للفكر العلمي. يتطلب التقليد العلمي تقسيم الأشياء -عقليًا وجسديًا- إلى أجزاء أصغر وأصغر لدراستها. فهو يقترح أن النوع الوحيد من المعرفة هو التجريبي وأن القوانين الصارمة للمنهج العلمي هي النوع الوحيد الصالح.

يشير زن إلى أن هذا يشبه رمي الطفل مع ماء الاستحمام – قد يكون التفكير العلمي مفيدًا للغاية، ولكنه أيضًا ضار بالمفهوم الهادف للحياة. يميل إلى تجاهل السياق الأساسي للأشياء. نحن نعيش في عالم غير دقيق. الطبيعة غامضة إلى حد غير عادي. يروج العلم لفكرة "الحقائق الغاشمة" الصعبة والواضحة، لكن بعض الحقائق تكون لينة. إن الموقف "القطعي" تجاه الحياة يمنحنا المعرفة الميتة، وليس المعرفة الحية.

إن الطبيعة الأساسية للعالم ليست شيئًا يمكن للمرء أن يكون دقيقًا جدًا بشأنه. يجب أن يظل أساس حياة الفرد وفكره دائمًا غير محدد. بعض الأفكار (مثل الطاو، "طريقة الأشياء") تأتي إلينا، ولا يمكننا الخروج والبحث عنها. فهي غامضة وغير معروفة.

هذا النوع من التفكير هو لعنة بالنسبة للعالم الحديث الذي يعتقد أن كل شيء يمكن أن يكون معروفا، وفي النهاية سوف يكون معروفا. لكن واتس يرى أنه من المستحيل تقدير الكون ما لم تعرف متى تتوقف عن البحث. الحقيقة لا يمكن العثور عليها عن طريق تقطيع كل شيء إلى أجزاء مثل طفل مدلل.

من المستحيل، بالطبع، تلخيص Zen في بضعة آلاف من الكلمات. في الواقع لا يطلب تلخيصها. المبدأ الأول للزن، الذي عبر عنه الفيلسوف لاو تزو، هو "أولئك الذين يعرفون لا يقولون، وأولئك الذين يقولون لا يعرفون". إن الزن ليس تبشيريا، بل على العكس تماما. يطلب منك أن تأتي إليه، بالدعاء، وتثيره. وهناك قول آخر لزن يقول: "من يسعى إلى الإقناع لا يقنع".

لكنها أقنعتني. بعد قضاء ما يقرب من عامين في دراسة فلسفة الزن والطاوية وأعمال آلان واتس، أعتقد أنني حققت حقًا نوعًا من الساتوري - التحرر من الثقل الداخلي وتناقضات الحياة العادية. عندما سأل أحد الطلاب واتس عن الشعور بالتنوير، قال إنه شعور عادي للغاية - ولكن مثل المشي قليلاً في الهواء، على ارتفاع بوصة واحدة فوق الأرض. وهذا بالضبط ما شعرت به – كل يوم.

لا أعرف كم من الوقت استمرت التجربة. ربما لمدة عام، وربما لفترة أطول. طوال ذلك الوقت، كانت فكرة واتس والزن موجودة في ذهني، لتبلغني بأفكاري وأفعالي. لقد اختفت ضجيج الخلفية، وحالة القلق والثرثرة التي كانت مصدر إلهام لحياتي القديمة. كان رأسي صافيا. لقد تخللتني الفلسفة بالكامل. لقد كانت حياتي حقا أكثر بهجة مما كانت عليه في أي وقت مضى. لم يزعجني شيء. شعرت بالطاقة والتفاؤل.

ثم ذات يوم فقدت الرؤية. لا أعرف كيف حدث ذلك. لقد أخذتني فترة من التوتر والاكتئاب السريري، وعندما ظهرت على السطح مرة أخرى، ترك واتس والتاو أفكاري. لقد كنت وحدي مرة أخرى، في حيرة ومتضاربة. كنت أعرف الكلمات، لكن لم أعد أسمع الموسيقى. الأفكار والعادات القديمة التي كنت مشروطًا بها منذ ولادتي أعادت تأكيد نفسها. مرة أخرى، شعرت بالقلق من الأمور التي لا معنى لها، وتوهت في الماضي والمستقبل بدلاً من الوجود في الحاضر الديناميكي.

ولكن بعد ذلك، لا ينبغي لي أن أتفاجأ. ما علمه آلان واتس، قبل كل شيء، هو أن كل شيء عابر. كل شيء يأتي ويذهب. واتس نفسه لم يكن موجودا في حالة دائمة من النعيم الروحي. لقد مات وهو مدمن على الكحول. لقد كان يشرب الخمر بكثرة طوال حياته. لم تكن حياته اللاحقة سهلة: ففي سنواته الأخيرة، كان يشبه شخصية ديكنز، حيث كان يعمل يائسًا لإعالة أطفاله السبعة، ومن المفترض، زوجتيه السابقتين (عندما توفي كان لديه بالفعل زوجة ثالثة). لكنه لم يكن بأي حال من الأحوال سكيرًا "تعيسًا". لم يعرب أبدًا عن الذنب أو الندم بشأن الشرب أو التدخين، ولم يفوت محاضرة أو موعدًا نهائيًا للكتابة.

إذا أخذنا مثال واتس نفسه في الاعتبار، فإن كونك "مستنيرًا" لا يجعلك دائمًا سعيدًا. ومع ذلك، لا يزال هناك شيء يستحق تحقيقه. إنه يجلب الوضوح والسلام، رغم أنه لا يحميك من كل تقلبات الحياة.

لقد جاء "التنوير" الشخصي الخاص بي وذهب، ولكنني آمل أن يعود. ولعل هذا المقال هو الخطوة الأولى في هذا الاتجاه. يبدو الأمر كذلك. قد يكون أو لا يكون في يدي. ولكن إذا تمكنت من العثور على الطريق مرة أخرى، فسوف أبقى عليه حتى أفقده. وكما يشير قول الزن، إذا رأيت بوذا، فسوف أقتله. لأنه في اللحظة التي تبدأ فيها بالتفكير بأنك "مستنير"، فأنت لم تعد مستنيرًا.

(تمت)

***

......................

المؤلف: تيم لوت / Tim Lott  مؤلف كتاب "رائحة الورود المجففة" (كلاسيكيات البطريق الحديثة) و"تحت نفس النجوم" (سايمون وشوستر).

*دوروثي رو (17 ديسمبر 1930 - 25 مارس 2019) كانت عالمة نفس ومؤلفة أسترالية بريطانية، وكان مجال اهتمامها هو الاكتئاب.

** الرغوة الكمومية أو رغوة الزمكان هي تقلب كمي نظري للزمكان على مقاييس صغيرة جدًا بسبب ميكانيكا الكم. وتتنبأ النظرية أنه عند هذه المقاييس الصغيرة، يتم إنشاء وتدمير جسيمات المادة والمادة المضادة باستمرار. وتسمى هذه الأجسام دون الذرية بالجسيمات الافتراضية.  وقد ابتكر هذه الفكرة جون ويلر في عام 1955.

 

قبلَ الاجابةِ عن هذا السؤال، لابدَّ لنا من تحديدِ المُصطلحاتِ، فماذا نعني بالتحديث؟ وماهي الحداثةُ؟، التحديثُ نعني به الجانب التطبيقي للحداثة أَو هو الجانب المادي من الحداثةِ. كاستخدام الهاتف الجوال، واستخدام الانترنت، واستخدام الطائرة في السفر، هذه كُلُّها  تدخل تحتَ مصطلحِ التحديث؛ وبالتالي ليس كل من يستخدم ادوات التحديث هذه يعتبرُ حداثَوِّياً ؛ لانَّ التحديثَ مرتبطٌ بالجانبِ الماديِّ، أَمّا الحداثةُ فتتعلقُ ببنية التفكير، الحداثة تتعلق بالافكار والمفاهيم، أَمّا التحديثُ فهو الجانب التطبيقي التراكمي من الحداثة.

 كثيرٌ من البلدان المتخلفة تستخدم ادوات الحداثة المادية، تستخدم المواصلات الحديثة ووسائل التواصل الحديثة وتتكلم لغات اجنبيَّةً ولكن هذا لايجعل منها مجتمعات حداثوية ؛ لان تحديث هذه المجتمعات بالتكنولوجيا والوسائل الحديثة لايجعل هذهِ المجتمعاتِ حداثَويَّةً. الحداثة  هي تغيير طريقة التفكير والبنية الفكرية، الحداثةُ: هي تغيير المفاهيم والرؤى الكونية في فهم الحياة والكون والانسان.

والسؤالُ الذي يطرحُ نَفسَهُ هنا، هو: هل نحنُ بحاجَةٍ الى تحديثٍ أَم حداثَةٍ؟

للوهلةِ الأُولى قد يقالُ  نحن لسنا بحاجَةٍ الى حداثَةٍ ؛ لانَّ رؤانا وطريقةَ تفكيرنا تختلف عن رؤى وطريقة تفكير الغربيين، ومفاهيمهم عن الحياة والكون تختلف عن مفاهيمنا عن الكون والحياة والانسان. ان نظرتهم للحياة والوجود نظرة ماديَّةٌ .نظرتهم تقوم على الفردانيّة، وانزال الانسان عن عرشه ومساواته بالاشياء، وكذلك، النظرة الغربيَّة الماديَّة تفصلُ القِيَمَ عن الواقعِ، وبالتالي نحنُ لانحتاجُ الى حداثتِهم بل نحنُ في أَمَسِّ الحاجَةِ الى تحديثِهم.

هل يمكنُ الفصلُ بينَ الحداثَةِ والتحديثِ؟

هل المُنْجَزاتُ الماديَّةُ للحداثَةِ لاصِلَةَ لها بالحَداثَةِ؟ والاجابَةُ عن هذا التساؤلِ هي أَنَّ المنتَجَ الماديَّ غيرُ مقطوعِ الصِلَةِ بالفكرةِ التي أنتجتهُ . لايمكننا ابداً أن نتصورَ ان المنتَجاتِ الماديَّةَ لا تحملُ بصماتِ الفكرةِ التي انتجتها، المخترعون.  قبل ان يخترعوا جهازاً ماديَّاً اندلعت فكرةٌ في رؤوسهم أَدَّت الى هذا الاختراع. ولكن على الرغم من ذلك، يمكن الاستفادة من التحديث مع ربطه بقيمنا ورؤيتنا الكونية للكون والحياة والانسان، ونظرتنا الى الانسان ومكانته في الوجود، وربط القيم والاخلاق بالواقع ..

وبالتالي: نستطيع ان نغيّرَ من توجهات الحداثَةِ وقيمها الماديَّةِ وننزع عنها أنانيتَها وغُلُوُّها في تقديس الفرد . كما أَنَّ لنا حداثتنا التي أَعلت من مكانة الانسان وحفظت حقوقه، ولم تسمح بالتجاوز عليه وهدر آدميتِهِ.

وخلاصةُ القولِ: يمكنُنا الاخذ بالتحديث مفصولاً عن قيمهِ الغربيَّةِ الماديَّةِ وربطهِ بقيمنا ورؤيتِنا عن الكونِ والحياة.

***

زعيم الخير الله

 

في عالم انفجر بتطورات تكنولوجية خارقة، في مجالات البيوتكنولوجيا والنانوتكنولوجيا وعلوم الجينوم والمواد والمناخ والطاقة والفيزياء الكمومية والتكنولوجيا الرقمية، ضاعت على العراق فرصة المشاركة في هذه التطورات ولم ينل منها نصيبه. فلم يكن له أي دور في هذه الاختراعات والابتكارات، ولم يتمكن من الاستفادة منها في تحسين حياة شعبه وتطوير بلاده، على الرغم من توافر العديد من اصحاب الشهادات العليا في هذه المجالات، التي تم إعدادها بعجالة محلياً وبامكانيات محدودة وبأدوات بسيطة ولم تسنح لها فرصة اظهار إمكانياتها، بل ضاعت في خضم الفساد والمصالح الشخصية وانعدام التكافؤ والفرص.

وكان السبب وراء ضياع الفرص هو انعزالنا وانغلاقنا وعدم تواصلنا مع العالم الخارجي يعود الى الارهاب والفساد والحروب والصراعات الداخلية والخارجية التي شهدها العراق منذ عقود، والتي أدت إلى تدمير البنية التحتية والمؤسسات التعليمية والبحثية والصناعية، وتشتيت الكوادر العلمية والفنية والهندسية، حيث اكتفينا باتصالنا المحدود محلياً ولم نفتح آذاننا وعيوننا وعقولنا لما يحدث في العالم من تقدم وتطور. فشلنا في استيعاب المعلومات والخبرات الحديثة في هذه المجالات المتقدمة، وبقينا في ظلمة التخلف حالنا حال كثير من الدول العربية التي تعاني من نفس الازمة. و زاد الطين بلة إهمالنا لتطوير القدرات الابتكارية والمهاراتية لأصحاب الشهادات العليا، واكتفينا بتعليمهم المواضيع المهنية التقليدية وبأساليب التلقين والحفظ.

وفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة حول الملكية الفكرية، يحتل العراق المرتبة 131 من اصل 132 دولة في مؤشر الابتكار العالمي،  لكن هذه المرتبة  المتدنية بالرغم من التحديات التي تثيرها، لأنها تعني أن العراق قد اهمل إمكاناته في مجال الابتكار والتنمية، تثير القلق ايضا حول اهمية البحوث والاختراعات العديدة التي يعلن عنها الباحثون والمبتكرون العراقيون عن طريق اوراقهم البحثية وشهادات براءة الاختراع، وحول دور التربية والتعليم في تنمية القدرات الفكرية وتزويد الفرد بالمهارات والمعارف وتعزيز التنمية المستدامة وتشجيع البحث العلمي والابتكار.

ولكي نتعرف عن سبب حصول العراق على هذه المرتبة المتدنية في مؤشر الابتكار العالمي يجب علينا استكشاف الحالة المتخلفة والمتدهورة  لعناصر هذا المؤشر فهو ليس مجرد مقياس لحالة التعليم والتكنولوجيا والابتكار وانما مقياس لكفاءة وفعالية النظام الايكولوجي للابتكار متمثلا في مؤسسات الدولة وحالة الاستقرار السياسي ورأس المال البشري والبحث والبنية التحتية وحالة الاسواق والاعمال التجارية، بالاضافة للنواتج المعرفية والتكنولوجية والابداعية، والتي جميعها تؤكد على ضرورة إجراء تحول جذري في هيكلة البحث والتطوير والابتكار، وللحاجة الى اصلاح شامل للنظام التعليمي.

وهو ما يتطلب اجراءات جوهرية وشاملة تتضمن تعزيز الاستقرار السياسي والرؤية السياسية لخلق بيئة مناسبة للابتكار والاستثمار، وتحسين البنية التحتية في مجالات النقل والاتصالات والطاقة والتكنولوجيا، وذلك لتوفير بيئة مساعدة للابتكار وتحفيز الاستثمار، والاهم هو ضرورة إجراء إصلاحات شاملة في نظام التعليم لتعزيز رأس المال البشري وتطوير المهارات والمعرفة اللازمة للابتكار، وتوفير التمويل الكافي والدعم للبحوث العلمية وتطوير التكنولوجيا، وتعزيز التعاون الدولي في مجال الابتكار وتبادل المعرفة والتجارب والتكنولوجيا مع الدول المتقدمة، ولابد ان يرافق ذلك إجراء إصلاحات في النظام القانوني والتنظيمي لحماية الملكية الفكرية وتسهيل عملية الاستثمار وتشجيع روح ريادة الأعمال. فقط من خلال العمل على تنفيذ هذه الإجراءات على المدى القريب والبعيد، يمكن للعراق تحقيق تحسين ملحوظ في مستوى المرتبة المتدنية في مؤشر الابتكار العالمي.

والآن، ماذا عسانا أن نفعل في عصر الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي؟ هل نستسلم للتحدي الجديد الذي يهدد مستقبلنا وهويتنا؟ أم نستيقظ من سباتنا ونفتح آفاقنا للتواصل والتعاون مع العالم الخارجي؟ في هذا العصر، ستظهر اختراعات واختراقات وابتكارات جديدة في مجالات علوم الحاسبات والرياضيات وتطوير انظمة ذكية والتعلم الآلي والتعلم العميق ومعالجة اللغة والرؤية الحاسوبية والروبوتات وعلوم الأعصاب والادراك، تلك المجالات التي تحدد مصير البشرية ومستوى تقدمها ورفاهيتها. إذا لم نلتفت إلى هذا التحدي ونتخذ الإجراءات اللازمة الآن، فسنبقى مجرد مستهلكين لهذه التقنيات كما نفعله مع تلفوناتنا النقالة ووسائل الاتصال الاجتماعي دون أن نلعب أي دور في تطويرها أو تطبيقها، ولن نعرف معنى الاختراع والابتكار كما لم نعرفه في السابق. يبدو جليا انه في ظل ضعف البنية التحتية الحالية للتكنولوجيا، وانعدام الفرص المناسبة، تسود حالة من السبات العميق في المجال التكنولوجي في العراق. لهذا يجب على الحكومة العراقية أن تواجه هذه التحديات بجدية، وأن تستيقظ من هذا السبات لتستثمر في التكنولوجيا وتبني مستقبل أفضل لشباب العراق.

ثورة علمية ضرورية في نظام الابتعاث لنهضة العراق

نؤمن ايمانا عميقا بأهمية الابتعاث كركيزة اساسية لنهضة العراق الاقتصادية والتكنولوجية. ولطالما سعينا إلى إقناع القيادات السياسية بضرورة الابتعاث، ايمانا منا بأنه السبيل الأمثل لنقل المعرفة والخبرات من الدول المتقدمة إلى العراق. نحن في يومنا هذا بحاجة إلى ثورة في نظام الابتعاث للدراسة في الدول الغربية ونهل العلم منها والتواصل مع جامعاتها والتفاعل مع مؤسساتها العلمية والتكنولوجية، حتى نتمكن من الاستفادة من الخبرات الحديثة في هذه المجالات الحيوية، ونعود بما نتعلمه إلى بلادنا لنساهم في رفعتها وتقدمها، ونشارك بفعالية في الحوار العلمي العالمي ونساهم في تحقيق الانجازات العلمية. بكل يقين اؤكد ان نظام الابتعاث للدراسة في الدول الغربية اهم بوابةً لنقل المعرفة والخبرات من الدول المتقدمة إلى العراق لكنه يواجه العديد من التحديات التي تجعله بحاجة إلى ثورة شاملة لتطويره، كتوسيع نطاق التخصصات، وانشاء صندوق دعم للابتعاث يوفر تمويل دون الاعتماد على المنح الدراسية، وخلق بيئة مناسبة للبحث العلمي في الوطن لتشجيع الطلاب على العودة بعد اكمال دراستهم والمساهمة في تحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي. ولابد من الاشارة الى انه وبهدف معالجة بعض التحديات التي تواجه نظام الابتعاث، أطلقت رئاسة الوزراء مبادرة لابتعاث 5000 طالب. ان هذه المبادرة تعد خطوة إيجابية على طريق نهضة العراق العلمية والتكنولوجية، ونأمل أن تتبعها خطوات أخرى لتطوير نظام الابتعاث ودعمه، ليتسنى للطلاب العراقيين نيل أفضل الفرص التعليمية وتحقيق الإنجازات العلمية.

***

ا. د. محمد الربيعي

قيل لنا إن مرتكبي العنف يجردون ضحاياهم من إنسانيتهم، لكن الحقيقة أسوأ. فلماذا نحط من قدر الآخرين ونستعبدهم ونبيدهم. إن البشرية قد تتوقف عند حدود القبيلة أو القرية، أو عند حدود العرق، أو الدين، أو اللغة، أو اللون. واليوم تبدو ظواهر مثل العنف، والقسوة، والتجريد من الإنسانية أمراً منتشراً. لو بحثنا في محركات البحث عن المجموعة البشرية المفضلة والمحتقرة لدينا "اليهود، والسود، والعرب، والمسلمين، والمثليين" وما إلى ذلك - جنباً إلى جنب مع كلمات مثل "الحشرات"، أو "الصراصير"، أو "الحيوانات"، وسوف يتدفق أمامنا سيل لا يتوقف منها. سوف نسمع كلمة "حيوانات" يستخدمها حتى الأشخاص المحترمون، في إشارة إلى الإرهابيين، أو الإسرائيليين، أو الفلسطينيين، أو المهاجرين غير الشرعيين، أو مُرحّلي المهاجرين غير الشرعيين. تظهر مثل القسوة والتجريد  في خطاب المتعصبين البيض، والتيارات اليمينية غالباً، ولكن نجده عندما يتحدث بعضنا عن المتعصبين البيض أيضاً.

إنها ليست مجرد مسألة كلمات. على مر التاريخ، اعتقد بعض الناس أنه من المقبول امتلاك البشر، وكانت هناك مناقشات صريحة من قبل بعض الباحثون والساسة فيما إذا كانت مجموعات معينة (مثل السود والأمريكيين الأصليين) "عبيدًا طبيعيين". وحتى في القرن الماضي، كانت هناك حدائق حيوانات بشرية، حيث تم وضع الأفارقة في حظائر لينظر إليها الأوروبيون.

نظراً لندرة الأدلة المتاحة، فإن دراسات علماء الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية منقسمة بشدة حول سؤال: ما هو عمر العنف البشري؟ استنتج بعض العلماء أن البشر عنيفون بطبيعتهم، شأن عالم النفس النمساوي "سيغموند فرويد"  Sigmund Freud الذي يعتبر أن الإنسان هو كائن يختزن قدراً كبيرًا من العنف في تكوينه النفسي وفي كوامنه الغريزية. وآخرون أنهم في الأساس غير عنيفين، إنما يتعلون العنف بنفس الطريقة التي يتعلمون بها أنماط السلوك الأخرى. مثل عالم النفس الاجتماعي الكندي الأمريكي "ألبرت باندورا" Albert Bandura، ولكن في كلا المدرستين التفسيريتين هناك ميل واضح للاعتماد على نظرية المعرفة الطبيعية لتحليل أنواع البنى النفسية والاجتماعية التي تؤدي إلى تجريد الآخرين من إنسانيتهم وإساءة معاملتهم.

لا تحتاج إلى أن تكون عدائياً لتكون عنصرياً، لكنك تحتاج إلى تصنيف المجموعات. فإذا كنت تعتقد أن أعضاء مجموعة معينة أقل شأناً، وأن لديهم قيمة جوهرية أقل من أعضاء مجموعة أخرى، فإنك تظهر العنصرية. إن التجريد من الإنسانية هو ظاهرة اجتماعية معقدة، ترتبط ارتباطًا وثيقاً بالأذى والإهمال بين المجموعات.

العقلية اللاإنسانية

إن تصنيف الناس أو تصنيف الأجناس حسب العرق، أو اللون، أو الدين، أو القومية، أو اللغة، يؤدي إلى تجريدهم من إنسانيتهم. يعرّف علماء النفس والأنثروبولوجيا التجريد من الإنسانية بأنه تصور شخص آخر على أنه دون البشر. يقول عالم النفس التطوري في جامعة نيو إنجلاند "ديفيد ليفينغستون سميث"David Livingston Smith "في ظل الظروف المناسبة، فإننا جميعًا تقريبًاً قادرون على الانزلاق إلى العقلية اللاإنسانية، وارتكاب أعمال وحشية كان من الصعب أو حتى المستحيل بالنسبة لنا القيام بها".

هذا التصنيف للأشخاص حسب "العرق" له تاريخ طويل. حدّد الفيلسوف اليوناني القديم أرسطو نوعين من الناس: اليونانيون والآخرون. جمع  كل غير اليونانيين معاً باعتبارهم برابرة، وليس ـ على سبيل المثال ـ سوريين أو إثيوبيين أو فرس. كان من المفترض أن يكون البرابرة أقل عقلانية من اليونانيين. كان البرابرة "عبيدًا بطبيعتهم"، مما يعني أنه كان من الطبيعي أن يستعبدهم اليونانيون. وتم استخدام أفكار مماثلة لتبرير الاستعمار واستعباد الشعوب في جميع أنحاء العالم من قبل القوى الأوروبية.

فخلال تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، كان الملاكين عبر التاريخ يعتبرون العبيد حيوانات دون البشر. كما جمع الأوروبيون والأمريكيون الشعوب الأفريقية معًا على أنهم سود «الزنوج» تاريخياً، رافضين حقيقة أنهم ينتمون إلى مجتمعات مختلفة.

هناك العديد من الأحداث التاريخية التي توضح التحول إلى العقلية اللاإنسانية. والأكثر شهرة بالطبع هو أيديولوجية ألمانيا النازية، التي نشرت أفكارًا حول تفوق الآريين على جميع الأمم الأخرى. وكانوا ينظرون إلى الفساد على أنه متأصل في الأشخاص اليهود. وعندما وصف النازيون اليهود بأنهم "Untermenschen"أي دون البشر، أو أقل من البشر، واعتبروهم جرذان لم يقصدوا ذلك مجازياً، كما يقول سميث "لم يقصدوا أنهم كانوا مثل البشر دون البشر. بل كانوا يقصدون أنهم كانوا حرفيا دون البشر." وحين أطلق اليهود الصهاينة على الفلسطينيين أنهم حيوانات بشرية، كانوا يقصدون ما قالوه تماماً.

وفي مثال مماثل يمكن تسمية سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا القائمة على التمييز العنصري، الذي استمر حوالي نصف قرن وسقط رسميا في العام 1991 أيضاً تجريداً للإنسانية من قبل أتباع "الحركة البيضاء" لغالبية السكان الأصليين الأفريكانيين (أو البوير).

وعندما شاركت قبائل "الهوتو" في الإبادة الجماعية في رواندا أطلقوا على قبائل "التوتسي" صراصير. هذا التجريد من الإنسانية فتح الباب أمام القسوة ن والوحشية، والإبادة الجماعية.

التجريد من الإنسانية هو وسيلة لحرب المعلومات، والجوهر هو تشكيل صورة الشخص الذي يصبح غير مهم، طفيلي ولا يستحق الوجود. وهو أحد أكثر طرق الحرب الإعلامية وحشية. على سبيل المثال صورة الجندية الأمريكية "ليندي إنجلاند" Lynndie England وهي تسحب مقوداً مربوطاً برقبة سجينة في سجن أبو غريب، تضطر للزحف على الأرض، بينما  زميلتها الجندية "ميغان أمبوهل" Megan Ambuhl تُراقب.

خلال الحرب العالمية الأولى ظهر ملصق دعائي نمساوي يصور أحد الصرب على أنه إرهابي يشبه القرد. كما ظهر ملصق دعائي أمريكي من الحرب العالمية الثانية يظهر فيه جندي ياباني على شكل فأر.

التحريض على أعمال الإبادة الجماعية

التجريد من الإنسانية هو أحد أشكال التحريض على الإبادة الجماعية. كما تم استخدامه لتبرير الحروب، والقتل القضائي وخارج نطاق القضاء، ومصادرة الممتلكات، والحرمان من حق الاقتراع وغيرها من الحقوق، ولمهاجمة الأعداء أو المعارضين السياسيين. وهذا ما تفعله إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني.

تؤكد أفعال الصهيونية في فلسطين أنه عندما نكون في قبضة عقلية تجرد الإنسان من إنسانيته، فإننا غالباً ما نرى الآخر المجرد من إنسانيته "مرعباً وخطراً"، مما يؤدي إلى ما يراه الجناة على أنه صراع حياة أو موت ضد عدو قاتل. ومن المهم أن نتذكر أن المجردين من الإنسانية يعتقدون في الواقع أن الأشخاص الذين يضطهدوهم أقل من البشر، مما يجعل عملية التجريد من الإنسانية خطيرة للغاية. مثل دعوة "نسيم فاتوري" نائب رئيس الكنسيت الإسرائيلي وعضو لجنة الشؤون الخارجية والأمن إلى حرق قطاع غزة بالكامل. حيث نشر النائب المتطرف، تدوينة بالعبرية على حسابه على "أكس" قال فيها "كل الانشغال بمدى توفر الإنترنت في غزة ألا يظهر ذلك أننا لم نتعلم شيئا.. نحن إنسانيون للغاية.. احرقوا غزة الآن لا أقل من ذلك". وكان نفسه قد طالب في تصريحات نقلتها صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، بترحيل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى البلدان المستعدة لاستقبالهم وعلى رأسها اسكتلندا. وكذلك دعوات وزير التراث الإسرائيلي "عميحاي إلياهو" ل إلى ضرب قطاع غزة بقنبلة نووية وإبادتها كأحد الخيارات المطروحة. وبعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية الحالية دعا إلى استخدام الصواريخ الباليستية لمحو غزة عن الخارطة.

وكانت مواقف مماثلة واضحة تجاه السكان الأصليين في الأمريكيتين ("يعود الهندي دائماً إلى بطانيته" - مما يعني أنه لا يمكن أن يكونوا "متحضرين") وتجاه العبيد السود الذين كان يُفترض أن لديهم دوافع وحشية. يُظهر الإعدام خارج نطاق القانون أسوأ سلوكيات التجريد من الإنسانية - السادية والتعذيب والقتل. كان يُعتقد أن العبيد السود الذين أرادوا الهروب من العبودية، وهي حالتهم الطبيعية المفترضة، يعانون من اضطراب نفسي "ورم درابيتومانيا" وكان يتم جلدهم كعلاج. وهذا المرض العقلي المُفترض اخترعه الطبيب الأمريكي "صموئيل كارترايت"Samuel Cartwright في عام 1851 لشرح رحلة العبيد الأولى إلى شمال الولايات المتحدة. وفقًا لكارترايت، تم تفسير هروب العبيد بالحركات اللاإرادية.

من الناحية البيولوجية، يمكن وصف التجريد من الإنسانية على أنه نوع مُدخل يهمش النوع البشري، أو شخص/عملية مُدخلة تحط من شأن الآخرين بشكل غير إنساني. أثناء الحرب الصينية اليابانية الثانية، تنافس اثنان من ضباط الجيش الإمبراطوري الياباني في الصين المحتلة لمعرفة من يمكنه قتل مئة صيني بالسيف أولاً خلال مذبحة "نانجينغ" Nanjing.

تم تجريد الأمريكيين الأصليين من إنسانيتهم باعتبارهم "متوحشين هنود لا يرحمون" في إعلان استقلال الولايات المتحدة. وفي عام 1890 قام الجيش الأمريكي بقتل ثلاثمائة من الهنود السكان الأصليين، معظمهم من الرجال والنساء والأطفال في مذبحة سميت "مجزرة الركبة الجريحة" Wounded Knee Massacre. وفي الولايات المتحدة، تم تجريد الأمريكيين من أصل أفريقي من إنسانيتهم من خلال تصنيفهم على أنهم رئيسيات غير بشرية.

في أستراليا تم استبعاد السكان الأصليين من تعداد السكان حين وافقت المستعمرات الأسترالية الست على الاتحاد، وأنشأت الدولة القومية الحديثة عام 1901.  وتم حرمانهم بشكل قاطع من حق التصويت. لم يُسمح للسكان الأصليين الأستراليين بمزايا الضمان الاجتماعي (مثل معاشات الشيخوخة وبدلات الأمومة) التي كانت تُقدم للآخرين.

التمييز والعنصرية

التجريد من الإنسانية العنصري للمجموعات يستلزم فهم الجماعات والأفراد على أنهم أقل من إنسان كامل بحكم عرقهم. غالباً ما يحدث التجريد من الإنسانية نتيجة للصراع بين المجموعات. حيث يتم تمثيل الآخرين العرقيين والعنصريين كحيوانات في الثقافة الشعبية. هناك أدلة على أن هذا التمثيل لا يزال قائماً في السياق الأمريكي مع الأمريكيين من أصل أفريقي المرتبطين ضمنيا بالقردة. وبقدر ما يكون لدى الفرد هذا الارتباط الضمني المهين للإنسانية، فمن المرجح أن يدعم العنف ضد الأمريكيين من أصل أفريقي.

كثيراً ما يرتبط التجريد من الإنسانية بنزاعات الإبادة الجماعية تاريخياً، حيث تصور الأيديولوجيات قبل وأثناء الصراع الضحايا على أنهم دون البشر "مثل القوارض" ويمكن أيضاً تجريد المهاجرين واللاجئين من إنسانيتهم بهذه الطريقة. كما حصل في عدد من الدول الأوروبية عام 2015 خلال أزمة تدفق اللاجئين.

يتم تخصيص كلمات مثل المهاجر والمغترب للأجانب بناءً على وضعهم الاجتماعي وثرواتهم، بدلاً من القدرة أو الإنجازات أو التوافق السياسي. المغترب هي كلمة تصف الأشخاص المتميزين، ذوي البشرة الفاتحة في كثير من الأحيان والذين يقيمون حديثاً في منطقة ما، ولها دلالات تشير إلى القدرة والثروة والثقة. وفي الوقت نفسه، تُستخدم كلمة مهاجر لوصف الأشخاص القادمين إلى مكان جديد للإقامة فيه، وتوحي بمعنى أقل استحسانًا بكثير.

يتم أحيانًا ربط كلمة "مهاجر" بكلمة "غير شرعي"، والتي تحمل دلالة مهينة للغاية. إن إساءة استخدام هذه المصطلحات - غالباً ما يتم استخدامها بشكل غير دقيق - لوصف الآخر، يمكن أن يغير تصور المجموعة ككل بطريقة سلبية.

ويؤكد سميث أنه "طالما استمر التمييز والعنصرية، فإن التجريد من الإنسانية هو قاب قوسين أو أدنى". تُظهِر العنصرية البعض على أنهم كائنات بشرية أقل شأناً، في حين يُظهر التجريد من الإنسانية طبيعة أقل من الإنسانية. فالتجريد من الإنسانية هو عنصرية منشطة.

خلاصة القول: يمكننا إقناع أنفسنا بالاعتقاد بأن الآخرين هم دون البشر أو ليسوا أشخاصاً، من خلال الروايات الثقافية أو من خلال البيولوجيا العصبية الحساسة للتهديدات، أو مزيج من ذلك. إن الاعتقاد بأن الآخر ليس شخصاً حقيقياً يمكّننا من ارتكاب أعمال القسوة والدمار. إن الأحداث التي تدور حولنا تؤكد ما وصل إليه الفيلسوف الفرنسي "بليز باسكال" Blaise Pascal  في عام 1658 حين قال " البشر هم مجد الكون وحثالته. نحن نحب ونكره. نساعد ونضر. نمد يدنا ونلصق السكين".

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

ربما بدا هذا الاسم غريباً على كثير منا، ولكن يجب أن تعلم ان الجامعات المحترمة في العالم باتت لا تقبل اليوم بحثاً في الترقية أو التأهيل إلا إذا كان منشوراً في مجلة معتمدة على منصة سكوباس.

وسكوباس هو قاعدة بيانات عالمية انطلقت من هولندا 2004 بهدف التدقيق في القيمة العلمية لما ينشر من بحوث في العالم.

وفي مواجهة مسخرة الألقاب الأكاديمية، والدعاوى الزائفة خاصة في عصر القص واللصق والذكاء الصناعي كل باحث يزعم أنه يكتب، وكل دار نشر تدعي أنها تنشر، وكل جامعة تدعي أنها تخترع، ولو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم الرسالة والنبوة والملك. ومع تسارع التكنولوجيا ووسائل التواصل منحت المنصات العملاقة منصات متساوية للفلاسفة وللحمقى، وبات الفيلسوف والأمي وقارئة الفنجان يملكان الحق نفسه في النقد والتحليل والاستشراف وبناء خطط المستقبل، وليس سراً أن الفيلسوف أتعس الثلاثة فلن يستطيع أن يزاحم مواهبهم الاستثنائية في الوصل إلى الجمهور وبات في أحيان كثيرة ستجديهم للوصول إلى قرائه.

وهكذا بات على العلم الموضوعي أن يحمي نفسه، وأن تتوفر في العالم الأكاديمي جهة مرجعية تقول هذا علم وهذا جهل، وهذا معرفة وهذا عصفورية، وتنصف البحث العلمي من زيف القص واللصق، والقطش واللحش، وقد نجحت سكوباس بالفعل في أخذ المبادرة، عبر تحالف دولي مع تسع مؤسسات كبرى في العالم بحيث تم وضع معايير علمية صارمة في البحث والمصادر والحوكمة حتى يقال بعد ذلك للبحث العلمي إنه بحث محكم.

رصدت سكوباس آلاف الأكاديميين المتخصصين للقيام بمراقبة دقيقة لأداء كل مجلة محكمة في العالم، ووضعت معايير صارمة لقبول المجلة منها جدية البحث العلمي، والزمن الحتمي للبحث والتحكيم، وقوة المصادر وحجم الاقتباس وآلية التحكيم والاستمرارية وغير ذلك، وعبر جهود دقيقة ومتواصلة نجحت سكوباس في توفير هذه المنصة المحكمة، وبالفعل بات في قوائمها اليوم 29200 مجلة محكمة بأكثر من ثلاثين لغة حول العالم، تصدر من 105 دول حول العالم، وتشارك في نشرها 7000 دار نشر جامعية أو مستقلة، ورصدت بحوث 140 ألف مؤتمر علمي حول العالم، كمجلات رصينة تحترم قواعد البحث العلمي، وتم اعتماد 27 ألف سلسلة كتب تضم أكثر من 261 ألف كتاباً ويتم رصدها وتصنيفها بأكثر من خمسين إحداثية متقابلة للوصول إلى أهم المجلات وأكبرها وأصغرها، وأقدمها وأحدثها، وأكثرها تخصصاً ومباشرة، وأكثرها اقتباساً وتناولاً، وأكثرها حضوراً في البحوث العلمية الجدية.

وآمنت سكوباس بجدل الحياة المستمر، فلا حكم يصلح للأبد، فالحياة ليست حقيقة قارّة، بل هي جدل مستمر، وعروسة الأفكار اليوم قد تكون أرملة الزمن القادم، وكذلك عروسة المجلات، فبات البحث المستمر في أداء المجلات العلمية مرصوداً على كاميرات ساهرة لا يكاد يغيب عنها شيء، وباتت تصدر باستمرار قوائم المجلات المرضى المرشحة للموت، وتعقبها بالطبع قوائم المجلات الراحلة، وتستقبل في الوقت نفسه قوائم المجلات الجديدة الوافدة التي نجحت في إقناع سكوباس بجديتها وحضورها.

وباتت المنصة تتعرض للمراجعة شهرياً حيث يتوفي كل شهر نحو عشر مجلات ويدخل عدد أكبر من ذلك، كما هو شأن الحياة، فمن استهتر بقيم البحث العلمي ومعاييره فإنه يحكم بنزوله إلى المجلات العابثة، وهكذا باتت الجامعات في العالم كلها تناضل من أجل البقاء على قوائم سكوباس.

بالطبع لا يمكن لتقرير كهذا أن يشرح كل المعايير التي تقيس بها سكوباس البحث العلمي، ولكنني معني هنا بالسؤال عن واقع البحث العلمي العربي، وحضور الجامعات العربية في منصة التنافس العلمي الدولي وقدرتنا كحضارة عربية وإسلامية على التأثير.

ولكن كم هو عدد المجلات العربية في سكوباس؟ وكم هو حجمنا في التأثير على السباق المعرفي في العالم؟

من المؤلم أن نقول إنها خمسة فقط توفي منها اثنتان العام الماضي، وهناك 12 مجلة أخرى في البلاد العربية تنشر بشكل ثنائي بالعربية ولغة أخرى، وهي تتوزع بين جامعات عراقية وسعودية وأردنية ومصرية وجامعة تونسية! وهي في الغالب تنشر في سياق ثنائي اللغات.

الناطقون بالعربية 445 مليون إنسان، وهو رقم يعادل تقريباً 16% من سكان الكوكب، ولكن المجلات العلمية التي تنشر بلغة العرب تعادل فقط 0.04% من المجلات العلمية التي ينشرها أبناء هذا الكوكب!!.

إنه رقم مفجع لأولئك الذين يعلمون قيمة البحث العلمي، والأشد إيلاماً ليس غياب المعرفة العلمية بل هو حضور مؤسسات التجهيل التي باتت توفر في حرم المدارس كل شيء إلا البحث العلمي، والتي تتوج بغرور نرجسي يزدري المعايير العالمية للمعرفة ويقدس الجهل الوطني!!

بالطبع الطريقة الأريح للتعامل مع هذا الانهيار العلمي هي أن نقول كالعادة: مؤامرة علينا وعلى بلادنا، والأرقام كلها زائفة، ونحن مصدر العلم والمعرفة والحضارة للعالم ولكنهم سرقوا ذلك منا!!!!...

ما زال أمامنا مشوار طويل للحاق بالقطار الحضاري الذي ينطلق بجنون من دون توقف

***

الدكتور محمد حبش: مفكر وأكاديمي سوري عضو برلماني سابق، صاحب مشروع فكري نقدي حول التسامح الإسلامي - صدر له نحو ستين كتاباً مطبوعا يكرس فيها ومن خلالها رسالته في إخاء الأديان وكرامة الانسان .

معيقات تطور الأوضاع التي نعيشها اليوم بالمغرب الأقصى لها جذور تاريخية مرتبطة بالإيديولوجية الكولونيالية العالمية. خاب أمل المرحوم جمال عبد الناصر بمصر، وتم الاعتداء على النمو الطبيعي للحركة الوطنية المغربية. وكان حدث استشهاد الزعيم المهدي بن بركة مدويا في الفضاء السياسي العالمي. إنها الاعتبارات التي جعلتني أنكب على كتابة هذا المقال محاولا العودة إلى استنتاجات الدكتور عبد الله العروي، ساعيا لفتح النقاش الوطني في شأن تحديات الحاضر ورهانات المستقبل.

الاطلاع على التجارب الشخصية لعباقرة هذا الوطن في الفكر والمعرفة والرياضة والمقاولة والإدارة والإعلام ... تمكن المتتبع من الوصول إلى قناعة مفادها أن المرور من طبقة اجتماعية إلى أخرى مرتبط بشكل وثيق بالمجهودات الفردية، أي بوقائع التاريخ الشخصي بصدفه وفرصه. أساس التغيير مرتبط بالقدر، وحصول حدث استيقاظ الضمير في فترة من فترات الحياة، والاستعداد لدخول معركة التدافع لتوسيع هامش المشاركة في قيادة التغيير والدفاع عن ترسيخ مقومات الخصوصية التاريخية للمغرب الأقصى. وبذلك، يبقى تحقيق الذات بالنسبة لغالبية المغاربة مرتبطا بالاستعداد المستمر لتحمل عناء الكد وكلله. فحتى من لم يستغل حيوية وطاقة مرحلتي الطفولة والشباب يبقى الباب مفتوحا أمامه لخلق قطيعة مع ماضيه، ومن تم استدراك الزمن الضائع في العديد من المجالات الحيوية التي لا تتطلب القوة الجسمانية. الاستماتة في الكدح وما يحققه من بروز للنخب يبقى بدوره، في حالة حاجته إلى رافعات مؤسساتية، مرهونا باستعداد الذات الفردية للتفاعل في سياق معلوم لتبادل الإشارات. أساس هذا التفاعل وانطلاقته يتجلى في مستوى قدرة الفاعل على فك الرموز المضمرة المعبر عنها في الخطابات والتوجيهات السياسية التي تروج إعلاميا، والتي تنحصر أساسا في التعبير عن التأهب للتعاون الدائم لتطوير خدمات نسق المنظومة الرسمية. الالتزام بالدفاع عن الاستمرارية والاستقرار في الحياة الاجتماعية يشكلان الشرط الأساسي في الاندماج. يمكن لهوامش حرية الفعل أن تتوسع وتضمن ديمومتها كلما تم الالتزام بمضمون التوافق الأولي والتفاوض السلمي في شأن التطورات الممكنة. الاستقواء النخبوي، وتعمد تجاوز الخطوط الحمراء، يترتب عليهما عاجلا أم آجلا تنحية بأشكال متباينة من نسق السلطة وتسلسلاته ومستوياته داخل المجتمع. ابتزاز الدولة أو معاكسة منطق ممارسة السلطة القيادية بأبعاد الحاضر والمستقبل يتحول إلى نقمة بالنسبة للمبتز مهما ما راكمه من مكتسبات مادية ومعنوية.

 في سياق هذا الموضوع، خصص عبد الله العروي كتابا كاملا "بين الفلسفة والتاريخ" لبرهنة كون مصير الذات وتاريخ وقائعها شيء واحد. التاريخانية بالنسبة له علامة على تواضع. بما أنه يوثر العمل على النظر، فإنه يعتقد أنه لن يكون بإمكانه أن يجد جوابا معقولا عن شاغل فلسفي إلا انطلاقا مما يوحي به البحث التاريخي، وفي إطاره. لقد أقنع نفسه أن التاريخانية قدر وليست اختيارا.

كيف إذن تجسد هذا المنطق زمنيا في المشهد السياسي المغربي؟

لتقديم بعض عناصر الإجابة على هذا السؤال المعقد، لم يكن أمامي سوى السفر إلى مدينة الرباط لاقتناء ثلاثة كتب أساسية لعبد الله العروي. الكتاب الأول " الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية 1830-1912"، والكتاب الثاني هو " خواطر الصباح" يوميات (1967-1973)، والكتاب الثالث "خواطر الصباح" يوميات (1999-2007). سأحاول من خلال الكتب الثلاث مناقشة كيف ساهم الاستعمار في إحداث انزلاقات حرمت المنظومة السياسية المغربية الطبيعية من التطور بإمكانيات الذات، وإبراز ارتباط تحولاتها وتفاعلاتها مع التطورات الإقليمية والجهوية والدولية.

الوضعية المغربية الداخلية

إن دعوة العروي إلى التركيز على عصر الأنوار لا يدخل في خانة الدعوات إلى تقليد الآخر. التطورات التي عاشتها الدول الأوربية في القرنين السابع والثامن عشر شكلت مرجعا استثنائيا في التاريخ البشري. إن الدعوة لسبر أغوار هذه المرحلة التاريخية المرجعية بالنسبة له تحمل دلالة فكرية كبرى. إنها مرحلة الانقلاب الحاسم عن الظلم والعبودية والتسلط والاستغلال. إنه إعلان رسمي للرفض القطعي لاستغلال الأقليات (الخاصة) لعموم الشعوب الغربية (العامة).

من جهة أخرى، يعتبر العروي الانزلاق الذي تعمده المستشرقون في دراساتهم لدول الجنوب عامة، ولدول المشرق وشمال إفريقيا خاصة، قد أفرغ الثورات الأوروبية من نعومتها الإنسانية والحقوقية. لقد سطعت الأنوار شمالا وتم تعمد احتكار مزاياه ليسود الظلام جنوبا. إن الدفع بفكرة ميلاد المغرب الجديد سنة 1930 من طرف سلطة الحماية لا أساس له من الصحة. لقد كان هدف المستعمر هو الدفع بعدم وجود أي روح للأمة المغربية قبل هذا التاريخ لتبرير استغلال إمكانيات ترابه تحت شعار بناء حداثته.

لقد اختار العروي الفترة الزمنية لدراسته 1830-1912 لتفنيد ادعاءات المستعمر. لقد قدم كل المبررات لتمكين القارئ من الإلمام بالأطروحة التي نسجها خبراء الحماية. ما قام به هؤلاء هو محاولة تكييف الوضع القائم بالمغرب مع ما استنتجوه من خلال دراستهم للحركات القومية في أوروبا الوسطى وفي مناطق الدانوب خلال القرن التاسع عشر. على هذا الأساس، أبدعوا مفاهيم تربط نهاية المغرب القديم بعقد الحماية، وجعلوا من سنة 1930 بداية المغرب الجديد. حاولوا طمس كون مقاومة المغاربة للخطر الأجنبي آتية من بعيد، وارتبطت بالمد الإيبيري خلال القرن الخامس عشر. لقد ركز في أطروحته على هذا العمق التاريخي الرافض لما روجت له الأبحاث الاستعمارية السالفة الذكر. لقد برهن بالوصف الدقيق منجزا عملا تطبعه الدقة العلمية والمصداقية أن المغرب كان يتوفر قبل 1830 على بنيات مكونة لكيانه ولشخصيته التاريخية، ولعب البعد الثقافي في مجمل ترابه دور المحرك الديناميكي مجسدا المرآة العاكسة لتحولاته وتطوراته. المغرب قبل 1930 لم يكن مجرد تسيب للقبائل كما ادعت سلطة الحماية. الحركة الوطنية المغربية لها تاريخ قديم. وبذلك، فوجودها ليس نتيجة لإدخال قيم الحداثة من طرف الحماية.

ترسيخا لمنطق الاستقطاب في العمل السياسي لطمس حركات المقاومة الوطنية الترابية وتطلعاتها لتحقيق التحرر والاستقلالية بسواعد بناتها وأبنائها الوطنيين الأكفاء، ربطت فرنسا ميلاد الحركة الوطنية المغربية بالفترة التي تمكنت خلالها النخبة المستقطبة، تحت تأطيرها ودعمها، من المساهمة في ارتفاع الإنتاج وزيادته، وتوسيع السوق المغربي وانفتاحه. إنها التطورات التي حصل في سياقها المغرب على استقلاله. لقد تحقق هذا الاستقلال في ظرفية متوترة شملت كل الدول العربية.

تأثر أوضاع المغرب المستقل بالتطورات العربية

منذ الصفحات الأولى من كتابه "خواطر الصباح، يوميات 1967-1973"، وقف عبد الله العروي على أهم الأحداث والمستجدات التي كانت سببا في انزلاق الحركات التحررية العربية في الخمسينات والستينات. تخلى السوفيات على العرب وامتدت تداعيات وتأثيرات محاولات مصر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه إلى المغرب الأقصى. ولأبين المنعطفات غير السليمة التي تم اتخاذها بفعل حدة الضغوطات الدولية، سأقدم فيما يلي أهم ما جاء في الصفحات الأولى من الكتاب السالف الذكر.

* السنة 1967: بعد 19 سنة قضي الأمر وضاعت فلسطين بكاملها.. مؤقتا في أحسن الاحتمالات. وطيلة هذه السنوات تعززت الصهيونية بانتظام، بقوى غير ذاتية أساءت إلى العرب وإلى تطلعاتهم. سبب النجاح واضح: نظام عبد الناصر ضعيف سياسيا. اعتمد بالأساس على مساعدة الشيوعية الروسية دون أن يدرك في الوقت الملائم أن طبيعتها قد تغيرت. لم تتخل أمريكا عن إسرائيل في حين أن روسيا تخلت عن العرب.

* الخاسر هو القومية العربية والثورة العالمية. لم يعد هناك أمل في سياسة عبد الناصر ولا في دور الاتحاد السوفياتي. الفائز بالمقابل، هو الفكر الصيني من جهة، والامبريالية الأمريكية من جهة ثانية.

* ستتكون على المدى المتوسط دوائر نفوذ في الشرق الأوسط وفي إفريقيا بإيعاز ورعاية الولايات المتحدة الأمريكية. سيتحول العالم العربي من منطقة ثورية إلى ساحة لنمو استعمار جديد بقيادة دولتين: مصر وإسرائيل. وسيكون ثمن المصالحة دفن أمل اشتراكية عربية حقيقية غير بيروقراطية.. قبل عبد الناصر قرار وقف إطلاق النار لأنه فهم الوضع الجديد، بعد أن فوات الأوان.

* هدفهم القضاء على نظام سوريا وسينجحون إذا لم تتدخل روسيا في الحين وفي إسرائيل بالذات.

* سياسة عبد الناصر، في آخر تحليل، سياسة بورجوازي صغير حانق ومتحيز رغم البلاغة المصطنعة. الأقوال تعبر عن الواقع الاجتماعي دون أن تؤثر في السياسة الفعلية. أمام الهزيمة يلجأ إلى المناورة لا إلى المقاومة الثورية.. هو الرئيس قبل وبعد الخطأ والهزيمة.. يقدم نفسه على الفور، في أعقاب الهزيمة، أمام المحكمة التي تبرئ ساحته في الحين. وفي الوقت نفسه يبرئ ساحة الجيش. أوليس هذا هو لب المشكل؟ لا خوف على البيروقراطية. لن تمس مصالحها.. المسؤول الوحيد عن الهزيمة، حسب التحليل، هو تراخي السوفيات. كان الاتحاد السوفياتي يحتاج إلى هزيمة العرب حتى يصبح المتكلم باسمهم ويقدم للأمريكان ما يعوضون به تراجعهم في آسيا.. السوفيات خلقوا في الشرق وضعا يمكن الأمريكان من قبول حل في فيتنام. في هذا الإطار كان الاتحاد السوفياتي يحتاج إلى هزيمة العرب.. هذه النقطة غابت دائما عن المحللين المصريين المتحمسين لبطولات الشعب الفيتنامي.

* الجزائر: تكلم بومدين عن "تردد الأصدقاء وتفرج المتفرجين". إنجلترا خانتنا البارحة... وها روسيا تخوننا اليوم. هذا ما نردده. لا يمكن الاعتماد كليا ودائما على صديق أو حليف. حليفك هو بالضبط من يريد أن تظل في حاجة إلى مساعدته. لم يعد للعرب، بعد الهزيمة، أي مجال للاستقلال.

خاتمة: سأقف عند هذا الحد. خواطر عبد الله العروي كتبها وهو تلميذ في ثانوية مراكش سنة 1949 واستهل كتابه الأول بخواطر صيف 1967 حيث اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية الثانية. وسعيا لتجديد العزائم مغربيا لترصيص مقومات الحركة الوطنية، والاعتزاز بخصوصية المملكة المغربية، وتزويد مسار الاستمرارية بمزيد من مقومات الديمقراطية والحقوق والنماء الذاتي، أرى أنه من الواجب العودة إلى سبر أغوار كتاباته التاريخية والفلسفية من سنة 1830 إلى سنة 2007، وهي الفترة الزمنية التي اشتغل عليها مفكرنا وخصص لها الكتب المذكورة أعلاه.

حسب النظرة الصينية، أضاع عبد الناصر تحقيق وحدة العرب عن طريق الحرب الثورية (على غرار ما قام به ماوتسي تونغ).. في لحظة الحسم تنكشف ازدواجية سياسته: الوجه المصري والوجه العربي. التضحية بمصالح مصر، أو ما تبقى منها، لتحقيق الوحدة أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الكيان المصري.. عروبة مصر مصلحية في الأساس، أحادية الاتجاه، كما كانت جرمانية في روسيا.

المخزن المغربي أعطى اهتماما بالغا لكل هذه التموجات الجارفة مبكرا. لقد كان تقديره صائبا لقوة اليهود العالمية وتضامن كل اليهود مع إسرائيل. السلطة بالمغرب تتبع في نفس الوقت عن كتب ما يفوح من خواطر مفكريه ومثقفيه.

مباشرة بعد الإذن غير المباشر للاتحاد السوفياتي لعودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى المشرق العربي مقابل التخلي عن فيتنام، شاعت خطابات جديدة امتدت في أعماق الرأي العام الشعبي العربي: " أمرنا الله بأن نتحد فتفرقنا.. أمرنا الله بأن لا نتنابز بالألقاب ففعلنا ذلك علنا.. حبانا الله بدستور فأعرضنا عنه وأبدلناه بآخر يفصل الدين عن السياسة". لقد دق ناقوس إعطاء الانطلاقة لخلق التيارات الإسلامية عربيا ومغاربيا، بحيث فتح لها المجال لتحقيق التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية. أعطيت الانطلاقة لترعرع العهد الإسلامي، وأبرمت العقود لاستغلال الخيرات المشرقية في مجال الطاقة والمواد الخام والمزروعات خصوصا.. تطورت الأحداث وبرزت قوى مناهضة الاشتراكية الموالية للاتحاد السوفياتي. شاعت الحاجة لحكم الله كتصور بديل.

الوضعية الحالية: الصين تتقدم في مسارها السياسي القومي الثابت. روسيا لا سبيل لعودتها إلى الساحة الدولية سوى اعتناق دعم إيديولوجيات الاعتزاز بمقومات الذات الثقافية في العالم بأسره، ومقاومة نظرية خلق الإنسان العالمي الليبرالي. دول العالم بأسرها اندمجت في اقتصاد السوق الكونية. تمت تنحية التيارات الإسلامية الحليفة لأمريكا في الأمس القريب. بعدما مارست الحركات الإسلامية في المشرق السلطة بشكل من الأشكال في مطلع الألفية الثالثة، انقطع الحديث اليوم عن حركة الإخوان المسلمين في مصر، وعن الحركة الإسلامية في الباكستان، وعن الوهابية في المملكة العربية السعودية، وحركة النهضة في تونس..... أما في المغرب، فقد تمعن المغاربة في تجربة العدالة والتنمية، واعتبر الأمر طبيعيا أن تطلب حركة العدل والإحسان إنشاء حزب للعمل في المشهد السياسي بشكل رسمي.

***

مهندس إحصائي اقتصادي ومهيئ معماري

في المثقف اليوم