قضايا

تأليف: شايلا لاف

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

يستمر الباحثون في مناقشة ما إذا كانت بعض الوظائف عديمة الفائدة بطبيعتها، ولكنهم يتفقون جميعًا على أنه من المضر رؤية وظيفتك بهذه الطريقة.

وصف مارك غالبية ما فعله في وظيفته بأنه "صناديق معلمة". كان عمله كمسؤول كبير عن الجودة والأداء في مجلس محلي في المملكة المتحدة ينطوي على "التظاهر بأن الأمور رائعة بالنسبة لكبار المديرين، وعمومًا "إطعام الوحش" بأرقام لا معنى لها تعطي الوهم بالسيطرة،" كما أخبر عالم الأنثروبولوجيا الراحل ديفيد جريبر، كما هو مقتبس في كتاب جريبر وظائف تافهة (2018).

وكان رجل آخر، هانيبال، أكثر حدة. تم تعيينه لدى شركة استشارات رقمية لقسم التسويق في إحدى شركات الأدوية، ووصف عمله بأنه "محض هراء خالص"، والذي "لا يخدم أي غرض".

وقال: "لقد تمكنت مؤخرًا من الحصول على ما يقرب من اثني عشر ألف جنيه إسترليني لكتابة تقرير من صفحتين لأحد عملاء الأدوية لتقديمه خلال اجتماع استراتيجي عالمي". "لم يتم استخدام التقرير في النهاية لأنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى هذه النقطة من جدول الأعمال."

كتب جريبر لأول مرة عن "الوظائف التافهة" في مقال نشره عام 2013 وحقق نجاحًا كبيرًا على الفور. وقد قرأه أكثر من مليون شخص، وقام الناشطون بلصق اقتباسات منه على الإعلانات في قطارات أنفاق لندن. في كتابه الأخير عن "نظرية الوظيفة التافهة"، وسع جريبر حجته، فعرّف الوظيفة التافهة بأنها "شكل من أشكال العمل مدفوع الأجر الذي لا فائدة منه على الإطلاق، أو غير ضروري، أو ضار، حتى أنه لا يستطيع حتى الموظف تبرير وجوده". رغم ذلك، كجزء من شروط التوظيف، يشعر الموظف بأنه ملزم بالتظاهر بأن هذا ليس هو الحال "- وهو وصف ينطبق، وفقًا لجريبر، على أكثر من نصف معظم الوظائف.

في حين أنه ليس هناك شك في أن حجج جريبر كان لها صدى ثقافي، عندما بدأ الباحثون الأكاديميون في تحديد الحجم الفعلي للوظائف التافهة، كانت النتائج التي توصلوا إليها تتعارض إلى حد كبير مع ادعاءات جريبر. وتشير البيانات التجريبية إلى أن عدداً قليلاً نسبياً من الناس في واقع الأمر يبدو أنهم يعتبرون وظائفهم عديمة الفائدة ( تافهة ) ــ الأمر الذي يؤدي إلى معارضة إمكانية تطبيق مفهوم جريبر في الحياة الواقعية.

على سبيل المثال، في عام 2015، وجد استطلاع أجرته مؤسسة يوجوف أن 37% من البالغين البريطانيين العاملين يعتقدون أن وظائفهم لا تقدم مساهمة ذات معنى للعالم. وفي عام 2018، وجدت دراسة شملت 47 دولة، أن 8% من العمال ينظرون إلى وظائفهم على أنها عديمة الفائدة اجتماعيا، في حين كان 17% متشككين بشأن فائدة وظائفهم. ثم في عام 2021، وجدت دراسة مبنية على بيانات مسح عالية الجودة جمعتها إحدى وكالات الاتحاد الأوروبي، أن حوالي 5 % فقط من العمال يعتبرون وظائفهم عديمة الفائدة. اقترح مؤلفو تلك الورقة الأخيرة أن الأمر لم يكن أن بعض الوظائف كانت، بطبيعتها، عديمة الفائدة، ولكن الناس في العديد من أنواع الوظائف يمكن أن يشعروا بالغربة ويعانوا من ظروف العمل والعلاقات السيئة.

قادت هذه السلسلة من النتائج معلقًا واحدًا على الأقل إلى اقتراح أن نظرية الوظائف التافهة التي قدمها جريبر كانت مجرد هراء. لكن ربما كان ذلك سابق لأوانه. نُشرت في إحدى مجلات جمعية علم الاجتماع البريطانية (العمل والتوظيف والمجتمع) في يوليو، وقد ظهرت الآن دراسة أخرى تشير إلى أنه على الرغم من أهمية عوامل مثل الاغتراب، إلا أنه يبدو أن هناك بعض المهن التي يقول الناس إنها عديمة الفائدة أكثر من غيرها علاوة على ذلك، فإنها تتوافق مع فئات الوظائف الهراء/ التافهة التي اقترحها جريبر.

سيمون والو، عالم اجتماع ما بعد الدكتوراه في جامعة زيورخ ومؤلف هذا المقال الأخير، قرأ "وظائف تافهة" أثناء كتابته لأطروحة الماجستير. يقول: "في ذلك الوقت، كنت أفكر كثيرًا فيما يجب أن أفعله في حياتي". "لم أكن أعرف حقًا ما أريد أن أفعله، ولكني شعرت أنه يجب أن يكون شيئًا ذا معنى." يقول والو إنه فوجئ عندما قرأ أن الكثير من الناس يشعرون أن لديهم وظيفة عديمة الفائدة اجتماعيا.

اقترح جريبر خمس فئات مختلفة من الوظائف التي تعتبر "تافهة". هناك "مساعدون"، مثل المساعدين الإداريين أو مشغلي المصاعد، الذين يعملون فقط لجعل الآخرين يشعرون بأهميتهم؛ "المتنمرون"، مثل جماعات الضغط أو المسوقين عبر الهاتف، الذين يخدعون الآخرين لصالح رؤسائهم؛ "التناقص التدريجي للقناة"، مثل موظفي خدمة العملاء، الذين يقدمون حلولاً مؤقتة رديئة للمشاكل؛ "المؤشرات الصندوقية"، مثل مارك وهانيبال، الذين يقضون أيامهم في إنتاج وثائق أو استطلاعات عديمة الفائدة؛ وأخيرًا "رؤساء العمال" أو المديرون الذين يطلبون من الناس القيام بأشياء عديمة الفائدة دون أن يفعلوا الكثير بأنفسهم.

قام والو بتحليل بيانات من مسح ظروف العمل الأمريكية لعام 2015 وركز على ثلاث فئات من جريبر قال إنها يمكن ربطها بمهن محددة: وظائف المساعدين، والمتنمرون، ورؤساء العمال. غطى الاستطلاع 21 مهنة في المجموع، أربعة منها كان من الممكن أن يصنفها جريبر على أنها بكالوريوس (الدعم الإداري، والمبيعات، والمهن التجارية والمالية، والمديرين)، وطلب من الأشخاص الإشارة إلى ما إذا كانوا يعتقدون أن وظائفهم قدمت مساهمة كبيرة في  المجتمع أو فى حياتهم. واستنادًا إلى هذه التصنيفات، قدّر والو أن 19% من الأشخاص في الولايات المتحدة يعتقدون أن وظائفهم "هراء/ تافهة "، وبالنسبة للجزء الأكبر، فإن العمل في إحدى مهن جريبر التي تحمل درجة البكالوريوس يزيد بشكل كبير من احتمالية أن ينظر الشخص إلى وظيفته على أنها عديمة الفائدة اجتماعيا، مقارنة بكونك في نوع آخر من الوظائف. المهنة الوحيدة التي صنفها جريبر على أنها بكالوريوس والتي لم تظهر هذا التأثير هي المهن القانونية.

تختلف هذه النتائج قليلاً عن دراسات عامي 2018 و2021، وقد يكون لها علاقة بالطريقة التي يتم بها طرح السؤال حول فائدة الوظيفة، كما يقول روبرت دور، أستاذ الاقتصاد في جامعة إيراسموس روتردام والمؤلف المشارك لورقة 2018. في ورقة والو، سُئل الأشخاص عما إذا كانت وظائفهم مفيدة لمجتمعهم ولحياتهم، في حين تساءلت ورقة 2021 بشكل عام عن الفائدة ولكنها لم تحدد مفيدة لمن؟ وبعبارة أخرى، ربما يكون بحث والو قد وضع معيارًا أعلى لمفهوم لفائدة.

تقول ماجدالينا صوفيا، وهى عالمة اجتماع ما بعد الدكتوراه في معهد مستقبل العمل والمؤلفة المشاركة في بحث عام 2021، إنهم عندما حصلوا على نتائجهم المتمثلة في أن 5 % فقط من الأشخاص يرون أن وظائفهم عديمة الفائدة، وقد أشار ذلك لها إلى أن ثمة شىء هناك يحدث أكثر من مجرد فئة من الوظائف تعد هراء / تافهة.

وهي تعتقد أن الأمر لا يعني أن بعض الوظائف هي تافهة بطبيعتها، ولكن الأمر يتعلق بجودة أكثر عمومية للخبرة أثناء العمل. يتضمن ذلك ما إذا كان لديك إمكانية الوصول إلى "إدارة الجودة"، والاستقلالية، والاختيار والتحكم في إدارة عملك، وما إذا كان لديك إمكانية الوصول إلى علاقات هادفة مع الآخرين. وفي حالة عدم وجود شروط التوظيف الأوسع هذه، فمن المرجح أن يرى الناس وظائفهم على أنها عديمة الفائدة. تقول صوفيا: "أميل إلى أن أكون أكثر ترددًا في قبول الاستنتاج القائل بأنه لا تزال هناك مهن تعد تافهة بطبيعتها".

يوافق والو على أن نظرية جريبر لا تشرح كل شيء عن السبب الذي يجعل الناس يعتقدون أن وظائفهم مجرد هراء. ويقول إن الناس قد يعتقدون أن وظائفهم هراء/ تافهة لأنها كذلك في بعض الأحيان، ولأنهم غير راضين عن ظروف عملهم، وفي بعض الأحيان تتداخل هذه الأشياء. ويضيف والو: "أنا أقبل جميع النتائج التي توصلت إليها الدراسات الأخرى، وأعتقد أنها ذات قيمة كبيرة". "لكن ما يتغير الآن هو أن هناك تفسيرات متعددة لنفس الشيء."

بشكل حاسم، عندما أخذ والو في الاعتبار تأثير عوامل التوظيف الأوسع، مثل الاغتراب، وجد أنه لا تزال هناك بعض المهن، التي تتماشى مع أفكار جريبر، التي يؤيدها الناس باعتبارها عديمة الفائدة أكثر من غيرها. يقول والو إن هذا يشير إلى أن العزلة أو عدم الرضا ليس دائمًا هو ما يدفع الناس إلى الاعتقاد بأن وظائفهم عديمة الفائدة، ولكن في بعض الأحيان يكون هناك شيء متأصل في هذه الوظائف يجعل الناس ينظرون إليها على أنها "هراء". وحتى لو لم تكن الأرقام مرتفعة كما اقترح جريبر في البداية، كما يقول والو، فإن ذلك مازال يعني أن الملايين يعتبرون طبيعة عملهم عديمة الفائدة اجتماعيًا.

اعترف جريبر أنه كان من الصعب على شخص واحد، أو عدة أشخاص، أن يحددوا بشكل عام ما الذي يجعل الوظيفة "مفيدة" أو "ضرورية". وكتب: «لا يمكن أن يكون هناك مقياس موضوعي للقيمة الاجتماعية».

ما يمكنك فعله هو أن تسأل الناس عن رأيهم في وظائفهم. يقول دور: "لا ينبغي لنا أن نقلل من أهمية المعتقدات الشخصية للناس فيما يتعلق بمدى فائدة وظائفهم". لقد توصل عدد من الدراسات أن المعتقدات الذاتية حول فائدة الوظيفة تؤثر على دوافع الناس للعمل وكذلك على رضاهم الوظيفي.

مع استمرار الباحثين في تحسين حجم أو طبيعة الوظائف عديمة الفائدة، هناك حقيقة مهمة واحدة صحيحة: عندما يعتقد الناس أن وظائفهم عديمة الفائدة، فإن ذلك يرتبط بانخفاض في الصحة العقلية. تقول صوفيا: "كان هذا مؤشر ارتباطى قوى للغاية [في بيانات دراستنا]". يبدو أن هذا يتوافق مع حجة جريبر بأن الوظيفة التافهة تفرض "عنفًا نفسيًا عميقًا" على أي شخص في تلك الوظيفة. وكتب: "إن الضررين الأخلاقي والروحي الناجمين عن هذا الوضع عميقان". "إنهما بمثابة ندبة في روحنا الجمعية."

تقول صوفيا: "نظرًا لأهمية الصحة العقلية والرفاهية النفسية، نعتقد أننا بحاجة حقًا إلى إيجاد تفسير لذلك [العلاقة بين الشعور بأن وظيفة المرء عديمة الفائدة وضعف الصحة العقلية]"

وهي تعتقد أن الإجابة أكثر تعقيدا من التخلص من فئات الوظائف التي تعتبر عديمة الفائدة، وبدلا من ذلك، يجب على الباحثين أن يتوصلوا إلى طرق لقياس جودة وظائف الناس بشكل فعال، في حين ينبغي على أصحاب العمل أن يمنحوا الناس دوراً أكبر في تصميم بيئة العمل الخاصة بهم. ومع التقدم في الذكاء الاصطناعي والتهديد بأن الذكاء الاصطناعي سيتولى بعض الوظائف، فإن هذا النوع من الاستقلالية والقياس سيكون أكثر أهمية من أي وقت مضى، كما أخبرتني. "هناك طرق عديدة للعثور على المعنى من خلال العمل. من وجهة نظري، ما إذا كان تقديم مساهمة للمجتمع هي مجرد طريقة واحدة لقياس قيمة العمل"

إذا ما عدت الوظائف عديمة الفائدة اجتماعيًا لأسباب مختلفة، فهذا يعني أن هناك أكثر من طريقة لتحسين الوضع. بالنسبة لبعض الناس، قد يكون الأمر يتعلق بمعالجة الاغتراب أو الاستقلالية.

وكتب والو في ورقته البحثية: "إذا أخذنا في الاعتبار احتمال أن تكون بعض أنواع العمل عديمة الفائدة بطبيعتها للمجتمع، فإن لهذا آثار مختلفة تمامًا". "ولتخفيف هذه المشكلة، يتعين على المرء إجراء تعديلات في النظام الاقتصادي وتقييد أنشطة [التوظيف] التي لا تهدف إلى تحقيق أي هدف للمجتمع أو التى لا تستهدفه على الإطلاق".

ويعتقد جريبر أن الوظائف التافهة تفسر لماذا لم تتحقق توقعات جون ماينارد كينز الاقتصادية. كتب كينز أنه بعد زيادة الكفاءة التكنولوجية، سيعمل الناس تدريجياً بشكل أقل فأقل إلى أن تصبح مشكلتنا الأكبر هي ملء كل وقت الفراغ المتاح لدينا. لم يحدث هذا، ولذلك سيتعين علينا الاستمرار في التعامل مع الهدف من العمل بدلاً من ذلك. تقول صوفيا: "هذا هو موقف المناقشة في الوقت الحالي". "إنه تحدٍ مستمر: معرفة كيف يمكننا، بموضوعية قدر الإمكان، قياس ما إذا كانت الوظيفة مفيدة أم لا."

تشير الجاذبية طويلة الأمد لنظرية الوظيفة التافهة إلى أن هذا يمثل تحديًا حاسمًا للكثيرين، بسبب الأسئلة الكبرى حول معنى الحياة التي تنشأ عنها. وعلى حد تعبير جريبر: "كيف يمكن للمرء أن يبدأ في الحديث عن الكرامة في العمل عندما يشعر المرء سراً أن وظيفته لا ينبغي أن توجد؟"

(انتهى)

***

...........................

المؤلفة: شايلا لافShayla Love  كاتبة في Psyche. وقد ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك.تقدم نفسها على موقعها الرقمى قائلة فى عبارة مكثفة وشاملة فى ذات الوقت: أنا صحفية علمية مقيمة في بروكلين. ينصب تركيزي في المقام الأول على علم النفس، وعلم الأعصاب الإدراكي، والمخدرات، والعلوم الاجتماعية، وتقاطع التاريخ والثقافة والفلسفة مع الأبحاث الحالية. لقد انجذبت إلى الأماكن التي تتداخل فيها التخصصات، وقبل كل شيء، كيف تؤثر على التجربة الإنسانية.

رابط المقال الأصلى على مجلة سايكى / Psyche : https://psyche.co/ideas/why-do-so-many-people-think-they-are-in-a-bullshit-job

مقتطفات من المقال اترك تنسيقها داخل المقال للسيد المحرر إذا ما لزم الأمر:

يطلب رؤساء العمال أو المديرون من الناس القيام بأشياء عديمة الفائدة دون أن يفعلوا الكثير بأنفسهم.

وحتى لو لم تكن الأعداد مرتفعة كما اقترح جريبر في البداية، فهذا يعني أن الملايين يعتبرون عملهم عديم الفائدة.

كتب كينز أنه بعد زيادة الكفاءة التكنولوجية، سيعمل الناس بشكل أقل فأقل. هذا لم يحدث.

 

إن المعري 973- 1057 كان سباقاً بطرح (العدمية) والفلسفة الوجودية بزمن بعيد أي قبل شوبنهاور1788-  1860 بأكثر من 800 سنة وهو فارق زمني ومكاني كبير والغريب أكثر تقاربهما في الوضع العائلي والتناحرات السياسية ورحى الحروب الطاحنة الداخلية والخارجية لذا أصبحا في نظر العالم والطبيعة والأفراد والمجتمع بتبني (الثقافة السوداوية العدمية)، فيكون القاسم المشترك بينهما العدمية التشاؤمية مع التقارب بالوضع الفردي والعائلي والبيئة المحيطة بهما من جهة أخرى.

وسأستوحي بعضاً من أفكار ورؤى الفيلسوفين الكبيرين من خلال ما بين سطورمنجزيهما، كتاب اللزوميات للمعري وكتاب العالم كأرادة وفكرة لشوبنهاور، وفي تحليل تشابهما في العدمية لابد من معرفة الآسباب:

لنبدأ بالمعري:

- فقد بصرهُ بعد أصابته يمرض الجدري وهو طفل بعمر خمسة سنوات وترك المرض اللعين أخاديد ونتوءات وتشوهات خلقيةِ في وجههِ.

-  وفاة أبيه المفاجيء وذاق مرارة اليتم وهو طفل بعمر ستة سنوات.

-  ترك الدراسة في مدارس الشام وبغداد بعد سماع مرض أمهِ وثم خبر موتها.

-  عاش زمن الأرهاصات والتقاطعات الفكرية وتناقضات الصراعات الطبقية وأضطرابات سياسية وحزبية بين الحمدانيين والفاطميين أضافة إلى الحروب الطاحنة الخارجية مع الروم البيزنطيين.

-  أتهم بالزندقة لوجوديته عند التعامل الفكري مع الكون والحياة والموت.

-  وكان المعري نباتياً رأفة بالحيوان.

-  عاش ناقماً ومات ناقما على الحياة بسوداوية وأحباط ويأس ليوصي كتابة هذه العبارة على قبره "هذا ما جناه عليَ أِبي ولم أجني أنا على أحد" (اللزوميات لآبي العلاء المعري).

أما بالنسبة لآرتورشوبنهاور:

هو أحد فلاسفة الالمان المثاليين ذو الأفكار اليمينية المثالية الطوباوية والمتسمة بالعدمية والتشاؤمية التي تعاكس الحداثة المعاصرة في زمنهِ وجغرافيته الأوربية.

- ورث مزاجية وجينات أبيه الذي يعاني من أضطرابات نفسية حادة في الخوف واللقلق والعزلة والأكتئاب وكراهية الحياة حيث وُجد منتحراً بطريقة بشعة برمي نفسهِ من علوٍ شامخ.

-  سلوكية غير مريحة مع أمهِ حيث كانت نابغة في سردية القصة متصفة بالغرور والفوقية حتى على أبنها، فالعلاقة كانت مضطربة بينهُ وبين أمه بقسوتها عليه بالتجافي والمشاكسة، وخصوصاً عند أشتهارهِ في الوسط الثقافي والعلمي القيمي والنبوغ وسعة الآدراك وعند أخبارها الفيلسوف (غوته) بعظمة عقلية أبنها أشتاطت غيضاً عليه.

-  عاش سلسلة الحروب النابليونية والأضطرابات السياسية في عموم أوربا.

-  تعمق لديه شعور بأن الحياة شرَليس بها ألا الآلم والمرض والشيخوخة والموت.

التقارب الفكري بين الفيلسوفين

- طغيان الصفة التشاؤمية السوداوية (العدمية) على عقلية ورؤى كل منهما.

-  الخير والسعادة عندهما أحداث سلبية سرعان ما تغيب لتحل عليها العدمية والسوداوية التشاؤمية وتحيطها الأحزان والآلام والتي أطلقوا عليها الأحداث والآمور الأيجابية.

-  الحياة في نظرهما متعبة ومقرفة لآقترانها مع الشر.

ولهذا يقول المعري:

إلا إنما الدنيا نحوسَ لآهلها

فما في زمانٍ أنت فيه سعود

*

نزولُ كما زال أجدادنا

ويبقى الزمانُ على مانرى

- ويشترك الأثنان في رؤية الفرد بمتلاومة الآلم  الذي لا مفر منه، فتصبح قواعد أفكارهما المنحوسة (منصة) أنتقادية للبشرية جمعاء التي هي: أستدامة متلازمة الألم والتشاؤم والعدمية.

-  والأغرب رغم البعد الشاسع في الزمكنة وكأن الواحد يلقن الآخر بأفكاره السوداوية.

فيقول المعري:

في العُدم كنا وحكم الله أوجدنا

ثم أتفقنا على ثان ٍ من العدمِ

أو:

نمرُسراعاً بين عدمين مالنا

لباثُ كأنا عابرون على جسرٍ

ويجيبهُ شوبنهاور أفتراضياً:

نعم يا صاح إن الحياة تتأرجح كالبندول بين ألألم والسأم وفي الحالين لا خير في هذا العالم سوى حياة بائسة عافرة.

- أتفقا في أعتزال النساء، كان أبو العلاء زاهداً من الدنيا متقشفاً نباتي الطعام رأفة بالحيوان، أعتزل النساء ولم يتزوج لكي يجنب النسل الموروثات الجينية السيئة ومآسي الحياة: حتى أوصى أن يكتب على قبرهِ: هذا ما جناهُ علي أبي وأنا لم أجني على أحد، أما شوبنهاور فهو يكره النساء، يعتبرالمرأة منبع الشرور وهي توأم الحياة المقرفة لذا عاش عقدة النساء في حياته فلم يتزوج.

-  التقارب العقلي والوجداني بين المعري وشوبنهاور في المعتقدات الدينية والكون والموت هاجم أبو العلاء المعري عقائد الدين لذا أتهم بالزندقة، أما شوبنهاور يقول: إن الوجود هو (المادة) الملموسة فقط أما ما يطرح في غيبياتها فلا قيمة لها وهويميل – كذلك -  إلى التعمق في دراسة الديانة الهندية وسيرة بوذا التي تقوم على أساس إن الحياة قائمة على أنواع من الشرور الطبيعية والخلقية، أما الوجود عبارة عن المادة المطلقة، فليس في الوجود سوى المادة.

-  ويتفق الأثنان على إن الموت نهاية لألام وعذابات الحياة، وجدتُ في فلسفة الفيلسوف الأ لماني: للحفاظ على الحياة في (النوع)  وديمومة استمرارية الحياة ببؤسها وشقائها يستلزم آرتون شوبنهاورأمرين هما: (العقل والغريزة الجنسية) بل يذهب أكثر في الغلو والسوداوية يدعو الأنسان إلى نبذ الحياة الشريرة ولو كان بالأنتحار!؟ وبالمناسبة أنتحر والدهُ بطريقة بشعة برمي نفسه من علوٍ شاهق لكونه كان مصاباً بأمراض نفسية حادة كالكآبة والعزلة والخوف والقلق.

***

عبد الجبار نوري - كاتب وباحث عراقي مغترب

...........................

مصادر وهوامش

-  كتاب اللزوميات لأبي العلاء المعري ترجمة سامي الدروبي

-  كتاب العالم أرادة وفكرلآرتورشوبنهاور

كُتب في بغداد الحبيبة\ كانون ثاني\ 2024

 

المدخل لهذا المقال مشهدان حصلا في غضون أسبوع واحد:

* الأول صدور امر مهم من وزير التعليم العالي بمنح التدريسي مبلغ 3 مليون دينار في حال نشر بحث في مجلة ضمن أعلى التصنيفات العالمية فقط (المبلغ يكاد يزيد أحيانا او يقل عن قيمة النشر في كثير منها رغم ان بعضها تنشر مجانا). تلك التفاتة كبيرة رغم ان البحث الرصين يتطلب ضعف هذا المبلغ او اكثر، عن قيمة الأجهزة والمواد المختبرية التي يتحملها الباحث.

* الثاني صدور أمر من رئيس الوزراء بمنح كل لاعب في منتخب "الطوبة" مبلغ 10 الاف دولار (يزيد عن 15 مليون دينار) بسبب فوز في مباراة واحدة. ذلك بلحاظ انها مهنتهم التي يحصلون منها على ملايين وسفرات وعزايم في ملاه وحفلات وووو.... وقبل ذلك صدور امر من نفس الجهة بمنح الفنانين مليارات الدنانير لصندوق التقاعد وغيره.

المشهد الثاني أجده ترسيخا وتماهيا وتأصيلا "قد يكون دون قصد" للفخ الذي زرعته وسائل الاعلام الممنهجة في اذهان شعب تنخر بنيته الاجتماعية سوس الامية والتجهيل بقصد توجيه الأنظار عن كل ما هو مفيد ونافع لبناء الحياة والبنى التحتية من علوم وتكنولوجيا باتجاه العشوائية والاثارة الشعبوية، باتجاهٍ يكون الصراخ والتنابز بالالقاب والصدامات البذيئة والعنفية أساسه استغلالا للنزوع الموجود أصلا في النفس البشرية في الرغبة بالتفوق والإحساس بالافضلية مهما كان مجال التنافس.

أمثلة للمسيرة الممنهجة لتأصيل مثل ذلك الفخ يمكن ان يلاحظها فاقد البصر في التهافت العجيب لكل العناوين القيادية على نشر التهاني والتبريكات على شاشات التلفاز والمواقع الإخبارية مع أي فوز للمنتخب او لنادٍ ولو كان على فريق "طيور الغبشة" بقصد التقرب من المزاج الشعبي. تهانٍ وتبريكات للاعبين لا يكاد احدهم يملك الشهادة الابتدائية بينما أؤكد ان أيا من أولئك المهنئين لا يعرف اسم اثنين او ثلاثة من علماء العراق/أساتذة/مهندسين/أطباء ولا منجزاتهم او افكارهم. أحضان الحكومات والقيادات المتنفذة "وهي كثيرة" مفتوحة على مصراعيها لحمل اللاعبين والفنانين لاقصى الأرض فيما عبارة "على ان لا تتحمل ال...اية نفقات" عن مشاركة الباحث العراقي في أي محفل علمي تتصدر الكتب الرسمية.

كي لا أكون قاسيا بحق القيادات فان الجهل بأسماء وإمكانات وإنجازات العلماء العراقيين بات حالة عامة حيث يحفظ العراقي أسماء راقصات وفاشنستات " وهي وصف منمق لصاحبات مهنة قديمة جدا" تصرّح احداهن انها تسوق الرجال ب50 الف دينار، ومهرجين كحسحس وكنكن وووو بينما لا يكاد الطالب الجامعي يعرف اسم استاذه الذي يدّرسه في الجامعة وان عرف الاسم الأول لا يعرف سواه. لماذا وما السبب؟

 تراكمات انهيار المنظومة التعليمية الأساس وانهيار سوق العمل الذي رمى الشباب منذ 2003 والذين باتوا في سن البلوغ اليوم، لغياهب البطالة، مع هجمة إعلامية منظمة تنظيما وتمويلا عاليين بحيث باتت قادرة على تحريك الملايين في مناسبات كثيرة ليست تشرين آخرها، يرافق كل ذلك أداء أسوأ من السيء للمنظومة الحكومية (ان صحّت تسميتها أصلا) ، كل ذلك وأكثر جعل المجتمع والشباب منه خاصة هاضما كبيرا لاي فخ وأخطرها عنوان هذه المقالة وباتت تلك اللعبة التي يفترض بها أن تطور الناحية التنافسية الفكرية والجسدية، الى وسيلة تباعد وتباغض لا تقتصر على أبناء البلد عموما فقط "كما يحصل بين المحافظات" او بين القوميات بل بين أبناء المدينة الواحدة وحتى الطائفة الواحدة. العنف والتخريب باتا سمة ثابتة سواء عند الفوز او الخسارة، ودونكم البرامج التلفزيونية السمجة التي ليس فيها من الادب والذوق قطرة بل يملؤها السباب والتخوين وأنواع البذاءات.

عن أي وحدة وطنية او لم شمل يمكن ان نتحدث مع شعب يلهث خلف صراخات وطبول تصم الاذان عن أي صوت لحكمة او منطق، شعب تشجع حكوماته وقياداته على إقامة مهرجانات العري والسفه لزبائن و"منتسبي/منتسبات" الملاهي تحت عناوين متنوعة يتم خلالها تتويج "صدورهن" بأوسمة ويعزف لاجلهن السلام الجمهوري والنشيد الوطني بينما لا تجد في أي مؤتمر علمي سوى الباحثين الذين ينتظرون دورهم في القاء البحث لكراسٍ فارغة!!!!!

***

أ.د. سلام جمعه المالكي

   زعم (زكريا القزويني، -682هـ= 1283م) في كتابه "آثار البلاد وأخبار العباد"(1)، خلال حديثه عن بلاد (إفرنجة)، التي قاعدتها (باريس)، (=فرنسا)، أنها:

"بلدةٌ عظيمةٌ، ومملكةٌ عريضة، في بلاد النصارى... ولهم مَلك ذو بأس، وعدد كثير، وقُوَّة مُلك، له مدينتان أو ثلاث على ساحل البحر من هذا الجانب في وسط بلاد الإسلام، وهو يحميها من ذلك الجانب، كلما بعث المسلمون إليها من يفتحها، يبعث هو من ذلك الجانب من يحميها.  وعساكره ذوو بأس شديد؛ لا يَرون الفرار أصلًا عند اللقاء، ويَرون الموت دون ذلك.  لا ترى أقذر منهم، وهم أهل غدرٍ ودناءة أخلاق، لا يتنظَّفون ولا يغتسلون في العام إلَّا مرَّة أو مرَّتين بالماء البارد! ولا يغسلون ثيابهم منذ لبسوها إلى أن تتقطع!  ويحلقون لحاهم، وإنَّما تنبت بعد الحلق خشنةً مستكرهة.  سُئل واحدٌ عن حلق اللِّحى؟ فقال: الشَّعر فَضْلة، أنتم تزيلونها عن سوءاتكم، فكيف نتركها نحن على وجوهنا؟!"

وأقول "زعم"؛ لأنَّ لهذا القزويني خزعبلات لا تخفى، في كتابه هذا وفي غيره، يصعب تصديقها.  بل له تخليطات جغرافيَّة، حتى في كلامه حول مواضع معروفة في الجزيرة العَرَبيَّة، عرفها وعرَّف بها معاصروه وسابقوه.  وليس هذا بمقام مناقشة هذا الآن.  أمَّا ما ذكرَه عن الثقافة الأوربيَّة خلال القرون الوسطى، فله شواهد متواترة من طُرقٍ متعدِّدة، لعلَّ أشهرها ما وصفه (أحمد ابن فضلان)، في رسالته المعروفة، التي صوَّر فيها مجتمعات (أوربا الشرقيَّة)، خلال العصر العباسي الثاني، إبَّان عهد (المقتدر، -320هـ= 932م).  والشاهد من هذا أنَّ الحضارة دوَّارة، والحضارة الماديَّة ليست بمقياس التحضُّر الأمثل، مهما بلغ البهرج والعنفوان.  وآيات ذلك المعاصرة ليست في حاجة إلى استشهاد أو تفسير.  فإذا كان (نزار قباني) قد ناح على بني جلدته:

خلاصةُ القضيةْ

توجز في عبارةْ:

لقد لبسنا قِشرة الحضارةْ

والرُّوح جاهليَّةْ!

فما أروع جاهليَّتنا العَرَبيَّة الأُولى، قياسًا إلى بعض الجاهليَّات المعاصرة، وريثة الجاهليَّات الأوربيَّة المعولمة!  وما فضائح الملياردير الأميركي اليهودي- واليهوديَّة نفسها منه براء- (جِفري سيمور جي إبستين Epstein Jeffrey، - 2019)- صاحب (جزيرة القدِّيس يعقوب)، والمدفون في (مقبرة نجمة داود)، بعد أن هلك منتحرًا- ولا فظائع زمرته من شياطين الإنس، منَّا ببعيد!  ويا للنفاق، فأنتَ تلحظ هنا الرموز الدِّينية المحيطة بهذا الشيطان الرجيم، حيًّا وميتًا: "القدِّيس.. يعقوب.. نجمة داوود"!  ويالها من قداسة، ونجوميَّة، وداووديَّة!  وهل تألُّب شياطينهم، من أحفاد أسلاف البدائيَّة الغربيَّة، على مستضعفي (غَزَّة) من النساء والولدان بغريبٍ على جذورهم التاريخيَّة؟! إنَّ الحيَّة لا تَلِد إلَّا الحيَّة، وما أشبه الليلة بالبارحة!  على أنَّ التوحش البَشري يزداد ضراوةً وقُبحًا حين يتلبَّس لبوس الدِّين.

هكذا صفعَ وجودَنا (ذو القُروح)، ونحن ما نكاد نستفيق من صفعاته السالفة.  فقلت، وقد أوشك أن يخرج عن طوره، لعلِّي أستعيده إلى بعض حواره التاريخي السابق:

- ألا تلحظ في صراع الأديان المعاصرة، وهو صراعٌ مسيَّس، ذلك الجهاد في سبيل الذَّبِّ عن القول بتحريف "الكتاب المقدَّس"، سهوًا أو قصدًا؟!

- بلى ألحظ.  وذاك لتنقية صفحات التاريخ ممَّا تستعيد كتابته صفحات المعاصِر. ويحدث ذلك كذلك لأسباب من الاختلافات الأيديولوجيَّة، وهو ما دفع الكنيسة إلى أن تتنصَّل من بعض الكِتاب، فتجعله بين قوسَين، تنبيهًا إلى عدم وجوده في الأصول القديمة، وذلك كقِصَّة (مريم المجدليَّة).(2) 

- ألهذا فقط وقع التحريف؟

- له ولغيره من المآرب والأهواء التاريخية، عبر رحلات تلك الأسفار من النُّسخ المخطوطة، المفقودة أصولها، التي كتبها المعاصرون لـ(موسى وعيسى، عليهما السلام). 

- كيف؟

- كيف هذه حكاية تطول!  ذلك أنَّ ما بقي لا يعدو نُسَخًا منقولة عن نسخٍ ضائعة، مختلفة الروايات، وأَقْدَم مخطوطٍ غير أصليٍّ لـ(العهد الجديد) لا يرقى إلى أقدم من القرن الثاني الميلادي.  ثمَّ زاد الطين بِلَّةً ما حدث من تحريفاتٍ، أو من أخطاء إضافيَّة قسريَّة، جرَّاء رحلاتٍ أخرى بين أيدي مترجمي تلك النُّسخ غير الأصليَّة نفسها، من لغات قديمة- كالعبرانيَّة والآراميَّة، فيما يتعلق بـ(العهد القديم)، واليونانيَّة، فيما يتعلق بـ(العهد الجديد)- إلى لغات أحدث، أو إلى لغات أخرى.

- وهل من جديدٍ تحت الشمس؟

- الجديد أنَّ الكتاب الأوَّل قد حوى تراثًا من الأساطير، مقتبسًا عن شعوب شتَّى، ولاسيما الأساطير السومريَّة، والأكديَّة، والبابليَّة، التي يبدو أنَّ القوم استقوا شِقْصًا منها إبَّان السَّبي البابلي. 

- شِقْصًا؟

- أعني شِقًّا منها. ولنضرب على هذا نموذجًا واحدًا.  وهو (قِصَّة الطوفان).  جاءت تلك القِصَّة المثيرة في (سِفر التكوين)(3)، على النحو الآتي:

"ورَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسانِ قَدْ كَثُرَ في الأَرْضِ... فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسانَ في الأَرْضِ، وتَأَسَّفَ في قَلْبِهِ! فَقالَ الرَّبُّ: "أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسانَ مَعَ بَهائِمَ ودَبَّاباتٍ وطُيُورِ السَّماءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ!"... فَقالَ اللهُ لِنُوحٍ:... اِصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا... فَها أَنا آتٍ بِطُوفانِ الماءِ عَلَى الأَرْضِ لأُهْلِكَ كُلَّ جَسَدٍ فيهِ رُوحُ حَياةٍ مِنْ تَحْتِ السَّماءِ. كُلُّ ما في الأَرْضِ يَمُوتُ. ولكِنْ أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ، فَتَدْخُلُ الفُلْكَ أَنْتَ وبَنُوكَ وامْرَأَتُكَ ونِساءُ بَنِيكَ مَعَكَ. ومِنْ كُلِّ حَيٍّ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ، اثْنَيْنِ مِنْ كُلٍّ تُدْخِلُ إِلَى الفُلْكِ لاسْتِبْقائِها مَعَكَ. تَكُونُ ذَكَرًا وأُنْثَى... في سَنَةِ سِتِّ مِئَةٍ مِنْ حَياةِ نُوحٍ، في الشَّهْرِ الثَّانِي، في اليَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ في ذلِكَ اليَوْمِ، انْفَجَرَتْ كُلُّ يَنابِيعِ الغَمْرِ العَظِيمِ، وانْفَتَحَتْ طاقاتُ السَّماءِ. وكانَ المَطَرُ عَلَى الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وأَرْبَعِينَ لَيْلَةً... فَماتَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ... كُلُّ ما في أَنْفِهِ نَسَمَةُ رُوحِ حَياةٍ مِنْ كُلِّ ما في اليابِسَةِ ماتَ. فَمَحا اللهُ كُلَّ قائِمٍ كانَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ... ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ نُوحًا وكُلَّ الوُحُوشِ وكُلَّ البَهائِمِ الَّتِي مَعَهُ في الفُلْكِ. وأَجازَ اللهُ رِيحًا عَلَى الأَرْضِ فَهَدَأَتِ المِياهُ. وانْسَدَّتْ يَنابِيعُ الغَمْرِ وطاقاتُ السَّماءِ، فامْتَنَعَ المَطَرُ مِنَ السَّماءِ. ورَجَعَتِ المِياهُ عَنِ الأَرْضِ رُجُوعًا مُتَوالِيًا. وبَعْدَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ يَوْمًا نَقَصَتِ المِياهُ، واسْتَقَرَّ الفُلْكُ في الشَّهْرِ السَّابعِ، في اليَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، عَلَى جِبالِ أَراراطَ. وكانَتِ المِياهُ تَنْقُصُ نَقْصًا مُتَوالِيًا... وفي العاشِرِ في أَوَّلِ الشَّهْرِ، ظَهَرَتْ رُؤُوسُ الجِبالِ. وحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَنَّ نُوحًا فَتَحَ طاقَةَ الفُلْكِ الَّتِي كانَ قَدْ عَمِلَها وأَرْسَلَ الغُرابَ، فَخَرَجَ مُتَرَدِّدًا حَتَّى نَشِفَتِ المِياهُ عَنِ الأَرْضِ. ثُمَّ أَرْسَلَ الحَمامَةَ مِنْ عِنْدِهِ لِيَرَى هَلْ قَلَّتِ المِياهُ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، فَلَمْ تَجِدِ الحَمامَةُ مَقَرًّا لِرِجْلِها، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ إِلَى الفُلْكِ... فَلَبِثَ أَيْضًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ وعادَ فَأَرْسَلَ الحَمامَةَ مِنَ الفُلْكِ، فَأَتَتْ إِلَيْهِ الحَمامَةُ عِنْدَ المَساءِ، وإِذا وَرَقَةُ زَيْتُونٍ خَضْراءُ في فَمِها. فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ المِياهَ قَدْ قَلَّتْ عَنِ الأَرْضِ... وكَلَّمَ اللهُ نُوحًا قائِلًا: "اخْرُجْ مِنَ الفُلْكِ... وبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ... وقالَ الرَّبُّ في قَلْبِهِ: "لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ الأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الإِنْسانِ... "وها أَنا مُقِيمٌ مِيثاقِي مَعَكُمْ... هذِهِ عَلاَمَةُ المِيثاقِ الَّذِي أَنا واضِعُهُ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ... وضَعْتُ قَوْسِي في السَّحابِ فَتَكُونُ عَلاَمَةَ مِيثاقٍ بَيْنِي وبَيْنَ الأَرْضِ... وكانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الفُلْكِ سامًا وحامًا ويافَثَ. وحامٌ هُوَ أَبُو كَنْعانَ. هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ بَنُو نُوحٍ. ومِنْ هؤُلاَءِ تَشَعَّبَتْ كُلُّ الأَرْضِ. وابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلَّاحًا وغَرَسَ كَرْمًا. وشَرِبَ مِنَ الخَمْرِ فَسَكِرَ وتَعَرَّى داخِلَ خِبائِهِ. فَأَبْصَرَ حامٌ أَبُو كَنْعانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خارِجًا. فَأَخَذَ سامٌ ويافَثُ الرِّداءَ ووَضَعاهُ عَلَى أَكْتافِهِما ومَشَيا إِلَى الوَراءِ، وسَتَرا عَوْرَةَ أَبِيهِما ووَجْهاهُما إِلَى الوَراءِ. فَلَمْ يُبْصِرا عَوْرَةَ أَبِيهِما. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ ما فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ، فَقالَ: "مَلْعُونٌ كَنْعانُ! عَبْدَ العَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ". وقالَ: "مُبارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سامٍ. ولْيَكُنْ كَنْعانُ عَبْدًا لَهُمْ. لِيَفْتَحِ اللهُ لِيافَثَ فَيَسْكُنَ في مَساكِنِ سامٍ، ولْيَكُنْ كَنْعانُ عَبْدًا لَهُمْ". وعاشَ نُوحٌ بَعْدَ الطُّوفانِ ثَلاَثَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً. فَكانَتْ كُلُّ أَيَّامِ نُوحٍ تِسْعَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً، وماتَ."

   وهذه قصَّة لا تخلو تفاصيلها من الخيالات الأُسطورية والعنصريَّة.  وقد امتدَّ هذا الخطاب العنصري إلى "العهد الجديد".

- من هنا، إذن، تدفَّق علينا منبع (الساميَّة المقدَّسة)، التي تحوَّلت إلى شعارٍ إرهابيٍّ عالمي؟

- نعم، حتى لا تكاد تفتح فمك بانتقاد، حتى يَهِرَّ الغرب في وجهك: "أنت ضد الساميَّة!"، وإنْ كنتَ أنت السامِّي والمقول فيه خزري!

- وكذا منبع العنصريَّة القديمة ضدَّ (الكنعانيِّين/ الفلسطينيِّين).  لكن كيف امتدَّ ذلك الخطاب ليصبَّ في "العهد الجديد"؟

- إجابة كيف هذه في المساق التالي، إن شاء الله!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1)  (د.ت)، آثار البلاد وأخبار العِباد، (بيروت: دار صادر)، 498.  وقارن: 576.

(2)  يُنظَر: تفسير العهد الجديد، (جمعية الكراريس البريطانية، 2004)، 235.

(3)  الإصحاح 6- 9.

 

(كنت ألاحق الأفكار التي تتزاحم في مخيلتي، بدون خطة أو غاية، وكأنَّني طفل يلاحق فراشة نادرة تطير في المراعي، من دون أن ينظر إلى موطئ قدميه)... هاروكي موراكامي

***

في الفناء الكئيب لمستشفى مزدحم، محاط بجدران تعكس آلام سكانه، وقع نظري على منارة مُرهقة، غير مبالية بويلات المرضى والمحتاجين، ولكنها تطل على الامتداد الهادئ للسماء اللازوردية، مترفعة عن الاكتطاظ البشري والأزدحام المروري في الأسفل، وهنا وسط هذا التجاور بين المعاناة والصفاء، عاد ذهني إلى كلمات جان جاك روسو، ولا سيما كتابه "هواجس المتنزه المنفرد بنفسه" كان لهذا الكتاب بتصويره المثير للتشاؤم، صدى عميق في ذهني، حيث سجل روسو أفكاره وهواجسه وخيبة أمله وسط عالم مليء بالنفاق والخداع من خلال رحلته مع ذاته في عدة نزهات أطلق العنان فيها لأفكاره، حاولت لوهلة أن أخضع ذهني لهذا التمرين وأتسلق بأفكاري (مقلدة روسو) بعيداً من خلال شجرة وحيدة لكن أرتطمت بواقع مُقحل، بأعتبار المساحات الخضراء في مجتمعنا مساحات غير مهمة وغير موجودة في مشاريع الحكومة الرشيدة .

وبالعودة الى صاحب العقد الأجتماعي الذي اتسمت حياته بالصراع من أجل الاعتراف، ولم تكن جهوده وروحه الحساسة موضع تقدير من قبل المحيطين به كان يكتب مستلقيًا، محاطًا بالعزلة التي تعكس اضطرابه الداخلي، وكان يبحث عن العزاء في الطبيعة وعالم النبات، وسط التأمل والعزلة، وجد روسو الرفقة في النباتات، ونأى بنفسه عن نشاز النفاق والخيانة الذي أحاط به، ما يميز تأملات روسو هو طبيعتها الحميمة، التي تم كتابتها كتأملات شخصية، وظلت مخفية حتى بعد وفاته، وهي تقدم لمحة واضحة عن روحه، ومن خلال الاعترافات والتأمل، قام روسو بتفكيك الواجهة التي كانت تحميه، وكشف نقاط ضعفه ليراها الجميع، وعلى الرغم من أنه مؤلم، إلا أن صدقه يتردد صداه في قلب الروح الحرة، النزهات التي كان يقوم بها "حالماً" كانت تستثير عنده مشاعر عميقة ملأى بـ "الهواجس"، كان يتلذذ بالنزهات لأنها توافق كسله الجسدي من حيث الابتعاد عن كل عمل مصمّم، وتتناغم مع غزارة مخيلته وتدفق رعشاته.3331 منارة مسجد

ولايفوتنا أن نذكر أن هناك علاقة وطيدة بين المشي والتفكر، وكما يذكر هاروكي موراكماي في كتابه (ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري) نمشي و نمشي دون وجهة محددة، نجري دائماً إلى الأمام، و كأن المشي عندنا طقسا دينياً يراد له أن يشفي أرواحنا الجريحة.

بالعودة إلى المتنزه نواجه روسو منغمسًا في مساعيه، مما يسمح لروحه بالصعود إلى عالم الأفكار، متحررًا من قيود المجتمع البشري، وسط المساحات الخضراء نجد ملاذًا حيث يمكن للأفكار أن تتجول بحرية، إنه تناقض صارخ مع الواقع الذي نواجهه في العراق، حيث يؤدي تراجع المساحات الخضراء ومحدودية الوصول إلى الحدائق والمناطق العامة إلى تقييد التعبير عن الفكر الفردي .

عندما أتأمل نقد روسو للمجتمع والحضارة، أستحضر واقعاً محفوفاً بالأزمات في مجتمع حيث يتم التنازل عن الحقوق عن طيب خاطر لحكومة مقيدة بعقد لا جدوى منه، وسط الأزمات المتصاعدة، إن كلمات روسو المؤثرة تلخص جوهر الوجود الإنساني، الذي يتجاوز الزمان والمكان، كما يعلن:

" لقد انتهى كل شئ بالنسبة لي في هذه الدنيا ..

و لن يستطيع احد بعد ان يفعل بي خيراً او شراً ..

لم يعد امامي ما آمل فيه او ما أخشاه في هذه الدنيا

وها أنا ذا مستكين في قرار الهاوية بشراً فانياً منكودا ولكن صامد كالإله نفسه"

وكما قال روسو: «يولد الإنسان حرًا، وفي كل مكان يكون مقيدًا بالأغلال» ويتردد صدى هذا الشعور بعمق لدى الفرد العراقي، الذي غالبًا ما يشعر صوته بالاختناق بسبب القيود المجتمعية والاضطرابات السياسية، في بيئة خالية من المساحات المفتوحة، تصبح فرصة التعبير الحقيقي عن الذات نادرة بشكل متزايد.

ومع ذلك، وفي خضم هذه التحديات، لا يزال هناك بصيص من الأمل إن بحث روسو الخالد عن الأصالة هو بمثابة ضوء إرشادي يلهمنا للمثابرة على الرغم من تجارب الحياة، وعلى حد تعبير روسو: "ما هي الحكمة التي تجدها أعظم من اللطف؟" ومن خلال اللطف والتفاهم يمكننا أن ننشئ مجتمعا يمكن أن تزدهر فيه الروح الإنسانية، غير مثقلة بأغلال القمع، وأن نصنع من الخيال فضاءات واسعة نحلق بها بعيداً عن الواقع المقفر....

***

د. فاطمة الثابت – استاذة علم الاجتماع في بابل

........................

* المنارة المطلة على أحد المستشفيات

 

التغيير في ترجمة العنوان أمر وارد، وخصوصاً في بعض الأعمال الأدبية والسينمائية لدواع تجارية أو اجتماعية بشرط أن يُذكر العنوان الأصلي في الصفحة الداخلية للكتاب باللغتين الأصلية والمترجَم إليها. ولكن هذا التغيير يكون غالباً ضمن إطار معنى العنوان الأصلي ولا يخرج من فضائه! لنلقِ نظرة على هذا المثال لنرى إنْ كان من النوع المسموح به أم أنَّ فيه تجاوزاً وخروجاً على المعنى الأصلي وتحميل العنوان الجديد بحمولات أيديولوجية "قومية عروبية على قومية سورية" خاصة بالمترجم؟

* ألَّفَ الباحث الآثاري الفرنسي جان كلود مارغورون في ستينات القرن الماضي كتابه (les mesopotamiens). وتعني هذه الكلمة سكان بلاد ما بين النهرين أو كما دأبتُ على تسميتهم في كتاباتي "الرافدانيون"، وقد وضحتُ مبرراتي في أكثر من نص. وبعد ربع قرن تقريباً على صدور كتاب مارغورون ترجمه سالم سليمان العيسى إلى العربية سنة 1999. ولكن تحت عنوان جديد طويل هو "السكان القدماء لبلاد ما بين النهرين وسوريا الشمالية". ثم، وكأن المترجم لم يكتف بزجِّ اسم سوريا الشمالية في العنوان فزاد وكتب عنواناً ثانياً تحت العنوان الرئيسي في الصفحة الأولى من الكتاب هو "التراث والكنز الثمين الذي أبهر الأجانب - مفخرة سوريا"!

يخبرنا المؤلف الفرنسي منذ البداية بجوهر فكرة كتابه وموضوعه وهو محاولة اقتراح هوية جغراحضارية لسكان هذا الإقليم متعدد القوميات. وهو يعترف منذ مقدمة كتابه بأن الكتاب سيهتم بسكان بلاد الرافدين أو ما بين النهرين دون غيرهم (ذاكراً حدود هذا الإقليم الواقع بين نهري دجلة شرقاً والفرات غرباً، وقلب الأناضول شمالاً والدلتا السومرية شمال الخليج العربي - ويسميه الفارسي - جنوبا/ ص20)، مؤكدا أنَّ هذا الاسم "الميزوبوتاميين" أي الرافدانيين لم يكن موجوداً في تلك العصور القديمة، ولم يكن الناس في هذه المنطقة يسمون أنفسهم به ذاكراً مبرراته لإطلاق هذه التسمية. ثم يسمي بعض شعوب بلاد الرافدين ومنهم السومريون والكاديون - والمقصود الأكاديون - والآشوريون والحوريون والسوريون. ومن غير الدقيق علمياً وكرونولوجياً خصوصاً إيراد ذكر الآشوريين والسوريين معاً، فالثابت تأريخياً أن أسم سوريا وبالتالي "السوريون"، اشتق لاحقاً - في عهد الاحتلال السلوقي (بين 312 ق.م حتى سنة 63 ق.م- من اسم آشور والآشوريين، وبعد سقوط الدولة الآشورية واندماج شعبها بشعوب المنطقة. على هذا، ينبغي الفصل بين التسميتين وعدم الجمع بينهما في حقبة تأريخية واحدة. أما هل وردت العبارة بهذه الصيغة في الكتاب باللغة الفرنسية وفيها كلمة "السوريون"، أم أنها أضيفت سهواً أو قصداً من قبل المترجم العربي، فلا يمكنني الإجابة على هذا السؤال قبل الاطلاع على النسخة الفرنسية منه.

لقد تجاوز المترجم على عنوان المؤلف الأصلي ووضع له اسما يتجاوب مع دوافعه الأيديولوجية، ولم يكتف بذلك، بل كتب مقدمة خاصة به كمترجم راح يلوي أعناق الحقائق والوقائع فيها ليروج فكره القومي العروبي المتداخل مع فكر الهوية السورية فيكتب معرفا الرافدانيين بقوله: "إنهم السكان السومريون - الحوريون - الأكاديون - السوريون الذين تواجدوا في بلاد الدجلة والفرات، إنهم جميعا من الأصل السامي مصدر قوميتنا العربية، وهذه حقيقة تاريخية ثابتة...  ص5"، وكأن الأفكار والمعلومات تتحول إلى حقائق تأريخية ثابتة حين يقرر المترجم أو الكاتب ذلك بجرة قلم! وحتى إذا غضضنا النظر عن هفوة المترجم في استخدام الفعل "تواجدوا" والذي يعني "أظهروا الوجد الصوفي" وليس الوجود الانطولوجي وفعله "وُجِدوا"، لم يكتف العيسى بدوره كمترجم بل تدخل كباحث وجعل الحوريين ساميين، وحذف الآشوريين بعد أن جعلهم سوريين! وقد وضحنا وجه الخلط بين الآشوريين بالسوريين، أما بالنسبة للحورين فهم كما هو معروف بحثياً لا علاقة لهم بالساميين، لا أصلاً أثنولوجياً ولا لغة. فأصلهم العرقي ما يزال غامضا، ولكن لغتهم "الحورية فرع من اللغات الحورو- أورارتية، وهي لا تنتمي إلى اللغات السامية ولا إلى اللغات الهندية الأوروبية، ويرجعها بعض الباحثين الى مجموعة اللغات القفقاسية الجورجية. وتذهب بعض النظريات إلى أن بعض ملوكهم كانوا من أصول هندو آرية، وقد ظهروا في العصر البرونزي وشيَّدوا المملكة الميتانية ثم ذابوا في شعوب المنطقة بعد انهيار مملكتهم.

كانت هذه وقفة سريعة عند مثال من تجاوزات الترجمة إلى العربية وستكون لنا وقفة أطول عند هذا الكتاب في مناسبة أخرى ضمن مشروع دراسة لفحص العلاقات التأريخية والحضارية القديمة بين بلاد الرافدين وما يسمى من قبل البعض سوريا الكبرى "أو الهلال السوري الخصيب" التي يريدون أن تكون بلاد الرافدين كما شخَّصَ حدودها جغرافياً وحضارياً جان كلود مارغورون وغيره جزءا منها!

***

علاء اللامي

يبدو أن هناك شعورًا منتشرًا بشكل مهول يطارد مجتمعاتنا – إنه القلق. لقد أصبح مصطلح "عصر القلق" شعارًا شائعًا، وغالبًا ما يتم الاستشهاد به للتعبير عن جوهر وجودنا المعاصر. ولكن هل نعيش حقا في عصر يهيمن عليه الشعور بالقلق، أم أن هذا التصور هو مظهر من مظاهر التغييرات المجتمعية الأوسع ووجهات النظر المتطورة بشأن واقعنا ومزاجنا اليومي ؟.

لقد شهد القرن العشرين تحولات مجتمعية وتكنولوجية مهولة وغير مسبوقة، تسببت في توليد مخاوف ذات ضغوطات مختلفة . لقد زرعت الحروب العالمية والكساد الاقتصادي والحرب الباردة مخاوف جماعية من الإبادة. وأدى التقدم التكنولوجي المتسارع، وخاصة العصر النووي، إلى ظهور التهديدات الوجودية في المقدمة. في الوقت نفسه، قدمت الثورة الرقمية في أواخر القرن العشرين وظهور الإنترنت حزمة جديدة من الشكوك والمخاوف المتعلقة بالخصوصية، والاستهلاك المفرط للمعلومات، وتآكل الملامح الشخصية:

أحد العوامل المهمة التي يُشار إليها غالبًا على أنها تساهم في إدراك سن القلق هو التقدم السريع للتكنولوجيا وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي حيث يُعتقد أن الوابل المستمر من المعلومات، والضغط للحفاظ على شخصية متوازنة في عوالم الإنترنت، والخوف من تفويت الأشياء  الخاصة هي عوامل محفزة لزيادة مستويات ضغط القلق.

إحدى الآليات الأساسية التي تؤثر من خلالها العوامل الاقتصادية على الصحة العقلية هو الشعور السائد بعدم الاستقرار الذي يصاحب عدم اليقين الدخل الآمن . وسواء كان ذلك بسبب الانكماش الاقتصادي العالمي أو الصراعات المالية الشخصية، فإن عدم اليقين بشأن المستقبل المالي يمكن أن يكون بمثابة أرض خصبة لهذا القلق المرعب .

إن الخوف من فقدان الوظيفة، وعدم استقرار السكن، وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية يمكن أن يساهم في انتشار الشعور بالعجز والضعف.

ونحن نبحر في تعقيدات ومطبات العصر الحديث، من الضروري إجراء افتحاص نقدي لمفهوم عصر القلق. ومن خلال تشريح الأبعاد التاريخية والتكنولوجية والاقتصادية والثقافية والفردية للقلق، يمكننا الحصول على فهم دقيق للعوامل التي تساهم في إدراكنا الجماعي لمستويات القلق المتزايدة. ومن خلال القيام بذلك، قد نكتشف أن عصر القلق ليس حقيقة متجانسة، بل هو تفاعل معقد بين القوى المختلفة التي تشكل المشهد العقلي لدينا.

***

عبده حقي

 

كان العراقيون يتوقعون فوزا سهلا لفريقهم على فريق فيتنام مقارنة بفوزه على فريق اليابان القوي، ولم يكن بمستواه لسبب سيكولوجي هو ان الفريق العراقي يستسهل اللعب مع الفريق الذي يراه اضعف منه، ولم يلعب بمستواه الا في الدقائق الأخيرة التي انتهت بفوزه.. ولحظتها امتلأت شوارع المدن بالعراقيين، صغيرهم وكبيرهم، نساؤهم ورجالهم وهم يهزجون ويغنون و(يهوسون).. فدفعني فضولي السيكولوجي الى ان اجري استطلاعا عبر وسائل التواصل الأجتماعي كان بالنص:

(كل الشعوب تفرح وتبتهج من يفوز فريقها، لكن العراقيين يتفردون بفرح خاص.. صغار، كبار، بنات، نساء، يصفه سيكولجيون أنه هوس. انت بماذا تصفه؟)

 تحليل الأجابات

 تعدت الأجابات المئات فوجدتها انها تتوزع بين سببين، الأول سيكولوجي خالص يمكن صياغته بالتعبير الشعبي بأن العراقي جوعان للفرح، اليكم نماذج منها:

بسبب الكدر واعتقد رد فعل لفراغ نفسي كبير نحتاج نتحدث عنه طويلا، العراقيزن الشرفاء يعانون من عطش الفرح والحرية والمدنية، (اجابة لأكاديمي: هو تطرف بالفرح الذي افتقدنا مغزاه بفعل تسلسل التدمير المبرمج لوطننا المستهدف من قبل الطغاة المتجبرين، وهو رد فعل سوي وليس هوسا مرضيا.. نفسيا

نعم هذا صحيح، والسبب لأن العراقيين عانوا من الأحزان والنكبات والبعد عما يفرح النفوس، ولذلك يندفعون لتعويض ماينقصهم من سرور.

هي فسحة للتنفيس بين عشرات الاحزان العامة اضافة للخاصة التي تمطر علينا ليل نهار،

فرح لمواطنين ساذجين في بلد محتل سكانه تعاني من مئات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية.

كرة القدم هي المتنفس الوحيد للشعب، والوحيد الذي يوحّد الشعب العراقي.

والصنف الثاني ارجع السبب الى طبيعة الشخصية العراقية.. اليكم ايضا نماذج من الأجابات بينهم اكاديميون وأعلاميون:

العراقي مخلص في هواه وسمح ويحب الشيء الذي يجمعه بالفرح مع الآخرين وخاصة ان كان الفرح.. وطن،

العراقي متطرف في مشاعره سواء في الحب او الفرح او الحزن، العراقيون شعب متفائل ويفرح بالمناسبات السعيدة.. رغم كل ما يمر به من مصائب، العراقي يريد أن يكون غالبا دائما، هوس هستيري اقرب من كونه فرح والفرد العراقي يتأثر بسيكولوجية الجماعة، العراقي يعتبر كرة القدم معركة، والعراقيون يحبون المعارك والأنتصار فيها.

تعبير شعبي

 وهناك تفسيرات لطيفة، فاحدهم وصفها بقوله: فيها يتوحّد العراقيون دون ثبوت رؤية الهلال !، وآخر عزاها الى ارث المهاويل.. والمهوال هو (المهوسجي) بالتعبير الشعبي الذي يثير حماس الجمهور بهوسة (اهزوجة) فيهوسون بحماسة، والعراقيون مشهورون بالهوسات الوطنية، لاسيما هوساتهم في ثورة العشرين: (الطوب احسن لو مكواري،  هز لندن ضاري وبجّاها، الشك الما يتخيط شكيناه، رد فالتنه احتاجيناها).. وهذه لها قصة غريبة.. عن فالة عراقية اصابت عسكري بريطاني في العمارة واحتاروا في امر أخراجها من جسده، فنقلوه الى بريطانيا.. وهي موجودة الآن في أحد متاحف لندن!

لقد فاز العراق على اليابان، وفاز على ماليزيا وفيتنام، وقد يفوز في القادم من المباريات.. لكن العراقيين يبقون مفجوعين بوطنهم من لعبة السياسة التي تجري على ساحة الوطن.. بين فرقاء افتقدوا اخلاق اللعبة وقواعدها.. ولعبوا من اجل كل شيء الا الفوز ب(كأس الوطن!).

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

بقلم: أماندا رايت

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

هناك سمة شخصية نحملها طوال حياتنا تفسر لماذا يجد البعض منا أن التغيير يكون أسهل من قبل الآخرين.. هل شعرت يومًا كما لو أن شخصًا مهمًا بالنسبة لك، مثل صديقك المفضل، بدأ يصبح شخصًا مختلفًا تمامًا؟ في الوقت نفسه، ربما لديك مشكلة معاكسة - بغض النظر عما تفعله أو مدى صعوبة محاولتك، لا يبدو أنك تكسر العادات القديمة أبدًا وتجد نفسك تكافح من أجل التغيير نحو الأفضل. كيف يمكن لهذين الواقعين أن يتعايشا - بعض الناس يبدو أنهم يغيرون هويتهم تمامًا، بينما يجد آخرون أنفسهم غير قادرين على إجراء أي تغييرات -؟

عندما تفكر في مدى التغيير الذي يمكن أن يحدث لك أو للآخرين في أعماقك، فإن ما تفكر فيه حقًا هو الشخصية - الأفكار والمشاعر والسلوكيات النموذجية للشخص أثناء حياته اليومية. يبدو أن شخصية صديقك المفضل قد تغيرت بشكل كبير، لكن شخصيتك تبدو ثابتة تمامًا. يعكس هذا التناقض المذهل جدلاً طويل الأمد في علم النفس. لفترة طويلة، رأى علماء النفس أن الشخصية ثابتة طوال حياتنا. وقد تم دحض هذا منذ ذلك الحين – على الرغم من أن الشخصية مستقرة نسبيًا، إلا أنها بعيدة كل البعد عن كونها ثابتة.

عادة، تحدث معظم التغيرات في الشخصية في مرحلة الشباب وكبار السن، ويبدو أن منتصف العمر هو فترة الاستقرار الأكبر. يمكن أن تكون التغيرات في الشخصية ناجمة عن عملية الشيخوخة الطبيعية أو تأثير العوامل الخارجية، مثل أحداث الحياة الكبرى والتفاعلات اليومية مع الآخرين.

في حين أن هناك اتجاهات متوسطة للتغيير في كل من السمات الشخصية الخمس الكبرى ــ مثل الوفاق الذي يتزايد عادة مع التقدم في السن، في حين تتناقص العصبية ــ فإن الناس يختلفون أيضاً كأفراد في الطرق التي يتغيرون بها. على سبيل المثال، في حين أن الاتجاه المتوسط بالنسبة لمعظم الناس هو زيادة الرضا، فقد يظل الآخرون مستقرين إلى حد ما، وقد يظهر آخرون انخفاضًا. هذه الصورة المختلطة للاتجاهات المتوسطة والتباين الفردي تنطبق على جميع السمات الخمس الكبرى (إلى جانب الوفاق والعصابية، التي تشمل الانبساط، والضمير، والانفتاح).

هناك طريقة أخرى للتفكير في هذا الأمر وهي النظر في كيفية ميل الأشخاص إلى التغيير في شخصيتهم بالكامل بمرور الوقت - أي. ملفهم الشخصي كما ينعكس في جميع السمات الخمس الكبرى. إذا كانت هناك فروق فردية في استقرار السمات الفردية، فهل هناك أيضًا فروق فردية في استقرار السمات الشخصية بأكملها؟ في الواقع، في بحثنا الأخير، وجدت أنا وزميلي جوشوا جاكسون أن بعض الأفراد هم ببساطة أكثر استقرارًا في ملفاتهم الشخصية من غيرهم - مما يشير إلى أن نوعية الاستقرار هذه قد تكون في حد ذاتها سمة مزاجية. أي أنه في حين أنك قد تكون ثابتًا نسبيًا في كيفية استجابتك لعناصر الاستبانة التي تقيم جميع السمات الخمس الكبرى (أي ملف تعريف شخصيتك الخمس الكبرى)، وبالتالي إظهار مستويات عالية من استقرار الشخصية، يمكن لصديقك المفضل أن يتغير بشكل متكرر في درجاته، وبالتالي إظهار مستويات عامة من عدم الاستقرار.

لقد توصلنا إلى هذه النتيجة من خلال فحص درجات اختبارات الشخصية المتكررة لأكثر من 20 ألف شخص ورؤية مدى ميل درجات كل فرد إلى الارتباط (أي البقاء ثابتة) مع مرور الوقت. لقد وجدنا أن الأشخاص اختلفوا في مستوياتهم الأولية من استقرار الملف الشخصي: كان لبعضهم ارتباطات منخفضة تصل إلى  30 (مما يشير إلى مستوى منخفض من الاستقرار، مع حدوث تغيير أكبر خلال نقطتين زمنيتين) بينما كان لدى البعض الآخر ارتباطات في الملف الشخصي صل إلى  (مما يشير إلى وجود مستوى عال من الاستقرار، مع حدوث تغييرات أقل بين نقطتين زمنيتين). علاوة على ذلك، مع تقدم دراستنا، استمرت هذه الاختلافات الفردية في استقرار الملف الشخصي. لقد وجدنا أنه على مدى عقد من الزمن، حافظ الناس على اتساق ملفهم الشخصي النموذجي - بشكل عام، أولئك الذين لديهم شخصيات مستقرة يميلون إلى أن يكونوا مستقرين، وأولئك الذين لديهم شخصيات غير مستقرة يميلون إلى أن يكونوا غير مستقرين. يبدو أن جودة الثبات في سمات شخصيتك هي جودة في حد ذاتها! قد يفسر هذا القصة الخيالية لشخصية صديقك المتغيرة على النقيض من جموده الواضح.

لماذا بعض الناس أكثر استقرارا من غيرهم في شخصياتهم؟ أظهرت الأبحاث السابقة ثلاث عمليات تكمن وراء استقرار الشخصية: ثوابت النمو، مثل العوامل الجينية أو البيولوجية و/أو تجارب الحياة المبكرة، والتي يمكن أن تحدد وتحافظ على مستوى استقرار الشخصية؛العوامل البيئية مثل الحياة المهنية والشريك والمسكن على المدى الطويل، والتي يمكن أن تزيد من استقرار شخصية الفرد من خلال جعله أكثر "من هو" وترسيخ صفاته عبر الزمن؛ و اخيرا، العوامل العشوائية أو العشوائية، مثل التغيرات غير المتوقعة في الحياة أو الأشياء التي تتسبب في انحراف شخص ما عن الوضع الراهن النموذجي لحياته، والتي يمكن أن تقلل من مستوى استقراره.

كما هو موضح من خلال بحثنا، عادةً ما يحافظ الأشخاص على مستوياتهم الشخصية النموذجية من الاستقرار عبر الزمن - نعتقد أن هذا يرجع إلى ثوابت النمو، التي لها حضور قوي في حياة معظم الأفراد وتحدد مستوى استقرارهم الشخصي. وفي الحالات النادرة التي تتغير فيها شخصية الفرد، فمن المحتمل أن يعكس ذلك تأثير البيئة (التي تزيد عادة من الاستقرار) أو العوامل العشوائية (التي تقللها). وبالتالي، فإن مدى استقرارك هو نتيجة ثانوية لشخصيتك (صفة تحملها داخل نفسك)، وبيئتك وتجارب الحياة التي تراكمت لديك حتى الآن. من المحتمل أن تتعايش العمليات الثلاث معًا في حياة كل فرد، ولكن مزيجها المؤكد وتأثيرها على الفرد هو الذي يؤدي إلى مستوى فريد من استقرار الشخصية والتغيرات فيها عبر الزمن.

تؤثر جودة استقرار الشخصية على حياتك وطريقة تفكيرك في نفسك. إذا كنت من الأشخاص الذين يميلون إلى الثبات في شخصيتك،قد يشير ذلك إلى أنك أقل قدرة على تغيير شخصيتك. على الرغم من أن هذا لا يمنع إمكانية التغيير، إلا أن شخصيتك قوية ضد التأثيرات الخارجية. من المحتمل أنك مررت بمراحل نضج معينة - مثل التخرج من المدرسة، وبدء مهنة، والعثور على شريك طويل الأمد - وغيرها من تجارب الحياة التي تظهر الأبحاث أنها يمكن أن تغير شخصيتك في كثير من الأحيان، لكنها لم تغيرك. الجانب الإيجابي من هذا هو أن الأشخاص من حولك يتوقعون منك على الأرجح أن تتصرف بطريقة معينة، ويعتمدون على هذا الشعور بالألفة مع هويتك. ومع ذلك، قد يشير ذلك أيضًا إلى أنك ستواجه صعوبة في محاولة تغيير أو إعادة اختراع نفسك لأن النمط النموذجي لأفكارك ومشاعرك وسلوكياتك ثابت ومقاوم للتغيير.

والعكس هو الصحيح إذا كان لديك استقرار شخصي منخفض نسبيًا - فقد يجد أصدقاؤك وعائلتك عدم ثباتك الواضح مربكًا بعض الشيء، وقد يكون لذلك آثار على إحساسك بالاتساق، ولكن من المتفائل أنه يشير أيضًا إلى أنك قادر على التغيير، بما في ذلك التغيير للأفضل.

إن جودة استقرار الشخصية لها أيضًا آثار على كيفية تفكيرك في الأشخاص الذين تعرفهم والتفاعل معهم. لا شك أنه يمكنك وصف جوانب مختلفة من شخصيتهم بشكل جيد - إذا كان أحد الأصدقاء غالبًا ما يكون مبكرًا أو متأخرًا عن شيء ما؛إذا كان لديهم تقلبات مزاجية أو لديهم مزاج أكثر هدوءًا واستقرارًا؛ أو إذا كانوا يفضلون أن يكونوا مركز الاهتمام أو أكثر من مراقب خارجي في المواقف الاجتماعية. يمكن النظر إلى بعض هذه الخصائص على أنها صفاتهم الأساسية أو الأولية: الأشياء التي تحدد من هم. قد تكون هذه القدرة على وصف المقربين منك في الحياة مفيدة في بعض الأحيان. على سبيل المثال، إذا كنت تنظر إلى صديق مقرب على أنه شخص يتأخر بشكل معتاد عن الأشياء، فقد يكون من الأسهل التغاضي عنه لأنه يصبح أمرًا معتادًا وشيئًا متوقعا منه. أحد الآثار المترتبة على بحثنا هو أنه يمكنك اتخاذ وجهة نظر مماثلة حول مدى استقرارهم في شخصيتهم.

إذا وجدت نفسك محبطًا من شخص يبدو أنه إما يغير هويته دائمًا، أو يكتسب عادات جديدة بنفس السرعة التي يفقدها بها، أو لديه سلوك لا يمكن التنبؤ به بحيث لا تعرف أبدًا ما الذي تتوقع منه فعله بعد ذلك، فهذا ربما كان من السهل رؤية هذا التناقض باعتباره عيبًا. على العكس من ذلك، يمكن أن تنشأ مضايقات مماثلة عند التعامل مع شخص يبدو كما هو بشكل محبط تقريبًا. على سبيل المثال، قد لا يكونون على استعداد للانحراف عن الممارسات الراسخة؛ يقولون إنهم سيعملون على السلوكيات أو السمات التي سببت لهم مشاكل في الماضي ولكن دون نجاح؛ أو تجدهم غير مرتاحين عندما يبدأ الآخرون في التغيير، لأن هذه الفكرة تتعارض مع الطريقة التي يعيشون بها حياتهم.

بالنسبة للشخص الأول، قد تكون بعض الكلمات لوصفه "غير موثوقة" أو "غير متسقة"، بينما يمكن وصف الشخص الثاني بأنه "جامد" أو "عنيد". ومع ذلك، بناءً على النتائج التي توصلنا إليها، أقترح أنه بدلاً من نسب هذه الصفات، التي غالبًا ما تكون لها دلالات سلبية، إلى هؤلاء الأشخاص، قد يكون من الأنسب والمفيد للعلاقات أن تنظر إلى استقرار هويتها على أنها سمة فريدة خاصة بها. بدلاً من النظر إلى أنماط سلوكياتهم على أنها فشل في التغيير (أو التوقف عن تغيير هويتهم)، قد يكون من التكيف الاعتراف بها باعتبارها صفة مميزة لهم يمكنك أن تتوقع منهم الاستمرار في إظهارها. وبالتالي، تمامًا مثل صديقك المعتاد على المتأخر الذي لم يعد يزعجك لأنك تعلمت تخصيص 10 دقائق إضافية له في كل مرة تفعلان شيئًا معًا، فإن إدراك هذه الميزة في الشخصية (عدم) الاستقرار في من حولك يمكن أن يكون مفيدًا في تعلم أفضل السبل لإدارة العلاقة.

على الرغم من أن الاستقرار الشديد أو عدم الاستقرار قد لا يبدو الأكثر تكيفًا، إلا أنني يجب أن أضيف الخبر السار وهو أنه، مثل العديد من الخصائص النفسية الأخرى، يتمتع معظم الناس بمستوى متوسط من الاتساق يقع في مكان ما في المنتصف.  إن وجود نظام شخصية مستقر نسبيًا ولكنه لا يزال منفتحًا إلى حد ما على التغيير يعني أنك لن تكون قادرًا على تجربة تغيير في الشخصية بشكل طبيعي فحسب، بل يعني أنك والأشخاص المقربين منك قادرون على الحفاظ على إحساس ثابت بـ "من أنت". بالإضافة إلى ذلك، لديك أيضًا مستوى معين من المرونة للعمل به إذا كانت هناك أي صفات فيك تريد إعادة اختراعها.

بشكل عام، وجدت العديد من الأفكار والبنيات في علم النفس طريقها إلى عامة السكان. تعد سمات الشخصية مثالًا استثنائيًا على ذلك - من منا لا يهتم بمعرفة المزيد عن سبب كونهم على ما هم عليه وأفضل طريقة لتصنيف ووصف هذه الصفات؟ أقترح أن تكون الإضافة المعقولة إلى ذخيرة المعرفة العامة حول الشخصية، بما يتجاوز السمات الرئيسية، هي فكرة اتساق الشخصية. مع الآثار التي تمتد من التطبيقات العملية إلى التعامل مع التفاعلات الاجتماعية اليومية،فإن اتساق الشخصية هو اختلاف فردي يمكن أن يغير إلى الأبد ما نعرفه عن أنفسنا وعن الآخرين.

(انتهى)

***

.....................

الكاتبة: أماندا رايت / Amanda J Wright  طالبة دراسات عليا في العلوم النفسية والدماغية في جامعة واشنطن في سانت لويس. تركز أبحاثها على استخدام البيانات الطولية لدراسة تغير الشخصية وتطورها والتنبؤ بها والفروق الفردية في كل مجال من هذه المجالات.

رابط المقال:

https://psyche.co/ideas/theres-a-reason-some-of-us-find-it-easier-to-change-than-others

يمكن للمهنة والشريك والمسكن على المدى الطويل أن يزيد من استقرار شخصية الشخص من خلال جعل الشخص أكثر "من هو"

يمكن أن يكون التعرف على جودة الشخصية (في) الاستقرار مفيدًا في تعلم أفضل السبل لإدارة العلاقة.

 

نأتي الآن الى القرينة الأولى التي ساقها الباحث فرانسوا دوبلوا لتكون دليل على تناص وأستيحاء القرآن منها كما يدعي . هذه القرينة المدعاة هي كلمة (النسيئ)، وأن هذه الكلمة قد وجدها الباحث على نقش يمني صُنف تحت الرمز (Cih547) . النسيء لغوياً تعني تأخير وتأجيل، يقول ابن منظور في لسان العرب (نسأ الشيء ينسؤه نسأَ وأنسأه: أخره)، والنسيئة هي ممارسة دأب عليها عرب الجاهلية، حيث كانوا ينسأون الشهور، فيحلون شهر من الأشهر الحرم، وعادتاً مايكون محرم، ويحرمون بدلاً عنه شهر آخر، وهو صفر، أي أنهم يقدمون ويؤخرون حسب رغبتهم وما ترتأي مصالحهم، ويُقال أن قبيلة كنانة العدنانية، وهم من أهل الحرم المكي، هي من أسست لهذا التبديل لتسلسل الأشهر الحرم، والتي هي رجب منفرد، و(ذي العقدة، ذي الحجة،محرم) على التوالي، واٍن أول شخص أشار الى هذا الفعل يُدعى حذيفة بن عبد نعيم أو فقيم، وفقيم ترجع الى كنانة، ولما جاء الأسلام ألغى النسيئة، كما جاء في سورة التوبة آية 36 (اٍن عدة الشهور عند الله اٍثنا عشر شهراً في كتاب الله يَوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حُرم )، وجاء أيضاً (اٍنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يُحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطؤُوا عددَّة ما حَرم الله). فقد أتفق العرب على تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة، وهي قاعدة أرساها نبي الله أبراهيم، وتوارثت عبر الموروث العربي آنذاك، ولكنهم كسروا هذا التقليد على يد أحد أفرع قبيلة كنانة، وبالتحديد على يد أحد رجالاتها الذي ذكرنا أسمه أعلاه (حذيفة)، ولكن القبائل الأخرى أستهوت ذلك لأنه ينسجم ورغبتها بالحروب وغزوا بعضهم البعض، فهذه القبائل لا يهدأ لهم بال بدون الحروب لأنهم يعتبروها أحد مصادر عيشهم، وتعويد تعودوا عليه، بل ويفتخرون به، حتى قال شاعرهم مفاخراً:

ألسنا الناسئين على معد  

    شهور الحل نجعلها حراما

*

وأي الناس لم يدرك بذكر

  وأي الناس لم يعرف لجاما

فهم يفتخرون بهذا التبديل والأحلال لهذه الشهور المحرم فيها القتال، ويعتبرونه مفخرة، لأنهم كسروا عرفاً لم يجرأ أن يكسروه سابقاً غيرهم، مفضلين الحرب على السلام، والنهب والسلب على التبادل التجاري السلمي . أنها شريعة الغاب، فجاء الأسلام، فحرم النسيئة، وأعادها الى منوالها الأول الذي أسس له النبي أبراهيم الخليل، مادامت شُعيرة تعيد الأمن والأمان والأستقرار للمجتمع الأنساني، والعمل على تثبيت حالة من الهدوء لمجتمع أَلف الحروب . يتبين من خلال هذا السرد التاريخي لظاهرة النسيئة، أنها ذات منشأ مقره وسط الجزيرة العربية، وهم من أصلوا لها على يد أحد أفراد عشيرة كنانه، المدعو حذيفة بن عبد نعيم، وهناك من قال (صفوان بن محرث)، الذي هو أيضاً من كنانة، والذي يتبين لنا إن النسيئة لا علاقة لها باليهود وممارساتهم،لأن اليهود كانوا يُضيفوا شهر واحد كل سنتين أو ثلاث سنوات على أساس الدورة الميتوتية (القرآن ونقوش اليمن ص98) وهذه يقوم بها اليهود لكي تناسب شهور فصول السنة، وهو ما يُسمى اليوم بالسنة الكبيسه، فالعملية هي عملية أضافة، وليس تأجيل وتبديل كما هي النسيئة عند عرب الجاهلية، وحتى لو نأتي الى كلمة نسيء في اللغة العبرية، فهي تعني (أمير) كما يقول الباحث الأسكندنافي (موبيرج) في مقالة له بعنوان (nasi)، وهنا يعني أن هذه الكلمة لا صلة لها مع الصيغة العربية نسيء، التي تعني التأجيل والتأخير، فالفرق واضح وكبير، فهو تماثل باللفظ ومختلف بالمعنى، والمعنى هو الأصل في اللغة، لأن الألفاظ فقط أوعية للمعنى وحاملة لها .

وفي أنتقالة للنقوش اليمنية، نجد أن هناك باحث يُدعى (هاليفي) في سبعينات القرن التاسع عشر يقول أن النقش المعروف بأسم (NASi) هو نقش توبة يقدم فيه أبناء عشيرتين أعتذارهم للإله (حلفان) عن أهمالهم في أداء عمل طقسي يُسمى مطرد، والذي أقترح الباحث بيستون ترجمته بمعنى (صيد طقسي)، وهنا ينبغي التأكيد على كلمة أقتراح من قِبل الباحث بيستون، وهو أقتراح على سبيل الأفتراض، وهو أفتراض قابل للصدق والكذب كما يقول الفيلسوف الأمريكي اٍريك هيرش، كما ذكرنا بالحلقة الأولى حول الحدس في تفسير النصوص، ونحن وأن أخذنا بها، فهي لا تتفق وما جاء من معنى النسيئة التي جاءت بالقرآن الكريم، لا لغةً ولا أصطلاحاً.-

تبين لنا من خلال ترجمة بيستون للنقش (CIH547) بأنه غير أكيد، على أعتبار أنه أقتراح بمعنى (صيد طقسي)، ألا أننا نتساير معه على أقتراحه، ولكن نقول ما علاقة الصيد الطقسي، وماقاموا بتأجيله بسبب أنشغالهم بالحرب، مما أدى الى أنشغالهم بعبادة الرب (حلفان)، وقد أدوه في شهر ذو عثتر بدل ذو موصب والمعنى الذي جاء به القرآن، المختلف معه قصداً، مما يعني حسب الباحث أنهم أجلوا أداء طقوسهم لربهم حلفان شهرين، مما جعله يغضب عليهم، ويمنع عنهم المطر خلال موسم الرياح الربيعية. لقد شعر عرب اليمن بهذا الخطأ الجسيم، وأعتبروها محنة نزلت عليهم بسبب غضب الرب، فَدَونوا هذا النقش الأسترضائي حسب تعبير الباحث . متعهدين بعدم تكرار خطئهم.

أننا لو عملنا مقارنة، مع فرض أن كلمة نسيء تحمل معنى التأجيل والتأخير في القرآن، وفي النقش اليمني، لكن هناك أختلاف كبير في المقاصد، ففي القرآن وصف من كسر مبدأ الشهر الحرم بأنه زيادة بالكفر، أي أيغال بالكفر على كفرهم، وهو أمر متعمد، ناجم عن رغبة مع سبق الأصرار، في حين النسيء (التأجيل) عند عرب اليمن كان أنشغال غير متعمد، وقد ندموا عليه، في حين تأجيل عرب مكة وكسرهم لهذا المبدأ يتفاخرون به، وقد عبر شاعرهم عمير بن القيس عن هذا الأفتخار بشعر ذكرناه أعلاه. كما أن اليمنيون، هم من قرروا عدم تكرار ماحدث، في حين في القرآن أن الأسلام هو من أوقف هذا التجاوز في عملية كسر توال الأشهر الحرم، وأستبدال شهر بدل شهر آخر رغبةً في أستئناف الحرب والغزوات الأعتدائية. هنا نتسائل، بأي تماثل يحتج به هؤلاء المستشرقون والباحثون بين نقوش اليمن، وبين ما جاء في القرأن في موضوع النسيئة. أذن َتوفر لنا أكثر من سبب يدعونا الى أن لاصلة بين النسيئة اليمنية، وما جاء بالقرآن، فهناك بُعد زمني كبير بينهم، حيث يشير الباحث الى أن النقش عُمل فيما بين (200 -100) قبل الميلاد، في حين أن بعثت الرسول محمد 615م، وهو بداية نزول القرآن،حتى وفاته 632م (الأسلام-ويكيبيديا).، أضافة الى الأختلاف في المقاصد، ففي القرآن كان تغيرهم لمبدأ الأشهر الحرم تعمدي، ومتكرر، ولغرض أعتدائي، في حين تأخر أهل اليمن غير تعمدي، وكان لمره واحدة، وقُبل بالأعتذار والأسترضاء، في حين الحالة المكية متكرره، ومتعمده، ومصره على الأستمرار، كما في الحالة اليمنية هناك تكفير عن الذنب، أما في الحالة المكية هناك مظاهر أفتخار وأعتداد، كما نرى بالحالة اليمنية، هم من تراجعوا عن فعلتهم، في حين في الحالة المكية، فرض عليهم القرآن التراجع عن فعلتهم أمتثال لمبدأ أُرسي من زمن أبراهيم، في حين في الحالة اليمنية كان أمتثال لحالة وثنية، لا علاقة لها أطلاقاً بما جاء به القرآن، لأنه ينتمي لحالة سماوية.

الخلاصة أن النقوش اليمنية، الحدسية المعنى والتأويل على قول بيستون لا يمكن أن تفيد بأنها تساهم في فهم سياق ما جاء بالقرآن الكريم من أوامر وتعليمات، لا على المستوى النصي، ولا القصدي...يتبع

***

أياد الزهيري

 

فى إطار المقارنة بين ميدان الدين وميدان الفلسفة يأتي الاستقلال الفكرى العقلى فى الفلسفة لا يجور، ولا ينبغى له أن يجور، على خصوصيّة الدين وطبيعته كونه يسمح بالانتقال بالإنسان من حياة إلى حياة، ويوجّه توجهاته الدنيوية ناحية الآخرة، مستقره الأخير.

والاقتصارُ على مثل هذا الاستقلال وحده عائقٌ للعقل البشرى لفهم ملكات أعلى منه وأمضى، مهما حاول العقليون أن يقيّدوا طاقاته العقليّة بقيود من حديد نحو ما يفهمون منه ونحو ما يدركون.

ما لا أدركه أنا بعقلى المحدود قد تدركه أنت بعقلك المتسع المفتوح الذى يقبل (الإحالة) ويأخذ بمعطياتها كلما توقف وقفات تُشبه العجز فيما هو أمامه مطروحاً من مسائل الغيب أو مسائل المصير.

وليس معنى عجزى عن الإدراك عن مسائل بعينها، أنها غير موجودة بل عجزى هو الذى صوّر لى سلفاً إنها معدومة؛ فلو كنت من القادرين على إدراكها لأصبح وجودها أسبق عندى من تصور العدم. عجز العقل عن الإدراك ليس معناه العدم، ولكن معناه إنّ ما لا أدركه بعقلى المحدود قد يدركه بباصرته غيرى ويقتدر عليه.

هذا هو الإنصاف المطلوب فى كل حال.

إنْ أردت التى لا لوم فيها: فلتبحث معى عن ملكة التعلّق: فيما عَسَاكَ توجهها؟ أفى شغل دائم لا ينقطع بعلم الأسباب، أم فى شغل العلم بالله؟

فلئن كانت الثانية، فقد صارت بعيدة بعيدة بعد أن كانت قريبة. ولئن كانت الحالة الأولى؛ فلقد أورثت صدأً على وجه القلب؛ فكانت مانعاً كثيفاً من تجلى الحق فيه؛ فانقطع.

الغريب فى الأمر، إنّ قبول مجلى تجلى الحق أو عدمه يرجع إلى القلب؛ فلو كان على القلب صدأٌ لم يعد يقبل جهة الحق .. لماذا؟ لأنه ببساطة شديدة كان قبل غيرها فاستغرقته بالكليّة، أى قبل الاشتغال بالأسباب فاستغرقت طاقة النور القلبى لديه بكليّتها؛ فحُجِب.

والاشتغال بالأسباب صدأُ قلبي. بالتعبير القرآنى البديع هو (الكنّ، والقفل، والعمى، والرّان). فإن قلت: فما بالُ العقل؟ ألم يُعْرَف الحق بالعقل؟

أقول لك: مدارك العقل محدودة بحدود ما يدرك من الأمور على جهات أربع: جهة الجوهر، وجهة الطبع، وجهة الحالة، وجهة الهيئة. ولا يدرك العقل شيئاً لا توجد فيه هذه الأشياء.

ولكن هذه الأشياء لا توجد فى الله تعالى، فلا يعلمه العقل أصلاً من حيث هو ناظر وباحث؛ لأن نظر العقل من حيث برهانه الذى يستند إليه هو الحسّ أو الضرورة أو التجربة الحسيّة. وكلمة الضرورة تعنى من حيث ما يُعلم لدى العقل بالضرورة، وهذا لا يكون إلاّ لوقائع عينيّة مشهودة.

يقدح الدليل العقلى فى العلم بالله، ويعجب المرء حين يرى الفلاسفة المسلمين يقدّمون أدلة عقليّة على وجود الله. ألم يقرأوا حديث رسول الله، صلوات الله عليه: إنّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد … وفيه: إنّ جلاءها ذكر الله وتلاوة القرآن. ثم هل خلت أنظار الفلاسفة من قلوب تعقل، فى أنفسها، عن الله دليله؟

أيحتاج وجود الله إلى دليل غيره؟

أتحتاج معرفة الله إلى دليل سواه؟ كيف وهو الحق الواضح بذاته، وهو الحجة على كل شيء.

الله هو الذى يبرهن على الوجود ولا يصحّ أن نتخذ من الوجود برهاناً على الله تماماً كما نقول إن النور يبرهن على النهار، ونعكس الآية لو قلنا إن النهار يبرهن على النور.

والله يقول فى حديث قدسى: (أنا من يستدل بي، أنا لا يستدل عليّ).

شَغَلَ الفلاسفة أنفسهم، وشغلونا من بعدهم، بحُجب الأدلة العقلية، ولم يتحققوا قيد أنملة إنّ معرفة الحق مُتجلاّه على الدوام بغير انقطاع لا يُتصوّر فى حقها حجاب عنّا، غير أنّ مجلاها القلب الصافى عن لوثات التكدير، الخالى من ظلمة حُجُب الأسباب. وعلى الله وحده، توفيقه ورعايته، يكون جلاء القلوب حين تصدأ من كزازة الدنيا ومعاطب الأسباب.

***

مجدي ابراهيم

 

مقدمة: يفيض مفهوم الثورة بمعانيه السياسية، ويتدفق برمزيته الأخلاقية في صيغة رفض شامل لكل أشكال الظلم والإذلال والعبودية والقهر التي تقع على المواطنين من أبناء الأمة أو الشعب. فالثورة غالبا ما تكون ثورة المظلوم ضد الظالم، والمغلوب ضد الغالب، والمقهور ضد القاهر، طلبا للعدالة الاجتماعية، وصونا للحقوق الإنسانية، ورفضا لكل أشكال التعنت والتغلّب والقهر. وإذا كان التاريخ الإنساني كما يرى ماركس وأتباعه هو تاريخ الصراع بين الطبقات الغالبة والمغلوبة، أو تاريخ الصراع بين الظالمين والمظلومين كما يرى ماركوز، فإن الثورة بمعانيها المختلفة، ودلالاتها المتنوعة، كانت وما زالت سبيل الشعوب المظلومة إلى الحرية والكرامة نبذا لكل أشكال الظلم ورفضا لكل تجليات العبودية والقهر.

 والثورة، كما يعلمنا التاريخ، كانت دائما وأبدا السبيل الأوحد لخروج المظلومين من دائرة العبودية والقهر إلى فناءات الحرية والعدالة. وما التاريخ الإنساني في أكثر صوره تشويقا وإثارة إلا تاريخ الثورات المترامية بين تضاريس الزمان وأطراف المكان. ونظرا لأهمية الثورة وسحرها المبين في حياة الشعوب يعدّ مفهوم الثورة من أكثر المفاهيم السياسية والاجتماعية استخداما وتواترا وحضورا وأهمية وتشويقا في الفكر السياسي والاجتماعي في تاريخ المجتمعات الإنسانية.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه المقاربة الثورية هو: هل يتطابق الحراك الاجتماعي الذي شهدناه في بعض البلدان العربية مع مفهوم الثورة بمعناه الإنساني الأخلاقي بوصفه قوة لتحرير الإنسان؟ أم أن هذا الحراك قد جاء ليشكل قوة جديدة في استلاب الإنسان العربي وتدمير مقومات وجوده؟

في هذه المقالة يجري التركيز بصورة واضحة على الحراك الدموي الذي شهدته سوريا خلال السنوات الماضية مع أن كثيرا من المعطيات الواردة في هذا المقال تنطبق على دول عربية أخرى.

ثورة أم تلفيق ثوري؟

إذا كانت كلمة "الثورة" من الكلمات المألوفة في مختلف وسائل الاعلام المعاصرة فإنا كلمة "ثورتنا" بضمير التملك الجمعي هي أكثر الكلمات شيوعا واستخداما وتواترا في وسائل الاتصال الاجتماعي ولا سيما في "الفيس بوك". وأغلب الكتاب (الثوريين طبعا) يستخدمون هذه الكلمة لوصف تأييدهم للحراك السياسي والعسكري الدموي الذي شهدناها في عدد من الدول العربية. وبعد مضي سبع سنوات عجاف دمر فيها الشجر والحجر والإنسان ما زال "مثقفنا" وأشدد على المزدوجتين يتحدث عن ثورته بضمير الملكية الجمعية ويكرس كتاباتها في تأييدها.

وإنني في هذا المقام أعلن بأننا في بداية الحراك الجماهيري المقاوم وقع في أيدينا أن ما نراه يمثل تباشير "ثورة " ضد الظلم والقهر ولم نستطع أن نقاوم هذا الحلم الذي يراودنا بالثورة وبالتغيير الثوري في آن واحد. وها نحن اليوم وبعد مرور سبعة أعوام مريرة فتكت باليابس والأخضر وحولتنا إلى ركام وحطام نكتشف أننا أمام مخادعة ثورية رُسمت ملامحها في كواليس الدول الكبرى الطامعة ورسمت خيوطها في أحضان المنظمات الصهيونية والماسونية المعادية للعرب والعروبة والإسلام، وقد تكشف لنا بعد حين بأن ما نراه لا يعدو أن يكون مؤامرة كبرى رهيبة استهدفت وجودنا وحياتنا في العالم العربي، مؤامرة استهدفت إسقاط ما تبقى من أمل عربي في بناء الحياة والحضارة والإنسان. وبعد مروز سبع سنوات عجاف حان "للمثقف المخدوع " أن يتأمل بروح ثقافية في أبعاد هذه "الثورة" المزعومة " وأن يراجع أبعادها ومآلاتها وأن يدرس في ماهيتها ويتأمل في نتائجها من أجل بناء تصور أكثر موضوعية عن مجريات الأحداث والعوامل المؤثرة فيها.

كتبنا في مآلات هذه الثورة وابتهجنا لها فرحا وعلي أن اعترف بأن كثيرا من المثقفين وكنت واحدا منهم إلى حين قد خدعوا ولم يستطيعوا الإبصار والاستبصار في دائرة النار والدخان الذي انبعث في المعارك الطاحنة بين الأنظمة السياسية وجيوشها وبين جماعات التطرف المسلحة بالنار والحديد. وكان من حقنا أن نخطئ ولكن ليس من حقنا أن نتمادى في الخطأ ونقصي القدرة على الاستبصار تحت وهج الأحلام بمجتمع ديمقراطي تعلو فيه كرامة الإنسان وتسمو حقوقه الإنسانية.

ولكن ألا يجب على المثقف الحقيقي أن يأخذ موقف المراجعة النقدية بصورة مستمرة وأن يتبصر في مآلات الأمور وطبيعة الأحداث وفي نسق المتغيرات الجارية في الساحة السياسية والعسكرية في المستويات الدولية والإقليمية والمحلية. ومن هذا المنطلق يمكن أن نقف موقف نقديا وألا نخجل في الاعتراف بأننا لم نكن قادرين على التبصر السياسي والأيديولوجي في الاستراتيجيات الدولية التي حكمت هذه " الثورة" كما اصطلحنا نحن المتعلمين على تسميتها.

لا أنكر بأن كبار المثقفين الذين كان يعوّل عليهم قد ضلوا الطريق ووقعوا في فخ الأوهام الثورية، ومما لاشك فيه أن ثمة عوامل حكمت هؤلاء المثقفين الحالمين فبعضهم حمل أحلام الدور السياسي الذي يمكن أن يؤدوه في هذه المرحلة وبعضهم الآخر حركتهم المطامع السياسية وآخرين تحركوا ضمن مسارات الإغراءات المالية والسياسية التي قدمت لهم، وبعضهم تحرك ضمن دائرة الانتقام من النظام السياسي الذي مارس دوره في قمعهم. وهناك شريحة منهم تحركت ضمن إطار أيديولوجي طائفي عقيم، وكثرة أخذت بوعي ساذج حول طبيعة الحراك الاجتماعي معتقدين ومؤمنين حتى العظم بأنها ثورة حقيقة ضد الظلم والاضطهاد. وأغلبهم ينظر إلى ما يجري بمنظور ضيق للأحداث لا يتعدى البعد المحلي الضيق والمحدود.

وإنني لا أشك اليوم بأن كثيرا من المثقفين الثوار لم يتأملوا خلال السنوات السبع الماضية في مفهوم الثورة ودلالته المعرفية ولم بتأملوا في الأبعاد الأيديولوجية البعيدة المدى للعملية الثورية في بلداننا. وذلك مع أن كل ما يجري يجري بوضوح في مسارات التدمير الظلامي لمجتمعاتنا ودولنا. ويمكن لأي إنسان تجرد من الأيديولوجيات العمياء والمنغلقة أن يرى بوضوح أن هذه "الثورات" المزعومة لم تكن أكثر من أدوات تدمير لشعوبنا ومقدرات بلداننا وتحويل الحياة إلى جحيم لا يطاق.

وفي كل الأحوال هناك قاعدة برغماتية رسخها جون ديوي ووليم جيمس وهي تشكل المبدأ الأساسي في الفلسفة البراغماتية ويقول هذا المبدأ أن النتائج هي التي تقرر الحقيقة وأن الحقيقة تكمن في نتائجها. وعندما نطبق هذه القاعدة على "ثورتنا " سنجد بأن هذه الثورة قد أسفرت عن مقتل عشرات الألوف من البشر وملايين المشردين ومئات الألوف من الجرحى واللاجئين. وتركت لنا اقتصاديات مدمرة ومدنا من الركام والحطام، وأدت إلى يقظة مخيفة للنزعات الطائفية والمذهبية ... قتل وفتك وتشريد ... انهيار في الثقافة وتدمير لسيكولوجية الإنسان والإنسانية ... تفاقم الظلم والاستبداد .... تقسيم البلاد والعباد. وكل هذه النتائج تدل بكل المقاييس والمعايير على أن المستفيد من هذا الدمار الشامل في البيئة والوطن والإنسان هو إسرائيل والصهيونية العالمية والماسونية والدول الاستعمارية الطامحة في تحويل الوطن العربي إلى حطام ومواد أولية ونفايات رأسمالية.

ومن جهة أخرى عندما نتأمل في مفهوم الثورة -، وجلّنا لم يتأمل – سنجد أن ما يجري في بلداننا لا يمكن أن يوصف بالثورة في ضوء التعريفات العلمية وفي ضوء المفهوم التاريخي للثورة كما عرفناها في كثير من المحطات التاريخية في مختلف أنحاء العالم القديم والحديث. وفي كل الأحوال كان وما زال يتوجب على "المثقف" أن يقرأ ويبحث في معنى الثورة ودلالاتها وأن يخوض في معطياتها، ولاسيما بعد هذا الانشغال الثوري على مدى سبع سنوات ونيّف. على المثقف وهذا واحب ثقافي أن يقرأ في تاريخ الثورات وفي تعريفاتها وفي تكويناتها النظرية وأبعادها الفكرية، وأن يستفيد من هذه المعطيات الفكرية في فهم الثورة الموهومة التي عشناها والتي أدت إلى مقتل أحلامنا وآمالنا وتدمير كل معالم الحياة والوجود في بلادنا حتى أصبحنا اشلاء متناثرة في أطراف الزمان والمكان بدون وزن أو كرامة أو إحساس بالوجود وهذا ينسحب على مناصري الثورة المزعومة والنظام السياسي الجائر. وإذا ما نظرنا بعين الاعتبار إلى مفهوم الثورة عبر التاريخ فإننا سنجد بأن الثورة، أي ثورة قامت في التاريخ، لها أركان ومضامين وتصورات واستراتيجيات ومقومات وأهداف واضحة. لكل ثورة نظرية فكرية ثورة متجانسة ولكل ثورة استراتيجية ثورية واضحة ولكل ثورة منظرون ومفكرون وقادة، ولكل ثورة قيادة واحدة تحكمها ولكل ثورة غايات وأهداف معلنة وواضحة. وهذا يتناقض كليا مع الحراك الدموي الذي شهدناه في بلادنا.

في مفهوم الثورة:

يعود استخدام كلمة ثورة (Revolution) في الثقافة الغربية إلى نيكولاس كوبرنيكوس (Nicolaus Copernicus) (1473-1543) الذي استخدمه في عنوان كتابه المشهور (ثورة الأجرام الفلكية) (De revolutionibus orbium coelestium) . وللثورة تعريف أساسي تقليدي قديم ظهر مع انطلاق الثورة الفرنسية ويأخذ صورة انتفاضة يقوم بها الشعب تحت قيادة من النخب السياسية المثقفة لتغيير نظام الحكم بالقوة. وفي هذا السياق يعرف أيرك هوبزباوم الثورة في ضوء الأوضاع الأوروبية بين زمني الثورة الفرنسية عام 1789 وكومونة باريس 1484 بالقول "إنها تحول كبير في بنية المجتمع. ومن أهم التعريفات التي قدمت للثورة ما ورد في الميثاق المصري عن الثورة: "إن الثورة عمل تقدمي شعبي، أي: حركة الشعب بأسره، يستجمع قواه ليقوم باقتحام جميع العوائق والموانع التي تعترض طريقه لتجاوز التخلف الاقتصادي والاجتماعي وصولاً لتحقيق غايات كبرى تريدها الأجيال القادمة. ولم تكن الثورة نتاج فرد أو فئة واحدة وإلا كانت تصادماً مع الأغلبية. وتتمثل قيمة الثورة الحقيقية بمدى شعبيتها، وبمدى ما تعبر عن الجماهير الواسعة ومدى ما تعبئه من قوى هذه الجماهير لإعادة صنع المستقبل وفرض إرادتها" ويتضمن هذا التعريف طابع الشمولية والعمق للثورة بوصفها شاملة جذرية تتجاوب مع تطلعات الجماهير وطموحاتهم في التغيير والتطور نحو الأفضل.

ويتحدد " مفهوم الثورة يتحدد بمستويات ثلاثة، تبدأ بتحديد الغايات والأهداف كنقطة انطلاق يتفق عليها أرباب الثورة، ثم تتخذ هذه الأهداف مرجعية يحتكم إليها عند الاختلاف، ثم تحديد الوسائل الممكنة لتحقيق الغايات، وتنتهي هذه الخطوات بعملية خلق السبل الكفيلة بحماية مكتسبات الثورة والمحافظة على كيانها وهويتها وغالبا ما يربط المفكرون والفلاسفة الكبار بين الثورة والحرية وهذا هو حال كوندورسيه الذي يقول: "إن كلمة ثورة لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية". وتلك هي الغاية التي تعلنها حنة أرندت للثورة إذ تقول: إن القضية التي تشكل حقيقة السياسة هي قضية الحرية في مواجهة الاستبداد " وهي تريد بذلك أن تقول بذلك إن الثورة هي الحرية" .

والثورة، على خلاف الانقلاب، هدفها إحداث تغيير جذري في النظم والأوضاع القائمة على نحو شامل جذري شامل عميق ومتكامل في جوهره. ويُفرِّق الباحثون بين الثورة، وبين الانقلاب على أساس أن الثورة تهدف إلى إحداث تغييرات جوهرية في النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في حين يهدف الانقلاب إلى إعادة توزيع السلطة السياسية بين هيئات الحكم المختلفة أو الأشخاص القائمين به.

تطرف أم ثورة؟

ونستنتج من هذه التعريفات أن للثورة خصائص أساسية هي أن تكون وطنية جماهيرية وأن تحمل أيديولوجيا تمثل طموحات الشعب وأن تكون لها قيادة ونظرية ثورية ونخب مثقفة تقودها وأن تكون ثورة من أجل الحرية والكرامة. والسؤال هل يأخذ الحراك الدموي الذي نشهده صورة مفهوم الثورة؟ وإلى أي حدّ يمثلها؟ والسؤال هنا أين هي "ثورتنا" هذه من مفهوم الثورة وأركانها؟ أين هي نظريتها؟ من قادمتها؟ ما هي فلسفتها؟ ما هي استراتيجيتها؟ من هم منظروها؟ وما هي الغايات الاستراتيجية التي تقود إليها؟

مع الأسف الشديد أن أيا من هذه الأركان المشار إليها ليست متوفرة ولا في واحدة منها في هذا الحراك الذي شهدناه في "ثورتنا" العامرة: ليس هناك أي نظرية، وليس هناك أي استراتيجية أو فلسفة أو قادة أو منظرون. وأخطر ما تواجهه هذه الثورة أنها خارجية بالمال والسلاح والسياسية والدعم الأيديولوجي الخارجي. وسأقولها وأتوكل على الله: كل من تلقى درهما من دول خارجية هو خائن؟ كل مثقف سكن في الفنادق على حساب دول أجنبية هو خائن لوطنه؟ كل من حمل السلاح بدعم خارجي خائن لوطنه؟ كل مؤسسة أو هيئة سياسية مدعومة من مؤسسات خارجية هي مؤسسات وأفراد خونة لوطنهم؟ كل من رفع راية دولة خارجية خائن لوطنه؟ لأن الدول الخارجية لا تقدم لأحد عونا بالمجان بل تستهدف أوطاننا وبلداننا وشعوبنا.

فالثورة في واقعنا الثوري المأساوي تتمثل في جماعات عسكرية طائفية مدعومة وممولة من الخارج متطرفة دموية جدا متطاحنة فيما بينها مضادة للحياة والإنسان تحمل أيديولوجيات الإبادة والتطهير ... جماعات متطرفة دموية متفرقة بتمويل خارجي تمولها دول خارجية عرفت بأيديولوجيات متطرفة وبأنظمة غير ديمقراطية. هذا هو أول ركن من أركان ثورتنا.

ومنظرو ثورتنا مع الأسف هم رجال متطرفون يقدمون لنها تصورات متقدمة في فن الإبادة والقتل والدم والتطهير. رجال يتقاضون أجورا مالية خيالية في عملية بث الحقد والكراهية والتحريض على القتل والدم والتطهير الجماعي ضد الإنسان والإنسانية.

ممولو ثورتنا دول مريبة ترسل الأموال والسلاح بالأطنان وهي دول لم تعرف الديمقراطية أبدا في مناهج حياتها ووجودها. وبعضها دول يحمل مطامع كبيرة في أرضنا وفي خيرات بلادنا .وهي أطماع تاريخية لا يجهلها أبسط المواطنين في بلادنا. ولا ريب في أن إسرائيل تقود وتوجه هذا الحراك لتدمير وطننا والقضاء على كل مقومات وجودنا.

قادة الثورة يتلقون أوامرهم وأموالهم من دول خارجية ويعيشون في أحضان أكثر الأنظمة السياسية استبدادا ودموية.

والحراك الثوري كان حراكا دمويا وظف الدبابات والمدرعات والصواريخ وأحدث الأسلحة في عالم التقدم التكنولوجي. فمن أين للثوار هذه الأسلحة؟ كيف صنعوها؟ ومن الذي زودهم بها؟ لم يحدث في التاريخ الإنساني أن قامت ثورة على الدبابات والطائرات المستوردة.

الثورة المزعومة انطلقت في المدن المكتظة بالسكان وفي الأحياء المأهولة بالأطفال والبشر وقد أدت إلى تدميرها وإفناء ساكنيها؟ أية ثورة هذه وعهدنا بالثورات تنطلق في الأرياف والأماكن البعيدة عن السكان حرصا على حياة البشر وأمنهم.

ثوارنا قدموا من مختلف البلدان طامحون إلى الثراء والسلطة والنساء وقد جندتهم الأيادي المضرجة بالجريمة بالدماء، وأغلبهم من شذاذ الآفاق الذين تدفقوا من كل مكان للسبي والنهب والسلب، وعهدنا أن الثوار يكونون من أبناء البلد الثائر حصرا ! فأي ثورة هذه وأي ثوار؟!.

 كل الثورات الخلاقة التي عرفها التاريخ ثورات انطلقت لتحقيق العدالة والكرامة والمحبة وتوفير الأمن للسكان المواطنين الأبرياء. أما ثورتنا فكانت دما ونارا وجحيما على مناصريها وعلى أعدائها في الآن الواحد .

كل الثورات جاءت بأيديولوجيات إنسانية شاملة أما ثورتنا فقد جاءت بكل أشكال الكراهية الطائفية والحقد الطائفي والقتل على الهوية ذبحا وشنقا وحرقا وإعداما بالرصاص.

لا يمكن لأي حراك أن يكون ثورة وطنية ويكون الولاء فيه للأجنبي وتتم فيه الأحداث وفق أجندات خارجية كما هو حال حراكنا أو ثورتنا.

"مثقفو" الثورة وأشدد دائما على المزدوجتين ما زالوا يسكنون في الفنادق الشامخة ويتقاضون رواتبهم من دول أجنبية معادية لكل أشكال الحياة الديمقراطية ويتشدقون باسم الثورة وأفكار الثورة. فأي نوع من الثورة تلك هي هذه الثورة؟

وباختصار لا يمكن للثورة أن تكون ثورة تقوم على تدفق الأموال الخارجية والأجندات الخارجية فكل ما هو خارجي يعني خيانة للوطن والإنسان.

خاتمة: ثورة مضادة للإنسان !

الثورة كما علمنا التاريخ تكون حراكا جماهيريا يسعى إلى تحرير الإنسان وعلمنا التاريخ أن الشعارات التي رقعتها الثورات العالمية كانت تتمثل في قيم العدالة والحرية والكرامة والأنسنة. كانت شعاراتها حماية الإنسان من الظلم والقهر والمعاناة. وعلى خلاق ذلك إذا كانت الثورة تحمل في جعبتها كل مظاهر التدمير والإفناء فإنه حري بنا أن نطلق عليها – إذا كنا مصرين على استخدام مفهوم الثورة – ثورة ضد الإنسان ضد الحرية والكرامة. إن ما شهدناها في حراكنا هو كابوس ثوري تم تنظيمه وترتيبه من دول خارجية تهدف إلى تدمير الحياة والإنسان في مجتمعاتنا. لقد حملت ثورتنا هذه أطنانا من الشعارات والأيديولوجيات التي تدعو إلى القتل والتطهير العرقي والسلب والنهب إنها ثورة سفك الدماء وقتل المواطنين الأبرياء. ثورة قادتها ارتموا في أحضان الأجنبي وارتهنوا حتى الثمالة بأيديولوجياته العدوانية، ومجدوا قيم الخيانة ولا استثني إلا قلة من الصادقين المؤمنين بقيم الثورة. وباختصار تتسم قيادة "ثورتنا" هذه بطابع العمالة مع الأجنبي، تحمل أيديولوجيا مضادة للإنسان: طائفية مذهبية عرقية، باختصار إنها ثورة دموية مضادة للإنسان لا تحمل في ذاتها أي قيمة إنسانية أو أخلاقية.

هذه الثورة مع الأسف أدت إلى التدمير وترسيخ الطائفية والعنصرية وأيديولوجيا الدم واستباحت الأعراض والكرامات والإنسان. إنها بالنتيجة صورة ضد الإنسان والكرامة والإنسانية ضد العدل والحق والمساواة والكرامة الإنسانية.

وقد آن الأوان لنعيد النظر في مفهومنا للثورة في ضوء العقلانية الإنسانية وأن ننظر إليها في بعدها الإنساني. وعلى المثقفين الحقيقيين أن يعيدوا النظر في مفهومهم للثورة وأن يبدؤوا مسارهم الجديد في نضال ثقافي سلمي مستمر وطويل ضد أنظمة التسلط والاستبداد في أي مكان وزمان.

***

بقلم: علي أسعد وطفة

كلية التربية - جامعة الكويت

تصف الممثلة الكوميدية البريطانية البارزة ايدي ايزارت Eddie Izzard موقفين متضادين من التكنلوجيا: الخوف من التكنلوجيا، والمتعة فيها . اولئك الذين يخشون التكنلوجيا مترددون ومتخبطون وقلقون من ان التكنلوجيا ستؤدي الى نهاية العالم. اما اولئك المتفائلون الفرحون بالتكنلوجيا توضح الكوميدية هذه البهجة بالتالي:

"عندما أحصل على ماكنة جديدة، انا أظن ان هذه الماكنة سوف توفر لي حياتي، سوف لن أعمل مرة اخرى" .. وأول شيء تعمله انت لو حصلت على تكنلوجيا المرح هو انك تحصل على طريقة الاستعمال ثم تلقي بها من الشباك". احدى التحديات الأخلاقية الحالية الكبيرة ستكون ايجاد شيء ما بين هذين النوعين من  التكنلوجيا. نحتاج ان نجد شيئا من "الحكمة التكنلوجية". ذلك يتطلب ان ندعوا عدد كبير من الناس ليعملوا مجتمعين كي يرسموا بالضبط ما ستكون عليه هذه الحكمة التكنلوجية . لحسن الحظ  ان الكثير من مختلف الأكاديميين والمنظمات كانوا يعملون من أجل الوصول الى صيغ لتلك الحكمة .

موضوعات الجدل

تتركز معظم الحجج حول التكنلوجيا حول ثلاث أفكار رئيسية:

1- غلبة التكنلوجيا:

التكنلوجيا اما انها سوف تنقذ العالم بالانتصار على تحدياتنا الكبرى او انها سوف تتغلب علينا. مثال على هذا هو النقاش حول أنظمة اسلحة الروبوتات الفتاكة .

2- تأثيرات التكنلوجيا:

التكنلوجيا  اما ستحررنا للتركيز على ما يهم او انها تصرف انتباهنا عما يهمنا. الأمثلة السلبية تظهر في كل حلقة من السلسلة التلفزيونية (المرآة السوداء). اما الصيغ الأكثر تفاؤلا يمكن العثور عليها في النقاشات حول "التأثير الأخلاقي الموجّه" ethical nudging(1).

3- توسيع نطاق الأعمال:

في التكنلوجيا نحن اما سنكون قادرين على عمل أشياء عظيمة بسرعة، وبكفاءة وبنطاق واسع او سنكون قادرين على القيام  بأشياء مرعبة ومدمرة . معايير النقاش طُرحت ولا أحد يبدو يتزحزح عن موقفه و آرائه. لكن هذا الطريق المسدود ذاته يولّد تحديات أخلاقية. الفرص عظيمة جدا لتجاهل التكنلوجيا، لكن المخاطر عالية جدا للسماح لها لتستمر بلا قيود.

أهمية فهم التكنلوجيا

في مسرحية ايزارد كوميدي، يقود الجهل والحماقة اولئك الذين يخافون من التكنلوجيا. من الملفت انه يؤثر بنفس الطريقة على فريق التكنلوجيا الممتعة. لا أحد من الفريقين فهم التكنلوجيا. هنا يجب ان تبدأ الحكمة التكنلوجية: فهم ماهية التكنلوجيا وكيف تعمل. فلاسفة التكنلوجيا مثل مارتن هايدجر و جاك ايلول والبرت بورجمان جادلوا بان التكنلوجيا تعكس طريقة متميزة في النظر الى العالم الذي حولنا. انها تميل لإختزال العالم لسلسلة من المشاكل التكنلوجية للحل ومجموعة متنوعة من الأشياء لغرض استعمالها وقياسها وخزنها والتحكم بها.

وفق هذا الفهم، تكون التكنلوجيا ليست قيمة محايدة. انها تشجعنا للبحث عن السيطرة وتقييم كفاءة وفاعلية الإعتبارات الاخرى، واختزال كل شيء الى وحدة قياس. هناك أمثلة لامتناهية لإثبات هذه المسألة. التكنلوجيا اون لاين تتحدى قيم الصحافة التقليدية في تفضيل السرعة والوصول. تطبيقات اللقاءات والمواعيد تحوّل شركائنا الرومانسيين الى سلعة وتحاول تحرير المواعيد من مخاطر الرفض او النجاح اللامرغوب. الإباحيات التي يتم انشاؤها بالكومبيوتر تسمح لجعل المشاهير المفضلين لديك يفعلون ما تريد. العملية لا تحتاج الى الموافقة، ولا تحتاج ايضا لتُعرف. اذا كانت هذه القيم  وراء التكنلوجيا، ومهما كانت مريحة وممتعة فهل سنكون سعداء بها ؟ اذا لم نكن كذلك، ماذا يجب ان نفعل تجاهها؟

التركيز على الوسائل

رغم ان الخوف من التكنلوجيا والمرح بها يشكلان قطبين تكنلوجيين متضادين، لكنهما يشتركان بخيط أخلاقي مشترك وهو التركيز على المخرجات. كل جانب يقر بان التكنلوجيا الأخلاقية تقود الى تغيير ايجابي في العالم (او على الاقل،لا تخلق مزيدا من المشاكل). هما لايتفقان حول ما اذا كانت التكنلوجيا هي في النهاية قوة للخير ام الشر. لكن التركيز على المخرجات يحجب عنا بُعدا آخر للاخلاق التكنلوجية وهو الوسائل التي تُنجز بواسطتها تلك المخرجات. العديد من الناس يفكرون في العمليات التكنلوجية وتأثيراتها الاخلاقية، لكنهم عادة يركزون عليها لأنها أدّت الى مخرجات سيئة. النقاش يصبح ساحة حرب اخرى يجري فيها الحديث حول المخرجات.

فمثلا، نقاش حول خوارزمية كومباس التي كانت موضوعا لتحقيقات فريق بروبوليكا الشهيرة (وهي غرفة اخبار غير ربحية في امريكا تمارس صحافة استقصائية لأجل المصلحة العامة) ركز على حقيقة انها مالت لإنتاج نتائج متحيزة عنصريا، حيث يتنبأ نظام الخوارزمية ان السود يشكلون خطرا من حيث العودة الى الجريمة. المهم ايضا، ان نفهم كيف تعمل كومباس، حتى لو لم تكن المخرجات واضحة الإشكالية. لنتصور اننا عرفنا ان خوارزمية مثل كومباس كانت فعالة بنسبة 100% في التنبؤ باحتمالية عودة الجاني الى إرتكاب الجريمة، وان السبب في كونها دقيقة جدا هو لأن بياناتها كانت شاملة، حيث تضمنت كل جزء من الإتصالات الخاصة للجاني في العشر سنوات الأخيرة. بما في ذلك كل رسالة نصية،رسائل الفيسبوك،ايميلات، اتصال هاتفي،عرض صفحة ويب .هذه البيانات مكّنت من التنبؤ الدقيق بإعادة ارتكاب الجريمة.

لايزال هناك سبب لمعارضة هذه التكنلوجيا، وهو انها حققت نتائج جيدة ولكن بطريقة تجاهلت مبادئ الناس المشتركة حول الخصوصية والحرية المدنية. وهنا تصبح الفلسفة المتحفزة  فقط بالمخرجات مشكلة حقيقية.

الانسان اولاً

يُحتمل ان تكون التكنلوجيا  جزءا من الحل في معظم التحديات الاخلاقية التي تواجه العالم. أحدى وظائف التكنلوجيا هي توسيع وتضخيم النشاط الانساني. هذا يعني ان الانسان يحتاج ليرتّب بيته الخاص قبل ان تصبح التكنلوجيا مفيدة له. نحتاج لجعل العمليات التكنلوجية ملائمة. كذلك نحتاج لتغيير معيارنا لما يُعتبر تكنلوجيا "ممتازة" بعيدا عن منطق السرعة والفاعلية والسيطرة. اذا لم نقم بذلك، فان التكنلوجيا يّحتمل ان تصبح التحدي الاخلاقي الكبير لنا. ومن المثير للقلق جدا، اننا حينذاك، نكون قد تنازلنا عن الكثير من السلطة للآلات لكي نكون قادرين على فعل أي شيء حيال ذلك.

*** 

حاتم حميد محسن 

................................

The conversation,March18,2018،

الجزء الرابع من مقال حول التحديات الاخلاقية الحالية التي تواجه العالم، شارك فيه عدد من الفلاسفة والمختصين استجابة لدعوة المجلة لهم لتشخيص ومعالجة تلك التحديات، الأجزاء الاولى من المقال نُشرت في صحيفة المثقف بدءاً من 25 نوفمبر 2023.

الهوامش

(1) يشير هذا المفهوم حسب (Thaler and Sunstein,2008) الى أي مظهر يغير سلوك الناس بطريقة يمكن التنبؤ بها بدون منع أي خيار، وبتعبير آخر هو التغيير المتعمد بالطرق التي تبرز وتتأطر بها الخيارات في محاولة للتنبؤ بتوجّه اولئك الافراد في اتجاه معين. مثال على ذلك الصور المخيفة التي توضع على علب السكائر لتقليل استهلاك الدخان من خلال استجابات عاطفية. كذلك علامات الطرق يمكنها ان تقلل من حوادث المرور في أشكال متعددة.

(مهما كانت مآسي الحرب فظيعة، فعلى الأقل يمكن تعويضها. فهناك شرف الحرب وهناك عظمة الحرب)... تشارلز بيجي

مشهد غير مألوف في الشارع الفني الأمريكي، وهذه المرة تتوجه كاميرات العالم نحو نجوم لا يشق لها غبار في إمبراطورية هوليود، حيث خرج العشرات منهم ليملؤوا شارع ماين الشهير في ولاية أوتا الأمريكية، في تظاهرة احتجاجية شديدة الوطيس، تدعم حقوق الشعب الفلسطيني وحقه في العيش الكريم.

المناسبة شرط، ومهرجان "صندانس" السينمائي كان محفزا للدخول في هذا التحدي الفريد من نوعه، فقد هتف النجوم بأعلى حناجرهم "أوقفوا الإبادة الجماعية" و"أنهوا الاحتلال" و"آلاف أو ملايين.. سنكون فلسطينيين" و"يجب محاكمة الرئيس جو بايدن بتهمة القاتل".

وتوسعت الرغبات لمسار المحتجين، وهم يحملون شعارا نوعيا غير مسبوق: "فلتعش غزة، من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرر! تعبنا من تمويل إسرائيل! عار على إسرائيل!"، على أن الكتابات المباشرة صارت ثقلا على المجاز، صوتا صارخا يثأر للضمير الإنساني ويستصرخ لحمأة الوجدان والشعور بالذل والخذلان ؟.

وعندما تسرح بالأفق القريب من تلكم العبارات النارية والمثيرة، تنتبه إلى أنها تعني الشيء الكثير، وتلخص الحجم الواسع من الضياع والتيه والجنون، كما هو الشأن بالنسبة لعبارات "الجزار بايدن" و"التخلص من الصهيونية" و"الانتفاضة في كل مكان".

وإذا كان الإعلام الغربي لحد كتابة هذه الأحزان، غير قادر على نقل هموم الشارع الأمريكي وحاجياته في التعبير عن مكنوناته ولواعجه النفسية والروحية تجاه ما يحدث من مجازر ومقاتل وتهجير وتخريب ممنهج في قطاع غزة، فإن صرح التلبيس والاستغفال قد سقط مقذوفا في مزابل التاريخ، وهو يرى بأم عينيه عشرات ومئات الأصوات الفنية المرموقة في المجتمع الأمريكي، كيف تنزاح الغمة وتتكسر تخاريف الكذب وتزييف الحقائق، عندما تختزل البلاغة الثاوية في منظومة الهتاف وتصوير فظائع القتل والتدمير بالقول الصامد "المقاومة مبررة عندما يتم احتلال الناس".

ومن أجلى تمثلات هذه القضية، أن ينحاز كبار الفنانين الأمريكيين للحقيقة، رغم الضغوطات التي يواجهونها في قطاع تسيطر على ماكينته فلول الصهيونية وحشراتها المتنطعة. فقد شارك في التظاهرة إياها، النجمة ميليسا باريرا، التي تم عرض فيلمها الجديد" Your يور مونستر"، والذي يدور حول ممثلة تنهار مسيرتها بعد إصابتها بالسرطان وتقع في حب وحش تجده في بيتها ويعلمها الجرأة وتوجيه غضبها لهؤلاء الذين جرحوها.

وكانت مجموعة من مشاهير السينما والمؤثرين، قد عبروا سابقا عن دعمهم لفلسطين، حيث دعوا إلى “وقف الإبادة الجماعية” و"إنقاذ فلسطين"، ك"باريس هيلتون، وإدريس ألبا وجون كوزاك وفيولا دايفيز وسوزان سراندون ولانا هيدي ومايكل بي جوردان وآني ماري ولينا هيدي، ومينا مسعود ورامي يوسف ولويس هاميلتون وكيندال جينر وجاك فالاهي".

ويقول المنظمون للتظاهرة المذكورة، في بيان دولي تم تعميمه على وسائل الإعلام، أنه "بينما تسقط القنابل، يستطيع الناس الاستمرار في مشاهدة الأفلام على شاشاتهم بينما يتجاهلون الإبادة الجماعية في غزة".

المشكل أن قابلية التجاوز والتعايش مع وضعية أهالي قطاع غزة، أضحت نسقا نفسيا سريع الانفساخ والتحول نحو النسيان والتجاهل والاختفاء أحيانا، بعد أن أبرحت العتمة آمال الصحوة والارتجاع، إلى تقبل منظومة القوة وتحييد قيم القانون الدولي وتغليله.

فالوعي هنا، أزاح الستار عن عوار الديمقراطية وحقوق الإنسان والحق في العيش والمشاركة. وأفصح بالبيان والبرهان، عن تأويل ذات العالم وصياغتها إلى ضيعة يحكمها دركي مخبول، يحيط به قتلة مأفونون ونخاسون يستحوذون على مقدرات الشعوب، ينهبون ويفتكون ويقامرون بمستقبل البشرية ؟.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

بالرغم من تعدد المفاهيم أوالتعريفات التي تناولت ظاهرة الديمقراطيّة من قبل المفكرين الذين تعاملوا مع هذه الظاهرة عبر التاريخ، حيث جاء هذا التعدد وفقا لمواقفهم الطبقيّة والسياسيّة والأيديولوجيّة التي ينتمون إليها، ثم وفقا للمرحلة التاريخيّة التي أنتجت هذه الصيغة الديمقراطيّة أو تلك. لذلك جاء تعريفها أو مفهومها عند بعضهم، بأنها الحياة اليوميّة المباشرة، التي أفضل ما فيها هو ممارسة وتعبير الفرد عن رأيه وقناعاته بعيداً عن أي خوف من سلطة أو قانون، طالما أن الذي يريد قوله أو ممارسته يصب في مصلحة الوطن والمواطن. أو جاء هذا التعريف أو المفهوم عند بعضهم الآخر أيضاً، بأنها ظاهرة اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة، لها قوتها الماديّة في جوهرها، مثلما لها أشكالها وحركتها وتعدد محطاتها المتوافقة مع تعدد أشكال التكوين الاجتماعي وعلاقاته التي أنتجها، وطبيعة الحكم أو الموقف السياسي القائم في هذه التكوينات أيضاً.. يظل عدوها الجهل، وحليفها الدائم العلم والعلمانيّة.. وصندوق أسرارها وقوتها الجماهير المقهورة والمضطهدة والمستلبة بكل فئاتها وشرائحها.

أما نحن فنستطيع أن ندلوا بدلونا لنقول بأنها: منهج أو طريقة في التفكير، وأسلوب في الممارسة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة.. ترمي أهدافها إلى تحقيق الاستقرار الاجتماعي، وتأمين العدالة داخل مكونات المجتمع بكل مستوياتها وفقا لطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة.. أما حواملها الاجتماعيّة فتتبدل تاريخيّا وفقا لطبيعة الصيغة الديمقراطيّة المطروحة وأهدافها، وهذا في الحقيقة ما يؤكد عندنا أيضا، أن الديمقراطيّة وفقا لهذا التعريف أو المفهوم تخضع للتطور والتبدل في جوهرها مع تطور وتبدل عوامل نشوئها عبر التاريخ، كما يؤكد نسبيتها وينفي اطلاقيتها، في الوقت الذي يؤكد عندنا عناصر استبدادها مثلما يؤكد عناصر قوتها وعدالتها وإنسانيتها.

إذن إن الديمقراطيّة وفقا لهذه المعطيات، ليست مقتصرة في ممارستها وأهدافها على تحقيق البعد السياسي للمجتمع كما يعتقد بعضهم، بل إن ممارسة الديمقراطيّة وأهدافها تصبان في مجمل النشاط الإنساني اليومي لحياة الفرد والمجتمع، بغية تحقيق العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص واحترام المختلف. كما أنها ليست صيغة واحدة مطلقة، تُفرخ مجردة، صالحة لكل زمان ومكان، بل هي صيغ مشخصة ببعدها الاجتماعي التاريخي، وبحواملها الاجتماعيّة التي تعمل على إنتاجها وتطبيقها وفقا لمصالحها ومصالح القوى الاجتماعيّة التي تعبر عنها.

إذا كانت هذه هي الديمقراطيّة في مفهومها ومعطياتها، فما هي أبرز مقوماتها، وبالتالي معوقاتها أيضا؟ .

مقومات الديمقراطية:

أولا : الوعي الديمقراطي: لا يمكن أن تكون هناك ممارسة ديمقراطيّة سليمة، إذا لم يكن هناك وعي ديمقراطي لدى حملة المشروع الديمقراطي عبر التاريخ، بحيث يستطيع حملة هذا المشروع أن يدركوا آليّة عمل الديمقراطيّة وإنتاجها، وكذلك عوامل نشوئها، وما هي المساحة الاجتماعيّة والأخلاقيّة التي تستطيع هذه الصيغة أو تلك من صيغ الديمقراطيّة أن تمارس نشاطها فيها. فامتلاك هذه المعرفة يشكل القدرة على التحكم وضبط آليّة ممارسة الديمقراطيّة وتحقيق الأهداف المرجوة منها، وبالتالي فأي جهل في هذه الآليّة المركبة والمتداخلة في مكوناتها، سيؤدي بالضرورة إلى وضع الديموقرطيّة في دائرة مبدأ "سرير بروكست"، حيث سيعمل حملتها هنا، إما على مطمطة، أو قصقصت الواقع كي ينسجم مع رغباتهم وشعاراتهم الديمقراطيّة، وليس وفقا لمراعاة خصوصيات الواقع المعيش .

ثانيا: المسؤوليّة: تشكل المسؤوليّة عند ممارسي الديمقراطيّة، الشرط الأساس لنجاح الديمقراطيّة، فلا ممارسة حقيقية للديمقراطيّة دون مسؤوليّة.. إن كانت مسؤوليّة الفرد تجاه نفسه، أو مسؤوليته تجاه الآخرين. فالمسؤوليّة تشكل في الواقع الشرط الأخلاقي/ ألقيمي لحاملها الاجتماعي، الأمر الذي يفرض عليه – أي على الحامل الاجتماعي – أن يخضعَ لعقلانيّة وعي وممارسة الديمقراطيّة بما يخدم المجتمع ومصالحه، وفقا لطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيشة.

ثالثا: توافر الحامل الاجتماعي للمشروع الديمقراطي: نستطيع القول في هذا الاتجاه : بأنه، لا ديمقراطيّة بدون ديمقراطيين. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا، هو، ما هي طبيعة هذا الحامل الاجتماعي للمشروع الديمقراطي؟ .

نؤكد في هذا السياق بأن لكل صيغة من صيغ الديمقراطيّة حواملها الاجتماعيّة المسؤولة عن تطبيقاتها، ومعرفة آليّة عملها، وظروف إنتاجها، وهذا يعني أن الصيغة الديمقراطيّة وحواملها كلاهما يرتبطان بجملة الشروط الموضوعيّة والذاتيّة التاريخيّة للوجود الاجتماعي في مرحلة تاريخيّة محددة، فعلى سبيل المثال لاالحصر، إن الصيغة الديمقراطيّة وحواملها من الطبقة الارستقراطيّة عند اليونان مثلاً، التي كانت تعبر عن عدالة اجتماعيّة تقر بالعبوديّة والتفاوت الطبقي، هي غيرها في المرحلة التاريخيّة للنظام الاقطاعي والرأسمالي، أو في دول العالم الثالث التي يغيب فيها الوضوح الطبقي ولم تزل تتحكم في بنيتها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافية- أي وجودها الاجتماعي- المرجعيات التقليديّة، من عشيرة وقبيلة وطائفة.. الخ. لذلك نستطيع القول في هذا الاتجاه: إن طبيعة الحامل الاجتماعي ومدى وعيه الديمقراطي ودرجة مسؤوليته تجاه المهام الديمقراطيّة التي يمارسها داخل مجتمعه في مرحلة تاريخيّة محددة، هي التي تلعب الدور الكبير في تحديد طبيعة النشاط الديمقراطي، ومستوى درجة نجاحه في تطبيق العدالة والمساواة التي يتضمنها هذا النشاط، ثم مستوى مطابقته للظروف الموضوعيّة والذاتيّة للمجتمع في المرحلة التاريخية ذاتها.

معوقات الديمقراطية :

إذا كانت هذه هي مقومات التطبيق الديمقراطي، فإن معوقاته تكمن حقيقة في غياب هذه المقومات. فغياب الوعي الديمقراطي، والشعور بمسؤوليتها الأخلاقيّة، وبأهميّة حواملها الاجتماعيّة، سيؤدي بالضرورة إلى فوضى الديمقراطيّة، بحيث تتحول الديمقراطيّة هنا إما إلى وسيلة لتحقيق المصالح الأنانيّة الضيقة لمن يحمل المشروع الديمقراطي تحت مظلة هذه الفوضى، أو إلى سلعة يحاول بعضهم استيرادها من مجتمعات أكثر تطوراً من المجتمع الذي يعيش فيه بعضهم من حواملها الاجتماعّية. مع يقيننا بأن النيات القائمة وراء استيراد شعاراتها هي نيات حسنة، يرغب مستوردوها تطوير المجتمع وتنميته، بيد أن النتائج في التطبيق الديمقراطي ستساعد هنا بناءً على هذه الشعارات الديمقراطيّة المستوردة في تعميق أزمة المجتمع بدلا من انفراجها، بل ستُدخل المجتمع في صراعات داخليّة وحروب أهليّة وخاصة في بعدها السياسي بغية الوصول إلى السلطة، وغالبا ما تحرك هذه الصراعات دوافع مصلحيّه ضيقة (عشيرة قبيلة طائفة حزب)، بالرغم من السعة الاجتماعيّة والوطنيّة لهذه الشعارات الديمقراطيّة المستوردة، والمطروحة للممارسة هنا من قبل هذه القوى المتصارعة، وهنك أمثلة كثيرة على مأزق و(فوضى الديمقراطيّة) في دول العالم الثالث بشكل خاص، التي سببتها تلك الشعارات الديمقراطيّة الفضفاضة المستوردة من مجتمعات أكثر تطورا، تؤكد صحة ما جئنا عليه.

أما إذا أخذنا الجانب السياسي للديمقراطيّة في هذه المجتمعات أيضا، فنستطيع القول في هذا الاتجاه : إن الديمقراطيّة هنا تشكل عنصر إصلاح أساسي في المجتمع، وخاصة إصلاح السلطة، أي هي تعمل على تداول السلطة والتشاركيّة، وهذا في الواقع ما لا تسمح به السلطات الحاكمة الشموليّة في دول العالم الثالث ومنها وطننا العربي على سبيل المثال، وهذه إشكالية قائمة بذاتها.

ختاما نقول: تظل الديمقراطيّة في سياقها العام مشروعاً إنسانيّاً بالنسبة للمجتمعات البشريّة عموما ومنها مجتمعنا العربي على وجه الخصوص، يهدف إلى سعادة الإنسان وتقدمه ورقيّه، بالرغم من كل معوقاته، والتي يأتي في مقدمتها غياب الحامل الاجتماعي الوعي والمسؤول معاً عن فكر وممارسة الديمقراطيّة، هذا الغياب الذي يعكس في المحصلة غياب جملة من الظروف الموضوعيّة والذاتيّة لمقومات التطبيق الديمقراطي السليم في الوجود الاجتماعي لمجتمعاتنا .. مجتمعات العالم الثالث المتخلف عموما.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

«تكوين العقل العربي» هو الكتاب الأول في مشروع د. محمد عابد الجابري الخاص بنقد العقل العربي. وقد حظي بشهرة قل نظيرها، فطبع 16 مرة، أولها في 1984.

في تقديمه للكتاب، تساءل الجابري: هل ثمة فرق جوهري بين العقل العربي ونظيريه الأوروبي والأفريقي وغيرهما؟

سؤال الجابري هذا يعيدنا لسؤال أسبق، حول ماهية العقل وجوهره. الجواب عن سؤال: ما هو العقل؟ مقدمة لازمة لفهم سبب الاختلاف بين ما زعمنا أنه عقل عربي وغير عربي، على فرض أن هذا الاختلاف حقيقي وقابل للملاحظة.

حسناً... هل فكرت في حقيقة عقلك، ما هو ولماذا يختلف بين شخص وآخر، وبماذا يتمايز بين جماعة/أمة وأخرى؟

الواضح أن اختلاف العقول منشؤه اختلاف محتواها، اختلاف الذاكرة، وطريقة التفكير والفهم. العقل الذي نتحدث عنه هو مجموعة الأدوات الذهنية التي نستعملها في معرفة الأشياء وتحديد قيمتها. فهل لهذا أهمية في تعريف العقل؟

في ماضي الزمان اعتقد بعضهم وجود صلة بين العقل والجغرافيا أو العرق. فقالوا إن عقول الساميين تنبذ التعقيد، بينما يعمل العقل الآري بطريقة مركبة أو رياضية، ولهذا فهو أعمق استيعاباً لعناصر الطبيعة وما يربط بينها من خيوط.

نعلم الآن أن تلك الأوصاف لا تتصل بالتكوين البيولوجي للإنسان. كما نعلم أن العقل ليس شيئاً مادياً، بل وصف لعمليات لا مادية معقدة، تجري في مختلف أعضاء الجسد الإنساني بصورة متزامنة، ولذا لا يمكن القبض على جزء منها وإيقاف العمليات العقلية برمتها، إلا إذا توفي الإنسان تماماً وتوقفت جميع أعضائه عن الحياة.

وقد ذكرت في كتابات سابقة بعض من زعم وجود صلة بيولوجية لعمل العقل، مثل البروفسور إدوارد ويلسون، الذي عرض نظريته في كتاب «البيولوجيا الاجتماعية، التوليفة الجديدة» وأثار جدلاً واسعاً جداً، مع أنه قصر مدعياته على جانب ضيق من السلوك الحيواني، وهو وجود إمكانية لوراثة عوامل جينية، وظيفتها مقاومة فناء الجنس. وهذا من الأمور التي سبق طرحها ونقاشها، لكن التيار العام في علم الأحياء لم يتقبلها.

أقول إن الفوارق بين العقول المختلفة، ناتجة عن اختلاف محتواها، أي المواد التي يختزنها عقلك وعقلي وعقول الآخرين، وليس الفارق في حجمه أو شبكته الدموية والعصبية وجيناته، كما زعم مدعو الصلة البيولوجية. ومن هنا فإن الفارق بين ما نسميه عقلاً عربياً وغيره، هو فارق في محتواه ومخزونه.

إذا صدق هذا الوصف، فسنذهب للخطوة التالية، أي: من أين جاء هذا المخزون، وكيف تكون على هذا النحو الخاص الذي أعطاني هذه الصفات الثقافية والسلوكية، أي ما نسميه «الشخصية»، بينما أعطى الآخر القادم من اليابان أو أوروبا مثلاً «شخصية» مختلفة، أي صفات ثقافية وسلوكية مغايرة؟

يعمل العقل مرسلاً ومستقبلاً بصورة متوازية. يستقبل المعلومات والمؤثرات والمشاعر ويختزنها ثم يعيد إنتاجها في صورة أفكار ومواقف وسلوكيات. ومن هنا فإنه لا يوجد عقل مستقل عن محيطه. إن الجانب الأعظم من تكوين العقل يأتي على شكل انفعال بالأشياء، أي شعور بالرغبة أو الخوف أو السعادة أو الألم أو الحب أو البغض أو الدهشة أو الاستغراب، وكل من هذه الانفعالات يحمل معلومة عن العالم المحيط، قد لا تكون منظمة، لكنها تتحول حين يستقبلها عقل الإنسان إلى مخزون منظم، يستعمله حين يتأمل في عالمه. كل شيء تلقيته بالأمس يخدم تفكيري في الشيء الذي أتلقاه اليوم، وهذا يخدم تفكيري غداً وهكذا.

من هنا فإن البيئة المحيطة وما فيها من بشر وأشياء وجغرافيا وتجارب، تتدخل بصورة عميقة في صناعة عقل الإنسان، الذي يعيش فيها ويتفاعل معها. قد يشعر بهذا أو لا يشعر، لكنه على أي حال جزء من هذه الثقافة العامة التي نسميها «العقل الجمعي».

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

على الرغم من أن التيار الذي يطلق على نفسه "الماركسي"، لعب دورًا غير قليل في الحياة السياسية العربية، لاسيّما في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، إلّا أن إنتاجه المعرفي، لا يكاد يذكر قياسًا بالنشاط السياسي وباستثناءات محدودة.

وقد واجهت "الماركسية العربية"، وماركس بالذات، نوعين من الإساءة والتشويه عن عمد أو دون قصد بسبب الجهل وعدم المعرفة، والجهل قسمان: إما من الاعداء والخصوم، حيث جرى أبلسة ماركس، ونُسبت إليه الكثير من المواقف لتشويهه لدرجة التأثيم والتحريم والتجريم، خصوصًا بتفسير بعض عباراته باعتبارها معادية للدين.

أو من المريدين والأنصار، حيث جرى تقديسه، فاقترب من منزلة الأنبياء والأئمة، لا يأتيه الباطل من أمامه أو من خلفه، واعتبرت آراءه واستنتاجاته صالحةً لكل زمان ومكان، وكأن التاريخ توقف بعده، وحاولت الأحزاب الشيوعية استثمار اسمه لأغراض سياسية وقومية أحيانًا، ففي روسيا جرى "روسنة" ماركس بإضافة اسم لينين ومن بعده ستالين إليه، وفي الصين "صيّن" ماركس، بإضافة اسم ماو تسي تونغ إليه، وفي ألبانيا كان اسم أنور خوجة جنبًا إلى جنب ماركس، وسميت الماركسية البولبوتية في كمبوديا، والماركسية الجيفارية في أمريكا اللاتينية، وفي عالمنا العربي تعاملنا مع ماركس كشيخ عشيرة أحيانًا، وهكذا تضبّبت صورة ماركس، فلم نعد نعرف أين هي صورته الحقيقية من صورته المتخيّلة؟

وحين أطيح بجدار برلين 9 نوفمبر / تشرين الثاني 1989 هناك من سارع إلى إعلان وفاة ماركس مجددًا، مع أنه رحل عن دنيانا في العام 1883، وانتقل بعض الماركسيين العتاة إلى الضفة المعاكسة بزعم التجديد وتغيّر الظروف، حتى استبعد لفظ الإمبريالية عن الولايات المتحدة، وبين عشية وضحاها، أصبح "العامل الدولي" مرادفًا للحديث عنها، في حين كانت الماكينة الإعلامية تضجّ بأسوأ النعوت لها باعتبارها العدو الأكبر للشعوب، بل إن البعض استقوى بها في مواجهة أنظمة بلاده الاستبدادية.

ليس غريبًا حين وجدنا من يقول: علينا وضع الماركسية في المتحف، لأنها من تراث الماضي، مثلما ظلّ نفرٌ يتشبّث بكلّ ما قاله ماركس باعتباره الحقيقة المطلقة، وبين التحلّل والجمود، ظلّت صورة ماركس تستخدم ذات اليمين وذات الشمال، حتى ضاع ملمحها الحقيقي، فمن الإمعان بالتنصّل من منهجه، إلى التمسك بتعاليمه، بما فيها تلك التي عفا عنها الزمن، ولم تعد تصلح لعصرنا، دون التوقف عند مراجعة أسباب فشل التجارب الاشتراكية، سواءً على المستوى النظري أم العملي.

ولعلّ الحديث عن صورة ماركس اليوم، إنما هو انعكاس لأزمة وعدم اطمئنان وقلق، وهو حديث عدم ثقة وضعف يقين وتشوّش رؤيا، فقد تخلخلت الأسس والقناعات السابقة والراهنة، ومثلما كان البعض منفصلًا عن الواقع في السابق والفجوة الهائلة بين النظرية والتطبيق، فإنه اليوم أشدّ انفصالًا عنه، سواء كان من أسرى الماضوية والسلفية والنصوصية، أم من المتفلتين من المنهج والمتحللين من تراث الماضي، حتى وإن ظلّ الفريقان يحملان الشعار والعنوان، لكن الزمن تغيّر، فلم يعد يصلح اجترار مقولات الماضي أو اللهاث وراء شعارات ليبرالية.

من يريد استعادة صورة ماركس فعليه اجتراح الواقع، فقد كان ماركس الحلقة الأولى في التمركس، ولا بدّ من الاستفادة من منهجه الاجتماعي، أما تعليماته والعديد من استنتاجاته، فهي تصلح لعصره وليس لعصرنا، وقد تجاوزها الزمن، حتى وإن كانت صحيحة في حينها، وعلينا قراءة الواقع واستنباط الأحكام المنسجمة مع الحاضر والمتطلعة إلى المستقبل، لأن المرجعية هي للواقع وليست للنصوص، ولا قيمة لنظرية دون الواقع، والممارسة جزء لا يتجزأ من النظرية.

وإذا كانت الغايات شريفة وعادله فلا بدّ من وسائل شريفة وعادلة أيضًا للوصول إلى تلكم الغايات، لأن الوسيلة من شرف الغاية، والوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة على حد تعبير المهاتما غاندي، لذلك فإن العديد من التجارب الاشتراكية التي زعمت تحقيق العدالة والمساواة وإلغاء الاستغلال، فشلت بالتطبيق العملي، بل كانت نموذجًا آخر للاستبداد والطغيان، ولم يشفع لها التشبّث بالنصوص النظرية، لاسيّما بإهمالها الواقع ، فلا قيمة للنصوص إذا لم تأخذ الواقع ومتغيراته بنظر الاعتبار.

وهكذا كانت بعض النصوص الماركسية تقرأ باعتبارها مقدسة مثل الأسفار التوراتية والآيات الإنجيلية أو القرآنية، واقتربت من التعاويذ والأدعية بطريقة كهنوتية، لا تقبل النقد أو المخالفة أو التقريظ، حتى غدت آيقونات خالدة وسرمدية، وتنطبق على كل زمان ومكان، وفي ذلك خلافًا لماركس نفسه، الذي كان ناقدًا، وهو القائل "كلّ ما أعرفه أنني لست ماركسيًا"، بمعنى عدم رغبته في أن يكون خارج النقد، وحاول تعميم معارف عصره لاستنباط الحلول، التي تتلاءم مع تطوره، وسواء نجح أم أخفق، فقد كان منهجه حيويًا، لكن "الماركسية" المطبقة، جرى امتهانها، في ظلّ بيروقراطية حزبوية شديدة، قادتها إلى الفشل في مواطنها الأصلية أو في فروعها في العالم العربي، التي اكتست برداء ريفي أو بدوي أو طائفي أحيانًا.

***

د. عبد الحسين شعبان

دراسة تحليلية مقارنة

عن إعدام محمود محمد طه، المهندس الذي تضيف إليه جماعته محاسن تزعم أنها لا توجد في غيره، يخبر الدكتور الترابي الإعلامية المصرية الأستاذة منى الشاذلي التي استضافته في برنامج “العاشرة مساء” بقناة “دريم2” أثناء زياته لجمهورية مصر العربية في يوليو عام 2011م، بعد انقطاع عنها دام لمدة تقارب العقدين من الزمان، وابتدر حديثه عن مؤسس الحزب الجمهوري محمود محمد طه، ذاكراً بأن معرفته "بالأستاذ" كما يطلق عليه شيعته ومحبيه، تعود لفترة كان فيها في الصف السادس أو السابع، وقد جاء إلى مدرستهم، وتحدث عن ختان البنات الذي كان يؤمن به، ويحظره المستعمر البريطاني، الذي يأخذ المجتمع السوداني بالحزم والشدة، حتى يصرفهم عن هذا الأمر، ظلّ المهندس محمود محمد طه، كثير الجنوح إلى الشغب، والخروج والانتقاص لسياسات المستعمر، حتى زج به الإنجليز إلى السجن، فقام الترابي ورفقائه الطلاب في مدارس شتى بمظاهرات حاشدة من أجل إطلاق سراحه.

وأوضح الترابي بصورة جازمة، أنه لم يتحدث مطلقاً عن محمود محمد طه، أو يجادله، أو يناقشه، حتى في كتبه التي تتنافى تماماً مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ورغم إنه إدعى أنه قد بلغ درجة عليا بعد محمد عليه الصلاة والسلام، كفلت له أن يدعي أنه عيسى عليه السلام، وهو ادعاء لا يحتاج صاحبة لأن يلتمس الدليل القاطع على صحته، فهو افتئات جلي، واختلاق بين، ومحمود محمد طه كانت كتبه كلها تدور حول الرسالة الثانية، التي تتوافق مع المستجدات التي طرأت على المجتمع الإسلامي، بحكم الرقي والتطور الذي زان هذه الحياة التي نعيشها، زاعماً أن الشريعة الأولى لا تتوافق مع جوهر هذا العصر وروحه. وكشف الدكتور الترابي عن السبب الذي جعله يزهد في مناقشة آراء الراحل محمود محمد طه، رغم غرابتها، فقد ترك الدكتور الترابي محمود محمد طه ومزاعمه للأيام، تمتحنه بما تمتحن به الناس جميعا، وقد تعيش يوماً وتنتهي، ولكنها بكل أسف لم تنهي وعاودت الظهور عبر حكومة الحرية والتغيير، فبعد وأد حكومة الإنقاذ الباغية، بات وجود رموز الجمهوريين في حكومة السيد حمدوك رئيس وزراء السودان الحالي أمر شائع ومألوف، وهم الآن يدعون إلى الفكرة الجمهورية، ويلحون في الدعوة إليها.

ويهضب الدكتور الترابي قائلاً: ومحمود قتله الرئيس جعفر محمد نميري رغم أنه كان مؤيداً تأييداً واسعاً للمشير نميري في كل الفظائع التي ارتكبها، مثل اعتقاله للساسة والصحفيين، وقتله للأنصار في مذبحة الجزيرة أبا، ولكن حينما طبق النميري شريعة سيدنا محمد طالب هو بتطبيق شريعة محمود، فانقلب عليه النميري وسجنه بمقتضى قانون الطوارئ، وأوضح الدكتور الترابي أنه لم تكن له صلة بكل هذا، ولم يسبق له أن دخل معه في نقاش حامي ملتهب، ويرى الباحث أن اجتهادات محمود محمد طه حين تقف عليها، تشعر شعوراً واضحاً بأن هذه الآراء التي تحدث عنها في غير لبس ولا التواء، لا تحتاج لكثير من الجهد والعناء لتفهمها، فهي ملائمة لطائفة معينة تنفر من الحياة العنيفة، فالجهاد الذي أبطلته شريعة محمود، يهلل لها كل من يخشى على نفسه من حماية الثغور، كما يجد فيها الكسول بغيته، فقد أبطل محمود الجهد الحركي الذي نبذله لأداء الصلوات، واستعاض عنها بصلاة تسمى صلاة الأصالة، يكفي فيها أن تدير لسانك في فمك، وتتكلف التفكير في روعة الخالق، وبديع صنعه، والبخيل الجامد الكف، الجعد الأنامل، حتماً سيقنع بشريعة محمود، ويطمئن إليها، لأنها أبطلت الزكاة، وأكدت أنها انتهت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمست الزكاة التي يخرجها المسلم غير إلزامية، وغير مقدرة بالمقادير التي نعرفها، وذكر الدكتور الترابي بأن محمود محمد طه، لم يكن يصلي لأنه وصل إلى الله، وليس هناك يوماً للقيامة، ورغم كل هذا لم يجادل الدكتور الترابي الراحل محمود في رؤاه الغريبة، ولم يؤيد المحكمة التي قضت عليه بالإعدام، لأنها محكمة طوارئ أيدها الرئيس نميري لمعارضة محمود إياه، ووصف الدكتور الترابي بأن محمود محمد طه، الذي يعرف أسرته جيداً، رجل غريب الأطوار، وليس الأمر قاصراً على محمود، وذكر الدكتور الترابي أخاً لمحمود محمد طه، كان يعلمهم العلوم الطبيعية في الثانوي، فحدث أن اعتزل الناس مع شقيقه في غار، فخرجوا بهذه الطائفة من التشريعات المذهلة.

إذن لم يقد الطمع، وحب النفس، أن يتخلص الدكتور الترابي من محمود محمد طه، الذي كانت له مدرسة تجديدية، كما يزعم أنصار الراحل محمود محمد طه، وعلى رأسهم الدكتور الفاضل والسوداني الجم التواضع النور حمد، تنافس مدرسة الترابي التجديدية، وتتفوق عليها، مدرسة تأخذ بأسباب الحضارة الراقية الزاهية، وتدعو لحياة عقلية مزدهرة، تتوحد فيها الثقافات، وتنعم فيها الدول بآخاء متجذر، وصداقات باسقة، فلا سيوف تضرب الهام، وتقطع الأجسام، ولا طلاق يضيع الأسر، وينتقص الحقوق، فالطلاق حرام شرعاً في شريعة محمود، وهو بهذا يرضي حاجة المرأة إلى الكرامة، التي ترى في الطلاق، والزواج عليها، إجحاف لا يضاهيه إجحاف، وحق للمرأة أن تغتبط بشريعة محمود، وتحتفي بها، فالحجاب ليس فرضاً عليها، ولا يحق لبعلها أن يتزوج عليها، إلا لعلة طال عهدها، أو لعدم إنجاب، ولا يحق لزوجها أن يمضي في زيجة أخرى إلاّ بموافقتها، ويسقط الزواج ويبطل إذا كان دون علمها. واعتقد أن الرجال سيتأففون من شريعة محمود وينكرونها، لأنها لم تلتمس مراتع هواهم، أو تبتغي مواقع رضاهم، فهي جائرة موغلة في الجور، وليس فيها ما يدفع المرأة لأن تذوق الغيرة، وتصطلي بنارها المحرقة، فالرجل يضعف ويتضاءل في شريعة "الأستاذ" محمود محمد طه- شهيد الفكر كما يزعم البعض-  تتقزم قامة الرجل إذن ولا يمضي خلف إرثه قائماً متطاولاً،  بينما المرأة تكبر نفسها، حينما ترى زوجها يلتمس إرضائها، ويتقرب إليها في كل وقت و حين، حتى تصبح لأجل ذلك طاغية مسرفة في الطغيان.

وبمناسبة الحديث عن المنافسة الحامية الوطيس، بين تجديد الدكتور الترابي، وبين تجديد المهندس محمود محمد طه، يقارن شاباً لم يكن يتكلف التقى، أو يصطنعه بين المنهجين، محمد سيد حاج -رحمه الله- الفتى الذي أحاطت به في دنياه، تلك الهالة الضخمة من الحب الجارف، والهوى الشفيف، فقد استوثق الداعية الشاب من محبة السودانيين، التي كانت محققة ليس في وجودها شك، لأنه استطاع أن يأسر مجتمعه رغم طراءة سنه، بابتسامته الواسعة التي لا تفارق محياه، وبأسلوبه البسيط المتزن، الذي لا يخلو من دعابة وتبسط، استطاع الشيخ محمد سيد حاج رحمه الله، أن يؤثر في فئة الشباب، التي كانت تماثله في العمر، وتفهمه حق الفهم، وتشعر بصدق دروسه أشد الشعور وأدقه، فباتت عقولها لا تخضع إلا لنصحه، وأفئدتها لا تطمئن إلا لوعظه، واستمرت على هذه الوتيرة حتى توفاه الله في حادث مروري عام 2010م، لقد استقر في نفس الداعية الشاب رحمه الله، أن منهج محمود محمد طه، أعمق منهجاً وتأصيلا، عن منهج الترابي، فما تفصيل هذا الادعاء؟، وما هي مسوغات هذا الزعم؟ يؤكد الداعية السوداني الراحل أن محمود محمد طه، أضلّ من الترابي، ما في ذلك شك، ولكن محمود ضال بعلم، أما الترابي فمنهجه متذبذب، لا يكاد يستقر على حال، فتارة ينكر بعض الأحاديث التي تتعلق بالغيبيات، مثل نزول سيدنا عيسى عليه السلام، وظهور الدجال، ويهون بها أشد التهوين، ويطعن أيضاً في "حديث الذبابة"، وحديث "المرأة ناقصة عقل ودين"، ينكر الترابي كل تلك الأحاديث، وهو الذي يؤدي صلواته الخمسة، بفضل تلك الأحاديث، التي أوضحت له كيف يؤدي شعيرة الصلاة، فالقرآن الكريم، الذي يعتد به الترابي، كمصدر متواتر لا سبيل للطعن فيه، ليس فيه تفصيل تلك الصلوات، ولا شروطها، وأركانها، هذا خلاف فتاويه الغريبة، التي يتحفنا بها كلما ذهب لمدينة من مدن السودان، ففي مدينة سنار، وسط السودان يفجر لنا فتوى، لا نستطيع أن ننصرف عنها، وقبل أن ننكر هذه الفتوى، ويظفر منا برد، نسمع أنه قد اتجه لشمال السودان، وفي مدينة عطبرة، يوقعنا في حيرة مهلكة، فنحن لا نستطيع أن نمضي معه إلى حيث يشاء، لنفند بطلان هذه الفتاوي التي يصدرها في همة ونشاط، وقد لاح للباحث أن الشيخ محمد سيد حاج، يرى أن فتاوي الترابي واجتهاداته، تقوم على الباطل، أكثر مما تقوم على الإيمان، هذا ما رسخ في ذهن الباحث، الذي ترتاح نفسه لمحمد سيد حاج، وللترابي أيضاً، ولا يستطيع أن يستقر على حياة دينية راسخة تغمر القلب، وتملأ الضمير دون أن يصغي لمحاضراتهم، ودروسهم، أنزل الله على قبريهما شآبيب الصفح والرحمة.

أما "الأستاذ" محمود محمد طه، الذي أنكر الدين وسلطانه، وتوقف عن أداء الصلاة بهيئتها المعروفة، واستبدلها بصلاة تسمى صلاة "الأصالة"، تلك الصلاة الفريدة التي تحتكرها قلة، أوصلها ورعها وتدبرها إلى الله، فمنحها من آلاءه وفضله، ورفع عنها تكرماً، الصلاة الحركية التي تواضع الناس على أدائها، فمحمود محمد طه الذي يجهل الناس قبره، كان محافظا على أصول شريعته الباطلة، التي ابتدعها ولا يحيد عنها، وقد أنفق عمره وهو متمسكا بتلك الأصول، حفي بها، حريصاً عليها، وقد بنى منهجه على أسس واضحة، فالدين الثابت الذي لا يتغير، هو الدين المكي، أما  الدين المدني، فهو الذي يتغير ويتجدد، بتغير الأزمنة وتجددها، ولكل طائفة من الناس، في كل حقبة، أن تغير منه ما يروق لها، كما جدد محمود محمد طه فيه وغير، هذا شأن محمود، وهذه قصته، وذاك منهجه، أما  الدكتور الترابي، فيرى الشيخ محمد سيد حاج، أنه رجل عصي على الفهم، وأنه كان وما زال محتار في أمره، فلا هو سُنِي مؤمن، بما يؤمن به السٌني، ولا هو مبغض للسنة، مغرقاً في عداوتها، ولا هو معتزلي، مغتبطاً بأفكار المعتزلة، مانحاً نفسه نشر تلك الأفكار، وإذاعتها بين الناس.

وفتاوي الدكتور الترابي دأب -الشيخ المجدد- كما تنعته شيعته بهذا الوصف،  أكبّ الدكتور الترابي على هذه الفتاوي، ودرج على  إطلاقها منذ عهد طويل، ولم تكن كما يعتقد البعض، أنه تعمد نشرها، حينما بدأ يتأهب لمفارقة الحياة، هذا ادعاء يدعو للسخرية والتهكم، ومثله قول البعض أن تلامذة الشيخ، بعد أن أقالوه من كل المناصب السياسية التي كان يتولاها، طلبوا منه أن يدخل بيته ويغلق بابه، ويحكم إغلاقه، ويظل صامتاً لا يلوي على فعل شيء، حتى يحل به أصدق المواعيد، وتطويه الغبراء، ولكن الشهرة، وحب الظهور، التي امتزجت بنفسه، تحول دون أماني ورغبات تلامذته ومبغضيه، كما يدعي" الهاجري"، فالشيخ ظل حريصاً كلما تقدم نهار، ودنى مساء أن يتحف السودانيون، وأجهزة الإعلام، بفتاوي ندية، لم يسبقه عليها أحد، كلا لم يكن الشيخ يائساً أن تحجب عنه الأضواء وتنزوي، بل هو بعيد كل البعد من اليأس، وشعرت الإنقاذ وطواغيتها، أن الشيخ كان يؤذيها بحديثه السياسي، الذي ليس لها قدرة عليه، إلا بسجنه وقمعه، ها هو الآن يلفت انتباه العالم الإسلامي والخارجي معاً بفتاويه التي صاب ظنها، وصدق تخمينها، مثل قضية "إسلام المرأة الكتابية" دون زوجها في الدول الغربية، فالدكتور الترابي سبق أترابه بفتوى كان فيها وكيد الاعتقاد، نافذ الصيرة، صحيح الرأي، فقبل ثلاثة عقود، فاجأ الدكتور الترابي جميع العلماء برأي استنكروه عليه، واستهجنوه منه، ومنهم من لم يكتفي بالدهشة، بل حمل عليه، وعرّض به، ولكنهم عادوا وأجمع عليه أغلبهم فيما بعد، فالترابي “لا يرى زواج المسلمة من النصراني ابتداءً، هذا عكس ما يروجه الناس، ولكنه يقول من كانت كتابية، ودخلت الإسلام، أو من كانت مسلمة، وكان زوجها مرتداً، فالترابي لا يرى الطلاق، وتقسيم الأسرة مهما حدث، مستعيناً بالقصة المذكورة في السيرة النبوية، عن أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، والتي كان زوجها قد ارتدّ في الحبشة إلى النصرانية، ولكن ظلت على عصمته حتى مات، ثم بعد ذلك، عندما ذهبت إلى المدينة تزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام، وأما الآيات في سورة الممتحنة، والتي تخاطب المؤمنات ألا يتمسكن بعصم الكوافر، فيُفهَم من سياق الآيات التي قبل والتي بعد، أنها تتحدث عن المسلمات اللواتي تحت عصم المشركين في مكة، ويرغبن في الهجرة إلى المدينة بعد صلح الحديبية، ولا تتحدث عن المسلمات اللواتي في عصمة الكتابيين من اليهود والنصارى”. وهذا نفس الرأي الذي تواضعت عليه قبيلة العلماء فيما بعد، والملمح الذي نستشفه من هذه الفتوى، هو تفرد الشيخ الترابي وعبقريته، واستقلاله، فهو لم يراعي العاطفة الدينية التي تستدعي عدم الخروج عليها، وتحمل في ثبات تبعات هذه الفتوى، ولعل من أسخف السخف أن يهاجم شيخ كان يعني بالموت أكثر مما يعني بالحياة، ويرمى بأنه لا يشعر بالحاجة الملحة لإصدار تلك الفتاوي، إلا لأنه أراد أن يحرك حياة راكدة خامدة، بفتوى تتشاركها الصحف والوسائط وأجهزة الإعلام إلى أبعد حدود المشاركة.

يقول الدكتور القرضاوي-رحمه الله- الذي يرى الآن أن بقاء المرأة مع زوجها النصراني، له سند شرعي، ومصلحة معتبرة، متحدثاً عن هذه المسألة، التي كان يفتي فيها بفتوى لم تكن تحتاج لكد ذهن، أو تقليب نظر، وهي وجوب التفريق بين المرأة التي أسلمت دون زوجها، وظل زوجها على دينه، ولكنه تراجع عن تلك الفتوى، بعد أن درس التسعة أقوال التي ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله حول هذه القضية في كتابه” أحكام أهل الذمة” يقول الدكتور القرضاوي:” كنت لسنوات طويلة أفتي بما يفتي به العلماء الذين ذكرهم السائل في سؤاله، وهو أن المرأة إذا أسلمت يجب أن تفارق زوجها في الحال، أو بعد انتهاء عدتها، لأن الإسلام فرق بينهما، ولا بقاء لمسلمة في عصمة كافر. وكما لا يجوز لها أن تتزوج غير المسلم ابتداء، فكذلك لا يجوز لها الاستمرار معه بقاء. هذا هو الرأي السائد والمشهور والمتعالم عند الناس عامة، والعلماء خاصة، وأذكر منذ نحو ربع قرن: كنا في أمريكا، وفي مؤتمر اتحاد الطلبة المسلمين هناك، وعُرضت قضية من هذا النوع، وكان الدكتور حسن الترابي حاضراً، فلم ير بأساً بأن تبقى المرأة إذا أسلمت مع زوجها الذي لم يسلم، وثارت عليه الثائرة، ورد عليه عدد من الحاضرين من علماء الشريعة، وكنت منهم، وقد اعتمد الرادون عليه: أنه خرج على الإجماع المقطوع به، المتصل بعمل الأمة” أخذ الدكتور القرضاوي بقول الإمام علي كرم الله وجهه أن زوجها الباقي على دينه أملك ببضعها، ما دامت في دار هجرتها، وفي رواية أخرى: هو أحق بها ما لم تخرج من مصرها، والقول الثاني: هو قول الزهري: إنهما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطان، أي ما لم يصدر حكم قضائي بالتفريق بينهما، ويسند هذا القول ظاهر ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه خير زوجة النصراني حين أسلمت بين فراقه وإقامتها عليه”.

وخصوم الدكتور الترابي يؤثرون هذه القضية، التي تثير في نفوس الناس عواطف حادة مختلفة، أقلاها نفور الناس من اجتهادات الدكتور الترابي، وأعلاها رميه بالكفر والزندقة والاعتزال، وحسبنا أن نعلم أن أهل الماركسية العجفاء في السودان، الذين أخذهم الفساد الخلقي من جميع نواحيه، بذلوا أقصى ما يستطيعون، لانحراف الناس عن فكر الدكتور الترابي وتوجهه، ورغم أنهم كلهم لا يرقون إلى إنشاء الدراسات التي تؤكد أن الدكتور الترابي يزدري السنة المشرفة، ويغض من مكانتها، فاكتفوا بترديد كل ما هو شائع مجهول، ودفعتهم طبيعتهم الجانحة إلى الغرور والمغامرة، للخوض فيما لا يحسنونه، فالشيوعي السوداني كما يعلم الناس في أرض النيلين، يعجز عن إمساك لسانه في فمه، ويمضه إذا ذهب يومه دون أن يهجو الدكتور الترابي ويسرف في هجائه، وهم في ذلك مثل غلاة الشيعة، الذين يتقربون إلى الله بسب معاوية بن سفيان رضي الله عنهما، هم أبصروا أن الترابي قد بهره ما رأى من حياة الغرب في بريطانيا وفرنسا، وأنفق أعواماً في هذه الحياة العقلية الخالصة، وتأثر بها في نظره وتقييمه للأشياء، وسجلت دفاترهم نزاعات حول حديث الذباب، لم يجدوا بداً من تسجيلها، وأكبر الظن أنهم لم يمنحوا عنايتهم كلها لهذه التسجيلات، وربما توجسوا أن يضيع ترصدهم لهذا الخلاف في غير نفع، وأن يذهب في غير غناء، فعكفت الشيوعية السودانية على نفسها، وهي ترقب المثل العليا، التي وطدها الاتجاه الإسلامي في نفوس الشباب، لتيقظهم من غفلتهم، وتنبئهم بخطل الماركسية وفسادها، لأجل كل هذا سعى الحزب الشيوعي لتشويه صورة الدكتور الترابي، بإذكاء هذا الصراع العنيف المتصل، ليتغلغل في كل شيء له صلة بالدكتور الترابي، فعتاة اليسار في السودان، لهم بصيرة نافذة، وقدرة على التجريد والنظر في كل شيء عدا الإسلام وأصوله العتيدة من قرآن وسنة، لهذا كان أمر اهتمامهم بأحاديث النبي المعصوم أمر لا يخلو من الطرافة.

والسنة النبوية عند الدكتور الترابي وسيلة لا غاية، وليست كل الأحاديث عنده تنمو ويتضوع نشرها، فهناك طائفة من الأحاديث نجده معرضاً عنها، زاهداً فيها، ولكنه لا يسرف في ذلك الإعراض إسرافاً شديداً، وليس صحيحاً أنه يرد بعض الأحاديث لأنها ترده عن الوجه الذي كان يقصده، أو لأنها لا تتوافق مع مقتضيات العصر، أو لأنها لا تتواءم مع ما يثور في قلبه من عاطفة، أو هوى، أو شعور، ولم تكن فلسفة الدكتور الترابي في تعاطيه مع السنة النبوية عسيرة أشد العسر، أو أن الناس لا يكادون يفهمون منها شيئاً، فالسنة عند الدكتور الترابي لا تنسخ القرآن الكريم، وأخبار الآحاد لا ترتقي لمنزلة تؤثل العقائد وتثبتها، فالعقائد لا تبنى إلا على أدلة لا يستتبعها ضعف أو فتور، ومن هنا أتى إنكار الترابي لنزول سيدنا عيسى عليه السلام، فالشيخ “يعتقد أن أحاديث الآحاد لا يثبت بها في العقائد، لأن العقائد لا تثبت لديه إلا باليقين الناتج من القرآن والأحاديث المتواترة، والسبب الإضافي لإنكاره نزول  سيدنا عيسى بن مريم عليهما السلام، هو الرد على الشيعة الروافض، الذين يستدلون على إمكانية بقاء إمامهم المزعوم ألف سنة في سرداب سامراء ببقاء عيسى بن مريم ألفي سنة في السماء، ويستدل الشيخ بقوله تعالى على لسان عيسى بقوله تعالى “وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم”. المائدة: 117. فمسألة نزول عيسى عند الترابي من أخبار الآحاد التي لا يثبت بها اعتقاد”.

***

د. الطيب النقر

 

مقدمة: عندما أردت كتابة بحثي هذا أردت أن أبدئ من فترة تاريخية متقدمة قد مرت بها الدولة المصرية على فترات من الانفتاح الثقافي والتي ربما تأثرت به تأثراً مباشراً، ولكن عند الكتابة عن الهوية الثقافية المصرية ذلك الدولة العريقة الضاربة بجزورها التاريخية والثقافية عبر الزمن يحتار المرء فعلاً كما يحتار القلم من أين يبدئ؟.

لقد لعب المثقفون دوراً هاماً وحيوياً في كل العصور التي مرت بها مصر من القديم إلى الحديث ولكن الدولة المصرية الحديثة والتي يؤرخ لها من حكم محمد على باشا ربما تكون نقطة انطلاق للباحثين يغصون من خلالها في بحور الثقافة والهوية المصرية وتنوع ارهاصاتها على كافة المجالات والذى خلق نوع من الثراء للموروث الثقافي المصري والتي كانت منفتحة على العالم منذ القدم وحتي يومنا هذا.

لذا قد أردت البحث والتنقيب منذ حقبة تولي محمد على باشا حكم مصر عام 1805م ولربما اكون قد حددت تلك الفترة لكونها شكلت هوية مصر التي نحن عليها الأن أو ساهمت بشكل كبير في تشكيلها فيما نحن عليه من خطوات كبيرة من خطوات الثقافة المصرية وتحديد ملامحها المعاصرة والتي جعلت من مصر كتاب مفتوح على العالم اجمع بخليط من الثقافات متعددة الاطياف في ثقافة وهوية شعب مصر من الشمال إلى الجنوب.

لقد شكل محمد على بما أدخله على الهوية والثقافة المصرية من مدارس وبعثات أوربية وحركة الترجمة وخاصة الفرنسية والعكس وأصلحاً داخلياً شكل هوية ووجدان المثقف المصري ولقد أمتد ذلك التأثير على الهوية المصرية والثقافة المصرية لما بعد محمد على علي وأولاده مما أدي إلى وجود موروث ثقافي هجين سرعان ما أثر وتأثر بالموروث الثقافي للوجدان المصري.

1ــ دور الثقافي المصري في عالم مختلف:

يعد دور، المثقف الفرنسي ودوره النقدي في تشكيل الهوية الفرنسية وقيام الثورة الفرنسية لسبب مباشر في بناء الدولة واجهزتها والذي لعب دور الناقد للظواهر السياسية والدينية والاجتماعية والأخلاقية السائدة، وهي تعد من خصائص الثقافة والهوية المصرية بامتياز.

أن أقلمه الأفكار ليس بالشيء الهين وذلك من خلال تلقيحها بنتاج أفكار أخرى ربما تكون مماثلة أو مختلفة بالنسبة لهوية اخري وذلك عند انتقالها من شعب إلى اخر لربما خلق نوع من هوية مشتركة ما لم تحويه تلك الثقافة المنقول إليها ويعدَّ ذلك بالمولود الجديد الذي ينتج من تزاوج اشخاص احدهما كلا منهم له هوية مختلفة عن الاخر وربما تتأقلم وتتفق وهذا ما حدث من خلال انتاج الافكار وتلقيحها بالموروث الثقافي الفرنسي وتطبيقها على الواقع الموضوعي للهوية المصرية قادمة من المهاد الغربية متمثلة في الموروث الثقافي الفرنسي من خلال تمريرها داخل الانسجة الاجتماعية والفكرية ذات المصادر التراثية الدينية وحركة الترجمة الواسعة التي سمح بها النظام السياسي حين ذاك والتي لا شك تأثر بها المثقف المصري والذي بدوره أثر في المجتمع من خلال الحركة الفكرية للمثقفين داخل الدولة المصرية ولقد أنعكس ذلك على الهوية والثقافة المصرية.

وعلى الرغم من حدوث مناورات أثرت في الفكر من خلال الأليات الدينية من داخل نظام اللغة التراثية والدينية إلا إنها قد وصلت إلي مأزق فكري وتاريخي وفلسفي في ظل نهاية المرحلة شبه ( الليبرالية) مع قيام ثورة 1952 م.

بعد تجاوز تلك المرحلة من التأثير الثقافي والتي تأثرة به الهوية المصرية، والتي أثرت بدورها في المنطقة العربية بأثرها ولقد ظهر ذلك بوضوح في استقطاب العقول العربية اللامعة في المرحلتين شبه ( الليبرالية)، والناصرية حتي هزيمة 1967م.

وتعدَّ المرحلة الناصرية بحق مؤثرة بشكل كبير في الثقافة المصرية والموروث الثقافي للمثقفين كما تعد الناصرية جزء لا يتجزأ من الهوية المصرية وكذلك تعدَّ جزء أساسي في الاقليم العربي من خلال النتاج الفكري.

لقد ساهم الدور الثقافي للمثقفين المصرين في أضعاف بعض مصادر القوي داخل النظام السياسي وذلك من خلال بلورة النماذج الملهمة في التنمية والاستقلال وهذا جعل الدولة المصرية تأُمن بحركة التغيير والتحرير الوطني كذا حركات اخري كحركة عدم الانحياز.

2ــ مشكلات الشباب وأزمة هوية الثقافة:

يعدَّ الشباب هم الشريحة الأكبر بين فئات المجتمع والشريحة الأكثر أتساعاً بين فئات المجتمع الأخرى ويرجع ذلك لخصائص ومكونات تلك الفئة من المجتمع فأن الشباب المحرك الحقيقي لمجريات الاوضاع والأحداث وطبيعة الأمور بالمجتمع التي تحيا به تلك الفئة وخاصة إذا كانت مؤثرة في الهوية الثقافية للمجتمع.

يقول: الدكتور. فوزى محمد الهادي (نظراً لما طرأ على مناحي الحياة اليومية من تغيرات ومستجدات بفعل التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتي تزداد وتيرتها تسارعاً في العصر الحالي حيث إننا نعيش عصراً تتضارب فيه القيم ويصعب فيه الاجتماع على معايير سلوكية موحدة) أنتهي.

لذا أرى في المبحث ونظراً لما يمثله الشباب من الجنسين من قاعدة هي الأكبر والأكثر أتساعاً وتأثيراً بل ربما تكون هي من يقع على عاتقها التغيير الثقافي في المجتمع عاجلاً أو أجل لذا يجب توجيه الجهود الحثيثة من القيادة السياسية لتغيير المنظور الثقافي عبر الوسائل التثقيفية والوسائل المتاحة للتأثير الإيجابي في شباب اليوم نظراً للانفتاح الثقافي عبر الثقافات المختلفة عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة المعلومات الدولية (الأنترنت) ومدي تأثيرها في الموروث الثقافي للمجتمع المصري بأكمله دون تنظيم أو أخلاء لما هو غير إيجابي وقد يكون مؤثر تأثيراً سلبياً علي الشباب خاصة مما يشكل هوية ثقافية جديدة قد تغيير من الموروث الثقافي المصري مع مرور الزمن.

وانساقا مما تقدم ينطلق هذا المبحث للاهتمام بالمشكلات الشبابية من خلال المنظور الإيجابي للهوية الثقافية ويتضح ذلك من خلال....

١ــ مفاهيم المتغيرات الإشكالية لدي الشباب.

٢ــ مشكلات الشباب من خلال الواقع المعاش.

٣ــ أزمة الهوية الثقافية لدي الشباب ومن أين تستقي؟.

٤ــ العمل والرؤي المنظورة لأزمة الهوية لدي الشباب.

لذا أقول أنه أصبح من الضرورات (السيسولوجية){٢} والمنهجية التعرف على مشكلات الشباب الشخصية والنفسية والمجتمعية كما هو الواقع المعاش وعن قرب ومن الضروري إيجاد مجموعة من السياسات التي تساهم بشكل كبير في الحد من السلوك والمشكلات والتي تؤدي إلي تداعيات خطيرة ربما، بل من المؤكد قد أثرت تأثير سلبي في تشكيل الهوية الثقافية لدي الشباب في العشرين عاماً الماضية والتي خلقت مشكلات وجرائم لم تري من قبل داخل المجتمع المصري وخاصة لدي الشباب وكون إنهم رجال الغد والتي سوف تنتقل من خلالهم الموروث الثقافي للأجيال القادمة لذا نؤكد علي الاسراع بالحلول الجزرية وليست الحلول المؤقتة والتي سرعان ما يزول أثرها وتبقي المشكلات عالقة بالهوية الثقافية.

تقع مرحلة الشباب ما بين الفترة العمرية (15 ــ 24) سنة ونعلم أن هذا هو التحديد الدولي المقبول لما تمثله تلك الفترة من تغيرات جزرية تشكل وجدان ومفهوم الشباب من الجنسين وذلك من خلال الاعتبارات نفسية واجتماعية وثقافية مما يؤثر سلباً وإيجاباً طوال حياتهم.

أن الأزمة التي يعيشها الشباب تتمثل في أزمة الهوية والتي يؤدي فيها التساؤل (من أنا؟) والتي من خلال هذا التساؤل قد يقع تحت تأثير ثقافات دخيلة تؤدي به إلي اهتزاز في مفاهيمه السابقة عن تصوره لذاته فأذا استطعنا اكتشاف ذاته وبدور استطاع اكشاف ذاته من خلال التوجيه الثقافي للهوية المصرية أدي ذلك إلي النجاح فإذا عجز أو فشل في اكتشاف هويته وثقافته إدي ذلك إلي الفشل المربك والذي يؤدي بدوره إلي اختلاط الهوية والصراع الثقافي واختلاط الهوية لا طائل منها سوي السلبية علي المجتمع والتي تؤدي إلي تعطيل الحياة بكافة صورها داخل المجتمع.

فيجب علي المجتمع أن يتبني سياسات من شأنها القضاء علي مشكلات الشباب حتي يستطيع الشباب التوافق والتكيف مع مستجدات العصر الذي نحيا فيه والثقافات الدخيلة علي هويتنا الثقافية وقد حددت أربعة مشكلات تواجه الشباب إلا وهي:

1ــ المشكلات الاقتصادية.

2ــ المشكلات النفسية.

3ــ المشكلات الاسرية.

4ــ المشكلات الاجتماعية.

3ــ الثقافية ودورها في تعزيز الهوية الوطنية:

تعتبر الهوية الثقافية والتراثية للدولة المصرية من أقصي الجنوب إلي أقصي الشمال هي أهم الأعمدة والركائز التي يقوم عليها تاريخها العريق عبر الأزمنة المختلفة من القديم إلي الحديث كما تعتبر وبلا أدني شك القاسم الجوهري والقدر الثابت والمشترك من السمات العامة التي تميز الهوية الثقافية المصرية وذلك التاريخ الممتد والحضارة العريقة والتي تضرب بجزورها في أعماق التاريخ الإنساني من ألاف السنين تعطي الدافع والقوة لهذه الأمة علي البناء والتطوير حتي يومنا هذا.

وكلما كانت تلك الأمة قادرة علي التطوير والبقاء ومواكبة التكنولوجيا والأخذ بها في المحافظة على الهوية الثقافية الوطنية، كلما كانت تستقي هذا الرقي والتقدم من خلال خلفية ثقافية، متفاعلة في ذلك مع كافة المعطيات الاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية بما تملكه من وعي للخصوصية المرنة التي تساعد في طياتها علي تقبل النقد ودفع عجلة الاصلاح.

بلا شك فأن الدولة المصرية عبر تاريخها الطويل والممتد استطاعت أن تشكل هويتها الثقافية الوطنية الخالصة وأن تحافظ عليها رغم ما تعرضت له الدولة من محاولات طمس الهوية الثقافية من خلال التاريخ الاحتلالي للدولة المصرية مرتكزة في ذلك علي الرموز والشخصيات الوطنية الخالصة في المحافظة على تلك الهوية مع الحفاظ على خاصية المرونة مع المتغيرات الإقليمية والعالمية.

لقد ظلت تلك الهوية مرتبطة في طياتها بالأرض والانسان علي امتداد العصور المختلفة ولقد ظهر ذلك جلياً في القديم من خلال الحضارات العريقة والتي أمتد أثارها علي وادي النيل من الجنوب حتي أقصي الشمال بل لا اكون مبالغ إذا قولت بأنها اثرت الهوية المصرية علي المستوي الاقليمي والعالمي في تشكيل هويات اخرى لدول الجوار كما ظهر ذلك على المستوي المحلي ومدي تمسك اهل الجنوب بالعادات والتقاليد الراسخة في الاعمال مشكلة للهوية الوطنية ومدي ارتباطها بالأرض والانسان وما زالت باقية إلي يومنا هذا تتوارثها الاجيال.

ومع تواصل تعزيز الدولة المصرية للانتماء الوطني وترسيخ قيم المواطنة للحفاظ على مقومات الهوية الثقافية الوطنية نرى ذلك من خلال الاعمال التي تقوم بها القيادة السياسية من خلال الوسائل الثقافية والتعليمية وأدواتها متمثلا ذلك في دور السينما والمسرح والقنوات التلفزيونية للأعلام المفتوح والوسائل التعليمية من خلال المناهج الدراسية والابنية التعليمة والاخذ بوسائل التكنولوجيا في نشر الثقافة الوطنية.

وتحرص الدولة المصرية في ظل توجهات ودعم السيد الرئيس / عبد الفتاح السيسي علي ابراز تلك الهوية في كل المحافل المحلية والعربية والدولية وكذلك توظيف وزارة الثقافة بجميع مقوماتها لتكون علامة علي الانفتاح الذي تعيشه الدولة المصرية علي مختلف الثقافات مما أنعكس في رصيد الدولة المتنوع والغني بالموروث الثقافي المصري.

وهنا تجدر بنا الاشادة إلي الدور الكبير والمهم والذي تلعبه وزارة الثقافة المصرية في حماية الهوية الثقافية الوطنية للدولة المصرية من خلال المشاريع العملاقة والتي ساهمت بدورها في وضع الهوية الوطنية المصرية في المراتب الاولي علي المستوي الاقليمي والعالمي.

وايماناً من وزارة الثقافة المصرية علي تعزيز هذا الدور المهم والحيوي تسهم الوزارة في اقامة فعاليات متنوعة تتضمن في طياتها ما يعزز ويقوي الهوية الثقافية الوطنية لدي الافراد ويساهم في خلق مردود اقتصادي من خلال الاستثمار في الثقافة.

مما جعل الدولة المصرية في مصاف الدول الرائدة في مجال الثقافة والتراث الانساني مما يؤكد الضرورة إلي مواصلة الدعم لمؤسسات الدولة الثقافية والتعليمية والاعلامية وكذا منظمات المجتمع المدني لتعزيز دورهم المهم في تأكيد الهوية الثقافية الوطنية بشكل خاص والعربية والاقليمية بشكل عام وذلك من أجل الحد من ذوبان الهوية الثقافية الوطنية.

4ــ الهوية الثقافية والتعليم في المجتمع المصري:

أن الهدف من تلك الدراسة البحثية فو المحافظة على الهوية الثقافية والتعرف على ماهية الهوية الثقافية ومقوماتها الاساسية والتحليل التاريخي لتطوير انظمة التعليم في مصر بالإضافة إلي الكشف عن تداعيات تنوع أنظمة التعليم والتي نحن بصددها في هذا العنصر البحثي في مصر علي الهوية الثقافية وعلي التوسع المطرد في الانتشار الموسع لتعليم الاجنبي إلي جانب التعليم الحكومي من ينتج عنه تأثيرات خطيرة وسلبية علي الهوية الثقافية المصرية والتي تتمثل في:

ــ ضمور الشعور بالهوية القومية.

ــ افساح المجال للهيمنة والتبعية الثقافية.

ــ أضعاف مقومات الهوية الثقافية للمجتمع المصري.

ــ تكريس مناهج تلك المدارس للاندماج الثقافي والفكري بين الدارس والمجتمع

الذب يدرسه وليس الذي نشأ فيه حيث تأكد تلك المناهج علي تنمية روح

المواطنة والانتماء للدول التابعة لها.

ــ تأصيل التمايز الطبقي وعدم تكافؤ الفرص التعليمية وتهديد التماسك الاجتماعي في المجتمع الواحد.

أننا نعلم جميعنا أن لكل مجتمع هويته الثقافية والتي يتميز بها عن كافة المجتمعات الاخرى عبر التاريخ حتي وأن كان هناك تشابه طفيف إلا أنه تبقي الهوية الثقافية لكل مجتمع ما يتميز به عن غيره من نمط حياة ولغة تفاهم مشتركة وتناغم في النظرة للأشياء والامور والمتغيرات وكذلك نمط التعامل مع البيئة المحيطة بالفرد.

مشكلة الدراسة:

لقد اتخذت بنية النظام التعليمي في مصر اشكالاً مختلفة تعكس مدي التطورات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المجتمع المصري، وما فرضته هذه التطورات علي هيكل التعليم بمختلف مراحله وانواعه من تغيرات ولقد اشار عدد من التقارير الدولية والاقليمية بأن بنية النظام التعليمي بمختلف مراحله لم تعد موحده أو منسقة تتبادل فيما بينها عمليات الاستبعاد والاقصاء والاصطفاء على نحو يهدد النسيج الاجتماعي والهوية الثقافية للمجتمع المصري.

لقد اصبحت الساحة التعليمية تموج بأنماط من المدارس التي تتباين فيما بينها سواء علي المستوي التبعي أو في هيكلتها أو مناهجها وحتي علي مستوي الممارسات السائدة فيها ومن المؤكد أن هذا التباين يخلق أنواع من الثقافات التعليمية المتباينة والتي تؤثر تأثيرا سلبياً علي الهوية الثقافية المصرية لأبناء المجتمع الواحد ومن انماط هذه المدارس: ــ

ــ (المدارس الدينية (الازهرية والخاصة).

ـ ( المدارس الحكومية ( العادية والتجريبية).

ــ (المدارس الخاصة (عربي ولغات).

ــ (المدارس الدولية).

ــ ( المدارس اليابانية المصرية).

ــ ( مدارس النيل المصرية الدولية).

مما سبق يتضح انماط المدارس في مصر وتنوعها والانتشار الواسع للمدارس الاجنبية وقد اثارة تلك المدارس جدلاً واسعاً منذ نشأتها حول دورها الثقافي وتداعياتها علي الهوية الثقافية فكثير من المهتمين ينظرون إلي هذه المدارس على كونها دارس تبشيرية غربية تعمل علي نشر ثقافة معادية للقيم الثقافية الوطنية والاسلامية وإنها تهدد الهوية الثقافية للمجتمعات التقليدية.

ونحن جميعا نعلم أن مقومات الهوية الثقافية تتمثل في الدين وقيمه واللغة العربية واصالتها والتاريخ الوطني ورموزه الوطنية والتربية الاخلاقية والتي تتأصل من مؤسساتنا التربوية الوسطية المعتدلة وكل هذه المقومات تعمل تلك المدارس الاجنبية علي تشكيلها بصورة مغايره للهوية الوطنية المصرية وحسب الهوية الثقافية القومية لتلك الدول التي تنشر ثقافتها من خلال تلك المدارس.

5- الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية وروافدها الحضارية المتنوعة:

أن الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية وروافدها الحضارية المتنوعة احد مواد الدستور لعام 2014م والتي ينص فيها الدستور علي أن يدرس طلاب المرحلة الثانوية ضمن مادة التربية الوطنية بعض المواد الدستورية الهامة والتي تخص بالمجتمع ككل وهذا من شأنه تعميق الهوية الوطنية لدي طلاب ما قبل المرحلة الجامعية.

وهذا يرسخ لمفهوم الهوية الثقافية والمحافظة عليها وتؤكد الدولة المصرية من خلال مواد الدستور أن الأسرة المصرية هي أساس المجتمع وتلتزم الدولة بتوفير العدالة الاجتماعية والحفاظ على الهوية الثقافية المصرية وروافدها الحضارية المتعددة.

كما نص مجلس النواب وهو المشرع الوحيد والقانوني من خلال سلطة منتخبة من الشعب في البنود (٤،٥،٦،٧) من اختصاصات لجنة الأعلام والثقافة والاثار من ضمن اعمالها ترسيخ القيم الحضارية والروحية وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التميز علي اساس العرق أو اللون أو الدين وأن النسيج المصري كيان واحد بطوائفه المختلفة واكد ايضاً علي الحفاظ على الهوية الثقافية المصرية وروافدها الحضارية المتنوعة والحفاظ علي مكونات التعددية وعلي الخدمات الثقافية والتي تدخل في الحفاظ على الهوية الوطنية المصرية.

هذا ويؤكد كل ما سبق من المواد الدستورية والتي اشتمل الدستور المصري علي العديد من موادها الصريحة والضمنية الحفاظ علي الهوية والتعددية الثقافية مدي حرصه علي ترسيخ عوامل الحفاظ على الهوية الوطنية المصرية لدي الاجيال جيلاً بعد جيل وغرس روح المواطنة وحب الوطن والحفاظ علي السمات العامة والخاصة للهوية الوطنية المصرية وروافدها الحضارية.

٦ــ العولمة والهوية الثقافية المصرية:

تعدَّ الهوية الثقافية لأى مجتمع هي الكيفية التي يتعرف الناس من خلالها على ذواتهم وأمتهم وتتخذ اللغة والثقافة والدين اشكالاً لها.

والهوية سلاح ذو حدين أي بمعني إنها يمكن أن عامل تماسك وتوحيد وتنمية ويتأتى ذلك من خلال اللغة الموحدة والتقاليد والمصير المشترك بين الأمة الواحدة كما يمكن أن تكون عامل تفكيك وتمزيق للنسيج الوطني الاجتماعي في الوقت الذى يشهد فيه العالم انفتاح الثقافات المختلفة من خلال الاتصال الثقافي والتواصل الاجتماعي والذي قد يحدث تصادم بين الثقافات.

ما يشغل اهتمام النخب الثقافية في الوقت الحاضر هو كيفية التوفيق بين العولمة، والهوية الثقافية من خلال جعل الشعور يعمل علي تنميط سلوكيات البشر وثقافتهم المختلفة لإخضاعها لنظام قيم وانماط سلوك متبعة في المجتمعات الغربية وهذا ساعد علي ظهور الطوائف والمذاهب القومية ضيقة الافق لتقف حجر عثرة في وجه اختلاط الثقافات تحت ذريعة حماية الخصوصيات الثقافية.

وعلي هذا الاساس نستطيع أن نطرح عدة تساؤلات والتي من شأنها توضيح الاختلاط الثقافي:

هل ما تقدمه الحداثة الغربية من قيم ثقافية يتلاءم وطبيعة الهوية الوطنية المصرية؟ هل التمسك بالخصوصية الثقافية المصرية يعدَّ ابتعاداً ورفضاً للعولمة الثقافية؟ هل يمكننا التحدث عن ثوابت ومتغيرات في القيم في ظل المتغيرات الاجتماعية والثقافة في المجتمع؟ ثم هل الهوية الثقافية شيء انتهي وتحقق في الماضي في فترة زمنية معينة؟ وهل الهوية الثقافية المصرية قابلة للتحويل والتطوير والتعايش مع "العولمة الثقافية"؟.

يجب علينا أن نشير إلي أن الهوية الثقافية هي مجموعة السمات والخصائص التي تتفرد بها شخصية مجتمع ما تجعله متميز عن غيره من المجتمعات.

ولقد ظهر في العالم تياران الاول يؤيد العولمة ويدافع عنها والاخر يعارضها ويناهضها وكلا له اسبابه.

فالمؤيد يعتبر العولمة قد احدثت نقلة نوعية في ظل ميادين المعرفة وقربت المسافات واختصرت الزمن وساهمت في التلاقح بين الحضارات وتعزيز ثقافة التنوع الانساني والقيم الثقافية ومن بين هؤلاء المؤيدين نجد الالماني" غونترغراس " والامريكي " همنغواى " والروسي " تشيكوف " والايرلندي " برناردشو ".

اما المعارض للعولمة فيستند إلي إنها غيرت البنية الاساسية لكل مكونات الحياة علي جميع المستويات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافة فساهمت في زيادة معدلات البطالة وانخفاض الاجور واتساع الهوية بين الفقراء والاغنياء وتقليص دور الدولة في الخدمات كالصحة والتعليم ومن بين رواد هذا الفكر وهذا التيار نجد النمساوي" هانس بيتر مارتن " والالماني " هارالدشومان "

فكيف يمكن التوفيق بين التيارين المتعارضين، حتى تكون لدينا نظرة موضوعية عن فكرة العولمة؟ إن ما يهمنا أكثر في هذ الصدد هي العولمة الثقافية. فهناك من اعتبرها أخطر من العولمة الاقتصادية بما تحمله من قيم غربية تريد أن تفرضها كنموذج مثالي على باقي الثقافات العالمية.

لكن انتقاد العولمة الثقافية، بحجة ما تحمله من قيم بعيدة عن الهوية الثقافية المحلية للمجتمعات، لا يكون بالأساس عن طريق تأكيد الهوية وترسيخها والتشبث بها كنسق مغلق، لأن ذلك لن يمكن المجتمع أن يساير العصر وما ينتجه من ثقافة وإبداع وفكر وتقدم معرفي بصفة عامة، بل يبقى مشدوداً إلى الفكر الجامد، غير القادر على التحرّر الثقافي من النسق القيمي للثقافة المحلية أو الخصوصية. وهو ما أدى إلى العودة القوية لثوابت الهوية الثقافية، نتيجة الشعور بالإحباط من العولمة وما تحمله من قيم للحداثة ومحاولة نقدها والبحث عن خيارات جديدة في التراث وفي الدين.

ثم إن انفتاح الثقافة المحلية على المحيط الخارجي، ينبغي، في رأينا، أن لا يكون مؤشراً على إضفاء صفة القداسة على العولمة الثقافية، وأن لا يكون معنى عولمة الثقافة هو فرض ثقافة أمة على سائر الأمم، أو ثقافة الأمة القوية الغالبة على الأمم الضعيفة المغلوبة. ذلك أن قدرة العولمة الثقافية في فرض وجودها واستمرارها لن يتحقق ما لم تراع هذه العولمة خصوصية ثقافات المجتمعات، ومراعاة تاريخ الشعوب وحقوقهم الثقافية.

ومن هذا المنطلق، فإن إعادة بناء النظرية النقدية للعولمة الثقافية صار ضرورياً، لكي تعرف النخب الثقافية والمجتمعات كيف تتفاعل معها في ظل المتغيِّرات الراهنة والمستقبلية، وماذا تأخذ منها وماذا تدع وتترك. فليس كل ثقافة قادمة من الغرب مقدسة. وفي هذا الخصوص، نشير إلى أن الحداثة، كفكرة غربية، تم تجاوزها، وظهرت مرحلة «ما بعد الحداثة» التي تعيش هي بدورها أزمة، لعدم قدرتها على الحسم في كثير من الإشكالات المعاصرة للثقافة والهوية والدين.

***

بقلم / احمد عزيز الدين احمد

الشاعر والروائي والكاتب

.....................................

تعريفات:

1ـ الليبرالية:

يشير مصطلح الليبرالية إلى الفلسفة السياسية أو الرأي المنتشر حول مجموعة من أفكار الحرية والمساواة؛ ويشار إلى أنّ المعتقدات تختلف بين أنواع الليبرالية؛ حيث تُركز الكلاسيكية على الحرية بينما تدأب الليبرالية الاجتماعية على توطيد المساواة أكثر

2ـ السيسولوجية:

لغويًا فإن كلمة سيسيولوجيا هي كلمة سوشيولوجي وهى مشتقة من كلمتين الأولى بمعنى مجتمع، أما الثانية فتعني دراسة وبذلك فسوسيولوجيا تعني دراسة المجتمعات الإنسانية وكذلك المجموعات البشرية والظواهر الاجتماعية.

المراجع:

-  كتاب المفكر المصري " ميلاد حنا " الاعمدة السبعة لشخصية المصرية.

-  كتاب سندباد مصري للكاتب " حسين فوزي ".

-  مقال من الارشيف لـ د. خالد الشرقاوي السموني.

-  كتاب (نشأة الروح القومية المصرية) للكاتب / محمد صبري السوربونى.

-  كتاب ( الشخصية الوطنية المصرية ) للكاتب / طاهر عبد الحكيم.

-  مجلة كلية التربية جامعة بني سويف عدد يناير 2017 م.

-  من موضوع" مشكلات الشباب وأزمة الهوية " والذي نشر بمجلة كلية الخدمة

الاجتماعية لدراسات والبحوث الاجتماعية ــ جامعة الفيوم. أعداد ا. د/ فوزي

محمد الهادي شحاته.

-  شبكة المعلومات الدولية "الانترنت".

 

يُحكَى أنَّ أحد الناس سأل (جُحا):

ـ كم عدد شَعر رأسك؟

ـ 56419 شَعرة!

ـ كيف عرفت؟!

ـ إنْ لم تصدِّقني، تفضَّل عُدَّها بنفسك!

 وكذا هي الأفكار الغيبيَّة التي يُحتجُّ عليها بالجهل. ولا جديد تحت الشمس، إلَّا عقولٌ نَخِرة، يعيث فيها خَرَف الإنسان البدائي، وهَوَسُه باستحضار ما لا يُستحضَر.  وإذا لم ينله بكفَّيه، استعطاه بخياله الطُّفولي. 

هكذا بَدَهَنا ذو القروح في مجلسنا لهذا اليوم.  فقلت:

ـ أمَّا نحن، فنعلم يقينًا: كم عدد شعرات رأسك، يا (ذا القُروح)؛ فتفاعلك الحماسي لم يُبق منها شيء!  المهم: ما الغريب في الخيال الغَّيبي الطُّفولي، وقد بلغ ذلك، كما أخربتنا في مساق سابق، إلى تأليه الإنسان؟

ـ أما وقد ألَّهت الأُمم الحجر والشجر والبقر،  فمن باب أرقى أن تؤلِّه البَشر. مع أن (المسيح، عليه السلام) ظلَّ ينعت نفسه في الأناجيل كلِّها- لا في "القرآن" وحده- بأنَّه: "ابن الإنسان"! 

ـ ما الحكاية، إذن، في تصوُّرك؟

ـ لقد أراد اليهود إبطال ما نُسِب إلى المسيح من معجزات بتعذيبه وصلبه أمام الجميع، قائلين: إنْ كنتَ كما تدَّعي، فخلِّص نفسك، يا فالح!  في مقابل ذلك، اشتغل العقل الآخَر ليردَّ هذه الإهانة، فما وجد إلَّا أن قال: لا.. لا، أنتم واهمون، لم تفعلوا شيئًا، خسئتم وخبتم، إنَّما أنتم قد حقَّقتم إرادته أصلًا، وما سعَى من أجله! هو إنَّما مات فداءً من الخطيئة البَشريَّة!

ـ لكن أين خطيئة التُّفَّاحة الآدميَّة من خطيئة التُّفَّاحات الذَّرِّيَّة، التي اقترفها آدم (الولايات المتَّحدة الأميركيَّة)(1)، إلى جانب تُفَّاحات أصغر اقترفها في أقطار العالَم كافَّة؟! 

ـ صدقت.. أين خطيئة التُّفَّاحة الفردوسيَّة من خطايا الحروب الأرضيَّة، بما فيها الحروب الصليبيَّة، والإسلامويَّة، والبوذيَّة، والشيوعيَّة(2)، والصهيونيَّة... وبالجملة الحروب الدِّينيَّة وغير الدِّينيَّة؟!  وأفظع الخطايا خطايا الحروب بعد اختراع الأسلحة الناريَّة الجبانة، من الرصاصة إلى القنبلة الذَّرِّيَّة، وما بينهما من أسلحة دمارٍ شامل، بدرجات الشمول المتعدِّدة، التي تُهلِك الحرث والنسل في هذا العالم الظالم أهله؟ 

ـ كم مسيح يَلزم العالم للتكفير عن خطاياه المستمرَّة والمتفاقمة والمتعاظمة، بلا انتهاء؟! 

ـ والخطايا بعد المسيح أفظع بما لا يقاس، وهي مِن مُدَّعي المسيحيَّة أنفسهم، وباسمها!

«فإنَّ هذه الأرمدة التي كُنَّ رِجالًا سَتُبْعَثُ من جديد

لتكون لنا نارًا يوم الدَّينونة،

ولكن مَن حَلُمَ بأنَّ المسيحَ ماتَ عبثًا؟

إنَّه يمشي من جديدٍ على بحار الدَّم، وإنَّه ليأتي في المطر الرهيب.»(3)

ـ وأخرجوا ألسنتهم لشانئيهم، صائحين: لقد قام في اليوم الثالث من الأموات ورأيناه وأكلنا معه!  موتوا بغيضكم؛ فهو ليس بَشَرًا للتتحدَّوه، بل هو إله، وابن إله، وإنْ لم يدافع حتى عن نفسه، فلحكمةٍ يعلمها ولها خبيء، معناه الفداء والتكفير! 

ـ هكذا تطوَّر "السيناريو" في هذا المسلسل؟ 

ـ هكذا.. هكذا... إنها مكايدات سياسيَّة وأيديولوجيَّة، في الأصل، خلقت دِينًا.  وكثيرًا ما تخلق الصراعات التاريخيَّة أديانًا جديدة، تمثِّل ردَّات فعلٍ لتلك الصراعات. 

ـ أمَّا الإسلام، فأقرَّ ببَشريَّة المسيح، وبموته ووفاته، لكنَّه نفى عمليَّة الصَّلب نفسها، بمعناها اليهوديِّ والمسيحي، وإنَّما شُبِّه إليهم، ورفعه الله إليه؛ ذلك أنَّ القتلى في سبيل الله أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون، وإنْ شُبِّه إلى الناس أنهم أموات.  ليضع بهذا أقوال الفريقَين معًا، اليهود والنصارى، في سلَّةٍ واحدة، ويرميها في عُرض البحر الميِّت!  وحادثة الصَّلب، إنْ صحَّت، ليست بأشدَّ من النار التي أُلقِي فيها (إبراهيم الخليل)، فكانت بَرْدًا وسلامًا. 

ـ جريمة قتل، بل تعذيب ثمَّ صَلْب بشع، لمحو الخطايا! 

ـ لكي تُمحَى الخطايا: لا بد من ارتكاب أبشع الخطايا على الإطلاق! 

ـ خطيئة تُفَّاحةٍ واحدةٍ بخطيئة صَلْبٍ بشعةٍ لآدمي؟!  أيُّ منطقٍ هنا؟ وأيُّ دِينٍ؟ وأيُّ إله؟! 

ـ الزم غرزك، يا ذا القروح!

هنا دخل علينا (أحمد بن الحُسين) من الشُّبَّاك، وهو يُنشِد:

وَيَستَنصِرونَ الَّذي يَعبُدونَ  :::  وعِندَهُمُ أَنـَّـهُ قَد صُلِبْ

لِـيَـدفَـعَ ما نـالَـهُ عَـنـهُـمُ  :::  فَيا لَلرِّجالِ لهذا العَجَبْ!

ـ عندهم أَنَّهُ قد كان ضحيَّةً لمحو الخطايا عن البَشر، يا (أبا الطيِّب).  دعك في مدح (سيف الدَّولة) و(كافور الإخشيدي)!  ليس ينقصنا المتنبئون هاهنا، يا أبا حُمَيد!  

ـ إنَّ تصوُّر إلهٍ على هذا النحو، وتصويره هكذا، هو أكبر من كلِّ الخطايا، وأفظع من كلِّ الإساءات إلى الرحمن! 

ـ الزم غرزك، يا ذا القروح!

ـ أ فيظن عاقلٌ أنَّ مِثل هذا التصوُّر يليق بإلهٍ إغريقيٍّ، أو براهميٍّ، أو فرعونيٍّ، ليليق بربِّ العالمين؟! الذي "إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا، فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ: كُن فَيَكُونُ!"  أم تراه كان في حاجةٍ إلى أبناء، وإلى ضحايا، ليتخطَّى مُعضلة الخطيئة الأزليَّة، فيسدِّد لنفسه بنفسه فاتورة ما ارتكبه الإنسان من أكل التُّفَّاح القديم؟!  وكيف لا يجد من أريحيَّة كرمٍ ولا عفوٍ، إلَّا بسفك دم ابنه البريء، كفَّارة؟!

ـ ماذا ترى في سيناريو هذا الفيلم؟

ـ إنَّ هذه العقليَّة التي ركَّبت الفكرة محض عقليَّة وثنيَّة، تجاوزتْها العقليَّة البَشريَّة، حتى في النظرة إلى مُلوك البَشر وطُغاتهم، غير أنَّها كانت خلال تلك العصور البائدة متساوقةً مع منطق العقليَّة الطفوليَّة في تلك الأزمنة؛ فكما كان الحاكم الذي يستحقُّ الاحترام قديمًا هو ذلك الإمبراطور الجبَّار الدَّموي، كانت آلهة الشعوب البدائيَّة كذلك.  والفراعنة، على سبيل النموذج، لم يأتوا من فراغ، ولم يتفرعنوا ويتألَّهوا من تلقاء أنفسهم، بل الشعب هنالك كان عبدًا بطبيعته. كذلك كان الإله الذي يستحقُّ العبادة لدَى تلك الأُمم، هو الإله الناريُّ الأحمر، الذي يشرب الدماء، ولا يرضيه إلَّا سفكها، ولا يشفع عنده إلَّا القتل والصَّلب والحرق والضحايا البَشريَّة.  فإذا أفرط من كأس رحمته، ضحَّى بابنه الوحيد، ليحلَّ هذا الإشكال العويص!  لا حول ولا حلول هنالك أكثر ذكاءً وحكمةً ورحمة!  لكن ما العجيب؟  ذلك تراثٌ وثنيٌّ، كان يعتقد في فكرة التضحية للآلهة بسفك الدِّماء البَشريَّة كي ترضى.  وهي فكرةٌ عتيقة، معروفة في منطقة ما يُسمَّى (الشرق الأوسط) بخاصَّة.(4)  ذلك أن التضحية بالأبناء والبنات للمعبود عادةٌ قديمةٌ معروفة.  ولمَّا ترقَّى العقل البَشري، والسَّويَّة الأخلاقيَّة، شُويئتين، تطوَّرت الأضحية من أولاد البَشر إلى أولاد الحيوان المستأنس.

ـ الزم غرزك، يا ذا القروح!

ـ بل الزم عقلك أنت، يا هذا!  فمنبع العقل والدِّين واحد، ولا يتعارضان، ولكنَّ الناس بربِّهم وعقلهم يكفرون!

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

 ........................

(1)  عن الجرائم الأميركيَّة، في حرب (فيتنام) نموذجًا، ومواقف (نعوم تشومسكي)، يُنظَر مثلًا:

Noam Chomsky’s “Responsibility of Intellectuals” after 50 years: It’s an even heavier responsibility now:

https://goo.gl/1k581C

(2)  حول الشيوعيَّة- في السِّباخ العَرَبيَّة- وأخلاقها وممارساتها، يكفي الاطِّلاع على نماذج من اعترافات الشاعر (بدر شاكر السيَّاب)، في كتابه "كنتُ شيوعيًّا"، (منشورات الجَمَل، 2007). 

(3)  ستويل، إديث، (2013)، ثلاث قصائد عن العصر الذَّرِّي، ترجمها: أبو غيلان بدر شاكر السيَّاب، (ضمن كتاب "من نصوص السيَّاب الأدبيَّة المترجمة")، (بغداد: وزارة الثقافة)، 104.

(4)  يُنظَر كتابي: (2014)، مفاتيح القصيدة الجاهليَّة: نحو رؤية نقديَّـة جديدة عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث)، 46.

الحرب سلوك بشري أزلي تتوارثه الأجيال عقب الأجيال، ولابد من معطيات تعزز تكراره والإستثمار فيه وربما يمكن الإقتراب من أسباب الحروب كما يلي:

العدوانية

البشر يختزن عدوانية هائلة متحفزة للإنطلاق المستعر، والتعبير عما فيها من طاقات تدميرية ذات تداعيات وخيمة، ويبدو أن التفاعلات البشرية تتسبب بتراكمات عدائية، تتعتق في أعماق الأجيال، وتتسبب بإنفجارات كبيرة تأتي في مقدمتها الحروب، وهي تشبه غضب الأرض وإنبثاق براكينها وأعاصيرها الفتاكة.

الإستحواذية

البشر لديه نزعة للإستحواذ على ما يمدّه بالقوة، والقدرة على التمكن من محيطه وتأمين سلطانه الذاتي، وعندما تتفاعل العديد من الطاقات المطمورة المعبّأة بنوازع الإستحواذ، فأنها تتآلف وتتعاضد لتكوّن حالة تسوّغ ما ستذهب إليه وتدّعيه من الرغبات، والتطلعات الخالية من الأدلة الواضحة، لكنها تآصرت في العمق الجمعي وعبَّرت عن إرادتها.

الغابية

العلاقات الدولية تتميز بأنها غابية الطباع والتفاعلات، ولا توجد علاقة دولية تشذ عن قوانين الغاب الفاعلة بين المخلوقات منذ الأزل، وإدعاءات القيم والأخلاق خداعات لتمرير الآليات اللازمة للنيل من الآخر، فالتوجهات الحقيقية إفتراسية بحتة، وأينما توفرت الفرصة فالأنياب ستكشر والمخالب ستنشب، والضعيف دوما مُستلب ومُنتهب.

الإنتحارية

الإنتحار نزعة كامنة في المخلوقات، وواضحة في السلوك البشري حيث ينتحر كل عام ما يقرب من المليون شخص، وهذه النزعة قد تتطور لتكون ذات تأثيرات جماعية، وطاقات تدميرية تعصف في المكان وما فيه من الناس، والعجيب في الأمر أن البشرية تمر بفترات تتجسم فيها السلوكيات الإنتحارية وتنطلق بتعبيرات جماعية مرعبة.

الإندفاعية

طاقة الإندفاع تأخذ إلى متاهات بعيدة تقتضي السقوط في مطبات ومهاوي ذات قدرات إفنائية عالية، لأن البشر وهو مندفع تتعطل قدراته العقلية، ويفقد مهارة التفكير والتقدير الصحيح للمواقف والتحديات، فتراه كالنيران المتأججة التي تسعى للإحراق، ولا يعنيها ما ستخلفه من رماد وخراب وهشيم لا يصلح للحياة.

الأنانية الكرسوية

عندما تُبتلى المجتمعات بأنانيات متضخمة تتولى أمرها، فأن إندفاعها نحو الحروب سيكون متوقدا، لرغبتها في صناعة الأحداث الجسام التي تخلدها، وتنحتها على جدران التأريخ فلا تنساها الأجيال، وقد تكون حروبها عبثية لكنها مريرة وفظيعة تحقق نوازعها الدفينة.

حب سفك الدماء

سفك الدماء غريزة فاعلة فينا، ومعروفة في الخلق الذي كان يسعى فوق التراب منذ ملايين السنين، وما شذ جيل عن هذه العاهة السلوكية التي تمنح الفاعل شعورا بأنه يمتلك ناصية الحياة ويتحكم بمصائر الموجودات فوقها، وهي تكمن وراء التسلط المستبد والجور العارم الذي عانت وتعاني منه البشرية.

الغنائم

الحروب في جوهرها نشاطات إقتصادية، وبموجب ذلك مضى البشر يتقاتل ويأخذ ما عند غيره من المواشي والنساء والأطفال، لأن في ذلك زيادة للقوة وتحقيق لغنائم إفتراسية تمنح الغازي شعورا بالقوة، والقدرة على السيطرة والتحكم بمصائر الآخرين الذين إستولى على ما يملكونه، وهكذا هي الحرب رغم تطور الدنيا وتقدم الزمان.

الهيمنة

القوة أيا كان حجمها تميل إلى السيطرة على ما حولها وتسعى لإمتداد فضاء وجودها، وهذا شأن الإمبراطوريات عبر العصور، فما أن تبدأ كقوة ناشئة في مكان محدد صغير حى تتحرك بإتجاهات متعددة فتتمدد، وتمضي في مشوارها الإتساعي حتى تفقد القدرة على فرض سيطرتها على ما وصلت إليه فتنكمش وتنهار، وهذا سلوك دائب ومتكرر، فالقوة لا تقنع بما لديها ودوما تريد المزيد.

الدورانية

الأرض تدور وما عليها يدور، والدوران طاقة ذات تأثيرات تدفع للتغيير والتأثير، والتمكن من التجدد والتخلق والتوالد المتواصل، مما يعني أن بقاء أية حالة على وضعها أمر مستحيل، فالدوران حركة وكل متحرك يتغير، ومن دواعي ذلك أن تختلط العناصر والمفردات وتتفاعل بآليات جديدة لتأتي بما يختلف، وذلك يدفع للتصارع والتفاعلات الحامية التي تمحق وتطلق ما فيها من التطلعات.

الموارد

الصراعات القائمة فوق التراب أساسها الإستحواذ على الموارد أيا كانت، فلكي تبقى وتتقوى عليك بالإستيلاء على مصادر الطاقة التي تتبدل مع العصور، فلكل فترة زمنية مصادر طاقة معينة تحركها وتزيدها إقتدارا على التفاعل المتحدي، والقاضي بالإستثمار فيما يتوفر من موارد متنوعة للوصول إلى فرض السيطرة وتقرير مصير الآخرين، وقد بدأت هذه الصراعات بدائية وإنتهت معقدة كما يجري في واقعنا المعاصر.

القوة

من أخطر الدوافع للحروب الشعور بالقوة والتوهم بأنها مطلقة ولا تقدر عليها قوة أخرى، مما يدفع للغرور والتمادي بالإندفاع نحو التوحش والإفتراس المتكالب، مما يتسبب بتحفيز الطاقات الكامنة في الخوامل فيدفعها للتفاعل وتأسيس محور قوة يتنامى ويتحدى، وتحصل المواجهة ما بين المتوهم بالقوة المطلقة والقوة الناهضة أو المنبثقة من بحر السكون.

اليأسية

اليأس من الدوافع الشرسة التي تجعل اليائس يتصرف بآليات غير مسبوقة، وبقدرات إنفجارية ذات تأثيرات تدميرية فائقة، وكلما تنامى اليأس إندفعت البشرية نحو ما يعبر عنه من التفاعلات، ويأتي في مقدمتها الحروب، وفي زمن التواصلات السريعة، وإطلاع المجتمعات على بعضها، بدأت التعبيرات اليائسة البائسة تنتشر وتتحدى فاليائس لا يملك ما يفقده.

الإغرائية \ الدول الضعيفة

القوى تنبعج، والإنبعاجات تكون في المناطق الرخوة ، والدول الضعيفة هي المنحدرات التي تندفع نحوها القوى أيا كان حجمها، فالدول الضعيفة من أهم أسباب الحروب لأنها تتحول إلى فرائس تتكالب عليها القوى بأنواعها، وبما أن منطقتنا ضعيفة الدول فتجد الحروب تشتد فيها، وقس على ذلك الكثير من الصراعات الداخلية والخارجية.

التشامخية

التزاهي والتشامخ والشعور بالتباهي والتعالي من المشاعر الغريبة التي تهيمن على البشر وتسوقه إلى مراداتها التفاعلية فوق التراب، وينجم عن ذلك تناطحات أو تقاتلات، كما يحصل بين الأكباش أو الديكة، وتمضي مسيرة المخلوقات تحت لهيب سياط الدفع نحو الأعلى وهي تزداد إنجذابا للتراب.

توفر الأسباب والدوافع

في أحيان كثيرة تتوفر أسباب متعددة للدفع نحو الحروب، وفي جوهرها إرضاءات لحاجات نفسية كامنة في الأعماق البشرية واعية أم غير واعية، والساعي للحرب يبحث عما يسوغها ويساهم في تعزيز زخمها وديمومة التحرك بإتجاهها، ويبدو أن النفوس البشرية الجمعية تبلغ مراحل تتكاثف فيها العدوانية وتنطلق عقاربها لتلسع التراب!!

إمتلاك الأسلحة

من أخطر مسببات الحروب إمتلاك أدوات القوة بأنواعها، وخصوصا الأسلحة التي أصبحت متطورة وذات قدرات تدميرية فائقة، وبما أن العديد من الدول تمتلك الأسلحة الفتاكة، فأن نزعة إستعمالها تنبض في دنياها، وتدفعها إلى ضرورة التعبير عما لديها، وهذا من طبع البشر الذي ما أن يمتلك قوة إلا وسخرها للتعبير عن سطوته وعنفوانه وما فيه من النوازع التوحشية.

القطبية

الحروب تذكيها التمحورات حول أقطاب، يتم توصيفها بآليات تسوغ الإمحاق المتبادل بينها، ولكي تدخل الدنيا في حرب مروعة عليها أن تتجمع في متاريس عدوانية صاخبة، وذلك واضح في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما يحصل في عالمنا المعاصر يشير إلى إنشاء محاور ذات عدوانية فائقة.

نزعة الإستعباد

البشر فيه طاقة دافعة لإستعباد غيره، ولا بد له أن يجد ما يبرر سلوكه، ومنذ الأزل إتخذ من لون البشرة سببا للإستعباد، وإنطلق مفهوم العبيد، الذي تطور وأصبح يشمل الدول والمجتمعات، فهناك دول مستعبَدة من قبل دول أخرى، كما أن آليات الإستعباد قد تطورت وأصبحت تجني أرباحا كبيرة وبإرادة المستعبَدين، أي أن المستعبَد صار يستلطف الإستعباد.

حب القتل

القتل غريزة كامنة في البشر، وهي أول سلوك كما تحدثنا الروايات والأساطير، فالقتل سلوك متعارف عليه، ويتنامى مع زيادة عدد البشر وتوفر أدوات القتل، وفي عصرنا هناك ما لا يحصى من مسوغات القتل وأسلحته التي جعلته سهلا وسريعا، ولا يكلف جهدا سوى الضغط على زناد.

الإنبعاج

القوة كالماء الجاري ينبعج في المنحدرات والمنكسرات، وعندما تكون دولة قوية وجارتها ضعيفة أو صغيرة فأنها تنبعج نحوها وتستحوذ على وجودها، وهي معادلة تخضع لقاعدة الأواني المستطرقة، فلا بد من الدول أن تتعادل بقوتها لكي تأمن إنبعاج القوى الأخرى نحوها.

النزعة الدينية

الحروب لأسباب دينية أو عقائدية من أكثر الحروب بين البشر، وبسببها تم قتل الملايين تلو الملايين بإسم الدين، لأن الفاعل يتحرر من المسؤولية ويكون صاحب قدرة على الإمعان بخطاياه وهو مرتاح الضمير، لأنه ينفذ أمر ما يعبده من الأرباب والآلهة، وهذه ظاهرة دفعت بشعوب الأرض إلى التصارع الدامي المرير عبر العصور.

الإنتصار على الموت بالموت

الموت شبح يطارد البشر فهو مخلوق عاقل ويعرف بأنه سيموت، وهذا الشعور متمترس في وعيه ولا وعيه، ومتوارث وقائم في أعماق نويّات خلاياه كافة، وكثيرا ما يتوهم بأنه بالقتل سينتصر على الموت الذي سيداهمه لا محالة، لكن القتل وسفك الدماء تبعثان شعورا بالتفوق على الموت بالموت.

الفكروية\ الأفكار العقائدية

الحروب عبر مسيرتها الدامية لها منشأ عقائدي ديني ودنيوي، ومعظم الأديان أو جميعها أذكت الحروب ومنحت البشر الطاقة اللازمة للقتل المروع لتجريده من المسؤولية وتأنيب الضمير بإلقاء المسؤولية على رب العقيدة التي يتبع، وعلى مَن يقوده ويلقي به في أتون الحروب، فالذي يقاتل يكون مُسيرا ولا خيار لديه.

النزوع للعدمية

ويتلخص بإنتفاء قيمة الحياة، أو تجريد الهدف من حق الحياة، فلكي تقتل عليك أن تكون من أنصار الحياة لا من أعدائها، فكيف تبرر قتل حي إن لم يكن من الذين يناهضون الحياة، فعليك أن تخترع التوصيفات المبررة للإقدام على قتله، وهذا ما يحصل في الحروب وتديره وسائل الإعلام الموجهة أو المسماة إعلام الحرب.

التصارعية

ما نغفله أن قوانين الغاب سارية المفعول في العلاقات الدولية، فالقوي لا يتردد بأكل الضعيف، وسلوك الإفتراس يتكرر في ميادين الدنيا الدامية، المحفوفة بزئير القوى الطامعة بما يزيدها قوة ويمدها بطاقات إقتدار وتواصل أكبر، فتكون الدول الضعبفة أهدافها السهلة فتقتحمها وتستأصلها، وتمتص رحيق حياتها.

التفاعلية

التفاعل بأنواعها بين المجاميع البشرية أيا كانت طبيعتها وحجمها ينجم عنه بالدوام معطيات ذات تأثيرات سلبية على الطرفين، وتحصل تأزمات وإمتهانات وتتقاطع مصالح وتنهض مطامع وتوجهات، مما يدفع إلى تقاتلات مريرة وقد مضت أوربا على هذه السكة التفاعلية لقرون.

الخداعية والإيقاعية

الكثير من الدول تتثعلب، وتسعى للإيقاع بغيرها وإفتراسها بوحشية قاسية، فلا تعنيها غير مصالحها وما يُعينها على مزيد من الفتك، فإن توددت وأذعنت، فلغاية دفية وحياة كمينة، تكشف عنها حينما تكون الفرصة مواتية والصولة قاضية.

إرادة الأرض الدوارة

الأرض أبدية الدوران ولا يمكنها أن تخور لأن في ذلك الفناء الأكيد، ولكي تدور بدقة توازنية وتجاذبية متناهية،  تحتاج لطاقة تكفل لها البقاء في المجموعة الشمسية، ويبدو أنها ذات قوانين وتطلعات ثابتة تقضي بالحروب والقتال وسفك الدماء، فأشهى طعامها الأبدان، وأعذب شرابها الدماء.

البُلهاء في الكراسي

الحروب تتناسب طرديا مع وجود البلهاء في كراسي السلطة الحكم، وكلما زاد عددهم تنامت الحروب وإشتعلت الأرض ومات الملايين من البشر، وفي زماننا الشديد تصادف أن تواجد في الكراسي العديد من أصحاب النوازع العدوانية، والدوافع الأنانية، مما يعني أن إشتعال الحروب سيدوم ويتعاظم.

طبائع القرون ونفس البشر

هناك علاقة خفية بين سلوك القرون ونفوس البشر، ومن الواضح ان الربع الأول من كل قرن يكون محفوفا بالمخاطر الجسام، ومزدحما بالويلات والأوبئة والخطوب، وتتكرر ظاهرة الإفناء وإستحضار المعدات والآلات المبتكرة للإمحاق، وكأن الأرض تريد أن تفني المزيد لتزيد، كالناعور الذي يمتلئ ليسكب ما فيه.

نوازع مطمورة

الرغبة في الفناء الذاتي والموضوعي قوة متنامية في الأعماق البشرية، وبين فترة وأخرى تتأجج في جمع من الأجيال وتتفاعل، فتجتاح وجودهم وتطغى على وعيهم وتتسيد على سلوكهم، فيندفعون نحو ما يبرهن إرادتهم التدميرية فيثبون إلى ميادين حروب فتاكة، وهذا ما حصل في عدد من مجتمعات أوربا في القرن العشرين وما آلت إليه تفاعلاتها المروعة.

التحالفية

الأسود في الغابة تتشارك في مهاجمة الفريسة ومن النادر أن تجد أسدا يطارد فريسة لوحده، لأنه أعجز عن الفتك بها بمفرده، ومثلها تجد الحروب تؤججها التحالفات ما بين الدول، ولو نظرنا العديد من الحروب التي حصلت في القرن العشرين لتبين دور التحالف في دفعها وتأجيجها، لأنه يوحي بالنصر الحاسم، وفي الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، يبدو أن هذا السلوك ربما تبدد أو تغير، لتطور أسلحة المواجهة والفناء.

العظمة المتفاقمة

القوة عندما تتجاوز قدرات ما حولها وتبسط أجنحتها على غيرها، تصاب بأوهام العظمة والقدرات المطلقة على السيطرة والتدمير، وتعيش في أوهامها وتطارد سرابات تصوراتها، والقوى التي تتأسد عليها تتنامى وهي في غفلة عنها، لإنغماسها بذاتها الوهمية، وبغتة تجد نفسها وقد إرتطمت بصخرة الواقع الجديد وسقطت في أتون مواجهات عارمة.

الهيمنة المتعاقبة

الأرض فيها قوة تهيمن، ولا توجد قوى مهيمنة، ولكي تفرض أية قوة هيمنتها على القوى الموجودة حولها، لابد لها من التأسد والتفاعل بالنار لردعها وإخضاعها، فالدول لكي تخضع يجب أن تسقط في مصيدة الخسران، لتفرض عليها الشروط اللازمة لأسرها وتقرير مصيرها، فتكون الحروب ضرورية لإنجاز هدف الهيمنة.

المقامية \ التشبث بالمقام

بعض المجتمعات ذات تصورات ضيقة وتحسب أنها فوق البشر، وعليها أن تخضعهم لسطوتها مهما كان الثمن، وتربط ذلك بمعتقدات وأجندات قاسية، فترى أن لا يحق لوجود بشر غيرها فوق التراب، وأنها صاحبة الحق في إدارة شؤون الدنيا، وهي نزعات وهمية تجتاح المجتمعات بين آونة وأخرى، وصارت ذات تأثيرات مسعورة بتطور أدوات القتال.

الدفاع عن البقاء ضد التهاوي

بعض القوى تجد نفسها على شفا حفرة السقوط والإنحسار والإنكسار، فتسعى كالغريق الذي يريد التشبث بقشة، فتندفع نحو الحروب ظنا منها بأنها آخر الكي، وتتضح في سلوكيات قادتها أيضا، عندما يريدون التشبث بمناصبهم وتأكيد أنانياتهم الفاقعة العمياء.

التعاند والمعاندة

التعاند سلوك تناطحي لا يختلف عن تناطح الأكباش، وهذه النزعة التناطحية عندما تتفعل في دنيا البشر فأنها تعطل العقل وتؤجج العواطف والإنفعالات المتصلة بها، وتدفع إلى منازلات دامية، يكون فيها الخسران لجميع الأطراف، لكن الرغبة الجياشة تهيمن على السلوك وتقيده بمآلاتها المتراكمة المتفاقمة.

وفي الختام، فما تقدم إقتراب مكثف مختصر لمسيرة الدماء والدموع البشرية، وكأن المخلوقات تطحنها رحى الدوران، وتأمرها بالتآكل والإندثار، فما فوق التراب من التراب وإليه يعود!!

***

د. صادق السامرائي

20\6\2022

لحظة اعلن حكم المباراة فوز العراق على اليابان.. غمر الفرح العراقيين وغصت الشوارع بهم.. بغداد، الموصل، البصرة، اربيل، كربلاء، كركوك.. .. وهم يهزجون (بالروح بالدم نفديك يا عراق). ما كنت تعرف هذا شيعي وذاك سني وهذا عربي وذاك كردي وذاك تركماني.. فالكل وحدّهم حبهم للعراق.

تذكروا ما جرى بين (2006 و2008) يوم وصل الحال الى ان يقتل العراقي اخاه العراقي لسبب في منتهى السخافة، ما اذا كان اسمه حيدر او عمر او رزكار!، وثبت بالدليل القاطع ان قادة احزاب السلطة هم في حقيقتهم.. (بدو بزي افندية).

كان فوز العراق على اليابان التي لم تهزم في (25) مباراة دولية، عرسا شعبيا. ولأنني سيكولوجست (ومشكلة السيكولوجيين انهم يبحوشون بالمخفي!) فأنني رحت (ابحوش) عن اسباب هوس العراقيين بكرة القدم.. وما اذا كان هذا العرس الملاييني حالة طبيعية أم انهم (جوعانين فرح) .

ورحت ابحث في هذا الذي اسميناه (هوس)، فوجدت ان العراقيين مصابون به (عالميا)، واليكم اكثر من شاهد:

في العام (2016)، وفي مباريات كأس العالم التي فازت بها المانيا على البرازيل بهزيمة مذلّة.. حتى انني لحظتها تمنيت على المدرب الألماني ان يأمر فريقه بالتوقف عن التهديف بعد الهدف الخامس من باب (أرحموا عزيز قوم ذلّ). وباستثناء أهل الموصل، لأن داعش تحرّم مشاهدتها وتعتبرها كفرا، فان العراقيين انقسموا بين مشجع لألمانيا ومشجع للبرازيل مع انه ليس في احدهم قطرة دم المانية او برازيلية!.. وقيل ان ثلاثة حاولوا الانتحار لفاجعة هزيمة البرازيل!

ولدى مشاهدة مباراة برشلونه والريال على كأس اوروبا، قام بائع لبن بتوزيع اللبن مجانا بفوز (فريقه) الريال برغم انه من مدينة (البياع!). وطاف شوارع مدينة بغداد موكب دراجات هوائية لمناسبة فوز فريقهم برشلونه!.ووعد مدرّس رياضيات باقامة دورة مجانية للطلبة اذا فاز الريال، وانطلقت العيارات النارية بسماء بغداد لحظة احرز الريال هدفا، فيما صدحت الهلاهل بمكان آخر حين ردّ برشلونه بهدف.

قد تقولون ان ما يحصل لدى العراقيين لا يختلف عما يحصل لدى الأوربيين، وهذا صحيح لأن العوامل السيكولوجية لدى جمهور كرة القدم المتمثلة بدافع العدوان والتماهي بالغالب والتشفي بالمغلوب.. هي واحدة، لكنها عند الآخرين لها ولغيرها.. حال آخر كما سنرى.

تحليل سيكولوجي

تنفرد كرة القدم بسيكولوجيا خاصة تعزف على اوتار الطبيعة البشرية وما ورثته من تاريخها الذي يعود لمرحلة الصيد قبل ملايين السنين.. لما بينهما من شبه كبير.فالصياد يجري وراء الطريدة، ينفعل، ويصوّب، ويسدد.. وان صادها جرى له احتفال واستقبل استقبال المنتصر.والآلية السيكولوجية ذاتها تعمل في لاعب كرة القدم والجمهور، مع ان اللعبة تبدو لآخرين سخيفة.. اذ كل ما فيها ان (22) شخصا يتقاذفون كرة بأرجلهم ورؤوسهم.. بطريقة تحرّك جهازنا الانفعالي و تثير ولعا وشغفا وهوسا.. بل عنفا وعدوانا يؤدي الى القتل احيانا بين المشجعين.

وما بين ساحة الحرب وساحة اللعب.. حالة سيكولوجية واحدة، حيث في الاولى جيشان يتقاتلان ويمارسان الخدعة من اجل فوز احدهما وهزيمة الآخر.. وفي الثانية فريقان يعتمدان الخدعة ايضا و(يتقاتلان) بطريقة حضارية اخضعت الصراع لقوانين تضبطه.. تحيط بهما جماهير ترفع اعلام دولها! أو فرقها. ومع ان كرة القدم سجّلت فضلا على البشرية بأن نقلت الصراعات بين الدول من ساحات الحروب الى ساحات كرة القدم، الا انها كانت احيانا سببا في تأجيجها.

وتجسد كرة القدم ثلاث حاجات متأصلة في الطبيعة البشرية هي: حاجة الانسان الى (التغلّب) وقهر الخصم، ونزعته الى الصراع مع الآخرين، وحاجته الى التماهي بـ(المنتصر).. اي الشعور بالزهو وتوكيد الذات.

وهنالك سبب فسلجي ايضا، هو ان الحياة مملة وان الدماغ يحتاج الى تنشيط، وان كرة القدم بما فيها من ترّقب وتوتر وصراخ، تزيح عن الدماغ انشغالاته اليومية بالهموم وتنعشه بما تحدثه فيه من انفعالات وايعازات بافراز هرمونات منشطة.

ان الحالة النفسية الصحية هي الاستمتاع بمشاهدة اللعبة والاعجاب بمهارة وذكاء هذا اللاعب او ذاك، فاذا ما تعدتها من الاعجاب الى التماهي فانها تعني شيئا آخر في الصحة النفسية والحالة العقلية.

قد نذهب بعيدا في هذا التحليل اذا قلنا ان المشاهد الذي (يتماهى، يتوحد) بشخصية لاعب مميز (ميسي مثلا مع انه ما كان افضل من روبن).. وانه يفرح لفرحه، ويغضب اذا اصابه اذى او خسر فريقه.. وينفعل ويسحب انفاسا متلاحقة من النرجيله، وكؤوسا بيضاء او حمراء، ويقضي ليلته كدرا، ويتعارك مع زوجته ويضرب اطفاله.. يمكن ان يكون تصرفه هذا مؤشرا عن احباط او شيء ينقصه بغض النظر عن نوعه ما اذا كان نفسيا، عاطفيا، اجتماعيا، او عضويا.

وكحقيقة سيكولوجية فان التماهي يكون في علاقة طردية مع ما يتعرض له الفرد من اخفاق وشعوره بالعجز من اصلاح الحال، ولا اظن شعبا في العالم المعاصر تعرض الى ما تعرض له العراقيون من فجائع وخيبات.ولهذا فان التماهي عند العراقيين في كرة القدم العالمية حالة عصابية (مرضية) ناجمة عن قساوة وديمومة هزائمهم النفسية في الحياة العامة، وانهم يجدون في التوحّد بفريق فائز ما ينفس عنها، وما يجعل من الفريق الرياضي الآخر بديلا لاشعوريا عن خصمهم السياسي فيسقطون عليه انتقامهم المكبوت. ففي العام (2010) كان العراقيون يتابعون مباريات كأس العالم بمزاج خاص.. وكنّا كتبنا في حينه، انهم صحيح يشاركون ملايين العالم في شغفهم بكرة القدم لكنهم الوحيدون الذين يقبلون عليها وهم كدرون.. (لتوالي الخيبات على العراقيين وتكرر الاحباطات التي تولّد لدى الجماهير المحرومة حاجة البحث عما يشفي غليلهم، وتمني مجيء ” البطل المخلّص”.. فضلا عن ان مشاهدة مباريات كأس العالم تفعل في المضنوك ما يفعله المخدّر في المحبط الهارب اليه من واقع خشن.. فكيف بالمواطن العراقي اذا كان رئيس جمهوريته ورئيس وزرائه يتقاضيان 150 مليون دينار شهريا فيما هو يكدح ” والعشا خبّاز”.. وفي طرق ملغومة بالموت!.وكيف اذا علم ان هناك 36 ملياردير ثروة كل واحد منهم مليار دولار معظمهم كانوا فقراء، وهناك 13 مليون عراقي دون مستوى خط الفقر!.

لقد فاز العراق على اليابان .. وقد يأتي بكأس بطولة آسيا وتكون الفرحة أكبر، لكن العراقيين يبقون مفجوعين بوطنهم من لعبة السياسة التي تجري على ساحة الوطن.. بين فرقاء افتقدوا اخلاق اللعبة وقواعدها.. ولعبوا من اجل كل شيء الا الفوز بـ(كأس الوطن!).

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

بقلم: موتي مزراحي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

(في المنطق، التناقض هو الخطيئة الكبرى، والاتساق هو الفضيلة الأولى".. باتريك شو، المنطق وحدوده (1981)

***

في عام 2018، أعلن الجراح العام الأمريكي أن استخدام السجائر الإلكترونية بين الشباب أصبح وباءً في الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، تم تشجيع الآباء على التحدث مع أطفالهم حول التدخين. إحدى نصائح الجراح العام للآباء هي "أن يكونوا قدوة إيجابية من خلال الامتناع عن التبغ" ولكن ماذا لو كان الوالدان مدخنين أيضًا؟ ماذا لو أجاب الأطفال، عندما طلب منهم آباؤهم الإقلاع عن التدخين، "أنت تدخن التبغ، فلماذا لا أفعل ذلك؟"

هذا الرد هو مثال على الحجج الشخصية. الحجج ضد الشخص هي محاولات لتقويض ما يقوله شخص ما، ليس من خلال الانخراط في ما يقال ولكن من خلال التشكيك في الشخص الذي يقول ذلك. على سبيل المثال، إجابة الطفل تكون موجهة إلى الوالدين، في ظل فشلهما في تقديم القدوة الحسنة، وليس إلى مخاوف الوالدين من التدخين.

وجهة النظر الشائعة في وسائل الإعلام هي أن الهجمات الشخصية هي حجج سيئة. وفقًا لموقع Urban Dictionary الإلكتروني: "يتم استخدام الأشخاص غير الناضجين و/أو غير الأذكياء للإعلان عن أنفسهم لأنهم غير قادرين على مواجهة خصمهم باستخدام المنطق والذكاء." لكن أليس هذا التعريف في حد ذاته هجومًا شخصيًا على أولئك الذين يقدمون حججًا شخصية؟ وخلافًا لوجهة النظر الشائعة، أعتقد أنه لدينا أحيانًا أسباب وجيهة للتجادل ضد هذا الشخص. بمعنى آخر، يمكن أن تكون الحجج الشخصية حججًا جيدة، خاصة عندما يتم تفسيرها على أنها دحض لمناشدات السلطة.

كثيرًا ما نسعى للحصول على مشورة الشخصيات ذات السلطة، مثل الأطباء والزعماء الدينيين والزعماء السياسيين. إن طلب مشورة ذوى السلطات واتباعها هو مسألة تفكير عملي، وهو التفكير فيما إذا كانت الإجراءات حكيمة أم غير حكيمة. بمجرد أن نتلقى النصائح من السلطات، يبدو أن رفض اتباع هذه النصائح سيكون أمرًا غير حكيم. إذا قام طبيبي الخاص بتشخيص حالتي ووصف لي الدواء، فسيكون من غير الحكمة تجاهل تشخيصه  ورفض تناول الدواء.

والآن، هل هناك ظروف لا يكون من الحكمة فيها رفض الاستماع إلى السلطات واتباع نصائحها؟ نعم: تحدث هذه المواقف عندما تكون السلطة متورطة بعدم الاتساق العملي، أي أنها لا تمارس ما تبشر به. ولنتأمل هنا حالة لي جانج ريم، وهو مرجع ديني في كوريا الجنوبية، الذي أخبر أتباعه أن العالم سينتهي في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1992. واستنادًا إلى تنبؤاته بيوم القيامة، ترك العديد من أتباعه وظائفهم، وباعوا منازلهم وتنازلوا عن ممتلكاتهم لكنيسته؛ لقد تركوا أيضًا عائلاتهم، معتقدين أنهم سيُرفعون إلى الجنة قبل أن يجتاح الوباء الأرض. اتضح بعد ذلك أن لي جانج ريم كان لديه سندات بقيمة 800 ألف دولار، والتي لم يكن من المتوقع أن تستحق الدفع إلا بعد التاريخ الذي بشر فيه بأن العالم سينتهي.

قبل أن يتنازلوا عن مدخراتهم إلى لي جانج ريم، كان من الممكن أن يفكر أتباعه على النحو التالي:

1- باعتباره مرجعًا دينيًا، يقول لي جانج ريم إنه يتعين علينا اتخاذ الاستعدادات، مثل التخلي عن الممتلكات، قبل نهاية العالم في عام 1992.

2- ولكن لي جانج ريم لا يستعد لنهاية الزمان (فلديه ما قيمته 800 ألف دولار من السندات التي من غير المتوقع أن يحين موعد استحقاقها إلا بعد عام 1992).

3- نصيحة لي جانغ ريم فيما يتعلق بنهاية الزمان تتعارض مع أفعاله.

4- لقد تم تقويض مكانة لي جانغ ريم كسلطة دينية، وخاصة في الأمور المتعلقة بنهاية الزمان.

5- لذلك، لن يكون من الحكمة رفض اتباع نصيحة لي جانغ ريم.

وهذه حجة شخصية، لأن الهجوم موجه ضد الشخص وليس نصيحته. ومقدمات هذه الحجة (1-4) تستدل على أن تصرفات السلطة لا تتفق مع نصيحته دليلاً على الاستنتاج (5) بأن عدم اتباع نصيحته ليس من الحكمة. بعد كل شيء، فهو لا يتبع نصيحته الخاصة. ولو كان لأتباع لي جانج ريم أن يجادلوا بهذه الطريقة، لما كانوا قد جادلوا بشكل مشروع فحسب، بل كان يمكنهم أيضا أن ينقذوا أنفسم من الكثير من البؤس.

عندما يتم تقديم شكوى إلى سلطة ما، فمن الطبيعي الرد بالإشارة إلى أن السلطة محل الشكوى تتصرف بطريقة لا تتفق مع توصياتها. ويقدم هذا التناقض العملي سببا وجيها للاعتقاد بأن رفض اتباع نصيحة السلطة لن يكون تصرفا غير حكيم. من المهم أن نلاحظ أن هذا النوع من الحجج الشخصية لا يكون مشروعًا إلا كرد على مناشدات السلطة. إذا أردنا أن نعرف ما إذا كان ينبغي علينا أن نتخلى عن ممتلكاتنا استعدادًا لنهاية الزمان، والسبب الوحيد الذي يدفعنا للقيام بذلك هو نصيحة المرجع الديني لي جانج ريم، فبالنظر إلى التناقض العملي بين نصيحته وأفعاله، في الواقع ليس لدينا سبب وجيه للتخلي عن ممتلكاتنا استعدادًا لآخر الزمان.وبعبارة أخرى، لنفترض أن أحدهم يقول: "يجب أن تستعد لآخر الزمان"، فنسأل: "لماذا؟" الإجابة "لأن لي جانغ ريم يقول ذلك" لن تكون إجابة مقنعة، حيث يمكننا الإشارة إلى أن نصيحته تتعارض مع أفعاله.

من المهم أيضًا أن نلاحظ أن هذا النوع من الحجج الشخصية غير قابل للدحض، أي أنه يمكن هزيمته باعتبارات أخرى، لأنه قد تكون هناك أسباب أخرى وراء ضرورة اتباع نصيحة السلطة على أية حال، حتى لو كانت السلطة متورطة بعدم الاتساق العملي. على سبيل المثال، في عام 2017، كانت الممثلة والمخرجة الإيطالية آسيا أرجنتو من أوائل النساء اللاتي اتهمن المنتج السينمائي الأمريكي هارفي وينشتاين بالاعتداء الجنسي. أصبحت شخصية بارزة في حركة #MeToo ومدافعة عن ضحايا الاعتداء الجنسي، داعية إلى الاستماع إلى الناجين من الاعتداء الجنسي وتصديق قصصهم. وفي وقت لاحق، كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن: "أرجنتو رتبت بهدوء لدفع 380 ألف دولار لمتهمها: جيمي بينيت، الممثل الشاب وموسيقي الروك الذي قال إنها اعتدت عليه جنسيا في غرفة فندق في كاليفورنيا قبل سنوات".

من الواضح أن تصرفات أرجينتو تتعارض مع رسالتها كقائدة في حركة #MeToo، ولهذا السبب سيكون من المشروع تقديم الحجة الشخصية التالية ضدها:

1- وباعتبارها خبيرة في شؤون النجاة من الاعتداء الجنسي، تقول أرجينتو إنه ينبغي علينا الاستماع إلى الناجين وتصديق قصصهم.

2- لكن أرجنتو لا تستمع إلى الناجين (لقد دفعت مقابل إسكات متهمها).

3- نصيحة أرجنتو حول كيفية علاج الناجين تتعارض مع تصرفاتها.

4- لقد تم تقويض مكانة أرجنتو كسلطة في مجال الناجين من الاعتداء الجنسي، وخاصة في الأمور المتعلقة بمعاملة الناجين.

5 -لذلك، لن يكون من الحكمة رفض اتباع نصيحة أرجينتو.

بالطبع، هناك أسباب وجيهة للاستماع إلى الناجين من الاعتداء الجنسي وتصديق قصصهم. لذا ينبغي علينا أن نفكر دائمًا في النصيحة نفسها وما إذا كانت هناك أسباب وجيهة لاتباعها بشكل مستقل عما تقول السلطة إنه ينبغي علينا فعله.ومع ذلك، إذا تم حثنا على اتباع نصيحة الشخصيات ذات السلطة فقط على أساس أنهم سلطات، فإن التصرف بطريقة لا تتفق مع نصائحهم الخاصة من شأنه أن يقوض مكانتهم كسلطات، وبالتالي يعطينا أسبابًا وجيهة للاعتقاد بأن إن رفض اتباع نصيحتهم لن يكون أمرًا غير حكيم.

إذا كنت على حق، فإن الأطفال المتمردين الذين يشككون في نصيحة آبائهم بشأن التدخين بقولهم: "أنت تدخن التبغ، لماذا لا أفعل ذلك؟ وذلك بكونهم هم أنفسهم مدخنين، وبالتالي فشلوا في تقديم مثال إيجابي. لقد قوض الوالدان مكانتهما كسلطتين يجب اتباع نصائحهما.لقد قوض الآباء مكانتهم كسلطات يجب اتباع نصائحهم.  ونظراً لهذا التناقض العملي، لن يكون من الحكمة أن يرفض الأطفال اتباع نصيحة والديهم بالتوقف عن التدخين. بالطبع، هناك أسباب وجيهة أخرى تمنع الأطفال من التدخين. ولكن لأن والديهم يقولون ذلك، فمن المحتمل ألا يكون أحدهم.

***

........................

المؤلف: موتي مزراحي/ Moti Mizrahi: أستاذ مشارك في الفلسفة في كلية الآداب والاتصالات في معهد فلوريدا للتكنولوجيا. وتشمل كتبه الصورة الكونية للعلم: هل حان الوقت للتحول الحاسم؟ (2018)، نسبية النظرية: المواقف والحجج الرئيسية في النقاش حول الواقعية العلمية المعاصرة/مناهضة الواقعية (2020)، ومع وضد العلموية: العلم والمنهجية ومستقبل الفلسفة (2022).

 

بقلم: شايلا لاف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

إذا كان هذا يخيفك، فضع في اعتبارك أن الأشخاص ربما يحبونك أكثر مما تعتقد.

***

في كتاب إليزابيث جيلبرت "السحر الكبير"، شاركت امرأة في السبعينيات من عمرها درسًا في الحياة في فصل "لا أحد يهتم بك". وقالت إنه مع تقدمنا في السن، لا نتوقف عن الاهتمام بما يعتقده الآخرون عنا فحسب، بل "ندرك في نهاية المطاف هذه الحقيقة المحررة - لم يكن أحد يفكر فيك، على أية حال".

"إنهم ليسوا كذلك. لم يكونوا كذلك. كتب جيلبرت: "لم يكونوا كذلك أبدًا". "الناس في الغالب يفكرون في أنفسهم فقط. ليس لدى الناس الوقت الكافي للقلق بشأن ما تفعله، أو مدى جودة قيامك به، لأنهم جميعًا منشغلون بدراماتهم الخاصة.

من المؤكد أن الناس مشغولون بأفكارهم الخاصة، ولكن هل صحيح أننا نمضي في الحياة دون الكشف عن هويتنا، ولا نسكن عقول الآخرين كما يسكنون عقولنا؟ ليس تمامًا، وفقًا لدراسة جديدة نُشرت في نهاية شهر أكتوبر في مجلة علم النفس التجريبي: اتضح أن الناس يفكرون فيك.

من خلال ثماني تجارب شملت أكثر من 2100 شخص، وجد علماء النفس الاجتماعي جوس كوني، وإيريكا بوثبي، وماريانا لي أننا نقلل بانتظام من عدد المرات التي يفكر فيها الآخرون فينا. يفترض الناس أنها أحادية الجانب عند التركيز على التفاعلات والمحادثات الاجتماعية؛ في الواقع، يفكر الآخرون فيهم أيضًا. أطلق الباحثون على هذه الفجوة بين ما يعتقده الآخرون عنا حقًا ومدى قلة افتراضاتهم، اسم "فجوة التفكير".

نقضي حوالي نصف حياتنا في التواصل، غالبًا من خلال المحادثة. بعد أن نتحدث مع أصدقائنا أو عائلتنا أو معالجينا أو الغرباء الذين نلتقي بهم، نفكر في تلك المحادثات لاحقًا. نحن نعيد تشغيل ما قيل، أو نمضغ النصائح، أو نضحك على شيء وجدناه مضحكًا، أو نفكر في أية أفكار انتقادية. تكشف الفجوة الفكرية كيف أن الناس عمومًا لا يدركون أن شركائهم في المحادثة يفعلون نفس الشيء بالضبط.

كان كوني، الأستاذ في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، مهتمًا منذ فترة طويلة بالكيفية التي يمكن بها للمحادثات أن تكشف عن تصورنا لصورتنا، أو كيف نعتقد أن الآخرين يروننا. كيف نفكر في أنفسنا عندما نتحدث مع الآخرين؟ كيف نتذكر هذه المحادثات ونفكر في الآخرين وفي أنفسنا لاحقًا؟ يسلط بحثه وأبحاث آخرين، بما في ذلك هذه الدراسة الأخيرة، الضوء على كيف يمكن أن تكون هذه التصورات الفوقية متحيزة وسبب أهمية ذلك: يمكن لهذه التحيزات أن تقود سلوكياتنا وتؤثر أيضًا على علاقاتنا مع الآخرين.

لا تحدث فجوة التفكير في كل محادثة وعلاقة.هناك بعض الحالات أو العلاقات التي لا يتم فيها تبادل مقدار المساحة العقلية التي يشغلها عقل الشخص. قال كوني: "ربما تفكر والدتك فيك أكثر مما تفكر بها، للأسف".

لكن في المتوسط، وجد الباحثون أن الفجوة الفكرية مستقرة بشكل ملحوظ.غطت التجارب جميع أنواع المحادثات والعلاقات: الطلاب في قاعات الطعام، والغرباء في المختبر، وأزواج الأصدقاء. من الثرثرة الطائشة إلى الحجج، وجدت الدراسة أن الناس ابتعدوا عن المحادثات وهم يفكرون في الشخص الذي يتحدثون إليه، على افتراض أن الشخص الآخر لم يفعل الشيء نفسه.

لماذا لا ندرك أننا في عقول الآخرين؟ وقال كوني إن التفسير الأكثر ترجيحًا هو أن أفكارنا متاحة بشكل أكبر. لتوضيح ما هو واضح، نحن نعرف أفكارنا أفضل من أفكار الآخرين. إنهم يلعبون في حلقة مستمرة، بينما تكون أفكار الآخرين لغزًا محصورًا في وعي شخص آخر.

عندما نتحدث مع الآخرين، نحصل على اتصال مباشر بمونولوجهم الداخلي، بالإضافة إلى أدلة غير لفظية حول ما يفكر فيه الشخص، مثل نبرة الصوت أو لغة الجسد. وبمجرد انتهاء المحادثة مع شخص ما، تنقطع كل هذه الإشارات. وكتب المؤلفون: "هذا تحول نفسي مهم حيث ينتقل الناس من الارتباط الوثيق بأفكار شخص آخر إلى العزلة مع أفكارهم الخاصة". ثم "تتسع الفجوة" بين أفكارك وأفكار الآخرين.

في إحدى التجارب، نظر الباحثون إلى فجوة التفكير مع مرور الوقت. ومع مرور الساعات، اتسعت الفجوة الفكرية أكثر فأكثر؛ افترض الناس أن الآخرين يفكرون بهم بشكل أقل فأقل. يعتقد كوني أن السبب في ذلك هو أنهم ما زالوا يتمتعون بنفس القدرة على الوصول إلى أفكارهم الخاصة، لكنهم أصبحوا غير متأكدين بشأن الآخرين.

قد تؤثر الفروق الفردية على مقدار مساحة التفكير التي يتمتع بها الأشخاص أو ما يشعرون به. يريد كوني القيام بالمزيد من العمل حول كيفية عمل فجوة التفكير لدى الأشخاص الذين يعانون من القلق الاجتماعي، أو لدى الأشخاص الذين لديهم اختلافات في العمر أو العرق أو المهنة.

لكن بشكل عام، تتناغم الفجوة الفكرية مع الأبحاث التي تشير إلى أن الناس أكثر وعيًا بأفكارهم الخاصة. قالت جوليانا شرودر، عالمة السلوك في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، إنه يشار إلى هذه المشكلة باسم "مشكلة العقول الأقل": عندما تبدو أفكارنا أكثر بروزًا، فإننا نوليها المزيد من الاهتمام. والنتيجة هي أن الناس قد ينظرون إلى عقول الآخرين على أنها أضعف من عقولنا.

كتبت شرودر وزملاؤها: «على الرغم من أنه قد يكون من السهل جدًا التفكير في أفكار الآخرين، أو مشاعرهم، أو حالاتهم العقلية الأخرى، إلا أن العقل المنسوب للآخرين قد يكون مفتقرًا بشكل منهجي إلى التعقيد والعمق والكثافة، لأن "عقول الآخرين هي بطبيعتها غير مرئية مقارنة بعقولنا ".

في فصل من كتاب صدر عام 2014، عكست شرودر وزملاؤها كيف يمكن التغلب بسهولة على المسافة الجسدية في الحياة الحديثة من خلال السفر أو التكنولوجيا، ولكن "أعظم رحلة في الحياة الحديثة ليست الانتقال من مكان إلى آخر، بل بالأحرى أن تكون" قادرا على الانتقال من عقل إلى آخر."

وقالوا إن البشر قادرون بشكل ملحوظ على القيام بذلك. لدينا “قدرة غير مسبوقة على التفكير في عقول الآخرين؛ والتفكير في معتقدات ومواقف ونوايا الآخرين؛ أو لتتبع سمعة الآخرين وتذكر من يعرف ماذا داخل المجموعة. ولكن حتى مع كل هذه القدرات، فإن التحيز يزحف ويمنعنا من الإدراك بشكل صحيح تمامًا.

فجوة الفكر ليست هي الطريقة الوحيدة التي نسيء بها تفسير أفكار ومشاعر الآخرين فيما يتعلق بأنفسنا. في بحث نشر عام 2017 حول "وهم عباءة الخفاء"، وجد الباحثون أنه عندما نكون في أماكن مثل غرف الانتظار أو المقاهي أو مترو الأنفاق، فإننا ننظر حولنا بانتظام إلى الأشخاص الآخرين، لكننا لا ندرك مدى قيام الآخرين بنفس الشيء معنا . نعتقد أننا نراقب الآخرين أكثر مما يراقبوننا. (من ناحية أخرى، يحدث "تأثير الأضواء" عندما أُجبر الأشخاص في إحدى التجارب على ارتداء قميص باري مانيلو* في الأماكن العامة، وذكروا أن 50% من الأشخاص لاحظوا ذلك في حين أن 25% فقط لاحظوا ذلك بالفعل).

كتب المؤلفون: يبدو أنه إذا كنا نخجل من شيء ما، فإننا نعتقد أن الآخرين يلاحظونه أكثر مما يفعلون في الواقع. لكن أثناء حياتنا اليومية، نعتقد أن الآخرين يراقبوننا أقل مما نراقبهم. "ومع ذلك، إذا تُرِك الناس لأجهزتهم الخاصة، مع وجود القليل من الأدلة على أن الآخرين يراقبونهم، فإنهم بدلاً من ذلك يشعرون بأنهم غير مرئيين نسبيًا، وكأنهم هم الذين يحدقون في العالم، ولا يدركون أنهم أيضًا محط اهتمام الآخرين".

هناك تحيز آخر عمل عليه كوني وبوثبي وهو ما يسمى بـ "فجوة الإعجاب"، أو كيف يقلل الناس من مدى إعجاب الناس بهما بعد التحدث إليهما. لقد تم إظهار "فجوة الإعجاب" عبر عدد من الدراسات المختلفة الآن، في المحادثات القصيرة والطويلة، بين الرجال والنساء، وفي المحادثات الجماعية وكذلك المحادثات الفردية. لقد وجد الباحثون فجوة الإعجاب لدى الأطفال الذين تقل أعمارهم عن خمس سنوات (وليس أربعة).

لماذا نتحيز للاعتقاد بأن الآخرين لا يحبوننا كثيرًا؟ تمامًا مثل الفجوة الفكرية، من الصعب علينا أن نعرف ما يفكر فيه الآخرون -إيجابيًا أو سلبيًا- بعد أن نتركهم. من السهل مقارنة التفاعل الاجتماعي بنسخة داخلية مثالية من أنفسنا وننتقدها.

قال آدم ماستروياني، زميل ما بعد الدكتوراه في كلية كولومبيا للأعمال والذي درس فجوة الإعجاب، أننا قد نركز على عيوبنا الاجتماعية في محاولة لإصلاحها. وقال: "نحن مهووسون بالنكتة التي لم تصلنا، والاسم الذي نسيناه، والشيء المهمل الذي لم يكن علينا أن نقوله، وهذا يجعلنا أكثر مرحاً، وأكثر انتباهاً، وأكثر حذراً في المرة القادمة". لكنه يملأ رؤوسنا أيضًا بأفكار سلبية عن أنفسنا، مما يدفعنا إلى افتراض الأسوأ بشأن ما يعتقده الآخرون عنا-  في هذه الحالة، لا يفكرون بنا كثيرًا، وعندما يفعلون، فالأمر ليس كذلك. ليس جيدا".

إن فجوة التفكير والتعاطف معًا مثيرتان للاهتمام لأن الناس لديهم تحيزات أخرى تعمل في الاتجاه المعاكس، نحو التفوق الوهمي: يحدث تأثير بحيرة ووبيجون عندما يعتقد الناس أنهم أعلى من المتوسط في معظم السمات. يحدث انحياز التفاؤل عندما نعتقد أنه حتى لو طلق أشخاص آخرون أو تعرضوا لحوادث سيارات، فلن يحدث نفس الشيء لنا.

ويحدث العكس مع وجود فجوات الإعجاب والفكر. قال فوتر وولف، الأستاذ المساعد في جامعة أوتريخت في هولندا والذي يدرس العلاقات الاجتماعية، إن ذلك قد يكون بسبب إضافة حالة عدم اليقين. قال وولف: "على الرغم من أن البشر موهوبون نسبيًا في فهم الحالات العقلية للآخرين، مقارنة بأنواع الحيوانات الأخرى، إلا أننا أيضًا النوع الوحيد الذي يخفي حالاتنا العقلية عن شركائنا لأسباب أخرى غير المنافسة" مثل الأدب.

يحدث عدم اليقين هذا في التفاعلات التي تعتبر أيضًا مهمة جدًا. إن تفاعلاتنا الاجتماعية وكيفية تقييم الآخرين لنا تساعدنا على الانتماء إلى مجموعات مختلفة وتحقيق أنواع أخرى من النجاح، سواء كان رومانسيًا أو مهنيًا. قال وولف إنه قد تكون هناك فائدة تطورية للتقليل من مدى تفكير الناس فينا أو إعجابهم بنا، لأنه قد يشجعنا على مواصلة الانخراط في السلوك الاجتماعي الإيجابي تجاه الآخرين. إذا كنا عرضة للمبالغة في التقدير، فقد يأتي ذلك بنتائج عكسية إذا كان ذلك يعني أننا لم نقضي المزيد من الوقت في العلاقة.

كل هذه التحيزات المتناقضة يمكن أن تؤدي إلى التشاؤم بشأن ما يعتقده الآخرون عنا: المفهوم القائل بأن الآخرين بالكاد يفكرون فينا، وعندما يفعلون ذلك، يكون سلبيًا. قال كوني إن هذا التشاؤم يمكن أن يكون له عواقب. يمكن أن يؤثر ذلك على معتقداتنا حول مدى رغبتنا في التحدث إلى الغرباء، أو مدى استعدادنا لإجراء محادثات صادقة حول مواضيع صعبة.

في المرة الأخيرة التي تشاجر فيها كوني، قال إنه شعر وكأنه الشخص الوحيد الذي تجاوز الأمر، وكرر كل وجهة نظر، واستعاد القتال. وقال: "لسبب ما، نعتقد أن الآخرين قد قضوا يومهم ببساطة". تذكر أن هذا غير صحيح يمكن أن يضع المحادثات الصعبة على أساس أفضل.

قد تؤثر فجوة التفكير أيضًا على مشاعر الوحدة والعزلة الاجتماعية. يقول ماستروياني: "أحد الأفكار الشائعة المقلقة اجتماعيًا هي: "لا أحد يهتم بي، لا أحد يلاحظني، لا أحد يعتقد أنني مهم". قد تنشأ هذه الأفكار من فجوة التفكير، والتعرف عليها قد يقضى عليهاا".

يمكن للتصورات الخاطئة أن تجعلنا نعتقد أن الآخرين يفكرون بنا بشكل أقل، ويحبوننا أقل مما يفعلون في الواقع. قال ماستروياني: "إذا قللت من عدد المرات التي تخطر على بال شخص ما، فقد لا تدرك مدى اهتمامه بك". "جزء من ما يهمني هو التفكير ببساطة في عدد العلاقات التي يجب أن تتعثر أو تفشل بسبب سوء الفهم مثل هذا."

عندما نشر حساب Neuroskeptic على تويتر ملخصًا لمقالة فجوة التفكير، استجاب الكثيرون بالتعبير عن القلق. وقال أحد الأشخاص على تويتر: "لا أريد التحدث مع أي شخص مرة أخرى". أجاب آخر: "تم تفعيل Anxiety Pro Plus".

إذا كنت منزعجًا من إدراك أنك في عقول الآخرين، فإن الجمع بين ذلك وبين معرفة فجوة الإعجاب، يمكن أن يجعل تخيل تفكير الآخرين بك أقل إزعاجا. ربما نفترض، عبر فجوة الإعجاب، أن تلك الأفكار سيئة. على الرغم من أن هذا ربما لا يكون صحيحا.

وقال ماستروياني: "ليس فقط أننا في أفكار الناس أكثر مما نتوقع، ولكن من المرجح أيضًا أن تكون تلك الأفكار أكثر إيجابية مما نتوقع".

وقال كوني إن أفكار الأشخاص المشاركين في الدراسة كانت إيجابية بشكل عام. وقد تفاجأ المشاركون بسرور عندما سمعوا أن الآخرين ما زالوا يفكرون فيهم، تمامًا كما كانوا. وقال كوني: "في النهاية، الناس يحبوننا أكثر ويفكرون فينا أكثر مما نعتقد". هذه ليست فكرة ينبغي أن تلهم المشاعر الغارقة.

أثناء الجائحة، قد يكون من العزاء أن نعرف أننا ساكنون في أذهان الآخرين، حتى عندما نكون منفصلين. قال ماستروياني إن لديه بعض الأصدقاء الذين لا يراهم إلا نادرًا، ولذا فهو كثيرًا ما يفكر في كل الأشياء التي يريد أن يخبرهم بها، أو يطلبها منهم، أو الأنشطة التي قد يقومون بها معًا. أضاف: عندما أدركت أنهم يمكن أن يفكروا بنفس الشيء عني، حبست أنفاسي!

وقال كوني إنه خلال العامين الماضيين، كان يفكر في الإجازات الماضية والنزهات مع الأصدقاء. إذا أجرى مكالمة هاتفية مع صديق أو أحد أفراد العائلة، فهذا يعني له الكثير.

وقال: "معرفة فجوة التفكير تجعلني أشعر بالوحدة أقل قليلاً في تلك الأفكار التي كنت أفكر فيها، مع العلم أن الشخص الآخر، حتى بعد خروجه من الخط، ربما كان يفعل الشيء نفسه معي". "كنا نبتعد عن بعضنا البعض في بعض الأحيان، لكننا كنا نفكر في بعضنا البعض. لقد كانت تلك فكرة مريحة بالنسبة لي."

(انتهى)

***

........................

الكاتبة: شايلا لاف/  Shayla Love

* باري مانيلو: مغني أمريكي، ولد في 17 يونيو 1943.

https://www.vice.com/en/contributor/shayla-love

لو كان الذي يمارس فعل (النقد) يعلم جيدا"خطورة هذه الممارسة وفداحة عواقبها، ليس فقط على من يكون موضعا"للنقد فحسب، وإنما – بالدرجة الأولى – على فاعل النقد ذاته معرفيا"وأخلاقيا"كذلك، ما كان لكل من هب ودب أن يشرع بانتهاج هذا الضرب من النشاط الذهني المجرد، وما تجاسر على الخوض في غمار هذا المعترك المعرفي المركب . أي بمعنى ان (الناقد) الذي لا يمتلك مقومات هذه الفاعلية الفكرية، ولا يحسن توظيف أدواتها المنهجية بجدارة، ولا يراعي متطلبات التزاماتها الأخلاقية، سيكون هو أول الضحايا الذين يفرطون بسمعتهم المناقبية، ويفضحون هشاشتهم المعرفية، ويخسرون وظيفتهم الاجتماعية .

ولعل من مساوئ (نقاد) المناسبات والمجاملات والاخوانيات في هذه الأيام، الذين لم تبرح أعدادهم تتناسل وتتضاعف دون ضابط – كما في نبات الفطر - على حساب العمق المعرفي والغنى المنهجي والثراء اللغوي، هي ان ممارستهم لعملية (النقد) عادة ما تستوحي سرديتها من خزين (الانطباعات) الشخصية التي كونها فاعل النقد ومنتجه، عبر سيرورة علاقاته الشكلية وتصوراته السطحية وتواضعاته التقليدية، وليس بالاحتكام الى (فيصل) الواقع المعيش المشحون بالتناقضات والتفاعلات والصراعات، والذي هو – أصلا"- من هيأ للكاتب - (منتج النص) - فرصة الالتحام بمكوناته والاصطدام بمعطياته والاندغام بتفاعلاته، حيث يستنبط الأفكار ويستخلص الآراء ويبلور الاستنتاجات، وبالتالي يثر شجون – وفي بعض الأحيان جنون – النقاد ويستدر ملاحظاتهم واعتراضاتهم .

ورغم كل الدراسات الأكاديمية وغير الأكاديمية التي أكد أصحابها على حقيقة أن عملية (النقد) لا تكون ذات جدوى أو نفع إلاّ في حالة واحدة وهي ؛ وضع (عازل / فاصل) معرفي بين ما يمور به النص من معان ودلالات ظاهرة أو مضمرة من جهة، وبين ما تجيش به سيكولوجية (الناقد) من (خواطر) و(مشاعر) و(انفعالات) من جهة أخرى . بحيث يفترض أن يبقى الأول (النص) بمنأى عن تدخلات ميول الثاني (الناقد)، مثلما ينبغي على هذا الأخير اجتناب التلاعب بمضامين ما يقرأ استنادا"لقناعاته واستجابة لاعتقاداته، وبالتالي فرض ما يرغب أو يشتهي من رؤى وتصورات غالبا"ما تكون (مجاملة) أو (متحاملة) . ذلك لان أي إخلال أو تجاهل لهذه القاعدة – المعيار قمين بإبطال وإفشال عملية النقد برمتها .

ولما كان الإنسان بطبيعة تكوينه البيولوجي والسيكولوجي أكثر ميلا"لترجيح مرجعياته الأصولية، وأشدّ تعلقا" بمسلماته الذهنية، وأسرع استجابة لإيحاء تمثلاته المخيالية، فان من الصعوبة بمكان تصور انه بات بمنجى عن تأثيرات تلك المرجعيات والمسلمات والإيحاءات، لمجرد انخراطه بممارسة أنشطة تتعلق بموضوعة (النقد) . ولذلك يحسن بهذا الفاعل (النقدي) - إذا رغب أن يكون على قدر من الموضوعية المعرفية والتجرد الأخلاقي حقا"وفعلا"- أن يكون على مستوى عال من الحيطة والحذر إزاء إغراءات الدوافع الذاتية والنوازع الفئوية المطمورة تحت وهاد بنيته السيكولوجية، والتي من شأنها حمله على خلط الذاتي بالموضوعي والشخصي بالاجتماعي والأناني بالإنساني والواقعي بالخيالي .

ولكي نكون أقرب الى الإنصاف منه الى الإجحاف، فان الواجب يقتضي ألاّ نحمل (النقاد) وحدهم كل الأوزار والأرزاء التي يمكن لنا كيلها لهم، وإنما ينبغي – بالمقابل - أن نوجّه أصابع الاتهام والإدانة أيضا"لأولئك (الكتّاب) الذين لا يطربون فقط لألحان عبارات (المديح) و(التسبيح) التي يغدقها (النقاد) على أعمالهم فحسب، وإنما – وهنا أدعى للسخرية - (يتواطئون) ضمنيا"مع نقادهم المزعومين، عبر استعذابهم لغة (الثناء) واستلطافهم عبارات (التقريظ) التي تسبغ عليهم حقا"أو باطلا". وهو الأمر الذي يعمي بصيرتهم ويشوه إدراكهم ويسطح وعيهم، بحيث لم يعودوا يطيقون أي تلميح أو تصريح من هذا الناقد أو ذاك، ينم عن قراءة (نقدية) لسردياتهم من شانها أن تصدّع صورتهم لدى قرائهم، وتثلم مكانتهم بين أقرانهم، وتقلل اعتبارهم في مجتمعهم.

*** 

ثامر عباس 

 

المقدمة: مع التقدم المستمر في مجال الذكاء الاصطناعي، أصبحت مجتمعاتنا تعتمد بشكل متزايد على هذه التقنية في مختلف المجالات مثل الطب، والتجارة، والصناعة وغيرها.

مع ذلك، تظل هناك تحديات مجتمعية تواجه تطور التكنولوجيا في مجتمعات دينية – عشائرية، باعتبار تلك مجتمعات تتميز بوجود انتماء عاطفي وحساسية  أتجاه العرف والتقاليد، وهذا يمكن أن يؤثر سلباً على قدرتها على استيعاب التطورات التكنولوجية الحديثة والتقدم نحو تحقيق الذكاء الاصطناعي.

الهدف من هذا المقال هو تحليل تلك التحديات المجتمعية المعينة التي تواجه مجتمعات دينية - عشائرية في تحقيق الذكاء الاصطناعي وإشراكها في هذا النقاش المتجدد.

سيتم دراسة المشاكل وتحليل التأثيرات السلبية المحتملة،  واقتراح بعض الحلول الممكنة للتغلب على هذه التحديات.

أولاً: تحليل المجتمعات الدينية - العشائرية

المجتمعات الدينية العشائرية: نمط اجتماعي يتميز بوجود عشائر أو قبائل تعيش في نطاق محدد وتتشكل على أساس العائلة والقرابة لحد الجد الخامس او يزيد، والدين الواحد والطائفة الواحدة أحياناً، وتعتمد هذه المجتمعات على قيم الوفاء والانتماء العائلي لتنظيم حياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية،على الرغم من أنها لا تزال تتمسك بتقاليدها وثقافتها التي تمتد عبر القرون، إلا أن هناك تحديات في التبني والتكيف مع التكنولوجيا الحديثة، التي أفرزتها ثورة الاتصالات الرقمية في القرن الحادي والعشرين .

تُّبان في هذا المجتمعات العديد من العوامل التي تؤثر في قدرتها على تبني التكنولوجيا الحديثة، ومن أهمها التوافق الثقافي والاقتصادي والسياسي، ويمكن أن يكون التوافق الثقافي أحد العوائق الأساسية لتبني التكنولوجيا الحديثة في المجتمعات العشائرية شبه المتدينة، أذ يتطلب استخدام التكنولوجيا الجديدة تغييرا في القيم والمعتقدات التقليدية.

على سبيل المثال، قد يتعارض استخدام الهواتف الذكية أو وسائل التواصل الاجتماعي مع روح الوفاء العائلية المتجذرة في هذه المجتمعات، أو يستخدم بعض الأشخاص تلك الهواتف لبث تقاليد عشيرته ونشر أفراحها وأحزانها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي من أجل التباهي والغرور، كذلك يقوم البعض بنشر غسيله الطائفي الموروث من عفن التاريخ العربي – الإسلامي في تلك المواقع، كالفيسبوك والتك توك واليوتيوب والسناب.. وغيرها.

علاوة على ذلك، يمكن أن يكون الاقتصاد القائم على الزراعة أو الرعي في هذه المجتمعات أداة أخرى تؤثر في قدرتها على تبني التكنولوجيا الحديثة، فعلى سبيل المثال، قد يعتبر الاستثمار في تطوير البنية التحتية الرقمية أو التغيير في أساليب الزراعة التقليدية عائقًا اقتصاديًا قد يكون صعبًا تجاوزه.

بالإضافة إلى ذلك، يلعب السياق السياسي دورا كبيرا في قدرة هذه المجتمعات على تبني التكنولوجيا الحديثة، فتاريخ هذه المجتمعات مليء بالنزاعات القبلية والعدائيات، وهذا النوع من البيئة السياسية غالبا ما يكون عائقاً لتطوير بنية تكنولوجية حديثة.

ثانياً: التحديات المجتمعية المتوقعة

تشهد التكنولوجيا تطورًا سريعًا في العصر الحديث، ومن بين تلك التكنولوجيا المتقدمة يأتي الذكاء الاصطناعي، الذي  يُعرف بأنه مجال العلوم الحاسوبية الذي يعتمد على إنشاء برامج ونظم قادرة علــــى محاكاة الذكاء البشري.

ولتلك التكنولوجيا الحديثة أثرٍ هائل على كافة المجتمعات دينية كانت أو عشائرية، ملحدة أو مؤمنة، مسلمة أو مسيحية، ومن بين هذه المجتمعات هـــــــــــي مجتمعاتنا المبتلة بالعشائرية المتطرفة والطائفية المقيتة.. ففي هذا المقالة المتواضعة سنقوم بدراسة التحديات المجتمعية التي تواجه هذه المجتمعات في تحقيق الذكاء الاصطناعي، ومنها:

- قلة الوعي التكنولوجي: قد يعاني أفراد تلك المجتمعات من نقص في الوعي تجاه أهمية الذكاء الاصطناعي وكيفية استخدامه، قد ينحصر اهتمامهم في الأنظمة والقيم التقليدية مما يجعل من الصعب تعديل سلوكهم وتبني التكنولوجيا الحديثة.

- القيم والمعتقدات التقليدية: يتمسك العديد من أفراد مجتمعنا اليوم بالقيم والمعتقدات التقليدية، مما يؤثر سلبًا على استخدامهم للذكاء الاصطناعي، قد يرون أن استخدام التكنولوجيا الحديثة يتعارض مع قيمهم ومبادئهم وبالتالي يتجنبون استخدامها، وهناك من يعتقد بأن هناك رجل سماوي سوف يظهر ليخلصهم منها، لذلك تعتبر من المكروهات لديهم.

- قلة الموارد والتمويل: يمكن أن تواجه هكذا مجتمعات تحديات مالية وقلة الموارد المالية للاستثمار في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، فتوظف الشركات الكبرى والمؤسسات المالية تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتستفيد من المزايا التنافسية التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، وهذا يعني أن المجتمعات المبتلات بالتدين الشكلي و العشائرية المتوارثة قد تتخلف عن الاستفادة من فوائد هذه التكنولوجيا كما يجب.

- قلة التعليم والتدريب: وهو من المشاكل الجوهرية التي تؤثر على تقدم هذه المجتمعات بشكل عام وعلى أفرادها بشكل خاص، تحدث هذه القضية نتيجة لعدة عوامل تاريخية واجتماعية تؤثر على سبل الحياة ونسج العلاقات في هذه المجتمعات.. للأسباب الأتية:

1- وقبل كل شيء، تعود أسباب قلة التعليم والتدريب العلمي في المجتمعات العشائرية الطائفية إلى التاريخ والتقاليد القديمة التي تسيطر على هذه المجتمعات، ففي العديد من الثقافات التقليدية، يتم تكوين المجتمع وتوجيهه بواسطة العرف والتقاليد الشفهية، وعادة ما يتم تعليم الأطفال وفقًا لما تحدده هذه التقاليد، بدلًا من توفير فرص تعليمية علمية منظمة وشاملة.

2 - تؤثر طبيعة الحياة في هذه المجتمعات على قلة التعليم والتدريب العلمي، فعندما يكون الناس مشغولين بالعمل في الأراضي الزراعية أو في الأنشطة الحرفية التقليدية، يصبح من الصعب توفير الوقت والموارد اللازمة للتعلم والتطور العلمي، وبالتالي، يتم تفضيل الاعتماد على التعليم الشفهي والتدريب العملي، ما يترك العديد من الأفراد غير مدركين للتطورات العلمية الحديثة.

3 - قد يكون للعوامل الاقتصادية تأثير كبير في قلة التعليم والتدريب العلمي في المجتمعات العشائرية - الدينية، فمن الصعب على العائلات التقليدية تحمل تكاليف التعليم العالي والتدريب المتقدم، وبالتالي يفضلون إرسال أبنائهم للعمل والمساهمة في دخل الأسرة بدلاً من الاستثمار في التعليم.. وبالتالي، يتم فقد العديد من المواهب والقدرات العقلية التي يمكن أن تساهم في التقدم العلمي والتنمية الاقتصادية في المجتمع.

ثالثاً: الآثار المحتملة لفشل تطبيق التكنولوجيا الحديثة في مجتمعاتنا

يعيش العالم اليوم في عصر تكنولوجي متقدم، حيث أصبحت التكنولوجيا الحديثة جزءًا لا يتجزأ من حياة معظم الناس. ورغم أهمية التكنولوجيا في تطور المجتمعات ورفع مستوى العيش، إلا أن هناك بعض المجتمعات التي تعاني من تحقيق أهدافها في مجال التكنولوجيا، بسبب ارتباطها القوي بالعادات والتقاليد والتثبيت بالقيم الاجتماعية والدينية، ومثال على ذلك مجتمعاتنا المُّبتلة بالطائفة الناجية و القبيلة الكبيرة، وما يترتب عليها من تطرف مذهبي والتزامات قد تخرج عن المألوف .

سوف سنحلل الآثار المحتملة لفشل تطبيق التكنولوجيا الحديثة في مجتمعات عشائرية- شبه متدينة، بعرض أسباب هذا الفشل، وتبيان تأثيراته السلبية على هذه المجتمعات، كما سنستعرض بعض الحلول الممكنة لتخطي هذه الصعوبات.

الجزء الأول: أسباب فشل تطبيق التكنولوجيا الحديثة في مجتمعات الطائفية العشائرية

1- الاعتقادات الثابتة والمحافظة على التقاليد:

المجتمعات الطائفية - العشائرية تعتمد على نظم اجتماعية مترسخة ومتحيزة بشكل قوي للحفاظ على التقاليد والعادات القديمة، وهذا يعني أن أي تغيير مفاجئ يتعارض مع هذه الاعتقادات الثابتة، بما في ذلك تطبيق التكنولوجيا الحديثة، ومن ثم يتعرض لرفض من قبل الأفراد والمجتمع بشكل عام.

2- التوجه نحو العزلة:

مجتمعات الطائفية الناجية والعشائرية المتزمة تمتاز بنمط العيش بعيدًا عن المدن والمناطق الحضرية، ويؤدي هذا النمط إلى عدم توفر البنية التحتية اللازمة لتطبيق التكنولوجيا الحديثة مثل الاتصالات وشبكات الانترنت.

3 - تقلبات التكنولوجيا:

تطور التكنولوجيا بسرعة هائلة ويكون بعض الأفراد والمجتمعات غير قادرة على اللحاق بهذا التغير المستمر، لذلك، فإن هذه المجتمعات قد تفضل الابتعاد عن هكذا تطور واللحاق به .

رابعاً: اقتراح الحلول الممكنة لتحقيق التطور التكنولوجي

تواجه مجتمعاتنا اليوم تحديات عديدة في مجال التطور التكنولوجي، يعود ذلك إلى العديد من العوامل المؤثرة في هذه المجتمعات مثل التقاليد والعادات والقيم القديمة التي تمنع تحقيق التقدم التكنولوجي، إلا أن هناك بعض الحلول الممكنة التي يمكن اعتمادها لتعزيز التطور التكنولوجي في هذه المجتمعات وهي:

1 - يمكن للتعليم أن يلعب دورًا حاسمًا في تحقيق التطور التكنولوجي فيها، على أن تكون هناك جهود مبذولة لتعزيز الوعي التكنولوجي وتعليم الناس حول فوائد التكنولوجيا وكيفية استخدامها بشكل فعال، ويمكن أن تشمل هذه الجهود إنشاء مدارس ومراكز تعليمية متخصصة في مجال التكنولوجيا، وتوفير برامج تدريبية تعليمية للشباب والكبار ومن كلا الجنسين .

2  - توفير البنية التحتية اللازمة لدعم التطور التكنولوجي في هذه المجتمعات، من خلال توفير الكهرباء والاتصالات الجيدة وشبكة الإنترنت عالية السرعة، ويعتبر الوصول إلى الانترنت أمرًا حاسمًا في تعزيز التطور التكنولوجي وتوفير الفرص للتعلم والتواصل، بالإضافة إلى ذلك، يمكن إنشاء مراكز تكنولوجية متقدمة توفر المعدات والمرافق اللازمة لرعاية الأفكار الإبداعية والمشاريع التكنولوجية.

3 - تشجيع روح الابتكار وريادة الأعمال بعد أن تتخذ الحكومات والمنظمات غير الحكومية دورًا فعالًا في توفير الدعم اللازم للأفراد والشركات الناشئة في هذه المجتمعات، من خلال توفير التمويل والتدريب والمشورة، ويمكن تشجيع الشباب على تحويل أفكارهم وابتكاراتهم التكنولوجية إلى مشاريع ناجحة، وبالتالي، يمكن أن تساهم هذه المشاريع في تطوير المجتمعات وتحسين الظروف المعيشية.

خامساً: دراسة الأمثلة العملية والتجارب الناجحة التي تم تحقيقها في مجتمعات دينية - عشائرية   في مجال الذكاء الاصطناعي.

تعتبر دراسة الأمثلة العملية والتجارب الناجحة في مجال الذكاء الاصطناعي خطوة هامة في فهم تأثير هذه التكنولوجيا الحديثة على هذه المجتمعات التي تتميز بطابعها الثقافي والتقليدي.

فعلى الرغم من أن تلك المجتمعات تتبع قوانين وأعراف خاصة، إلا أنها أثبتت تجاوبًا ملحوظا مع تقدم الذكاء الاصطناعي وتبنيها لهذه التكنولوجيا لتحقيق تطور اجتماعي واقتصادي مستدام.

من أهم الأمثلة الناجحة في تطبيق الذكاء الاصطناعي في هكذا مجتمعات يتمثل في شمال أفريقيا، حيث استخدمت بعض القرى النائية في المنطقة تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين أداء الزراعة، أذ تم استخدام الروبوتات والأجهزة الذكية لرصد حالة التربة ومستوى الرطوبة في الأراضي الزراعية، بالإضافة إلى استخدام التحليل الضوئي لتعيين أفضل الأوقات لسقي الحقول وتطبيق الأسمدة، وبفضل هذه التكنولوجيا، تمكنت هذه المجتمعات من زيادة إنتاجيتها الزراعية وتحسين مستوى دخلها.

كما استخدمت مجتمعات أخرى الذكاء الاصطناعي في تنمية القطاع المالي وإدارة التجارة، فمن خلال تحليل البيانات وتوجيه الاستثمارات، تمكنت هذه المجتمعات من اتخاذ قرارات مالية أكثر فاعلية وذكاءً، مما أدى إلى زيادة الاستدامة والنمو الاقتصادي.

بالإضافة إلى ذلك، لعب الذكاء الاصطناعي دورًا مهمًا في تعزيز الرعاية الصحية في تلك المجتمعات، أذ تم استخدام الروبوتات وتقنيات التعلم الآلي لتحسين خدمات الرعاية الصحية والتشخيص المبكر للأمراض من خلال تحليل البيانات الصحية، وبالتالي تمكنت هذه المجتمعات من اكتشاف أنماط وأسباب الأمراض المستفحلة وتطوير استراتيجيات مناسبة للتعامل معها.

استنتاجات وتوصيات نهائية

تزداد تقنية الذكاء الاصطناعي (AI) أهميةً وتأثيرًا في حياتنا اليومية، وتعتبر التحديات المجتمعية للذكاء الاصطناعي من بين أهم القضايا التي يجب معالجتها بجدية، فالتوصيات والاستنتاجات النهائية في هذا الصدد أمر ضروري لضمان تطور واستخدام فعال لهذه التقنية الحيوية.

1- الاستنتاجات:

* التوعية والتعليم: يعتبر التوعية والتعليم الشامل حول الذكاء الاصطناعي أمرًا حاسمًا، يجب على المجتمعات والحكومات توفير المنصات المناسبة لتفهم العامة لهذه التقنية وآثارها، كما ينبغي أن يكون الفرد قادرًا على فهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي وأثره على فرص العمل والمجتمعات العامة.

* التطوير التكنولوجي المستدام: يجب أن يتم التركيز على التنمية المستدامة للذكاء الاصطناعي بحيث تكون التكنولوجيا آمنة وقابلة للتنبؤ وتفي بالمبادئ الأخلاقية، و يجب أن يقود الباحثون والعلماء هذا التطوير بأساس قوي من المبادئ الأخلاقية والقوانين التنظيمية لضمان استخدام أمن ومسؤول للذكاء الاصطناعي.

* تقليل الفجوة الرقمية: يجب أن يتم تطوير وتوفير الوصول المتساوي للذكاء الاصطناعي من أجل تحقيق التنمية المستدامة، أضف الى ذلك تعزيز التكنولوجيا في البلدان النامية وتقديم الدعم والتدريب لتعزيز فرص الترقية والازدهار الاقتصادي.

2 - التوصيات النهائية:

* إنشاء لجنة تنظيمية: يجب على الحكومات تشكيل لجنة تنظيمية لإدارة وتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي. ينبغي أن تكون هذه اللجنة مسؤولة عن إنشاء السياسات والقوانين اللازمة لمنع سوء الاستخدام وحل أية قضايا أخلاقية تنشأ.

* تعزيز الأبحاث والابتكار: يجب أن تدعم الحكومات الأبحاث والابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، ويمكن أن تساهم الشراكات بين القطاع العام والخاص في تسريع التقدم وتحقيق نتائج أفضل.

تميز الأستاذة بجامعة ستانفورد الأمريكية (كارول دويك ) في كتابها "العقلية: السيكولوجية الجديدة للنجاح" (Mindset: The New Psychology of Success)، بين عقليتين متناقضتين عادة ما يتبنى الأفراد إحداهما عند التفكير، وتبين لنا صفاتهما الأساسية:

العقلية الثابتة: يخاطب أصحابها أنفسهم بـِ: "صفاتك لا يمكن أن تتغير، وأياً كانت مهاراتك ومواهبك وقدراتك فهي محددة مقدّماً، وأياً كان ما تفتقر إليه ستظل تفتقر إليه". إنّ أصحاب هذه العقلية الثابتة لا يحكمون بها على أنفسهم فحسب، بل على الآخرين أيضاً!

عقلية النمو: يخاطب أصحابها أنفسهم بـِ: "يمكنك تنمية صفاتك الأساسية بجهودك، ويمكن للجميع التغير والنمو بواسطة الممارسة والخبرة. وذكاؤك ما هو إلّا نقطة انطلاق! أمّا النجاح فهو نتاج الجهد والتعلم والمثابرة".

توصلت إحدى الدراسات إلى أنّ الأفراد الذين يؤمنون أن مواهبهم قابلة للتطوير (من خلال العمل الجاد، واتباع استراتيجيات جيدة، وعبر الاستفادة من معطيات الآخرين) يمتلكون "عقلية النمو".. فهم يميلون إلى تحقيق المزيد من الأهداف مقارنة بأولئك الذين يمتلكون "عقلية ثابتة" (الذين يؤمنون أن مواهبهم عطايا فطرية لا يمكن تطويرها أو اكتسابها).

وينشأ هذا الفارق لأن أصحاب عقليات النمو لا يهتمون كثيراً بأن يبدوا أذكياء، ويكرسون طاقة أكبر للتعلم، فعندما تتبنّى مجتمعات بأكملها نهج "عقلية النمو"، نجد الناس يشعرون بقدر أكبر من القدرة والتمكين، ويُظهرون حساً أصدق بالالتزام، كما أنهم يتلقون دعماً كبيراً للغاية من الدولة لتعزيز التعاون، والابتكارات.

وعلى النقيض من ذلك، فالناس في المجتمعات التي تتبنى "العقلية الثابتة" بشكل رئيسي يشعرون بقدر أكبر من شيء واحد فقط، وهو وجود الغش والخداع بين الناس، اعتقاداً منهم أن ذلك سيمنحهم الأفضلية على أقرانهم في سباق المواهب.

***

شاكر عبد موسى / العراق

..................

المصادر

Mckinsey Global Institute، "Notes from the AI Frontier: Applications and -1 value of deep learning."

Timnit Gebru، Joy Buolamwini، "Gender Shades: Intersectional Accuracy -2 Disparities in Commercial Gender Classification."

-3عبدالعزيز النعيمي، "العشائر العربية ونظرية النهضة الشاملة".

Elaine Liu، Juanjuan Meng، "Confucianism and Preferences: Evidence from -4 Lab Experiments in Taiwan and China."

-5 مارك زوكربيرغ، "تحويل العالم من خلال الابتكار الفعّال".

Kai-Fu Lee، "AI Superpowers: China، Silicon Valley، and the New World -6 Order."

World Economic Forum، "The Future of Jobs Report 2020" -7."

Bostrom، N. (2014). Super intelligence: Paths، Dangers، Strategies. Oxford-8 University-8 Press.

9- النشرة الأسبوعية من هارفرد بزنس ريفيو العربية/ فكرة الأسبوع: أحرص على تبني عقلية النمو مع بداية العام الجديد/ أمين قطوش، 29 كانون الأول 2023. https://mail.google.com/mail/u/0/#inbox/FMfcgzGwJSDbZBwNvRZtHkrjkDfWTBbd.

يبدو أنَّ مسألة التشاؤم التي عالجها مقال الأسبوع الماضي، تشكّل موضوعاً جديّاً عند الأشقاء العراقيين. وصلتني خلال الأسبوع ردود فعل كثيرة جداً، بعضها يبرر المزاج التشاؤمي، لكن الكثير منها يقول صراحة أو ضمنياً «حجم المشكلات التي نعانيها فوق ما تعرف، فلا تعلّمنا ما يصح وما لا يصح». الزميل حمزة مصطفى ختم مقاله التعقيبي في صحيفة «الصباح» البغدادية بتفسير ظريف فحواه أنَّ التشاؤم سمة للأحاديث الموجهة للجمهور، وليس نقاشات النخب، لأنَّ الجمهور يعدّ الكتابات المتفائلة تملقاً لذوي السلطان. أمَّا الزميل علي حسين فقد رأى أنَّ الواقع السياسي لا يترك فرصة للتفاؤل: «ماذا نفعل يا سيدي ونحن نعيش مع ساسة ومسؤولين حولوا مؤسسات الدولة إلى سيرك كبير، يستعرضون فيه مهاراتهم في الضحك على عقول الناس».

الواضح أنَّ معظم الذين ناقشوا ذلك المقال متفقون على أنَّ المنحى التشاؤمي ليس مفيداً. لكنَّه مبرر بما يعانيه البلد من مشكلات أو بالمزاج الشعبي أو بالتجربة التاريخية التي تغذي ذهنية تميل للأسى وليس الفرح.

الجدل في الموضوع أثار في ذهني أسئلة تتعلَّق بدور الكاتب، مع استذكار موقف قديم أتبنَّاه، رغم أنَّه لم يرضِ أحداً، وفحواه أنَّ مسؤولية الكاتب أو العالم مثل مسؤولية الفلاح والبقال وسائق التكسي والطبيب والمهندس وغيرهم، تتلخَّص في إتقان عمله. أي إنَّه لا يحمل رسالة ولا يتوجب عليه أن يتبنى موقفاً غير ما يجب على كل شخص آخر. وأعتقد جازماً أنَّ تبني الناس كافة لهذا الموقف، أي الاجتهاد في إتقان العمل، محرك قوي للنهضة، لو كانت هدفاً.

الداعي لإثارة السؤال هو ما يبدو من تناقض بين هذا الموقف، أي عدم التزام الكاتب بموقف محدد من قضايا المجتمع، ومطالبتي للنخبة العراقية وغيرها من النخب بترك التشاؤم الذي قلت إنه يهدد بتفتيت «رأس المال الاجتماعي». فكيف أنكر المسؤولية تجاه المجتمع، ثم أطالب الآخرين بالتزامها؟

الواقع أنَّ تلك المناقشات أشارت لاحتمال ثالث، غير المسؤولية تجاه المجتمع أو إنكارها، فبعضها يقول - ضمنياً - إن دور الكاتب هو وصف وتوثيق الواقع الاجتماعي، أي تحويله من سلسلة مشاهد مفككة في ساحة المجتمع، إلى مشهد واحد مترابط. في هذه الحالة لا يتعلق الأمر بتشاؤم أو تفاؤل، بل هو أقرب إلى ما يسمى «تلفزيون الواقع»، من دون تمثيل طبعاً.

يعرف طلاب العلوم الاجتماعية أنَّ وسائل التواصل الجمعي كالصحافة، والتلفزيون، والخطابة العامة، ومنصات التواصل الاجتماعي، هي الوسيلة الأقوى لتوصيل، ومن ثم تعميم المشاعر والأفكار والمواقف. وهذه هي الطريقة المعتادة لصناعة القضايا العامة، أي تلك القضايا التي يهتم بها جمهور كبير من الناس. ومن هنا اكتسبت الصحافة أهميتها عند قادة المجتمع ورجال السياسة والاقتصاد وكل الفاعلين في المجال العام.

حسناً، إذا رأى الكاتب مشهداً سيئاً مثيراً للتشاؤم، فهل يغض الطرف عنه أم يعيد تلوينه، أو يقتضي الصدق أن ينقله للجمهور كما رآه؟

كان هذا واحداً من الأسئلة المهمة التي عالجها توماس كون في كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية» وقد رأى أنَّ نظرة الكاتب، بل أي ناظر إلى الواقع لا يمكن أن تكون محايدة أو خالية من التوجيه المسبق: أنت ترى ما يتوقعه عقلك، وتفهمه وفقاً للإطارات التي صنفها عقلك. ومن هنا فإنَّ مراقبتك للشيء، ثم شرحه، هو تفسير مستند إلى خلفيتك الذهنية، أي إنه حكم على ذلك الشيء وليس مجرد وصف محايد.

هذه الرؤية جلبت على توماس كون نقداً كثيراً جداً، لكن لو تأملتها جيداً فسوف تراها قريبة من منطق الأمور: هل يمكن أن نفهم شيئاً دون الاستناد الى قواعد مسبقة، أليست هذه القواعد قيوداً على الفهم الجديد؟ أي هل ننقل صورة الواقع كما هو، أم ننقل تصورنا الخاص لذلك الواقع؟

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

تبدو مصطلحات مثل "العرقية" و"الجماعات العرقية" و"الصراعات العرقية" جديدة. وقد ظهرت لأول مرّة في قاموس أكسفورد البريطاني العام 1972، وإن كانت استخداماتها أقدم من هذا التاريخ بكثير. وكلمة عرقي مشتقّة من الكلمة الإغريقية "إثنو"، وقد استخدمت كلمة "العرقيات" في الحرب العالمية الثانية ككلمة سلبيّة مهذبة بالإشارة إلى بعض الجماعات من غير الإنكليز، والذي يُنظر إليهم كمستوى أدنى.

وكان المفكّر الاجتماعي ماكس فيبر قد نبذ التمترسات العرقية للجماعات المحلية، معتبرًا إياها مظهرًا بدائيًا تتراجع أهميته، بل تزول، بفعل انتصار الحداثة والتصنيع وشيوع الفردانية، وقد أيّد وجهة نظره هذه عدد من علماء الاجتماع في القرن العشرين.

وتنامت، منذ أواسط القرن المنصرم، ظواهر العرقية وأشكال أخرى من الهويّات القومية، اتّخذت بُعدًا سياسيًا على المستوى العالمي، وخصوصًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وازدادت اتّساعًا في نهاية النصف الثاني من القرن العشرين، وصولًا إلى وقتنا الحالي.

وقد شهدت العقود الأربعة المنصرمة انفجارًا غير مسبوق للعرقية والنزعات الإثنية والهويّات الفرعية، ارتباطًا بتطوّر العلوم الاجتماعية، وذلك بالترويج لها عبر الكتب والمطبوعات والدراسات والمؤتمرات والندوات، التي تبحث فيها، وشمل ذلك حقول العلوم السياسية والقانونية والتاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجيا الاجتماعية، وصدرت عن مراكز الأبحاث والدراسات والجامعات كتبًا وأبحاثًا متنوّعة عن "العولمة" و"الهويّة" و"الحداثة"، وكلّ ما له صلة  بالعرقية والقومية والإثنية، علمًا بأن الأنثروبولوجيا الاجتماعية هي علم مقارن، يدرس الاختلافات والتشابهات في العلاقات الإثنية والظواهر العرقية، وهو يوفّر رؤية حيوية لفهم العرقية ومرادفاتها في العصر الحديث.

أصبح من غير المقبول تجاهل المسألة الإثنية، سواء في البلدان المتقدمة صناعيًا، الغنية والديمقراطية، أم في البلدان النامية والفقيرة، والتي لم تدخل مرحلة التحوّل الديمقراطي. في الأولى، بشكل عام، كانت الخلافات تُحلّ عن طريق الدستور وحُكم القانون، في حين أنها في الثانية، تؤدّي في الغالب إلى نزاعات مسلّحة وحروب أهلية، لاسيّما باللجوء إلى الحلول العسكرية والعنفية.

وبالطبع فثمة حروب ونزاعات شهدتها بلدان أوروبا، وخصوصًا بعد انحلال الاتحاد السوفيتي، وانقسامه إلى 15 كيانًا، ولعلّ آخرها الحرب المندلعة في أوكرانيا، فضلًا عن تمزّق يوغوسلافيا وتوزّعها إلى 6 كيانات، شهدت بينها حروب تطهير عرقي، ولاسيّما ما حصل في البوسنة والهرسك، ويمكن الإشارة إلى حروب سيرلانكا وروندا والكونغو، إضافة المشكلة الكردية المزمنة والمعتّقة بين أربعة بلدان في الشرق الأوسط، ومشكلة جنوب السودان التي نالت استقلالها في العام 2011، عبر استفتاء بإشراف دولي، بالإضافة إلى تيمور الشرقية، وقبل ذلك حروب الهند وباكستان ثم بنغلادش.

وإذا كانت هذه إحدى مظاهر الصراع العرقي، فثمة وجه آخر له، ففي الغرب اتّخذ منحىً قانونيًا وسياسيًا سلميًا في الغالب، كما هي مشكلة الكيبيك في كندا، والفلامانيين والوالانيين في بلجيكا، وإقليم الباسك وكاتالونيا في أسبانيا، ومشكلة إيرلندا التي ما تزال قائمة منذ عقود من الزمن، ويتجاذبها آراء ووجهات نظر مختلفة، كلّها تتصارع تحت حكم القانون، يُضاف إلى ذلك نزعات إثنية في جنوب فرنسا وجنوب إيطاليا، تبحث عن تعظيم للهويّة الفرعية والتمايزات والخصوصيات.

كما أصبحت الهويّات العرقية أحد الميادين للصراع الدولي والإقليمي، بعد التدفّق الهائل والمستمر للاجئين والمهاجرين إلى أوروبا والغرب عمومًا، مما أعطى شحنة قوية للشعور بالانتماء إلى الهويّات الفرعية. ولعلّ مثل هذا الشعور تنامى كذلك عند تأسيس الاتحاد الأوروبي، فأخذت العديد من البلدان المنضوية تحت لوائه، تبحث عن خصوصيتها، وهو ما دفع دولة مثل بريطانيا للانسحاب منه، وقاد هذا الاتجاه أيضًا إلى ظهور جهات متطرّفة في القارة الأوروبية، ذات خطاب شعبوي إثني في الغالب، ومعاد للأجانب بشكل عام للوصول إلى السلطة، ونمت على هامشه أحزاب يمينية حاولت رفع أكثر الشعارات رنينًا وتطيرًا، تحت ذريعة الخشية من إضعاف الهويّة القومية، لاسيّما في ظلّ عدم الاندماج الثقافي.

ويرتفع شأن هذه القضايا على نطاق واسع ومؤثّر في فترات الانتخابات، بقبول أو رفض التعدديّة الثقافية وإدماج المهاجرين، كما تثير، في الوقت نفسه، أسئلة ما تزال بحاجة إلى معالجات بخصوص التمايز بين الجماعات العرقية، والعلاقات بينها وبين الاحزاب السياسية ذات الطبيعة العرقية، وأشكال الهويّات الأخرى وعلاقتها بالثقافة والحقوق كذلك.

وهذا ما يُظهره الجدل الساخن في إطار المقاربات الأنثروبولوجية، بشأن تصنيف الجماعات البشرية عرقيًا، أو ما يُطلق عليه مجازًا "الأقلية" و"الأكثرية، وهو ما تناوله إعلان حقوق الأقليات، الصادر عن الأمم المتحدة في العام 1992 .

***

د. عبد الحسين شعبان

هل كان عالم الأحياء جيرمي غريفيث في كتابه الحرية،  أول أكتشف التعارض بين الغريزة الفطرية والعقل الواعي؟ فكانت الحالة البشرية الفاسدة نتاج ذلك النزاع، منذ حوالى المليوني سنة، والذي لا نزال تحت وطأته المدمرة.

يجيب هو نفسه على هذا السؤال فيقول: أنا لست أول من حدد عناصر الغريزة مقابل العقل، المشاركة في إنتاج الحالة البشرية.

وقد كتب جيرمي غريفيث شرحا مفصلا في الفصلين 6:2  و 7:2  في كتابه الحرية؛ نهاية الحالة البشرية، يقول كان هناك العديد من المفكرين عبر التاريخ، بل والعديد من المفكرين العظماء المعترف بهم الذين أدركوا الأجابة على سؤالنا وهو؛ هل أن الحالة الأنسانية المضطربة؛ الغاضبة؛ ألأنانية والمغتربة، تكمن في فهم الصدام الذي يحدث بين غرائزنا الراسخة بالفعل والعقل الواعي الذي ظهر مؤخرا.

أن كل ما مطلوب لأنتاج حالة من الإضطراب النفسي لدى نوع ما هو أن يصبح واعيا؛ لأن هذه القدرة على التكيف الذاتي يجب أن تتحدى بطبيعة الحال غرائز غير متبصرة، متعصبة ومستبدة، لا يهم ما هو التوجه الخاص لغرائز النوع، فحقيقة ان الغرائز غير ذات بصيرة ثاقبة، يعني أنه لا مفر من حدوث صراع مزعج مع العقل الواعي القائم على البصيرة والذي يضبط نفسه بنفسه، لذلك بغض النظر عن التوجه الغريزي لكائن ما؛ إذا طور عقلا واعيا تماما فلابد ان تحدث معركة مزعجة بين تلك الغرائز والعقل الواعي؛ لكن الأهم من ذلك أن هذا  لا يعني أن التوجه الخاص لغرائز هذا النوع لا يمكن ان يكون له تأثير على اصدام مع العقل الواعي، يمكن أن يؤثر عليه بشكل كبير جدا؛ كما حدث عندما أصبحنا نحن البشر واعيين تماما، نحن البشر لدينا غرائز أخلاقية تعاونية؛ ونكرانية للذات ومحبة، وصوتها أو بالأحرى الضمير؛ التعبير عن هذا الصوت الداخلي.

أدرك دارون أن طبيعتنا الأخلاقية المميزة عندما كتب: "أن الحس الأخلاقي ربما يوفر أفضل وأعلى تمييز بين الإنسان والحيوانات الأدنى" الأمر المهم للغاية بشأن إمتلاك البشر لغرائز تعاونية ومحبة ونكران ذات، هو أننا عندما اصبحنا واعيين تماما، وبدأنا في تجربة الفهم؛ وتعرضنا للإنتقاد من غرائزنا وإستجبنا بشكل لا مفر منه بطريقة غاضبة وأنانية ومنعزلة، تسببت هذه الإستجابة المثيرة للخلاف في أنتقادات أكبر من غرائزنا، ثم مرة أخرى لردة فعلنا على تلك الإدانة بطريقة تتعارض وتسئ الى غرائزنا، وكان علينا أن نحتمل ضربة مزدوجة من النقد؛ عندما اصبحنا واعيين، هذا التأثير (الضربة المزدوجة) الناتج عن وجود غرائز اخلاقية ، وهي السبب الأساسي للإحباط والغضب الكامن في سلوكنا وايضا للذنب الهائل وإنعدام الأمن الذي استلزم ان نتبنى الغرائز الوحشية غير الحقيقة والصادقة، وبهذا تفاقم الصراع بين الغرائز والعقل في حالة جنسنا البشري الى حد كبير .

أريد أن أقدم إعترافا بهذا الصراع من قبل بعض المفكرين في العصور القديمة (وسنذكر لاحقا مفكرين مشابهين من العصر الحاضر).

كان الفيلسوف العظيم إفلاطون من بين أوائل من اكتشفوا (الحالة البشرية) طرح فكرة أن كل البشر يختبؤون في كهف (رمز جهلهم بفهم حالتهم البشرية الفاسدة) وتوجد نار تمنع الخروج من الكهف (رمز لضوء الحقيقة  الحارق والمسبب للألم عند محاولة الخروج) والخوف من رؤية عيوب الحالة البشرية التي لا تطاق، لذلك يختبئ البشر أعمق وأعمق في ظلام الكهف .

ولنأحذ النبي موسى الذي كان قادرا على التحدث مع الله*، وفهم المعنى التكاملي للحياة (التكامل وتجسيد لـ  الله).

آدم وحواء بعد أن أكلا الثمرة المحرمة (شجرة المعرفة) وصارا واعيان، حدث السلوك الإنقسامي أو الخطي.

يعني أن جنسنا البشري عاش ذات يوم بشكل تعاوني ومحب، ثم بعد أن أصبحنا واعين فقدنا تلك الحالة، وبالتالي صرنا خطاة  أشرار مذنبين؛  وعدوانيون نستحق الطرد من الجنة، أن كلمة عدن تعني باللغة العبرية البيت الأول.

بالطبع ما ينقص رواية النبي موسى هو التفسير النقدي التعويضي: لماذا البحث عن المعرفة يجعلنا غاضبين وانانين ومنعزلين، وهو الأمر الذي كما أكدت (المقصود بأكدت: جيرمي غريفيث)  في عرضي السابق؛ اصبح بإمكان العلم إكتشاف الطريقة المختلفة التي تعمل فيها  كل من الجينات والأعصاب، اي أنه بينما يمكن للجينات ان تحدد إتجاهات الأنواع، تحتاج الأعصاب الى فهم السبب والنتيجة من خلال العقل، وبما أن العلم لم يكتشف وجود الجينات والأعصاب وكيفية عملهما؛ إلا خلال الـ 160 عاما الماضية او نحو ذلك (الفترة منذ نشر دارون نظريته في الإنتقاء الطبيعي) فهذا مقدار مذهل من الوقت الذي قضيناه نحن البشر الواعون تماما، ان نعيش دون القدرة  على فهم انفسنا بصدق؛ طوال  حوالي المليوني سنة في الواقع، لذا يمكننا الآن أن نرى مدى  أهمية (حرمان اسلافنا من العيش بشكل تعاوني ومحب،  بدلا من ذلك نخدع انفسنا بأنهم كانوا بشرهمج ومتوحشون، يحاولون إنتاج جيناتهم مثل سائر الحيوانات الأدنى مرتبة في سلم التطور؛ لآنه بدون هذا الإنكار وهذا العذر لن نتمكن من ذلك لكي نتعايش مع انفسنا طوال ذلك الوقت، ويمكننا منذ الآن ايضا ان نرى كم هو مريح للغاية ان يكون لدينا الفهم السبب  الحقيقي  لحالتنا الفاسدة، وأن لا نضطر بعد الآن الإستتمرار في تمثيلية الإيمان بقدر كاذب .

***

صالح البياتي

.........................

الهامش

- كل ما ورد في المقاله هو للعالم الأحياء جيرمي غريفيث.

- النبي موسى كليم الله.

يكاد يندر أن تجد إنسان عراقي يمتلك فضيلة (المطابقة) بين ما يقوله ويعلن عنه جهارا"من جهة، وبين ما يفكر فيه ويعتقد به باطنا"من جهة أخرى، بحيث يبدو كما لو أنه يعيش بين عالمين منفصلين ومتناقضين ؛ يظهر الجرأة والجسارة في الحالة الأولى، ويضمر الاستكانة والتقية في الحالة الثانية . ولهذا قلما نصادف في حياتنا اليومية وجود من يعبر عن ومضات عقله بصراحة وخلجات نفسه بوضوح ، وهو ما يعتبر بالنسبة لعلماء النفس والاجتماع حالة متقدمة من حالات (سايكوباثيا) الشخصية بحاجة الى تشخيص الأعراض وعلاج المسببات .

وكما في كل الظواهر الاجتماعية والإنسانية الشاذة والغريبة التي يمكن مصادفتها في حياتنا اليومية، لا يشكل الفرد العراقي - في هذا الإطار - حالة استثناء كما قد يوحي عنوان المقال لمن يستهويه هذا الأمر ويستمرئه، وإنما هي ظاهرة من جملة ظواهر عامة وشائعة يمكن رصدها وتشخيصها لدى أفراد وجماعات أخرى في بيئات اجتماعية وثقافية مختلفة . ولكن ما يتميز به الفرد العراقي عن سائر أفراد المجتمعات كونه (يتفوق) بأشواط على أقرانه في استبطان عقدة (الهاجس الأمني) واجتياف تبعاتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، لا في إطار وعيه الظاهر (الشعور) وما يتمخض عنه من تصرفات وسلوكيات غالبا"ما تتسم بالفضاضة والخشونة، الأمر الذي يسبغ عليها طابع التطرف في المواقف والعنف في العلاقات فحسب، وإنما في مطمور لاوعيه الباطن أو (اللاشعور) وما يتوقع أن يترتب عليه من تمثلات وتصورات غالبا"ما كانت مشحونة بفائض من القلق إزاء المستقبل، والخوف من المجهول، والريبة من الغريب، التوجس من المختلف .

والحقيقة انه إذا ما حاولنا إيجاد تفسير مقنع يميط اللثام عن أسباب تمكن هذه الظاهرة من شخصية الإنسان العراقي المدجنة واستيطانها داخل شعاب سيكولوجيته المترجرجة، فلعلنا لا نجانب الصواب حين نزعم ان العلة الأساسية التي وسمت تفكيره وبرمجة وعيه بالشكل الذي ينم عن قلة حيلة وانعدام إرادة وفقدان مصير، إزاء سلاسل متواصلة من سياسات وإجراءات التجويع الاقتصادي والترويع النفسي والتركيع السياسي والتضييع الإنساني، التي لم تبخل أنظمة الحكم السياسية السابقة واللاحقة في جعلها طقوس متوارثة بين أجيال المجتمع طيلة عقود متقادمة وتواضعات متراكمة، حتى أضحت جزء حيوي من تكوينه الذهني والسيكولوجي .  

ولعله لو بحثنا في سيرورات وديناميات تاريخ المجتمع العراقي، لوجدنا من الأسباب والدوافع القاهرة ما لا يجعل فقط من شخصية الفرد العراقي عرضة لدوامات الخوف والقلق والتوتر فحسب، وإنما يحلها الى كتلة مضطربة تتلظى بجحيم لا يطاق من جنون الارتياب والهلع من كل ما له صلة بمؤسسات الدولة الأمنية وعناصر السلطة القمعية التي تحيط به من كل جانب . لاسيما وان هذا الإنسان المقهور في إرادته، والمهدور في إنسانيته، والمغدور في حقوقه، قلما عرف فترة من فترات تاريخه المخضب بدماء الأبرياء والبؤساء، والمعفر بدخان الحروب والصراعات . استشعر خلالها انه يعيش في ظل (دولة راعية) تحميه من غوائل الخوف والعنف من الآخر، مثلما يتمتع برعاية (مجتمع حاضن) يجنبه الوقوع بين براثن العزلة والاغتراب . ولهذا غالبا"ما نجد ان مشاعر (الثقة) المتبادلة بين رجل الأمن ونظيره المواطن العادي، كانت - على الدوام - ليست فقط ضعيفة وهزيلة وإنما ملغية ومعدومة بالكامل، هذا ان لم تكن ملغومة بالحقد والضغينة والكراهية، بحيث ان الحديث عن هذا الأمر يبدو أشبه ما يكون بثرثرة سمجة منه بتوصيف حالة واقعية معاشة . 

والمشكلة ان التربية البيتية (الأبوية) والتنشئة الاجتماعية (القبلية)، ساهمتا – كلا"في مجالها الخاص - في تكريس مثل هذه المخاوف وترسيخ مثل هذه الهواجس، سواء عبر سيرورات (المجايلة) الفاعلة في مثل بيئة المجتمع العراقي، حيث الروابط الأسرية والصلات القرابية والانتماءات العصبية لها اليد الطولى في تنميط وعي الفرد ونمذجة سلوكه، أو من خلال الممارسات والإجراءات البيداغوجية والإيديولوجية التي لا تفتأ السلطات السياسية من حمل مكونات المجتمع على الامتثال لتعاليمها والاجتياف لقيمها، بحيث لا تترك أي مجال أمام من يتجاسر على ردم الهوة بين من يرمز الى الدولة / السلطة، وبين من هو خارج وصايتها المستمرة ورقابتها المتواصلة ! . 

***

ثامر عباس

عندما يُبنى النظام السياسي على عقيدة حزبية أو دينية، يكون التراجع عنها انهياراً، فبعد أنْ يقضي النظام عقوداً مِن التعليم والتثقيف بها، لحمل المجتمع عليها، منقوشة في الدستور وفي دفاتر المدارس، فلا مجال للتراجع، مع بقاء النظام نفسه، فلم ينفع الاعتذار ولا إعادة الاعتبار، لمَن أُعدم وغيب بسببها، والسُّؤال: ماذا لو خرج مصلحٌ مِن أبناء العقيدة نفسها، ألم يتغير النّظام؟ نعم، يتغير ولكنّ لا تبقى العقيدة قائمة، فإذا انهارت، انهار ما سواها. لا يكفي خلع النَّظام ثيابه، إلا الإصلاح الشّامل، الذي يقرّ بأنَّ الدَّولة لإدارة مصالح النَّاس، لا دين لها، ولا عقيدة ملفقة مِن الرّوايات. عندما أراد أحد ملوك أوروبا عزل الكنيسة عن الدّولة، أعلن أنه ليس ملكاً على «الضَّمائر»، فكان الإصلاح (لوكير، التّسامح في عصر الإصلاح).

يذكر التّاريخ ما فعله الخليفة عبد الله المأمون(ت: 218هج)، لما عاد إلى بغداد ووجد المطاوعة استغلوا الفراغ، وبما أنّ بغداد عاصمة، ومَن يهيمن عليها تخضع له الأطراف، أعلن منها تسيير دولته بعقيدة كلاميّة دينيّة، وهي «خلق القرآن»، وأمر امتحان الفقهاء بها، ووفقها يتحدد الإيمان والكفر، استمر عليها، مِن بعده، أخوه وابن أخيه، لكن ما إن أتى جعفر المتوكل (قُتل: 247هج) وانقلب عليها، لم تنته العقيدة فقط، بل انتهى النّظام نفسه، فصارت تتحكم فيه الميليشيات- بمصطلحات زماننا- والقول مشهور: «خليفةٌ في قفص/ بين وصيفٍ وبغا/ يقول ما قالَا له/ كما تقول الببّغاء»(الذَّهبيّ، تاريخ الإسلام). كذلك شاع ببغداد على لسان اللُّصوص والعيارين، السنة (307هج)، عندما قُلد المملوك نجح الطُّولوني في إدارة الشّرطة: «أخرج ولا تبالي/ ما دام نجح والي»(مسكويه، تجارب الأُمم).

مِن أمثلة العصر الحديث البليغة: ظهر ميخائيل غورباتشوف (1985-1991) مصلحاً، بعد سبعين عاماً (1917-1991) مِن هيمنة العقيدة المركزيّة في الدَّولة والمجتمع، ومع كلّ الجبروت الداخلي والخارجي، وإذا يتحول الإصلاح (البروسترويكا) كارثة على النّظام نفسه، لأن الإصلاح هزّ ثوابت العقيدة، كما أن الأنظمة التي تبنت العقيدة الدّينيَّة، تورطت بها، لأنَّ العقائد للأفراد لا تصلح تطبيقات في الدَّولة.

اتُّهم غورباتشوف كثيراً، ومازال متهماً، حتَّى بعد وفاته (2022)، بالعمالة لإسقاط الاتحاد السّوفييتيّ، لكن لا أحداً نظر بأنّ الإصلاح إذا بدأ لا يُعصَم منه النّظام نفسه، وهنا لا يعنينا الخطأ والصّواب، إنَّما نظام العقيدة، لأنْ تكون ضمير النّاس، لا يقبل الإصلاح بأدواته. هذا، وإذا كان نظاماً دينياً، فالإصلاح المرائي سيضر الدِّين والدُّنيا معاً. كنا نقرأ لافتات ضخمة، ببعض العواصم، تقول: «فلان ضمير الأُمة»، فتأمل.

ما تنجح به أنظمة، مِن تجديد، وتقدم بالأقوال والأفعال، لم تكن أنظمة عقائديَّة، عندها السّياسة فن الممكن تماماً، والداخل أهم مِن الخارج، ومعلوم أنّ عقيدة دولة، أي دولة، عابرة للحدود والأوطان، لا تكتفي بداخلها، بل تواجه أزماتها الدّاخليّة بتصدير ضررها إلى الخارج، وإشغال شعبها بالشّعارات، لا بالبناء وملاحقة التّطور، ويكون شعبها أولاً، فمَن لا ينفع شعبه عاجز عن إعانة غيره. هنا يكون التّجديد هلاكاً لنظام العقيدة، بينما حياةً لغيره، وحكاية الحرس القديم، ومواجهته للإصلاح، ليست خافية على أحد، فإذا اضطرت إلى الإصلاح فلا يتعدى التَّرقيع.

نسب لعَدي بن زيد (ت: 587م) ما نعتبره حكمةً، وإنْ اختلفت المناسبة: «نُرقّعُ دُنيانَا بتَمزِيق ديِننَا/ فلَا دِينُنَا يَبقَى وَلَا مَا نُرَقِّعُ»(اليسوعي، شعراء النّصرانيَّة قبل الإسلام)، وقد استشهد ابن خلدون بالبيت، ولم ينسبه (المقدمة)، غير أنّ الجاحظ (ت: 255هج) نسبه لبعض المجان (كتاب الحيوان). أياً كان القائل فالحكمة ظاهرة فيه. ترى بشار بن بُرد(قُتل:167هج)، أخذه وقال بما يفيد المقام: «نُرقّعُ بَعضَ دُنيَانَا ببَعضِ/وَنَترُكُ مَا نُرقّعُهُ ونَمضِي»(ابن أدمر، الدُّر الفريد وبيت القصيد).

***

د. رشييد الخيون - كاتب عراقي

 

أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف جعلتني أشعر بأنني محاصرة ذهنيا

بقلم: زينب الحسني

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

كانت أحلام اليقظة الممتدة بمثابة هروب كنت في أمس الحاجة إليه، لكنها تحولت إلى دافع يزاحم أنشطة اليقظة.

لقد كان الجو حارًا بعد ظهر يوم الأحد. لذلك قررت أن أحتسي بعض الشاي المثلج وأشاهد صبيًا أشقرً لطيفًا - في نفس عمري تقريبًا، يرتدي سروالًا بنيًا وقميصًا أبيض - يلعب في الخارج بمضرب البيسبول . في السياق، يجب أن تعلم أنني كنت مجرد فتاة تبلغ من العمر سبع سنوات، أعيش في منطقة ريفية في لاغوس بنيجيريا، أحلم بالشخصية الرئيسية من فيلم لم أتمكن من إكمال مشاهدته بسبب انقطاع التيار الكهربائي. في هذه المرحلة، لم يسبق لي أن رأيت شخصًا أشقر أو مضرب بيسبول في الحياة الحقيقية. هذه هي أول ذكرى لي عن أحلام اليقظة.

في البداية كان الأمر بمثابة هروب غير ضار، وملعب إبداعي حيث أطلق فيه للخيال العنان. كنت أستحضر مشاهد بشخصيات مختلقة، وأنسجها بسلاسة في حياة المشاهير الذين رأيتهم في المجلات أو على شاشة التلفاز  لدى جارتي. ومع مرور الوقت، بدأت أحلم في أحلام اليقظة لساعات متواصلة - كانت أحلام اليقظة تبدأ من تلقاء نفسها - وأحيانًا كنت أستيقظ في الليل وأحلم حتى الفجر. في أحد أحلام اليقظة المفعمة بالحيوية، جاءت فتاة جديدة إلى المدرسة وأصبحت أفضل صديقة لي، وأوقفت أخيرًا التنمر الذي كان يحدث لي في الفصل. وفي الواقع، لم تأت فتاة قط.

تدهورت الأمور عندما تراجعت مصادر دخل والدي، وأصبح من الصعب تلبية الاحتياجات الأساسية أصبحت أحلام اليقظة بمثابة خلاص لعدم قدرتي على التغلب على الفقر الذي سيطر على حياتنا. في رأيي، لم أكن أجلب دلوًا من الماء أو أتعامل مع إصابة في الضفيرة الصدرية؛ لقد عشت أسلوب الحياة الفاخر لكيمورا وكيندرا وكارداشيانز. لماذا أعود إلى عالم مليء بالصراع والتوتر بينما أستطيع أن أعيش في أحلام اليقظة الحية؟ قدم هذا العالم الخيالي في البداية راحة هائلة من مشاكل الحياة الواقعية. ومع ذلك، فإن تعطيل أنشطتي أثناء اليقظة، سيؤدي في النهاية إلى تفاقم الضغط النفسي.

تم تقديم مصطلح "أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف" (MD) في عام 2002 من قبل عالم النفس السريري إيلي سومر. إنها ظاهرة نفسية تتميز بأحلام اليقظة الواسعة التي تحل محل التفاعل البشري الواقعي و/أو تتعارض مع قدرة الشخص على العمل في مجالات مهمة مثل المدرسة أو العمل. وهى تنطوي على عوالم خيالية مفعمة بالحيوية وغامرة يخلقها الشخص داخل عقله، غالبًا للتعامل مع التوتر أو القلق أو التحديات العاطفية الأخرى. العديد من الأفراد الذين يعانون من أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف لديهم تاريخ من الصدمات في مرحلة الطفولة أو سوء المعاملة أو الاضطراب العاطفي،وبعض السمات، مثل الإبداع العالي والاستيعاب، قد تهيئ الأفراد للانخراط فيها.

غالبًا ما تتسم أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف بسمات تتداخل مع حالات الصحة العقلية الأخرى، مما يجعلها ظاهرة معقدة يصعب التعرف عليها وعلاجها. على سبيل المثال، يمكن أن تشبه السلوكيات المتكررة أعراض اضطراب الوسواس القهري (OCD). هناك أيضًا تداخل بين أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف واضطراب نقص الانتباه/فرط النشاط (ADHD): قد تساهم بعض أعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه في عدم قدرة بعض الأشخاص على تنظيم نوبات أحلام اليقظة؛ وفي الوقت نفسه، قد تؤدي أحلام اليقظة المفرطة إلى عجز في الانتباه كأثر جانبي.  كتب سومر وزملاؤه أن أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف تبدو "ليست مستقلة تمامًا عن وجود اضطراب آخر، ولا يمكن تفسيرها بشكل كامل".

يختلف هذا النمط الإشكالي من أحلام اليقظة بشكل كبير عن نوع أحلام اليقظة التي يعيشها معظم الناس. لم تكن أحلام اليقظة مجرد رحلات خيالية غير ضارة.في أغلب الأحيان، كنت أتدرب على نفس المشاهد مرارًا وتكرارًا في أحد أركان الغرفة، وأقوم بتعديل المحادثات أو تعبيرات الوجه قليلاً. كنت أبكي عندما بكت شخصياتي، وكنت أضحك عندما تبكى. وعلى الرغم من أنني كنت أمشي بشكل قهري أثناء أحلام اليقظة، إلا أنني بذلت قصارى جهدي لإخفاء ذلك قدر استطاعتي خلف واجهة من السلوك المتواضع. لم تكن مشكلتي شيئًا يمكنني مناقشته بشكل علني أو طلب المساعدة بشأنه، حتى لو أردت ذلك. في موطني، أي شيء يشبه حتى ولو عن بعد شذوذًا سلوكيًا غالبًا ما يُوصف بأنه "بلاء" ويقابل بالريبة.

إن العيش مع إصابة في الضفيرة العضدية جلب لي المزيد من الألم الجسدي والعاطفي، مما زاد من وتيرة أحلام اليقظة. تركت جلسات العلاج الطبيعي آلامًا في جسدي، كما غمرتني استفزازات زملائي المستمرة بشأن مظهري. أصبحت أحلام اليقظة ملجأي الدائم، ووسيلة للخروج من جسدي وتخدير الألم. لقد عانيت من الشعور بالذنب والعار والإحباط في كل مرة استسلمت فيها لساعات من أحلام اليقظة. ومع ذلك، في هذه الأحلام، تمكنت النسخة المثالية من نفسي من تجربة الحب والقبول والكمال.

لقد حاولت الابتعاد عن الأمر، وتعهدت بالانسحاب نهائيًا. ولكن حتى أصوات الموسيقى يمكن أن تؤدي إلى حلقات تتصاعد إلى ساعات من الهروب الغامر. كثيرًا ما كنت أوبخ نفسي، وأتوسل بشدة إلى الله أن "يصلح" دماغي. عندما انتقلت إلى مرحلة البلوغ، بدأت أحلام اليقظة غير المنتظمة في إحداث تأثيرات بعيدة المدى، حيث تتداخل مع أنشطتي الاجتماعية ومساعي الأكاديمية. لقد حظيت بفرصة الحصول على موارد من الأصدقاء والعائلة لأتمكن من الدراسة في الجامعة. لكنني وجدت صعوبة في التركيز، خاصة عندما كانت الفصول الدراسية عبر الإنترنت بسبب فيروس كورونا (COVID-19). كان بإمكاني قضاء خمس ساعات في أحلام اليقظة بينما كان الموعد النهائي للمشروع يحدق في وجهي. كان لهذا الصراع أثره السلبي على أدائي الأكاديمي العام، مما كلفني فترة تدريب واعدة وفرص وظيفية.كما أنها عطلت أنماط نومي بينما زادت من التوتر والقلق وعدم الرضا عن الواقع. بدلاً من التعامل مع أصدقائي الحقيقيين، فضلت التراجع إلى الخيال. حتى المهام الأساسية مثل الطبخ والتنظيف والنظافة الشخصية أصبحت تحديات هائلة.

ومع اتساع الهوة بين أحلامي وواقعي، شعرت بالعجز عن عبورها. عندما كنت في التاسعة عشرة من عمري، طلبت أخيرًا المشورة الطبية سرًا.عرض المعالج الذي تواصلت معه عبر الإنترنت المساعدة، لكن التنقل من مسكننا الريفي إلى العيادة البعيدة كان مكلفًا وصعبًا من الناحية اللوجستية. بالإضافة إلى ذلك، في مكان حيث غالبًا ما يتم تجاهل مشاكل الصحة العقلية وتجاهلها، فقد أسيء فهم حالتي إلى حد كبير، حتى من قبل المتخصصين الذين حاولوا المساعدة.أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف ليست مدرجة أيضًا في نصوص التصنيف الرسمية مثل الإصدار الأخير من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية (DSM-5-TR) والأطباء النفسيون لا يعرفون ذلك إلى حد كبير.

لذلك كان علي أن أتعلم كيفية إدارة حالتي دون مساعدة مهنية وفي صمت. لم يكن الأمر سهلاً وكانت الرحلة مليئة بالانتكاسات ولحظات اليأس. لكنني وجدت العديد من الاستراتيجيات مفيدة، بعضها تم تطويره بشكل مستقل والبعض الآخر تعلمته من أشخاص لديهم تجارب مماثلة.

1. البحث عن  الدعم:

كنت أعتقد أنني الوحيدة التي تتعامل مع هذا الأمر، ولكن منذ بضع سنوات، اكتشفت مجتمعًا عبر الإنترنت يضم أفرادًا من جميع أنحاء العالم شاركوني في صراعي مع أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف. لقد كان ملاذًا حيث يمكنني أخيرًا التحدث بصراحة عن التحديات التي أواجهها دون خوف من الحكم أو سوء الفهم. التقيت بأشخاص آخرين أدركوا النطاق العميق لهذه المشكلة، أشخاصًا لم يسألوا: "لماذا لا تتوقفين؟"، بل عرضوا بدلاً من ذلك التعاطف والدعم والنصائح العملية. لقد انفتحت أيضًا على صديقي المقرب للمرة الأولى ولم أعد أشعر بالوحدة بعد الآن. أدى انخفاض الشعور بالعزلة إلى تقليل الحاجة إلى اللجوء إلى أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف.

2. البقاء حاضرا:

كانت إحدى الاستراتيجيات الأولى التي اعتمدتها هي أن أكون حاضرة: أضع يدي على صدري لأشعر بنبضات قلبيأو أعد الأوراق على فرع قريب للحفاظ على تركيزي على اللحظة. في الأساس، كنت أمارس اليقظة الذهنية. من خلال لفت انتباهي إلى هنا والآن، اكتسبت سيطرة أكبر على ميولي في أحلام اليقظة. لقد جعلني ذلك أكثر وعيًا بالمحفزات مثل الصباح الباكر والمسلسلات والمحادثات المكثفة والصراعات مع الأقارب والمهام المتكررة، بالإضافة إلى الأحاسيس التي شعرت بها خلال حلقات أحلام اليقظة .

3. الأنشطة البدنية:

إن المشاركة في النشاط البدني الذي يتطلب اهتمامي الكامل ساعد في تحويل ذهني عن أحلام اليقظة. أصبحت الهوايات مثل الرسم ونط الحبل والصور الفوتوغرافية وحتى صناعة الورق أدوات قيمة في ترسانتي. كما أنني أتطوع في مجتمعي مرة واحدة في الأسبوع لتعليم الشباب الفقراء مهارات حياتية مهمة؛ وهذا، على وجه الخصوص، ساعدني بشكل كبير.  ومع قضاء المزيد من الوقت في النشاط في العالم، قمت أيضًا بتقليل استخدامي لوسائل التواصل الاجتماعي، والتي كانت تميل إلى زيادة مشاعر عدم الكفاءة بينما توفر أيضًا مادة لأحلام اليقظة. بدأت ألاحظ أن أحلام اليقظة أصبحت أقل إلحاحًا عندما تم إيقاف تشغيل تطبيقات التواصل الاجتماعي.

4. إنشاء حدود زمنية:

أدركت في وقت مبكر أنني بحاجة إلى وضع حدود بين أحلام اليقظة وحياتي اليومية. إن تحديد أوقات محددة للأنشطة سمح لي بالحفاظ على درجة من السيطرة على أفعالي القهرية. كنت أقوم بضبط المنبهات والتذكيرات بتسميات مثل "استكشف خمس صفحات من كتاب القانون الدستوري الموصى به" أو "أرسل رسالة نصية إلى تيم وسارة". وبمرور الوقت، تمكنت من تقليل تكرار ومدة حلقات أحلام اليقظة عن طريق وضع هذه الحدود الزمنية. وبالمثل، يتضمن العلاج السلوكي المعرفي (CBT) أحيانًا جدولة أنشطة محددة في أوقات محددة ومساعدة الأفراد على إنشاء إجراءات منظمة.

5. التعاطف مع الذات:

ربما كان الدرس الأكثر تحديًا وتحويلًا هو تعلم أن أكون لطيفًة مع نفسي. كان علي أن أتقبل أن أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف لم تكن عيبًا في الشخصية، وأنه لا يوجد أي خطأ جوهري في عقلي. لقد سمح لي التعامل مع نفسي بالتعاطف بالتقليل تدريجيًا من قبضة أحلام اليقظة على حياتي. أردت أن أكون محبوبة كشخص عادي وكامل، وهي الرغبة التي غذت أحلام اليقظة. الآن أقوم بتوجيه هذا البحث عن الحب بشكل مختلف.

إن التحرر من أحلام اليقظة غير القادرة على التكيف هو عملية مستمرة بالنسبة لي؛ لا تزال هناك أيام أتعثر فيها، لكني أحاول قبول ذلك دون الحكم على نفسي أو انتقادها. أنا لست مرهقة كما كنت من قبل. آمل أنه مع تزايد الوعي بقضايا الصحة العقلية في بلدي وإجراء المزيد من الأبحاث حول هذه التجربة على وجه التحديد، آمل أن يجد الأفراد الآخرون مثلي - الذين يتوقون إلى حياة أقل استهلاكًا للهروب إلى الخيال - الدعم والفهم الذي يحتاجون إليه.

(انتهى)

***

.......................

المؤلفة: زينب الحسني/ Zainab Al-Hassani . زينب الحسني هو اسم مستعار لطالبة قانون وشاعرة مقيمة في لاجوس بنيجيريا.

هوامش:

* تنجم إصابات الضفيرة العضدية عادة عن صدمة في الرقبة، ويمكن أن تسبب الألم والضعف والخدر في الذراع واليد. غالبًا ما تشفى إصابات الضفيرة العضدية جيدًا إذا لم تكن شديدة. يتعافى العديد من الأشخاص الذين يعانون من إصابات طفيفة في الضفيرة العضدية بنسبة 90% إلى 100% من الوظيفة الطبيعية لأذرعهم.

لم تكن أحلام اليقظة مجرد رحلات خيالية غير ضارة، ومن خلال تركيز انتباهي على هنا والآن، اكتسبت سيطرة أفضل على ميولي إلى أحلام اليقظة

مقدمة: لقد كانت الحرب منذ فترة طويلة موضوعا للسحر والخوف والتحليل. ومع ذلك، فإن أحد الجوانب التي غالبا ما تستعصي على فهمنا هو عدم موثوقية اللغة في الوصف الدقيق لعنف وأهوال الحرب. في هذا المقال، سوف نستكشف التحديات المعقدة التي نواجهها عند محاولة توضيح الطبيعة الحقيقية للحرب، مع تسليط الضوء على سبب فشل اللغة في كثير من الأحيان في التعبير عن جوهرها بشكل كامل.

مدى تعقيد العنف في الحرب

إن وصف عنف الحرب مهمة شاقة بسبب تعقيدها المتأصل. إن العنف في الحرب يتجاوز التعريفات البسيطة؛ فهو يشمل الأبعاد الجسدية والعاطفية والنفسية والمجتمعية. إن الطبيعة المتعددة الأوجه للعنف تتحدى الأوصاف التبسيطية، مما يجعل من المستحيل تقريبا على اللغة أن تشمل نطاقه الحقيقي بشكل كامل.

الذاتية والمنظور

سبب آخر لعدم موثوقية اللغة في تصوير عنف الحرب هو ذاتيتها واعتمادها على المنظور. يعاني الأفراد المختلفون من العنف ويتصورونه بشكل مختلف. تتشكل اللغة التي نستخدمها بطبيعتها من خلال وجهات النظر الشخصية والخلفيات الثقافية والتحيزات. ومن ثم، فإن محاولات رسم صورة موضوعية تفشل لأن اللغة غير قادرة على التقاط مجموعة متنوعة من التجارب.

حدود اللغة

اللغة، باعتبارها أداة نقل للفكر الإنساني، تمتلك قيودا متأصلة عندما يتعلق الأمر بتغليف أهوال الحرب. الكلمات، بغض النظر عن دقتها أو مقصدها، غالبا ما تكون غير قادرة على تحويل الواقع الغامر والعميق للحرب إلى مجرد تمثيل لغوي. لا يمكن التعبير عن عمق العواطف والتجارب التي تصاحب الحرب بشكل كافٍ ضمن حدود اللغة وحدها.

الانفصال العاطفي

عند محاولة وصف عنف الحرب، غالبا ما تفشل اللغة في نقل العمق العاطفي الذي يعيشه المشاركون. إن الألم والخوف والحزن واليأس الذي يصاحب الحرب نشعر به بعمق ولكن يصعب التعبير عنه باللغة. ونتيجة لذلك، ينشأ انفصال عاطفي بين الجمهور والتجارب الفعلية للحرب، مما يحد من فهمنا لتأثيرها الحقيقي.

عدم القدرة على وصف الصدمة

تنتشر الصدمات في سياق الحرب، وغالباً ما تكون ندوبها النفسية غير قابلة للوصف. إن المعاناة التي لا يمكن وصفها والتي يتحملها الأفراد المتأثرون بالحرب تخلق حاجزًا لغويًا يزيد من إعاقة فهمنا. إن تجارب العنف الشديد والرعب تتجاوز الحدود اللغوية لمفرداتنا، مما يجعل اللغة أداة غير كافية لنقل حجم هذه الصدمات.

التجريد من الإنسانية والعبارات الملطفة

ونظراً للطبيعة الوحشية المتأصلة للحرب، فقد تم التلاعب باللغة منذ فترة طويلة لتخفيف الحقائق القاسية. يتم استخدام العبارات الملطفة والجهود اللغوية اللاإنسانية لإبعاد أنفسنا عن الحقيقة المروعة. يشكل هذا الانفصال المتعمد الروايات التي نستخدمها، مما يزيد من عدم وضوح الحدود بين الحقيقة والخيال، مما يعيق الفهم الحقيقي لوحشية الحرب.

الفروق الثقافية وقضايا الترجمة

عند مناقشة العنف في الحرب، تشكل الحواجز اللغوية عقبة أخرى. تعد ترجمة الفروق الدقيقة في التجارب الشخصية من لغة إلى أخرى مهمة صعبة للغاية وغالبًا ما تؤدي إلى فقدان المعلومات وسوء التفسير. ونتيجة لذلك، يصبح من الصعب على نحو متزايد على المجتمعات المتنوعة أن تتواصل وتستوعب بشكل حقيقي العنف الذي شهدته الحروب المختلفة.

التجارب الحسية في الحرب

تشغل الحرب كل الحواس، من صوت الانفجارات الذي يصم الآذان إلى رائحة الدخان النفاذة. ومع ذلك، فإن اللغة محدودة في قدرتها على تكرار مثل هذه التجارب الحسية. إن محاولات وصف عنف الحرب تفقد الحدة التي توفرها الأحاسيس الجسدية الفعلية، مما يقلل من قدرتنا على فهم التأثير الكامل.

تأثير الدعاية والإعلام

وفي عصر وسائل الإعلام، تتفاقم عدم موثوقية اللغة في وصف الحرب. غالبا ما تشوه الدعاية والإثارة السرد، مما يغير الفهم العام. إن قوة الصور واللقطات الصوتية تحجب اللغة الدقيقة، مما يزيد من التحدي المتمثل في الفهم الدقيق لعنف الحرب.

خاتمة:

اللغة، بكل تعقيداتها وقيودها، تكافح من أجل تلخيص العنف الحقيقي الذي شهدته الحرب. إن تعقيد العنف، والتصورات الذاتية، والانفصال العاطفي، والحواجز الثقافية، كلها تساهم في عدم موثوقية اللغة. وباعتبارنا متعلمين بضمير حي، يجب علينا أن ندرك هذه القيود وأن نستكشف وسائل بديلة لسد الفجوة بين اللغة وفهمنا للأهوال التي تحملناها في ساحة المعركة.

***

محمد عبد الكريم يونسف - سورية

 

"انت لست ضعيفا ما دمت تقاوم"

مقدمة: أثارت القضية التي رفعتها دولة جنوب افريقيا لدى محكمة العدل الدولية بلاهاي ضد الكيان المحتل لأرض فلسطين بسبب الجرائم المرتكبة ضد المدنيين والاطفال والمرضى والمدارس والمستشفيات وممارسة الابادة الجماعية والتطهير العرقي والتمييز العنصري والتهجير القسري للغزاويين الكثير من ردود الأفعال سواء المرحبة في صفوف المنحازين للحقوق الفلسطينية أو المستنكرة بالنسبة للمساندين للإسرائيليين وانطلقت نقاشات في الدوائر السياسية والحقوقية وكذلك في الفضاءات الاعلامية والجامعية.

كما تم طرح المفارقات الفلسفية التي تتضمنها الأزواج المفوهيمية للحرب والسلام والحق والقوة وأيضا الحرية والعدالة والسيادة والمواطنة ووقع اثارة قضية تفكيك الاستيطان والعمل على انهاء الاستعمار وطرق القضاء على التمييز العنصري وتجفيف منابع الكراهية بين الشعوب والانتصار للحق والعدل بدل تفشي العنف والجريمة وانتشار الفوضى والقتال على الساحة الدولية وعولمة الفقر والمرض والازمات.

في هذا السياق، تظل الحرب، بحكم تعريفها، مجرد صراع بين أطراف غير راغبة أو غير قادرة على حل خلافاتها بوسائل أخرى. وبالتالي فإن الحرب هي توازن محض للقوى. وبالتالي، فإن نتيجتها في أغلب الأحيان تنطوي على خضوع أحد الطرفين المتحاربين للآخر. ومع ذلك، فإن الوضع الناتج عن ذلك، الحقيقة التي يرسيها توازن القوى هذا، ليس عادلاً للطرف المهزوم، لأنه، كما قال روسو، "القوة لا تصنع الحق". وعلى العكس من ذلك، يشير السلام إلى حالة اجتماعية يتفق فيها أصحاب المصلحة على حل النزاعات التي تعارضهم إلا بالقوة. وبالتالي فإن حالة السلام لا تعني عدم وجود خلافات، بل تعني وجود إجراءات معترف بها من قبل الجميع للتحكيم في النزاعات التي تنشأ بالضرورة عن الحياة في المجتمع. كما يبدو للوهلة الأولى أن السلام يتوافق مع حالة العدالة، لأن القرارات المتخذة في هذا الإطار تتخذ وفق قواعد مقبولة، وبالتالي مشروعة. وبهذا المعنى، يبدو أن الرغبة في السلام تتوافق مع الرغبة في العدالة. لكن هذا الارتباط يقوم على افتراض: التكافؤ بين الشرعية والمشروعية والعدالة. ومع ذلك، ليس لأن القانون أو الإجراء قانوني، فإن الوضع السياسي أو الاجتماعي الناتج عنه يكون مشروعًا، وبالتالي عادلاً. وفي بعض الأحيان يكون رفض خيار الصراع المفتوح باسم الحفاظ على السلام بأي ثمن بمثابة إدامة حالة من الظلم، وبالتالي التغاضي عنها. إن معالجة المشكل تفترض أننا نميز الرغبة في السلام والرغبة في العدالة. إن الرغبة في السلام تعني في المقام الأول الرغبة في الخروج من الاشتباكات والأعمال العدائية. ولكن هل يكفي أن نرغب في إنهاء الصراعات - ليست فقط الصراعات المسلحة على المستوى السياسي ولكن أيضًا الصراعات مع الآخرين في العلاقات الشخصية، وكذلك الصراعات مع الذات التي تقسم الفرد - لنريد السلام حقًا؟ أما الرغبة في العدالة، فهي تسكن الموضوع الأخلاقي كما تسكن الموضوع السياسي. ويتم التعبير عنها بشكل ملموس من خلال رفض الظلم، ومحاربة المصالح والامتيازات. ويمكن التعبير عن الرغبة في العدالة بدورها من خلال المطالبة بالاعتراف بالحقوق العالمية، والدفاع عن الأضعف، والمطالبة بالمعاملة العادلة. المشكل هنا يتساءل عن العلاقة بين السلام والعدالة. للوهلة الأولى، يبدو أن السلام والعدالة قيمتان لا يمكن فصلهما. من وجهة نظر العقلانية، يعتبر السلام والعدالة هدفين أساسيين للعقل. وكلاهما يعبر عن المطالبة بالعالمية العقلانية. إن العمل من أجل السلام يعني الابتعاد عن منطق الصراعات والمواجهات الخاصة. بالنسبة لكانط، فإن السلام الدائم هو هدف العقل العالمي -فكل الحروب التي أصبحت مستحيلة. ولكن ألا يمكن أن تكون هناك تناقضات بين السلام والعدالة؟ في بعض الأحيان نصنع السلام لأسباب أخرى غير العدالة – الهدوء والأمن، عندما نفضل الاستسلام بدلاً من الاستمرار في القتال. إن الرغبة في السلام هي إذًا استسلام، ولا تعمل من أجل العدالة. يمكننا أيضًا أن نصنع السلام ونعززه من منطلق المصلحة أو الإستراتيجية البحتة. على العكس من ذلك، فإن السعي لتحقيق العدالة يفترض أحيانًا أن نحمل السلاح، وأن ننخرط في المواجهة: حروب التحرير؛ الثورات. تحت أي ظروف إذن تعبر الرغبة في السلام حقًا عن الرغبة في العدالة؟ مما لا شك فيه أنه لا يكفي أن نرغب في السلام، بل أن نرغب فيه، أي أن نعمل من أجل السلام، من أجل سلام لا يمكن فهمه إلا على أنه نهاية للأعمال العدائية أو الصراعات، والذي لا يوجد سلام حقيقي إلا إذا فكرنا فيه. فيما يتعلق بالعدالة والحرية. إذا كان النزاع المسلح عبارة عن توازن محض للقوى، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن التوفيق بينه وبين انسجام الحياة الاجتماعية الذي تهدف إليه العدالة. ولكن أليست، مثل اتفاقيات ميونيخ، سلاماً ظالماً؟ هل رغبتنا في السلام تحمينا بشكل عام من الظلم؟ هذه بعض المعضلات التي يطرحها هذا المشكل، نحن نفترض هنا إمكانية وجود رغبة في السلام: فالناس لا يسعون إلى المواجهة فحسب، بل يمكنهم أيضًا أن يريدون السلام. ونتساءل عن طبيعة هذه الرغبة. ماذا يريد الناس عندما يريدون السلام؟ وعلى وجه الخصوص، فإن الرغبة في العدالة هي التي تحرك الرغبة في السلام. هل نريد السلام دائمًا لنرى العدالة تنتصر؟ هل يمكن أن تكون الرغبة في السلام مدفوعة بنوايا أخرى؟ اي واحدة؟ فهل هذه النوايا الأخرى، المخالفة للعدالة، سيئة بالضرورة، ومستهجنة؟ ألا يجب أن يتوقف العدوان على غزة لكي تتوقف المعارك الدنيوية حول المقدس الأخروي والتصادم بين الحضارات ؟

1) إذا كانت القوة لا تصنع الحق، فإن الرغبة في السلام هي بالضرورة تهدف إلى العدالة

في الكتاب الثاني، الفصل الثالث من العقد الاجتماعي (1762)، يوضح جان جاك روسو أن من يستسلم لقوة خصمه لا يشعر أبدًا بأنه مجبر على طاعته ملزمًا بل مقيدًا فقط: "إذا كان من الضروري الطاعة بالقوة، لا نحتاج إلى الطاعة بدافع الواجب، وإذا لم نعد مجبرين على الطاعة، فإننا لم نعد ملزمين بذلك." الآن، إذا كانت الحرب تتمثل في فرض إرادة المرء بالقوة على الخصم، فحتى عندما ينتهي الكفاح المسلح ويتقدم أحد الطرفين على الآخر، فإن الصراع يظل قائما. وبالتالي، يبقى ميزان القوى قائماً، ومعه عدم الاعتراف بشرعية الوضع السياسي الذي يترتب على ذلك. كما أن الأمر الذي تم إنشاؤه لا يتم التعرف عليه إلا من خلال الضرب. وعلى العكس من ذلك، فإن رفض أن تكون الحرب ملاذاً أو حلاً هو الحفاظ على أن السلام الوحيد، المرادف لغياب الصراع المفتوح، هو الذي يضمن في نهاية المطاف إقامة حالة مقبولة من الأغلبية بسبب شخصيته الصالحة. ما لم يكن الأمر مثاليًا بالطبع. هل يفتك الحق بمنطق القوة؟

2) الدخول في الحرب يمكن أن يتوافق أيضًا مع الرغبة في العدالة

إن كون الرغبة في السلام هي رغبة في العدالة لا يعني العكس، أي أن أولئك الذين يريدون الحرب سيظهرون بالضرورة الظلم. ويجب ألا نجعل السلم المدني مثالياً إلى درجة الاعتقاد بأن غياب الاضطرابات السياسية يعكس عدم وجود الظلم. عندما كتب كارل ماركس وفريدريك إنجلز في البيان الشيوعي (1848) أن "تاريخ كل مجتمع حتى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ الصراعات الطبقية"، فإنهما يذكراننا بأن الصراع محفور في قلب المجتمعات البشرية: إن اختلافات المصالح التي تغذيها رغباتهم تضع البشر في منافسة ومعارضة. داخل الدول وكذلك بين الدول نفسها. ومن وجهة النظر هذه، يمكن للسلام أن يحجب حالة بنيوية من الظلم. دعونا نتذكر أن بعض حروب الغزو الإمبراطوري وُصفت بأنها عمليات "تهدئة"، وأن المجتمع الاستعماري الذي تم إنشاؤه بمجرد هزيمة السكان المحليين لم يكن عادلاً على الإطلاق، كما هو الحال في الجزائر زمن الاستعمار الفرنسي لها حيث لم تكن المساواة بين المواطنين أمام القانون موجودة. وبالتالي، هناك سلام غير عادل يشكل في كثير من الأحيان بدايات الحرب القادمة، مثل معاهدة فرساي، التي عاقبت ألمانيا بشدة بعد الحرب العالمية الأولى والتي يتفق عليها المؤرخون. ويعتقدون أنها حددت إلى حد كبير قدوم الحرب العالمية الأولى. من الثاني. في انتقاد هوبز، أشار روسو إلى أن مفهومه للسلام المدني يعادل اختزاله في الأمن. ومع ذلك، فإن الحفاظ على النظام الاجتماعي كما هو يمكن أن يستوعب تمامًا الحفاظ على الظلم الصارخ داخل المجتمع. بين المجتمعات؟

3) إن الرغبة في العدالة تعني معالجة الصراع الاجتماعي من خلال المؤسسات السياسية

في كتابه "الأمير" (1532)، كتب نيكولا مكيافيلي أن "الحرب تكون دائمًا عادلة عندما تكون ضرورية، وتكون الأسلحة مقدسة عندما تكون المورد الوحيد للمضطهدين". ومع ذلك، لا يمكن لأحد أن يريد الحرب من أجل الحرب لأنها مكلفة بشكل منهجي للجميع. وبالتالي، يجب علينا دائمًا أن نفضل الحفاظ على السلام، ولكن بشرط واحد فقط هو النظر إليه من زاوية الاحترام غير المشروط للمؤسسات السياسية والحفاظ على النظام الاجتماعي. عندما كتب جون راولز في كتابه نظرية العدالة (1971)، أن "درجة معينة من الاتفاق حول مفاهيم العدالة ليست الشرط الوحيد لمجتمع إنساني قابل للحياة"، فهو يعني أن سياسة النظام لا تحتفظ بشرعيتها بين السكان إلا إذا فهو ينظم التعبير وحل الخلافات التي لا تفشل في الظهور مع مرور الوقت. ومن وجهة النظر هذه، فإن السلام يحدد كلا من شرط ونتيجة الفن السياسي المتمثل في الاتفاق على الخلاف. لذا فإن الرغبة في السلام تعني أولاً وقبل كل شيء الرغبة في منع الظلم ومحاربته باستمرار بوسائل القانون. الظلم الذي ينشأ عندما لا يتمكن جزء من السكان من التعبير عن مطالبه. فهل يمكن الحصول على العدالة بالمضي في طريق السلام ام بالتمسك بخيار الحرب والقوة؟

خاتمة

ويضع الجميع في أذهانهم صيغة كارل فون كلاوزفيتز: "الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى". بشكل غير مباشر، يذكرنا أنه باسم السلام، يجب ألا نتخلى عن ممارسة السياسة: وهذا يعني، أولاً وقبل كل شيء، أن نتحمل بشكل جماعي المستوى غير القابل للاختزال من الصراع الموجود داخل المجتمعات البشرية وبعضها البعض. إذا كانت الديمقراطية، بالمعنى القوي للكلمة، يجب أن تظل ثمينة في نظرنا، فذلك على وجه التحديد لأنها تضمن، من حيث المبدأ، التعبير عن الخلاف ومراعاة الخلاف بفضل الشكل المؤسسي للنقاش. فمتى ينتهي التدمير الممنهج والاستهداف المستمر للسكان في قطاع غزة وحاضرة فلسطين؟ وكيف يحل العدل محل الظلم وتكف الدول القوية عن سياسة المكيالين تجاه الدول المتعثرة؟ الا ينبغي على المنتظم الاممي أن يعاقب كل من يعتدي على حقوق الانسان والمواطن في العالم مهما كانت قوته ومبرراته وتردع كل من يصادر سيادة الدول ويمنع حقوق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

بين العصف المأكول وطوفان الأزمات والمعالجة ببروستاريكا و طنية

عالم الأقتصاد العراقي:

سوف يكون محور البحث في سيمياء العنوان " فضاءات الأقتصاد العراقي، فالحفريات العميقة في الأقتصاد العراقي تبدو كغثاثة سياسية ومخاض عسير للتغيير، ولآن التنمية الأقتصادية هي الرافعة الديناميكية لحلحلة الأشتباكات الرثة والمزمنة منذ قرن من الزمن فهي كفيلة في أضفاء السوداوية والقنوط على الواقع العراقي، ولو إن المشكلة تبدو كشبكة عنكبوتية متشابكة المتاهات خاضعة لخيبات أصحاب القراروهلامية الجدية والعبثية السياسية والدبلوماسية مع غياب ثقافة المواطنة وتعدد الأنتماءات الفئوية والشعبوية، وضغوطات المحتل الأمريكي بعقوباتهِ التعسفية2018 والتي داست السيادة العراقية بغطرسة تغولية مريبة، وتنمر دول الجوار أيران وتركيا وأطماع الكويت الجارة في قضم الحدود والأستحواذ على الممرات المائية واستنزاف الخزينة بديون باطله أكثر من 65 مليار دولار أمريكي ، أن أوجاعنا وخيباتنا المأزومة والمهزومة ربما بقدم وعراقة هذا الوطن الجريح، وتبدو المخرجات الأقتصادية الرثة والمعيبة رديفة الوطن ومتلازمتها منذ وجودهِ الجغرافي والسياسي عام 1921 حتى اللص المحترف (بريمر) البغيض الذي أكتنز المليارات من النقد ووجه ثروات البلد ومصادر الطاقة لحساب أسياده في واشنطن أضافة إلى أحياء المحاصصة والفئوية الطائفية والأثنية والمناطقية البغيضة والتجاوز على كرامة العراق بألغائه مؤسسة الجيش العراقي الباسل والذي كان واضحا بلعب ورقة الجوكر الشيطانية في تخريب ليس فقط المنظومة الأقتصادية بل تخريب المنظومة الأخلاقية للشعب العراقي بأنتشار نزعة اللصوصية والجرمية والفساد المالي وتخدير الشعب بالأفيون والكرستال القاتل، فأصبح الفساد الأداري والمالي شائعاً في مؤسسات الدولة العميقة وهو اليوم يعتبر من أكبر التحديات التي تواجه الحكومات الأتحادية المتعاقبة، فهو بالتأكيد (يقوَض) الحكم السوي ويشوه السياسة العامة ويهدم مرتكزات القطاع العام والخاص والتالي يلحق الضرر بالطبقات الفقيرة والمتوسطة، ومن خلال هذا الغوص الجاد في ألقاء الضوء الكاشف على محطات الوجع العراقي لذا صرنا نتشبث الخروج من الوحل التسلطي الخارجي، أو ربما البحث عن تلك القشة المنقذة في أستنساخ بعض النماذج الناجحة في بعض دول الخليج والعالم المتمدن، ولست سوداويا بل تفرض علينا الحقائق المأساوية والمؤلمة والتي كابدناها يبقى هذا البصيص من الآمال الواعدة بأستراتيجيات وردية واعدة تندس ضمن أحلامنا الممنوعة لآننا نعيش حرمانات كوميدية رثة ومعتقة نكابدها مرغمين، ولا زلنا نفتش في المعاجم القديمة عن كذبة كبرى تدعى (الوطن)!؟.

حفريات عميقة في أقتصاديات الدولة العراقية

- أمريكا في العراق صراع على النفوذ ومآلات السيطرة ورهانات المستقبل بدت جلية للعيان للأعوام 2003 – 2016- 2014- 2018 – 2023 – 2024 وهي المخرجات البغيضة والمؤثرة للعقوبات الأمريكية على العراق عام 2018.

-الأقتصاد العراقي المستنزف في حضن الصندوق الدولي الأسود.

- كوابيس أضطراب بوصلة أسعار النفط يهدد الأقتصاد العراقي.

- سوداوية المخرجات السيئة للأقتصاد العراقي تنحو بأتجاه عالم الغثاثة السياسية والمخاض العسيرللتغيير.

- مزاد العملة الأجنبية فرية أمريكية (بريمرية).

- عدم الجدية في أقرار (قانون) حريمنع الأستحواذ والتسلط والبيروقراطية ويعطي المجال الأوسع لخنق للقطاع الخاص وعدمية أستدامة أستثمارية جديدة تعالج الثغرات المحبطة أمام التغيير.

- نعم الجفاف والتصحريقسو على زراعة العراق، قلة الأمطار تعمق الأزمات المائية وتزيد من معاناة أكثر من ألفي قرية على الفرات الأوسط تعاني شحة المياه، وإن العراق يستنزف خزين مياهه الجوفية للسنة الخامسة للتصحر، وبأعتقادي اللجوء للمياه الجوفية تكون للطوارئ فقط.

- العراق وتحقيق التوازن بين ثرواته الطبيعية ومستقبل الطاقة المستدامة.

- تراجع الدينار العراقي أمام الدولار الأمريكي والتأثير المباشر على السوق الموازية بأضطراب الأسعاروالتي تدفع فاتورتها البغيضة الطبقات الفقيرة والوسطى، كمثال لا للحصر سعر طبقة البيض اليوم الأربعاء 10\1\24لامس الثمانية آلاف دينار عراقي.

- البرلمان العراقي ومن بعدي الطوفان وغياب الرقابة البرلمانية والتشريعية.

المعالجة بوصفة بروستاريكا أصلاحية وطنية عراقية

 البحث في حيثيات مثل هذا الموضوع الدقيق والخطيرو الذي يلامس خبز المواطن وحريته ووجوده يجب على الباحث ان يركزعلى المعطيات السوسيولوجية ومآلاتها وتحدياتها ورهانات المستقبل لا ضير ولا ضررفي أستنساخ نماذج لمشاريع ناجحة بنقلة نوعية خدمية تلمس حياة المواطن في مآلات واعدة بالنماء والتغيير الحقيقي من دول أقليمية أو دولية، والتحرر من فايروس أسطورة تمجيد الفرد كما ظهرفي أنماط السياسة والأنثروبولوجيا الجمعية العراقية والعالم العربي .

المطلوب بديل حسب مقاسات العقلانية لا الغيبية، كما رفض أنماط الحياة المرتبطة بالرأسمالية البطريركية الذكورية ذات النزعة الأستهلاكية المتجهة إلى تدمير مسارات التنمية المحلية والدولية، ويجب حضور السيادة الوطنية على الأسواق المالية والنقدية، وأحياء وبث الروح في النقابات والمنظمات العمالية في وطننا العراق لكونها تمثل الضمانات الوحيدة لأعادة بناء عالم آخر أفضل متعدد الأقطاب مدني ديمقراطي بديلا وحيدا عن بربرية الرأسمالية الجشعة، نعم التماهي مع نماذج المشاريع الأقتصادية التنموية (الواعدة) بمستقبل أستراتيجي للشباب، وهي فرصة ثمينة للأطلاع على النهضة التنموية لدول عربية ناهضة بالواقع الأقتصادي للدولة بأستخدام منصات علمية حداثوية في توفير الأستدامة للموازنات المقبلة، وأضيف توسع الدولة في الأنفاق على المشاريع الأستراتيجية الكبيرة وأكتشاف المهارات والابتكارات للبحث عن البديل التقليدي بظل أستخدام الأستدامة المالية التي تدفع إلى التوازن بين الأنفاق والأيرادات حينها توفر للدولة (خمسة) روافد نقدية لدعم موجودات الغطاء النقدي في البنك المركزي العراقي، ومن هذه النماذج المشاريعية المستدامة " مشروع طريق التنمية " إنهُ رغبة دولية وأقليمية لآنجاز المشروع (أثني) بالعاجل للبدأ بالتنفيذ لكونه عامل ضغط لمكافحة الفساد وهدر المال العام وهو تدعيم للأستثماروالأستغناء التدريجي عن النفط كمصدر رئيسي لموازنة البلاد وبناء هيكلي للأقتصاد المستدام الغير نفطي ويبقى كمشروع ستراتيجي واعد للتغيير، وعندي هنا وهناك بعض الملاحظات ربما لها الأثر في الوصول إلى التغيير الشامل الأصلاح بمفهوم بروستاريكا عراقية وطتية:

-التوأمة بين مكافحة الأرهاب وهيئة النزاهة.

- أعادة تأهيل وأكمال مطار الموصل الدولي .

- نظام النزاهة الوطنية ضمان لتحقيق الحكم الرشيد.

- التقليل من أثر التصحرالجاثم على العراق الذي يستنزف خزين مياههُ الجوفية للسنة الخامسة وهناك ألفي قرية على الفرات الأوسط تعاني من مشكلة شحة الماء.

- مشكلة السكن يجب أن تكون من أولويات البرنامج الحكومي الحالي.

- الدفع الألكتروني يقلل من نسبة الفساد، البطاقات ستسهل الأمور اليومية.

- معالجة فك الأختناقات المرورية.

- أضطراب بوصلة الدينار العراقي في السوق الموازية بتأثرهِ أمام القوة الطفيلية للدولار الأمريكي.

وأخيراً وليس آخراً

لا ضير بالأستأناس بأفكاربعض أساطين الأقتصاد السياسي العالمي وصناع مشاريع الأصلاح البنيوي كتنظير للأستفادة من أفكارهم وتجاربهم في ماهية الدولة المدنية الديمقراطية منهم نماذج:

- كارل ماركس هو معلم الطبقة العاملة وصاحب شفرة (كود) التغيير: "بنضوج الوعي العام والأدراك " بحالته المأساوية الظلامية عند الجماهير المستلبة، طبعاً لأنفراط العقد الأشتراكي السوفييتي وأنفراد أحادية القطب العالمي بقيادة أمبراطورية الولايات المتحدة وكارتلات الشركات االعملاقة حركت أعلامها الموجه ولآن الأعلام بمفهومه الموضوعي كونهُ قوة خفية ناعمة مؤثرة وخصوصاً عندما يزحف بالتوجه الطفيلي في التغول وخلط الأوراق أوجدت كيان هلامي أسمتهُ (المواطن المستقر) أو المواطن المترف الذي تعرض طويلا إلى القمع والقهر الروحي أدى إلى نشوء المواطن المستقر "طوعيا " كما نرى اليوم في بعض دول الخليج، والشعب العراقي في ظل الحكم الصدامي ل 35عام، وسيكون عائقاً غثا وصعباً أمام التغيير ألأ خروج المواطن من داخل هذه الشرنقة المرعبة (دولابوسييه وكتابه العبودية الطوعية).

- الفقيد الدكتور فالح عبدالجبار فهويوضح مفهوم اللادولة هو شكل آخر موازي من أشكال التنظيم الأجتماعي غير مستند على تنظيم أجتماعي أو سلطات مستقلة، فهي دولة عميقة يستحوذ على سياساتها المال والسلاح السياسي، ففي نظر الدكتور عبدالجبار- عند ترجمة كتابه يسميها الدولة االغير رسمية تكون داخل الدولة وخارجها وأكتسبت أهمية سياسية وعسكرية دائمة من خلال قواعد شعبية لها، وبشكل أدق يسميها (الجماعات الهجينة) وإنها تعمل على بناء هياكل موازية للدولة مما يمنحها أستقلالية غير قانونية (كتاب اللادولة فالح عبدالجبار 2021)، وللأسف رحل المفكر الأكاديمي مبكرأ وترك غيابه كماً من الأسئلة والتوضيحات وهكذا الموت وأستحظرما قالهُ الأديب الفلسطيني غسان كنفاني عن الموت وهو ينعي نفسه: (وحدهم من يغلقون الأبواب دون أصدار ضجيج لحظة خروجهم لايعودون...).

- النزاهة الوطني ضمان لتحقيق الحكم الرشيد

يوم السبت 6كانون 2024 وصلتني دعوة - وأنا في بغداد الحبيبة - من منتدى بيتنا الثقافي في الأندلس حضور محاضرة عن نظام النزاهة الوطني ضمان لتحقيق الحكم الرشيد كانت محاضرة موضوعية واقعية بكم ثري من المعلومات الأقتصادية في موارد العراق الثرية الغير مستثمرة راقت لي المحاضرة وخصوصاً عند تبويبها المحاضر بتراتيبية ممنهجة تتماهى أكاديمياً بهذه المحاور:

1- النزاهة الوطني ضمان لتحقيق الحكم الرشيد

2- أجراءات وقائية تعزز الصناعة

3- سماع صوت الفئات المهمشة

أستاذ سعيد رشيد متخصص في مجال الحكم الرشيد وركزفي محاضرته الموضوعية على رافعة "النزاهة " متناولا الوضع العراقي بعد 2003 حتى اليوم مؤكداً: إنهُ لا توجد رؤية أقتصادية تنموية واضحة في العراق، فالمفروض أنما يصرف للتنمية اليوم يجب أن يجلب بعد سنوات أموال وخدمات ملموسة للمواطنين لكن شيئاً من ذلك لم يحصل بسبب الفساد الأداري والمالي، وأثني على ما طرحهُ المحاضر في مجالات تقويم الحكم الرشيد القائمة على النزاهة وبياض اليد والذات لهي كفيلة في وضع البلد على السكة الصحيجة أضافة لسن قوانين وقائية حديثة تواكب الرقمية الحداثوية.

****

كاتب وباحث وناقد أدب عراقي مغترب

في كانون ثاني \2024

 

غالبا"ما نقف عاجزين أمام لوثة غريبة ومحيّرة متوطنة داخل أوساط نخبنا الاجتماعية، ومتشبثة بتلابيب رموزنا الثقافية مؤداها؛ إخفاق أو عدم قدرة الفاعل الثقافي العراقي (المثقف) على الإفلات من قيود انتماءاته الأولية (الاثنية، القبلية، الطائفية، الجهوية)، وفشله في إظهار قدرته على التخلص من رواسب تأثيراتها الذهنية والنفسية سواء على صعيد مدركاته / تصوراته أو سلوكياته / علاقاته . هذا على الرغم من كل المحاولات التي يبذلها البعض منهم لتخطي تأثيراتها السوسيولوجية، والتغلب على إيحاءاتها السيكولوجية، والحد من أطيافها المخيالية . من منطلق كونه عنصر (فاعل) محسوب على ما يسمى بجماعات (النخبة) التي من المفترض ألاّ يليق بوعيها ولا يناسب أخلاقياتها استمرار التمسك بتلك التأثيرات والإيحاءات والأطياف، بزعم حسبانها مواريث يستوجب حمايتها من عوامل الاندثار ورعايتها من تجاسر المتطفلين . ناهيك عن العناد في الذود عنها والمحافظة عليها بكل تلك الحمية العصبية التي تصل في بعض الأحيان لحدّ الهوس، لاسيما وانه دائم المطالبة بان يكون رمزا"للمعرفة وعنوانا"للتنوير ومرتكزا"للحداثة .

وإذا ما تواضعنا على حقيقة سوسيولوجية تكاد تكون شائعة بين الناس ومألوفة لديهم مفادها؛ انه من الصعوبة بمكان العثور على فرد ما من أفراد مجتمعات المعمورة يكون خالي الوفاض من رواسب الماضي وشوائب التاريخ - بصرف النظر طبعا"عن مستوى تطور تلك المجتمعات في مدارج الحضارة - فان محاولة البحث في خوانق التاريخ وشرانق المجتمع التي يستبطنها وعي المثقف العراقي وتجتافها سيكولوجيته، ستبدو كما لو أنها بلا معنى أو دون جدوى طالما ان جميع البشر سواء في هذه الظاهرة . على اعتبار انه يتعذر وجود مجتمع بلا سرديات تؤسس لبدايات صيرورة هذا التكوين البشري أو ذاك، مثلما نحتفظ بأرشيفات تاريخه ومواريث أجياله ومخلفات حضارته .

والحال انه وان صحّ قولنا ان الغالبية العظمى من الناس يحتفظون في مخزون ذاكرتهم أو مخيالهم بشيء من مخلفات أصولهم السوسيولوجية، ومواريث منابتهم الانثروبولوجية، وترسبات مرجعياتهم الخرافية والأسطورية، بيد أن ذلك لا يشكل – بالنسبة لهم – عائق يحول دونهم والتطلع الى الأمام والتنطع صوب المستقبل، تجاوبا"مع سيرورات التغير واستجابة لديناميات التطور . لا بل ان بعض الشعوب استخدمت تلك الأرشيفات والسرديات التاريخية – بعد أن رممت بنائها ماديا"وشحنت مضامينها رمزيا"، ومن ثم وظفتها إيديولوجيا"واستثمرتها سياسيا"لاعتبارات جيوبولتيكية وجيواستراتيجية . ولكن، بالمقابل، هناك مجتمعات أخرى اختزنت بعادا"تاريخيا"موغل في القدم وامتلكت رصيدا" حضاريا"سباقا"في العراقة، إلاّ أنها - برغم ذلك - فشلت فشلا"ذريعا"في استثمار هذه المزايا التاريخية والحضارية التي طالما تاقت إليها بعض الشعوب وتحسّرت عليها بعض الأمم دون طائل .

ولعل من أشد المعاضل الوجودية فتكا"لبنية الوعي الاجتماعي وأكثرها ضررا"على مضامينها التصورية والاعتقادية، هي تلك المرتبطة ب(خوانق) التاريخ و(شرانق) المجتمع التي غالبا"ما يفشل الفاعل الثقافي في المجتمعات التي لا تبرح تتغذى مكوناتها على قيم  ماضيها البدائي، في التخلص من تأثيرها أو الحد من آثارها حتى ولو قطع البعض منهم شوطا"كبيرا"في مضمار التحصيل العلمي والتأهيل المعرفي . إذ تبدو – بالنسبة لهم - مسألة الإفلات من قبضتها والتملص من قيودها صعبة عقليا"ومكلفة سيكولوجيا"، وذلك جراء تعرضهم المستمر وخضوعهم المتواصل لعميلات (التنميط) الذهني والنفسي والقيمي والرمزي، عبر سيرورات المجايلة الاجتماعية والثقافية التي عادة ما تكون فاعلة وناشطة في هكذا نمط من المجتمعات (الأبوية) . ناهيك عن انخراطهم ضمن ديناميات (الاجتياف) و(التدجين) التي تفرضها عليهم وتمارسها ضدهم مؤسسات عديدة ومتنوعة وظيفتها تحقيق (الضبط) العقلي والنفسي والأخلاقي للأفراد والجماعات؛ ابتداء"من (الأسرة) سوسيولوجيا"، ومرورا"ب(المدرسة) بيداغوجيا"، وانتهاء" ب(الدولة) إيديولوجيا"

وعلى العكس مما كان متوقعا"أو مرجوا"، فان (خوانق) التاريخ قد ازدادت ضيقا"، و(شرانق) المجتمع قد تضاعفت سمكا"، مع فترة انتشار الإيديولوجيات الرديكالية وتصاعد ضجيجها (اليميني) و(اليساري)، إضافة الى اعتلاء أحزابها السياسية عرش السلطة والإمساك بأعنة النظام . حيث بات التاريخ حقل مستباح للمزايدة والمفاضلة باللجوء الى عمليات (الاختلاق) و(التلفيق) من جهة، وأضحى المجتمع مضمار منافسة ضارية لتسويغ ادعاءات (الأحقية) الوطنية و(الشرعية) السياسية بين مؤدي ومعارضي مختلف الإيديولوجيات المتصارعة من جهة أخرى . وهو ما أفضى الى انتكاس وارتكاس وعي (نخب) استمرأت الانخراط في عمليات (تأدلج) واسعة النطاق، بين خوانق سرديات تاريخية لا تني تتوغل في مجاهل الأسطرة والأمثلة من جهة، وبين شرانق أصوليات اجتماعية لا تفتأ تمعن في تأجيج مشاعر التعصب والتطرف من جهة أخرى .

***

ثامر عباس

 

لعبت الصحافة الثقافية، على امتداد تاريخها، دوراً محورياً في دعم المبدعين وإتاحة الفرصة لتقييم أعمالهم ونشرها ورفد المشهد الإبداعي بعديد من المبدعين الجدد، لا سيما البعيدين عن أضواء العاصمة إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً كبيراً في هذا الدور، وعلى الرغم من أن الصحافة الثقافية لم تختفِ من المشهد، لكن حضورها أضحى هُلامياً في المشهد الإبداعي.. الصحافة الثقافية تعيش أزمة حقيقية وتعاني من تراجع ملحوظ واختلال في المستوى الذي ظهر في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، كما يقول مختصون، بوقوع الصحافة الثقافية في إطار الأزمات الفرعية وتصفية الحسابات.

الصحافة الثقافية باتت في احيان كثيرة تفتقر إلى التركيز على الحياة الثقافية ومجتمع المثقفين، وتصب تركيزها على العلاقات بين المؤسسات الثقافية، وتبحث عن الفضائح داخل الأروقة الثقافية والأزمات التي تتصاعد داخل المجالس الثقافية، متناسية الإبداع الأدبي والثقافي الذي يجب أن يطيح بتلك الأزمات.

وللآسف نجد محرر صحافي أومسؤول صفحة ثقافية، لا صلة له أصلًا بالثقافة، هذا في الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون الصحافة جزءا من الثقافة وتدعمها وتغذيها، إذ لا يمكن اعتبار الصحافة كياناً بعيداً عن الثقافة ، ويجب رفع مستوى هذا التخصص كما كان من قبل، من توسيع إطار المفهوم الثقافي والاهتمام بالقراءة والشعر والأدب، وتغطية المجتمع الإبداعي من مثقفين وكتاب وقراء وظواهر أدبية، والخروج من عباءة تغطية أزمات الثقافة والمؤسسات الثقافية، فضلا عن تكوين كوادر إبداعية حقيقية داخل المؤسسات الصحافية.

الصحافة الثقافية يوصفها كثيرون بالمهمشة، سواء على صعيد الصحف والمجلات القائمة أو ضمن الصفحات الثقافية في صحيفة أو مجلة ما. والمؤسف فعلياً أن هذه الصفحات من السهل حاليا التخلي عنها وحذفها، فقط بسبب وجود إعلان أو مادة سياسية أو اقتصادية أو... يراد أن يتوسع بها، هذا يعكس النظرة المتدنية للثقافة بشكل عام والصحافة الثقافية بشكل خاص، وهو ما يهدد المشهد الثقافي لعدم وجود نقاد ومتابعين للمشهد الإبداعي ومتغيراته، كما أن هذا الأمر ينعكس على القارئ وطبيعة متابعته للحياة الثقافية، وهنا تنبع ضرورة ربط الصحافة الثقافية بنطاق التغطية الجيدة والتعامل معها على أنها جزء لا يتجزأ من التغطية الصحافية العامة، مع ضرورة تخصيص مساحة أكبر من التغطية والتعامل مع صحافيي الحقل الثقافي بقدر من الاهتمام والجدية، وكذا الحث على الارتباط بها أكثر، حيث إن الثقافة إحدى وسائل بناء الفكر والعقل.

الصحافة وسيط بين المؤسسات والقطاعات والمتلقين، لذا لا بد أن تكون على قدر المتغيرات والتطورات في جميع الساحات، ومنها الساحة الثقافية التي تهمشها غالبية المؤسسات الصحافية، وهذا ما يفسر تراجع المتابعة للحياة الثقافية بصورة أو بأخرى. وفي رأيي، لا بد من زيادة الوعي بأهمية هذا النوع من الصحافة المتخصصة، لأن الثقافة تمثل الوجه الآخر للمجتمع، الصحافة الثقافية تعاني من أزمات متعددة، بدءاً من المحاباة والمجاملات ووصولاً إلى التغاضي عن تغطية الأنشطة الثقافية المتنوعة، ولا سيما الشعر الذي يعاني من تراجع سواء للمتابعة أو التغطية.. إضافة إلى تركيز الاهتمام على العاصمة، وتجاهل الأقاليم التي تزخر بمبدعين يعانون من التجاهل والنسيان.

لا يقتصر دور الصحافة الثقافية، على الترويج أو التغطية للساحة الأدبية، بل من شأنها أن تعمل على رفع مستوى الوعي المجتمعي بالأدب عن طريق النقد الأدبي، الذي يشهد بدوره تواريا كبيرا في العقود الأخيرة، لاسيما مع فقد العلاقة بين الكاتب والقارئ لعدم تركيز الأخير على الأدب، أو العزوف عن القراءة بصفة عامة، خاصة مع الزيادة الرهيبة في أسعار الكتب وفي الوقت نفسه تدني الحالة الاقتصادية للمواطنين، الصحافة الثقافية ينبغي أن تستعيد مكانتها بدعم وتغطية جميع أشكال الفنون الأدبية من القصة القصيرة والرواية والشعر ومناقشة الظواهر الأدبية وتحليل المتغيرات التي تطرأ على المشهد الإبداعي بموضوعية، معتبرا أن التجاهل الحادث حاليا يبعث على إحباط الكُتاب والمبدعين.. كذلك القراءالمؤسسات الثقافية والدولة بصفة عامة، لا تهتم بالأنشطة الثقافية ولا تعطي لها مساحة وجود كافية أو حتى مخصصات مالية تحرك المياه الراكدة في مسيرة الإبداع فضلا عن الحاجة المجتمعية العامة بأهمية أن تعي الدولة قيمة دور المثقف وضرورة دعمه ودعم موقفه، بعيدا عن التهميش وتثبيط المواهب، من دون وعي أو وجه حق.

***

نهاد الحديثي

ظلّ الجدل محتدمًا بين تيارين، كلاهما يزعم امتلاكه للحقيقة ويدّعي الأفضلية، بل يتعصّب لفكرته لدرجة يتم فيها "شيطنة الآخر"، التيار الأول - يطلق على نفسه اسم "الإسلامي"، وإن كان يمثل طيفًا واسعًا غير متجانس من الذين يندرجون تحت هذا العنوان؛ أما التيار الثاني - فيصف نفسه ﺑ "العلماني"، حتى وإن كانت مرجعياته الفكرية مختلفة، بل ومتناقضة.

يرى بعض الإسلاميين، وبشكل خاص الإسلامويين، أن العلمانية مصطلح غربي، وهي بالأساس وجدت لحل مشكلة في الغرب، حتى وإن كانت نتائجها إيجابية في سياق تاريخي، بفصل الكنيسة عن الدولة، إلّا أنه لا يمكن تطبيقها على مجتمعاتنا، لأن الأرضية مختلفة تمامًا، والإسلام "دين ودولة".

ومثل هذه المبررات تلقى هوىً كبيرًا لدى جمهور واسع، حيث يتم تصوير العلمانية بأنها فكرة مستوردة، أي أنها لا تمتّ إلى عالمنا الإسلامي بصلة، وهدفها التغريب وقبول الاستعمار الثقافي، خصوصًا حين يتم ربطها بالإسفاف وإشاعة الرذيلة والانحلال الأخلاقي والفساد القيمي، بل إنها ملازمة للكفر، وذلك في إطار الدعاية السياسية والمنافسة المجتمعية ضدّ العلمانية.

 لكن ثمة آراء إسلامية منفتحة، تلك التي تعتقد أن لا وجود لمفهوم الدولة الدينية في الإسلام، كما يذهب إلى ذلك محمد عمارة، ويدعو السيد محمد حسين فضل الله إلى "دولة الإنسان"، وبهذا المعنى يقدم الإسلام شؤون المجتمع وسياسة الدولة وأمور الدنيا في الحياة، و هو ما فعله النبي محمد (ص) حين اضطر الهجرة إلى المدينة المنورة، فوضع دستورًا هو نواة أولى لدولة مدنية تحترم الأديان، بعد أن كان في مكة مبشرًا .

أمّا العلمانيون فإنهم أيضًا يحاولون "شيطنة" التيارات الإسلامية، ولا يفرقون أحيانًا بين الإسلاميين والإسلامويين، بل ويعتبر بعضهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، أن كل ما يمتّ إلى الدين بصلة هو متخلّف ورجعي، حتى وإن قصدوا بذلك بعض الطقوس والشعائر، التي تمارس باسمه، وتمثل درجة تطور الوعي الديني والمجتمعي في حقبة زمنية معينة، وهذه قد لا يكون لها علاقة بالدين، وإنما تندرج في خانة التديّن، وهكذا يتم الخلط بين الدين والتديّن، فتكال الاتهامات تحت هذه المسوّغات، في حين أن الدين منظومة قيم إنسانية وأخلاقية، تدعو إلى السلام والتسامح والعدالة والمساواة والشراكة والإخاء.

وقد حاول بعض العلمانيين الابتعاد عن المفهوم المبالغ فيه للعلمانية المغالية، "العلمانوية"، فتبنوا مفهوم "الدولة المدنية"، وهي حسب بعض تفسيراتها، تقف على مسافة واحدة من جميع المجموعات الثقافية الدينية والقومية واللغوية والسلالية، وتحمي جميع أفراد المجتمع. وقد يكون من المفيد استخدام مصطلح "الدولة القانونية" التي تقوم على المشروعية القانونية، بمعنى حكم القانون، وتتجسّد شرعيتها السياسية برضا الناس وتقديم المنجز لهم، فللدين حقله الروحاني والعقائدي والإرشادي، أما السياسة فهي ميدان للمصالح، وحتى لو اجتمعت العقيدة مع المصلحة، فلا بدّ من تكييفهما مع الواقع المتطوّر باعتباره هو الأساس والمتغيّر.

وإذا كان بعض الإسلاميين، والإسلامويين بشكل خاص، يميلون إلى "أدلجة" الدين وتسيسه بالضدّ من تعاليمه، بتبرير أعمال العنف والإرهاب، وهو ما قامت به تنظيمات القاعدة وداعش وأخواتهما، بحيث فقد طابعه الروحاني والأخلاقي والإنساني، فإن بعض العلمانيين يتنكرون للدين ودوره، كمرجعية للمجتمع. ويذهب محمد أركون إلى نقد العلمانية، التي كانت في بدايات عصر التنوير طاقة تحرريّة، لكنها ما لبثت أن تحوّلت إلى نوع من التسلط والهيمنة، كما هي العلمانية في ألمانيا النازية وفي الكتلة الاشتراكية وبعض نسخها العالمثالثية.

هكذا تفسخت العلمانية، خصوصًا عند استعمار أمم وشعوب، ونهب ثرواتها وخيراتها، بزعم تمدينها، إضافةً إلى دعم أنظمة استبدادية متخلّفة مفروضة عليها بفعل النظرة المركزية الأوروبية، التي ما تزال مهيمنة في النظر إلى شعوب البلدان النامية، وذلك لضمان مصالح الغرب، وخير مثال على ذلك، الموقف من حرب الإبادة على غزّة، حيث أصبح العقل دغمائيًا وذرائعيًا ومصلحيًا، وأصبحت العلمانوية دينًا جديدًا، لا يقل دغمائيةً عن دغمائية الإسلامويين أو المتأدينين، خصوصًا برفض التعددية أو العجز عن استيعابها، فضلًا عن احترام حقوق الإنسان وحريّاته الأساسية، ولاسيّما حقه في الحياة والعيش بسلام وتقرير مصيره بنفسه.

وإذا كان هناك علمانيون يميلون إلى قبول المرجعية الإسلامية للدولة المدنية، فإن بعض الإسلاميين أخذ بمصطلح العلمانية المؤمنة، أي غير الإلحادية ذات المرجعية الإسلامية، وهؤلاء ينفتحون على التيارات العلمانية، ولا يجدون ضيرًا في ذلك، في إطار مصالحة تاريخية ومبادرة شجاعة لجعل الدولة مدنية بامتياز، مع كون الإسلام مرجعيتها الحضارية بكلّ ما يحمل من معان إنسانية وأخلاقية سامية.

***

د. عبد الحسين شعبان

موازاة مع استحضاري في هذا المقام كل مقالاتي السابقة في شأن الخصوصية الثقافية والسياسية المغربية مقارنة مع باقي الدول المغاربية ودول المشرق العربي، يبقى من الواجب أن نسائل أنفسنا، أفرادا وجماعات ومؤسسات، جميعا عن الأمد الممكن مغربيا لبناء الصرح الوطني المتراص للحسم النهائي في منطق التنشئة المنتجة للإنسان الكامل.

الوضع المغربي شبيه إلى حد ما بأوضاع ألمانيا زمن ماركس الإيديولوجيا الألمانية وليس مؤلف الرأسمالية. عاش هذا البلد حالة تأخر مادي مرحلي مذلة مقارنة بالتطورات والتحولات الكبرى التي أحدثتها النهضة الأوروبية خاصة بفرنسا وبريطانيا. فإذا كان الفلاسفة (كارل ماركس ونيتشه أساسا) وراء دفع ألمانيا للبحث الموضوعي على أسباب تأخرها والشروع في بناء صرح دولة ومجتمع جديدين يستدرك الواقع المتخلف الذي كبس على أنفاس الألمانيين، فإن لنا كمغاربة كنز فكري، عايشناه ولا زلنا ننقب بكل ما لدينا من قوة لسبر أغوار أعماقه، مؤمنين كامل الإيمان كونه يشكل مشروعا للنهضة المغربية. إنه مشروع الدكتور عبد الله العروي المستحضر لأفكار ابن خلدون وابن رشد ومحيي الدين بن العربي وغيرهم والمستند على الماركسية الموضوعية التاريخانية، وما تراكم من قبلها ومن بعدها من نظريات فلسفية غربية. بفعل أهمية تراكماته المعرفية، تنبأ المفكر المغربي مبكرا بفشل الإيديولوجيا العربية المعاصرة (برامج كل من محمد عبده ولطفي السيد وسلامة موسى والأرضية السياسية للوحدة المصرية-السورية...)، وعبد طريقا خاصا به متحديا الصعاب والمنعرجات الخطيرة التي كادت أن تتسبب في تعميق هدر المورد الزمني في وطنه كوعاء متحمل لمراحل برامج التحديث الضرورية في المجالات الثقافية والاقتصادية العلمية والسياسية.

الخصوصية الوطنية والفكرية المغربية جعلت المرحوم الحسن الثاني يصرح مبكرا وبشكل علني ورسمي بتشابه أوضاع المملكة ببنيتها الترابية بأوضاع ألمانيا الفيدرالية (تشابه تاريخي). هذا الوعي المتقدم على زمانه بهذه الحقيقة هي التي جعلت مغرب العهد الجديد يراكم المنجزات بسرعة قياسية رافعا بذلك من القيمة التاريخية لثورة الملك والشعب. لقد تجاوز المغرب بآليات مؤسساتية عصرية اعتماده الحصري على المثقفين التقليديين ومنطق نقلهم لثقافاتهم المتواترة المرتبطة بمهنهم من جيل لجيل (كالمعلمين ورجال الدين ...). لقد أصبح تأثير المثقفين العضويين التنويريين واقعا مغذيا للسياسات العمومية. إنهم صنف الفاعلين الجدد المؤثرين بفكرهم المنظم على طبقاتهم الاجتماعية وانتماءاتهم الوظيفية والمهنية. لقد عبروا عن نوع من الحكمة والأمل في مساعيهم لتحقيق تطلعات الطبقات الاجتماعية المتوسطة. لقد أبانوا عن قدرات اجتهادية وازنة في بحثهم المتواصل لابتكار غايات جديدة ترتقي من خلالها الثقافة والأخلاق في المجتمع المغربي مستهدفين تشخيص الوقائع التاريخية الموضوعية في الماضي والحاضر، ومن تم استنباط الدروس والعبر العقلانية التي تخدم المستقبل. أكثر من ذلك، جند العهد الجديد رجال الدولة في كل المجالات لسبر أعماق المنتوجات الفكرية للمثقفين الكبار ذوي المشاريع الفكرية المتكاملة التي تقدم برامج عامة لتحديث العقل المغربي على أسس موضوعية وقابلة للتفعيل (حتمية ترسيخ الحداثة بالمغرب مسألة وقت فقط). هكذا، بفعل التراكمات الواقعية الملموسة، ارتقت نظرة المغاربة إلى مستقبلهم، بحيث أصبحوا مقتنعين بفساد أطروحات المثقف السلفي والمثقف الانتقائي والليبرالي الانتهازي والتقني الذي لا يستجيب لمتطلبات الحكمة والتبصر. كما يمكن القول بثقة عالية أن الدولة المغربية أصبحت في مستوى السعي لخلق الظروف المساعدة لتمكين المثقف الثوري من الظهور للوجود ومساعدته للقيام بما ينتظر منه. إنه وضع جديد مشجع لهذه الفئة الريادية من المثقفين. في نفس الوقت، وتيرة تطور الأوضاع يسرت مشاركتهم الوازنة والمؤثرة في العلاقات الخارجية التي تقيمها الدولة، بحيث توسعت هوامش تفاعلاتهم مع التطورات العالمية بالشكل الذي يمكنهم اليوم من تجديد ثوريتهم الوطنية عبر الاحتكاك بالآخر.

في هذا السياق، للتعبير كون المغرب قد انتقل من مرحلة إلى أخرى في مسار مشروعه الديمقراطي الحداثي، نشرت على حائط حسابي الرسمي على الفايسبوك يوم 13 يناير 2024 تدوينة تحت عنوان "عتاب وجود.." بمضمون أبرزت من خلاله الحاجة الملحة لتحويل النسق التنشئوي المغربي إلى آلية حديثة وناجعة لتخفيف ضغوط الماضي، والاستجابة لتطلعات جيل الخمسينات والستينات والسبعينات، ومن تم ربط الثقافة المغربية المعاصرة عند أجيال الحاضر والمستقبل بالتطورات الكونية وبتراكم ابداعاتها الإنتاجية والاستفادة من صلابة جسور التواصل بين العلم والفلسفة. لقد تعمدت القول: "لم تسعفنا الحياة لنكون من المساهمين في ابتكار النظريات والكشوفات العلمية وتطوير الانتاج المادي النافع لحياة المغاربة والافارقة والبشرية كونيا (إنه واقع المنظومة التعليمية المنتجة للفئات العريضة من الشعب المغربي) ... لم تسعفنا كذلك في إغناء النظريات والتجارب العلمية للحسم في القضايا الجديدة والتقرب من الحقائق المطلقة ... لم تتح لنا الفرصة لنبدع في الغوص تفكيرا في المجهول الغابر عن منجزات العلم ... لم نتفلسف بما يكفي .... انبهرنا لقضايا غير عادية، فكرنا فيها، وطرحنا الأسئلة في شأنها، لكننا اضطررنا لمعرفة النتائج من الآخر لضعف إمكانيات مؤسساتنا التعليمية والبحثية..... لكننا نتضرع ملتمسين من صانع منطق وجودنا ألا يصنفنا من القطيع عديم الفائدة ..... نطلب من الله الرحمة والمغفرة...".

إنها متاهات الماضي المضنية وإكراهات رفع تحديات الحاضر لخدمة المستقبل. لم تتح لعامة الشباب المغربي فرص التفكير في مفهوم "الإنسان الأعلى" للفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه المتشابه مع مفهوم "الإنسان الكامل" للشيخ محيي الدين بن عربي. هذا الأخير، اعتبر أن الوجود المحقق هو الله عز وجل، مطلق النعوت التي لا توصف (القدرة والعلم والحرية والإرادة...)، الشيء الذي جعله ينتصر لفكرة كون الوجود الإنساني وجود بالظل (ليس حقيقيا). الصفات الحسنى بالنسبة له ليست محدودة ولا نهائية ولا تكمن في ذات الله ولا يتصف بها إلا من خلال اتصاله بالخلق. الواحد بالنسبة لابن عربي لا ينتسب له التعدد والكثرة.

على أساس هذا الاعتبار، اجتهد ابن عربي في تحديد ماهية "الإنسان الكامل". إنه المخلوق الذي يجب أن يكون دائم السعي لتحقيق الأسماء الحسنى فيه وعلى وجه الأرض (القدرة، والعدل، والرحمة، والعلم، والحق، والحكمة، ....)، وأن يسموا عن غرائزه طامحا ملامسة الأعلى الحقيقي. الحسنة التي نالها هذا الشيخ، الذي يعتبر من رواد التصوف، تتجلى في رفضه للواقع وكونه عاكس معتقدات عصره والإيديولوجيا الدينية الاستغلالية. المتصوف هو الذي لا يطفئ نورُ معرفته نورَ ورعه. لقد كان ابن عربي موسوع المعرفة التي امتدت إلى الشعر والأدب. ولادته في مرسية سنة 1165م، وحياته بالأندلس كان لهما وقع كبير على عقلانية مواقفه الدينية. يُعرف لدى المتصوفين باسم (الشيخ الأكبر)، أما في الشرق الأوسط، فُعرف باسم الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.

نفس العلاقة بين الخالق والمخلوق تناولها الفيلسوف فريديريك نيتشه بمنطلقات مختلفة. لقد اعتبر الإنسانية حبلا مشدودا بين الحيوان والإنسان المتفوق، داعيا إلى خلق إنسان جديد لا يكل ولا يمل في تقليد الله بهدف ارتقاء حقيقة التقرب إليه. أمام سلطة الظلم والاستغلال التي مارسها رجال الدين في ألمانيا، وما أشاعوه من معتقدات واهية، لم يجد نيتشه من سبيل لإثارة انتباه الجمهور سوى الدفع بتأليه الإنسان. من أشهر أقواله "الإله قد مات" (ولم يقل الله)، قتلناه بسبب ما راج دنيويا باسمه معلنا بذلك موت القيم والعادات السائدة المعاكسة للحرية والإبداع. غير مبال بالعواقب، تجرأ فريديريك على مواجهة رواد الدوجماطيقية وإيديولوجيتها الوثوقية، القطعية، التوكيدية، الإيقانية.

بالنسبة لهذا الفيلسوف الألماني، الإنسان، المسؤول دنيويا على مصيره وسيد نفسه، مطالب بشرعنة ذاته ساعيا إلى تأليهها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وبذلك تكون المساواة في الرزق خرافة. بسبب شدة تذمره من المعتقدات السائدة، اعتبر الإنسان القوي، المقابل للإنسان العبد، لا يضيع الفرص باحثا عن الزعامة والقيادة. بكتابه "هكذا تكلم زراديشت"، الشخصية الدينية التي عاشت بإيران الحالية، ركز نيتشه على مسار هذا الشيخ وتمكنه من تأسيس أقدم ديانة قبل ظهور الكتاب اليهودي المسمى "التناخ" (توراة – نفيئيم – كتوفيم/ ختوفيم). سيرا على نفس المنهج لهدم المعتقدات الواهية، عرف نيتشه الإنسان المتفوق كونه إله نفسه، يخلق كل القيم والمبادئ بنفسه ولنفسه، ويجدد قدرته على التحكم في مصيره بشكل مستمر مبدعا في تنويع وتوسيع معاني العدالة والحب والصدق والعلم من أجل تراكم المنافع المادية وخدمة الصالح العام (على كل إنسان أن يساهم في صناعة حقائق عصره، والحقائق تتغير بتغير العصور).

وفي الختام، نستحضر فقرة معبرة للغاية من كتاب "بين الفلسفة والتاريخ" للدكتور عبد الله العروي: "لم أفهم شيئا من نيتشه لأنني قرأته مبكرا جدا، ولكن على الخصوص لأنني كنت ضحية منظومة تربوية سيئة التصميم، غير ملائمة، وفي حاجة أن يعاد فيها النظر رأسا على عقب" (المدارس الثانوية الفرنسية-الإسلامية). إنه الاستحضار الذي قادني للعودة إلى نص كارل ياسبرز كمحفز معرفي للتقدم في مسار ترسيخ مقومات الإنسان الكامل مغربيا بتقوية ميولاته للتفلسف بأدواته المعروفة: الدهشة باعتبارها الأصل والشك الذي يثور على المعرفة ويدفع إلى بلوغ اليقين وسؤال الوعي بالذات التي يوصلنا إلى حقيقة الأشياء".

***

الحسين بوخرطة

مهندس احصائي-اقتصادي ومهيئ معماري

تبنى أغلب العلاقات على أسس معينة فعندما نسمع بالعلاقات الإجتماعية سيتبادر إلى اذهاننا العلاقات الطيبة فالإنسان بطبيعة الحال كائن اجتماعي يحب التواصل مع الآخرين ومشاركتهم أفكاره وآراءه وكذلك أفراحه وأحزانه، ومن الطبيعي أن تكون العلاقات متينة ومبنية على أساس الصدق والأمانة في التعامل فكل طرف في هذه العلاقات يكون مهتم بجعل صاحبه أو شريكه أو تحت أي مسمى يُعنى بالعلاقات الإجتماعية سعيداً ويتمنى له الخير بعيداً عن الحقد والمصلحة الذاتية والعلاقات المؤذية، ويمكن أن نتطرق هنا إلى أنواع العلاقات في كل المجتمعات من العالم فهناك أكثر من نوع فمنها العلاقات العائلة وهي ليست من اختيارنا وانما هي موجودة قبل ولادتنا ووهناك علاقات العمل وهي علاقة زملاء العمل مع بعضهم وعلاقة رئيس العمل والمرؤوسين، وعلاقات الصداقة وهي اسمى العلاقات والتي تكون على اساس الحب الحقيقي بين الاطراف وحب الخير والتعاون فيما بينهم وهي التي تجعل من الحياة مكانا افضل للعيش وتجعلنا سعداء، وهناك علاقات تبادل المصالح وهي مشروعة كون كل طرف يستفاد من الاخرى بطريقة أو بأخرى وليس فيها غش او تلاعب فيما بينهم وانما الصدق اساس هذه العلاقات  ولا ضرر ان تكون هذه العلاقات على اساس المصلحة من قبل الطرفين فالكل بكل الاحوال مستفيد منها، وبقي ان نذكر العلاقات السامة والتي هي محور حديثنا لهذا اليوم كونها من العلاقات التي انتشرت بشكلٍ واسع في جميع المجتمعات وهذه العلاقات مبنية على اسس شريرة فبدلا من أن تعطي الامان والثقة بالنفس تكون مصدرا للضعف والزعزعة والشعور المستمر بعدم الامان فهي علاقات سلبية ومؤذية تؤثر على الصحة النفسية والعقلية، لكن كيف نعرف اننا في وسط علاقة سامة وسلبية والاجابة على هذا التساؤل تكون بصورة دقيقة وذلك عندما يكون الشخص في موضع يعطي فيه اكثر مما يأخذ وتستغل بطريقة بشعة فقد تكون العلاقة على اساس المصلحة الذاتية كأن يلجأ اليك احدهم في أوقاته العصيبة لكن عندما تحتاجه لا يكون إلى جانبك ويحاول التسويف وخاصة إذا تكرر الحال ! . ولمعرفة أنك في علاقة سلبية أو ما تسمى في الوقت الحاضر التوكـسك مع من حولك فيمكن توضيح بعض النقاط التي تم البحث فيها وجمع آراء كثيرة حولها ومنها:

1- تشعر بعدم الراحة أثناء وجودك مع الطرف الآخر .

2- الشعور بالتهديد والخطر من المواجهة أثناء الحديث مع المقابل .

3 - الشعور بالاستغلال وعدم إحترام الطرف الآخر لك .

4- الشعور بقلة الثقة بالنفس أثناء الحديث معه، وقلة الدعم من قبله .

5- يأخذ طاقتك الإيجابية كونه ينشر سلبيته عليك فكل كلامه شكوى ويتحدث عن نفسه بطلاقة وعندما تحاول إبداء رأيك والتكلم عن مشكلة من مشاكلك يغلق باب الحوار وينهي المحادثة معك .

وبكل تأكيد هناك المزيد وحسب الموقف، وهنا يتوجب على الأشخاص الذين يعيشون بمثل هكذا علاقات أن يبدأوا بالتفكير بالانسحاب من تلك العلاقات التي تعد هدر للصحة النفسية والجسدية ويتم ذلك عن طريق أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه بالدرجة الأولى بالابتعاد عمّا يضره، طلب العون من العائلة والمقربين للتخلص من هكذا علاقات من خلال النقاش والمشورة لإيجاد الحلول اللازمة، يمكن الاستعانة أيضاً بكتب التنمية البشرية التي تهيء النفس لمواجهة مثل هكذا مواقف. وفي ختام هذه المقالة يمكن القول أن الإنسان قد يُخدع في بعض العلاقات لكن عليه أن يتعلم من التجارب التي عاشها والاستفادة منها ليتخطى مثل تلك العلاقات غير المرغوبة والضارة أبعدنا الله وإياكم عنها.

***

سراب سعدي

 

في المثقف اليوم