قضايا

جاء منذ سنوات في منشور صاحبة صفحة على الإفتراضي جزائرية وطالبة دكتوراه تعكس حال الفلسفة في الجامعة الجزائرية إن لم اقل العربية والإسلامية ما يلي:

تقاس قوة العقل بقدرته على تحمل الحقيقة !

فردريك نيتشه .

فكانت إشاراتي في تعليقي كما يلي:

العقل كأداة والية اشتغال تتعلق بشق إجرائي تقني وميكانيكي بل حتى برمج-عصبي لا تنفصل وظيفته عن العقل كمحتوى (و هو التقسيم الذي اعتمده الجابري في اعماله ومشروعه " نقد العقل" توظيفا لتقسيمات لالاند في معجمه وقاموسه)..

 وهنا وجب استحضار كلام "لالاند" العقل المكون بكسر الواو مع الشدة والعقل المكون بفتح الواو مع الشدة ...

فالأول يتعلق بالمحتوى أي العقل كسبا وتثاقفا ومعرفة وتحصيلا اي في جزء منه " العقل العالم " والعقل المرتبط بالكسب الاجتماعي لتتحدد طبيعة العقل بالنسبة لقوته..

 ليس فحسب تحمل الحقيقة بل تمثلها ومناقضتها عندما تتأسس على بنيان مهترئ ومضطرب وأسس عقلية في ظاهرها وغير سليمة في جوهرها...

 ولا أحسب نيتشه أخذ بالحسبان موضوع الحقيقة وإلتباساتها وتشوهاتها بعد تناولها من جهة النوع اي انواع الحقائق وأيضا الحقيقة وعلاقتها بالواقع وهل الحقائق قارة وثابتة أم متحركة ومتغيرة وكيف ولماذا  ...

هل العقل الذي يعنيه نيتشه عقل مادي عدمي أم عقل مثالي هيجلي طبعا وهو بنفيه المطلق لا يؤمن بالعقل اللاهوتي...

لا تنفصل الحقائق تمثلا وتجريدا عقليا ونظريا ومفهوميا وحتى واقعا عن وظيفة وبنية العقل وعن الإبيستيمي-المناخ والنظام المعرفي الذي تأسس فيه العقل ونهل منه  ومنحه أي تفاعل معه  ...

إن الذين يعتبرون نيتشه قلب طاولة القيم وقلب النسق وقطع مع النظم المعرفية السابقة ومنح للفلسفة مهمة اخرى للأسف هم جلهم في عالمنا العربي الإسلامي خاصة والعالم الغربي أيضا ببغاوات النقل والإنتحال والإنتظام في القطيع والسرب لا أجدهم اكثر من أنهم أساؤوا فهم نيتشه في سياق سيرورة وبنية المنظومة المعرفية والفلسفية الغربية ونسقها...

إنه لا يمثل قطيعة مع النظام الذي انقلب عليه ظاهرا وقد ارتبط به " حقيقة " و" واقعا" من حيث بناء مفاهيمه وقاموسه الإصطلاحي وجهازه المفهومي على أنقاضه...

إنهم فئة غالبة منتظمة تكرر المتن الغربي للفلسفة بلا إضافة وتحليل ونقد لأن كسبها محدود وتسكنها لغة التمجيد والإنبهار ولا تمارس فعل التفلسف بل فعل التلخيص والإقتباس وشبه " الشرح " المنتظم ولا تعجب أن ينتطم معهم سرب من الذين يتحدثون عن الأصالة والفلسفة العربية الإسلامية أذناب من الباحثين عن موقع في الفضاء العام  خوفا من الإقصاء وإغضاب دجالي الفلسفة والمزيفين من أصحاب منابر التفلسف الحصري وشيوخ صكوك الغفران للفلسفة في عالمنا العربي الاسلامي...

إنهم الوجلون الخوافون من الاخر وبضاعته بسبب بضاعتهم المزجاة البائسة وعقلهم المدمر ونزوعهم الى الإنخراط في التيار العام وكسب مرضاته...

يمجدون ويقدسون القراءات الغربية الشائعة لنيتشه وما أقل الناقد فيهم وبينهم وفي الغرب المتفلسف نقدا جذريا للفهم الشائع والطاغي طغيانا بنسقه المهيمن والقالب لمفاهيم النص النيتشوي والفهوم الغالبة ليقف على كساد بضاعته وهشاشة مرتكزاته  وإنتظاماته الوديعة القابضة على نصف وربع الحقيقة بدل قلبه وتفكيك ما يسمى قطائعه ...

أو بلغة أخرى إن معارضة التيار العام لفهم النص النيتشوي او نصوص غيره من المنجز الغربي مكلفة وباهظة الكلفة ومربكة باعتبارها أولا تجعل ما تعود " جمهور " القراء والمشتغلين على نصه من متون مختلفة وكثيرة حفظا وترديدا متهافتة ومتساقطة أمام كل نزعة منهجية تقطع مع سطوة وطغيان واستلاب النسق الفهمي السائد...

اي أنهم اتخذوا نيتشه " قدس الأقداس " ومنجزه " ثورة الثورات" مرجعا على أساس نقضه للمفاهيم الحداثية الفلسفية وقيمها الناظمة فقام بقلبها كما يقولون وعلى أنقاضها مع التحفظ قام نيتشه كما يزعمون بتأسيس أدوات ان كانت له أدوات حقا فتحت غطاء الكتابة الشذرية واللانسقية ضلل نيتشه قراء الغرب والشرق من الحدثاويين والاسلامويين مع تحفظي على هذه النعوت التي دعت اليها الضرورة ...

كما يطرح موضوع تحديد المفهوم ما العقل عند نيتشه هل هو كل العقل واللوغوس الغربي والمادي بكل طيفه بما فيه العقل الكانطي مثلا والديكارتي الشكي والهيجلي ..الخ كما سبقت إشارتي ...

إنهم تركوا نصوص نيتشه ومنجزه واشتغلوا بنيتشه الصنم ونيتشه حقيقة الحقائق وقوة القوة وعدم العدميات  ..

اشتغلوا بالعجل فعبدوه واشرئبت أعناقهم لا ترى في الأعلى سوى العجل أو نيتشه الإله بدل الإله الذي قتله نيتشه...

و دعك من القراءات التبريرية ومزاعم البعض التي تصف لك نيتشه خطأ بأنه غير عدمي ولم يفهمه " بسطاء التفلسف والغرباء عليه " بأنه كان يعني بالدين المسيحية الزائغة وانه لا يعني موت الإله إلا  في ذلك السياق ولا يستطيع مناقشة أطاريحه إلا فلتات مثله وأنه  فلتة فلسفية  بل منهم من ألبسه " قبعة إسلامية " وجعل من ذكره من طرف مالك بن نبي ما يؤكد انه صاحب نزوع تبجيلي للإسلام...

و أنه لم ينتظم بل قطع قطائع فلسفية وهي في منطلقها كانت فللولوجية العمق لغوية الأساس وفي جذورها انتظامات " أبيقورية " وبعدها " شوبنهاورية " تتحرك في فضاء الموروث نفسه يغذيها بعض الجنون والفصام النيتشوي لتصفها صفا وترتبها العقول المقلدة المستقبلة والمنبهرة والملتهمة والمستلبة كأنها الفرادة والعبقرية إنبهارا لا حفرا وفهما وتأويلا وأيضا فهما سياقيا...

إنها السلفية والماضوية والتقليدية الغربية الحداثية والما بعد حداثية التي تتمنع على السؤال الفلسفي النقدي العربي الغائب فاكتفوا بترديد متنها واتخاذها عجلا وصاحبها صاحب العجل ...

نيتشه ينادي بأفول الأصنام وهم يبدعون في تقديسها وعبادتها...

" رحم الله نيتشه " ورحم الله التفلسف العميق المتحرر من هيمنات الأنساق وثقلها ومن الإنبهارات الفجة في عالمنا العربي الإسلامي ولا نستثني الغرب ...

***

حمزة بلحاج صالح

دراسة متواضعة في التوتر بين العقل والدين

المقدمة: تعتبر علاقة العقل بالدين من أبرز القضايا التي شغلت الفكر الانساني. العقل يمثل القدرة على التفكير والاستنتاج وتحليل الأفكار والمفاهيم، في حين يمثل الدين الجانب الروحاني والمقدس في حياة الفرد والمجتمع.

 في هذا السياق، يمكن القول إن العقل الديني يمثل توازنًا ضروريًا للنجاح الروحي والمعنوي للإنسان، مع ذلك، فإن هناك توترًا مستمرًا بين العقل والدين، حيث يبدو أن العقل غالباً محاصر بالنص الديني المقدس.

تبدأ المشكلة في تعريف العقل والدين وعلاقتهما المتضاربة، إذ يمكن اعتبار العقل كأداة للتفكير والاستدلال، بينما الدين يعتبر إطار قاعدي وثابت للقيم والمعتقدات، وبالتالي، فإن العقلية الدينية تعتمد على قبول النصوص الدينية وسلطتها حتى وإن تعارضت بعض المفاهيم فيها مع المنطق والأدلة العقلية.

هنا ينشأ التوتر بين العقل والدين، أذ يجد الفرد نفسه في حاجة إلى قبول المعتقدات الدينية دون التشكيك فيها ولا التحليل العقلي لها، ما يعطي انطباعًا بأن العقل البشري محاصر بالنص الديني.

لذلك تلتزم الأديان بشرائع وقوانين تقديم حلول لمجموعة من القضايا الشخصية والاجتماعية والروحية.. وعلى الرغم من أن هذه القوانين تحمل بعض القيم الإنسانية الجوهرية، إلا أنها في الوقت نفسه قابلة للتفسير والتأويل بطرق مختلفة.

وهنا تظهر المشكلة المحورية للعقل الديني، فقد لا يملك الفرد حرية كاملة في فهم النصوص الدينية حسب تقديره الشخصي وتجربته الحياتية، بل عليه اتباع الفهم التقليدي والتأويل المعروف.

يشير البعض إلى أن العقل الديني يمكن أن يكون مفيدًا في توجيه الإنسان وتأطيره في سلوكيات صالحة وحسنة، ولكن، يعبر آخرون عن قلقهم إزاء تقييد العقل بالنص كما هو.

أولاً: التراث وحرب التأويل

يُعد التراث الديني جزءًا هامًا في حياة الشعوب، فهو يمثل الجانب الثقافي والتاريخي والاجتماعي للأجيال السابقة، ويساعد على تعزيز الانتماء والهوية الوطنية، ولكن في بعض الأحيان، يتعارض تفسير التراث والأفكار المختلفة حوله، مما يتسبب في حرب التأويل.

وتُعرف حرب التأويل بأنها الصراع الفكري الذي ينشأ بين الأفراد والمجتمعات حول تفسير التراث الديني كما هو وبين تأول النص من قبل الطرف الأخر، ويُرجع سبب حدوث هذا الصراع إلى عدة عوامل، منها الاختلاف في البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية، وأيضًا الاختلافات الشخصية والفكرية للأفراد.

وتعد حرب التأويل مسألة حساسة، فقد يؤدي الصراع بين التفسيرات المختلفة إلى الخلاف والانقسام في المجتمع، وحتى إلى النزاعات والصراعات العنيفة، قد يشعر البعض بالتهديد عندما يعارض تفسير التراث لما كانوا يعتقدون صحيحًا وصوابًا، وهنا تبرز أهمية التسامح والاحترام المتبادل للأفكار المختلفة والمواقف والرأي الأخر.

واحدة من أمثلة حرب التأويل الشهيرة هي صراع فهم الدين والتدين، فعلى الرغم من أن الديانات تحمل مفاهيم ومعتقدات مشتركة إلى حد كبير، ولكن تختلف التفاسير والمنظور من شخص إلى آخر، فقد يصر كل جانب على تفسيره الخاص، ويروج له كالحقيقة المطلقة، مما يؤدي إلى تبني وجهات نظر متطرفة وتصعيد الصراع.

وهذ ما قاله الصحابي الجليل (عمار بن ياسر570- 657 م) في حرب صفين أثناء القتال بين جيش الإمام علي بن أبي طالب (رض) وجيش معاوية بن أبي سفيان ما نصه (بالأمس قاتلناكم على تنزيله، والأن نقاتلكم على تأويله).

تؤثر حرب التأويل أيضًا في المستقبل، حيث تعمل على تقييد الإبداع والابتكار وتعطيل التطور والتقدم، فعندما يتم تعيين تفسير واحد فقط كالصحيح، فإن ذلك يمحو التنوع والتعددية في الأفكار ويخلق بيئة تُكبح المبدعين وتربط أيديهم. فالأفكار المبتكرة تكون غالبًا هي نتيجة لمزج أفكار مختلفة وتفسيرات متعددة للتراث... لذلك لا بد من إيجاد حلول لحرب التأويل التي زالت قائمة حتى يومنا الحاضر.

ثانياً: العقل الديني محاصر بالنص

هو مصطلح يُشير إلى الظاهرة التي تعني انحصار العقل البشري داخل نص ديني محدد، مع عدم القدرة على التفكير بمستوى عالٍ والنظر بعقلانية وحرية، فهو مفهوم يتعارض مع فلسفة الحرية الفكرية التي تؤمن بقدرة العقل على التحليل والاستنتاج والتفكير بشكل مستقل وخارج الضوابط المفروضة عليه.

العقل الديني محاصر بالنص قد يكون نتيجة لعدة عوامل، منها التربية والثقافة والتقاليد الدينية المتوارثة في المجتمع، أذ يتعلم الأفراد منذ صغرهم القيم والمعتقدات الدينية، ويتم تعليمهم بتوجيهات صارمة حول كيفية فهم وتفسير النص الديني، ويتم وصف هذا النص بأنه المصدر الأصلي والثابت للمعرفة الدينية، وبالتالي فإن تفسير النص يكون مقدسًا ولا يقبل الجدل أو التحليل النقدي.

نتيجةً لهذا الانحصار، يكون العقل الديني مقتصرًا على استيعاب ما جاء في النص الديني، دون التفكير بما وراءه أو البحث عن معانٍ أعمق، لذلك يكون النص هو الإجابة الوحيدة على جميع الأسئلة الدينية، ولا يُسمح للعقل بالتعمق في سؤال صحة أو منطقية تلك الإجابات، وبالتالي، يفتقر العقل الديني المحاصر بالنص إلى القدرة على التقاط تباينات الآراء والتعبيرعن الشكوك والاعتراضات.

علاوة على ذلك، قد يكون العقل الديني محاصر بالنص أيضًا نتيجة للتفسير الحرفي والحرقفي للنصوص الدينية، أذ يعتقد بعض الناس أن كل كلمة وجملة في النص الديني تحمل دلالات صرفة ودقيقة، وأن أي تشكيك أو تفسير حر يقوض القيمة الدينية للنص، وهذا يحد من قدرة العقل على التفكير بإبداع وابتكار، ويصد الفرد عن تجربة فهم شخصي للدين والعمق الروحي.

ثالثاً: صراع التراث الديني السلبي مع الحضارة

يعتبر العراق من الدول التي تشتهر بتطورها الحضاري العريق وتاريخها الثري، حيث تمتلك الكثير من المدن القديمة والمعابد الذي يتجسد فيها التراث العراقي الديني والحضاري، ومع ذلك، يعاني المجتمع العراقي من صراع دائم بين التراث الديني السلبي والحضارة الحديثة، والذي يؤثر في تنمية المجتمع وتطوره.

ويعود التاريخ الديني في العراق إلى فترة ما قبل الإسلام، أذ كان الدين يمثل قوة رئيسية في حياة الناس ومؤسسات المجتمع، ومع التطور الثقافي والحضاري للعراق، برزت العديد من المذاهب الدينية والطوائف، مما أدى إلى زيادة صراع التراث الديني السلبي مع الحضارة في المجتمع العراقي.

يتمتع التراث الديني بأهمية كبيرة في العراق، حيث يعتبر جزءًا لا يتجزأ من هوية الشعب العراقي المبنية على:

- الفكر الشيعي الجعفري – الاثني عشري: أذ ينحدر جميع شيعة العراق في الغالب من أصول عربية ويشكلون ثلثي سكان العراق مع وجود تركمان وأكراد فيلية شيعة بينهم، فالأكراد العراقيون كقومية يشكلون حوالي 20 بالمائة، بينما لا يتجاوز العرب السنة 20 بالمائة أيضاً من السكان ويعني هذا أن نسبة الشيعة تقدر بحدود 60 بالمائة أو أكثر من السكان في العراق.. المبنية أفكارهم على طروحات / الكليني والصدوق والمفيد والطوسي والحلي والمجلسي.

- الفكر السني: أذ يتوزع الشافعية على مناطق بغداد والأنبار، أما إقليم كردستان، فهم قاطبة تقريبا على المذهب الشافعي، أما الموصل فالأغلبية على المذهب الحنفي، بينما سُنة مدينة البصرة / جنوبي العراق على المذهب الشافعي، وبطبيعة الحال التجاور بين المذهبين صار ملموسا، وأية منطقة سُنية من العراق تجدها خليطا من شافعية وحنفية.. وهم مقيدون بطروحات البخاري وابو داود ومسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي والفقهاء الأربعة.

ومن خلال التراث الديني الموروث، يتم تمرير العقائد والقيم الدينية من جيل إلى جيل، وتعزيز الهوية الثقافية للشعب، ويمثل التراث الديني أرضية مشتركة للمجتمع العراقي، أذ يلتقي الجميع مهما كانت انتماؤهم المذهبي أو الثقافي تحت راية الدين الإسلامي.

ومع ذلك، يعتبر التراث الديني السلبي بحجمه الكبير خطرًا على التطور الحضاري للعراق، أذ يحد من الابتكار والتغيير في المجتمع، فعندما يكون للتراث الديني السلطة في توجيه الناس واتخاذ القرارات الحياتية، يتكون صراع بين الشرعية الدينية والحضارة الحديثة.

ويعاني المجتمع العراقي اليوم من شرخ عميق بسبب صراع التراث الديني السلبي مع الحضارة، فعلى سبيل المثال، تواجه النساء في العراق صعوبة في المشاركة السياسية والاجتماعية بسبب الزامات الشرع الديني التي تحد من حقوقهن.

كما أن التراث الديني يؤثر على الحرية الفكرية والتعايش بين الطوائف المختلفة في العراق، مما يؤدي إلى تصاعد التوترات الدينية.

أضافة الى الشعائر التي يمارسها شيعة العراق على طوال السنة من ممارسة المشي لزيارة الأئمة الأطهار من ال بيت النبوة، وقيام مئات الألوف من الزوار بممارسة اللطم والضرب بالسلاسل تزامنا مع أناشيد تحكي قصة الإمام الشهيد وصحبه الأبرار، حول المرقد.

وعند الصباح تبدأ مجاميع من الزوار بممارسة الضرب بالسيف على الرؤوس، فيما تجلس حشود هائلة بينهم نساء وأطفال منذ الصباح الباكر، حول مرقد الإمام  في مدينة كربلاء للاستماع إلى قصة واقعة الطف عبر مكبرات صوت نشرت حول المرقد.

ويقوم أغلب الزوار الذين يرتدون ملابس سوداء باللطم على الصدور وضرب الرؤوس والبكاء خلال سماعهم القصة، ورفع رايات إسلامية أغلبها سوداء فوق المباني تعبيرا عن الحزن في هذه الذكرى.

والتي عارضها الكثير من كبار علماء الشيعة ومنهم عالم الدين اللبناني الراحل (محمد جواد مغنية 1904- 1979) بقوله] كما تعلمون، فإنّه تُمارس أعمال كالتطبير وشدّ الأقفال على البدن وتخديش وإسالة الدماء من الرأس والوجه، والزحف في الزيارة وما شابهها والتي تبعث على وهن الإسلام وتضعيف المذهب قطعاً وقهراً).

في حين بارك هذه الشعائر وشجع عليها الكثير من علماء وخطباء الشيعة المتزمتين من خلال وسائل أعلامهم الواسعة ومنها القنوات الفضائية التي تنقل تلك الشعائر وتبثها عبر تلك الفضائيات.

والكثير من ميسوري الحال من الشيعة قاموا ببناء أماكن عبادة (حسينيات) لأقامت تلك الشعائر والتباهي بها وصرف أموال طائلة عليها، قد تمتد لمدة عشرة أيام وأحياناً شهر بالكامل، والتي لا تخلو من وجود شاعر(رادود) يقدم قصيدة شعرية حزينة (لطميه)، قد يتطاول من خلالها على الخلافة الراشدة كما فعل الرادود/ باسم الكربلائي مؤخراً.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو/ لماذا أقليم كردستان العراق يتقدم خطوات واسعة نحو البناء والتنمية والاستثمار في كافة المجالات، وبالمقابل جنوب العراق يتراجع خطوات واسعة نحو الخلف رغم وجود النفط والغاز في أرضه التي كانت خصبة وموطن سكن سابق للسومريين والبابليين.

الجواب: تعد دولة العراق من الدول العربية التي يتمتع فيها إقليم كردستان بمستوى تقدم أعلى بالمقارنة مع جنوب العراق، وفي السنوات الأخيرة، زادت الانقسامات والتوترات بين الإقليم والحكومة الاتحادية من جهة، وبين الإقليم ودول الجوار العراقي (أيران وتركيا)، مما أثار العديد من الأسئلة حول أسباب هذا الاختلاف في مستوى التقدم والتخلف بينهما، وتفسير الأسباب التي تؤدي إلى تقدم إقليم كردستان وتخلف جنوب العراق.

نعم الكردستاني تحرر من عبْ الطائفة وأبتعد عن السلف الصالح والطائفة الناجية وراح يبحث عن مصالحه القومية والتنموية التي تتعرض للتهديد من قبل أيران وتركيا وحتى من قبل الحكومة الاتحادية أحياناً.

أما أبن الجنوب، فهو قابع تحت تأثير التراث الديني الطقوسي المتوارث من أفكار وشريعة (الدولة الصفوية 1501-1722)، وما أضافه رجال الدين الحاليين من طقوس وشعائر جديدة، قد لا نجد من يمارسها في دولة أيران التي قامت مؤخراً  بتشذيب تلك الشعار ووضعها ضمن سياقها الحضاري.

وعلى عكس مما تشهده البلدان من عائدات ضخمة نتيجة لتنشيط السياحة، فإن العراق البلد الذي يزخر بمعالم سياحية ودينية، ربما يكاد يكون الوحيد، الذي يتحمل أعباء استقبال الملايين من دون فائدة حقيقة، سوى ممارسة الشعائر التراثية من قبل الزائرين.

رابعاً: التراث والتجديد

تمثل مهمة "التراث والتجديد" في إعادة استكشاف الاحتمالات القديمة واستحضار احتمالات جديدة، واختيار الأنسب لتلبية احتياجات العصر الحالي، لا يوجد مقياس تجريبي لتقييم مدى صواب أو خطأ هذه الاحتمالات، بل يعتمد الاختيار على نتائجه العملية.

يعني اختيار المنتج الفعّال والملائم لمتطلبات العصر هو الاختيار الصحيح، ولكن ذلك لا يعني أن الاختيارات الأخرغير صحيحة، بل تظل تفسيرات محتملة لوضع زمن آخر.

نعم أصول الدين ثابتة على مر الزمان والمكان، إلا أن الفهم الذي نتبناه لها يختلف وفقًا لاحتياجات العصر المعين، كذلك، تظل حرية الإنسان وعقله ومسؤوليته ثابتة، ولكن طرق ممارستها تختلف من زمن إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى.

ومن الضروري أن يكون هناك تصور ديناميكي للأصول ومقتضياتها، وتصورات عملية للعقائد ومختلف النظريات المتاحة، فاتهام حضارتنا بأنها وحدة وغير متعددة أو أنها مبنية على الاجتماع المتفق عليه فقط، هو اتهام خاطئ.

أحد الأشياء الرئيسية التي تميز تراثنا القديم هو توفير مجموعة متنوعة من الاحتمالات للاختيار، واعتبار الاجتهاد ليس فقط في أصول الفقه، ولكن أيضًا في أصول الدين الذي وظيفته ليست فقط في تطبيق الأحكام والأفعال، ولكنها تمتد أيضًا إلى اختيار النظريات المناسبة وتطبيقها وفقًا لاحتياجات العصر.

لذا تكون مهمة "التراث والتجديد" هي حل الألغاز التي تحيط بالماضي، وكذلك إزالة العوائق التي تمنع التحرر واستئصالها من جذورها، وإذا لم يتم تغيير جذور التخلف النفسي، مثل الخرافة والأسطورة والانفعال المذهبي والتأليه وعبادة الأشخاص والسلبية والخضوع، فإن الواقع لن يتغير.

لقد كانت الخلافات بين السلطات السياسية والدينية خلال فترات الحكم الوراثي الإسلامي في ذاك الدهر جلية، ليس حصرا في حياة العلماء الشيعة فقط، وإنما عند علماء السنة البارزين أمثال مؤسسي المذاهب الفقهية الأربعة، جراء رفضهم لمطالب الحكام الساسة أنذاك.

خامسا: الاستنتاجات

في الدول الأوربية وقليل من الدول الإسلامية قاموا بفصل الدين عن السياسية وفصل الدين عن الدولة، وكثير ما يُّستغل الدين من طرف الحكام والذين يدورون في فلكهم لربح الشرعية وتبرير عدد محدود من الاعمال والافعال لحماية وحفظ وجودهم واستمرار العبودية والديكتاتورية والفساد والاستبداد ومختلف اشكال الريع والنهب والافتراس لحقوق وممتلكات المستضعفين.

وذلك ما يحدث في بلدانا، الدين يٌّستغل لتخدير الشعب والتعامل معه كالقطيع المساق الى المذبحة، وليس بالغريب حينما، وصف المفكر الألماني (كارل ماركس 1818 -1883) الدين بأفيون الأمم لان في جل الحروب والحروب الاهلية يوظف الدين للتعبئة السلبية والاستعداد للجهاد الموهوم والقتل والسبي والارهاب.

ومن أجل إنقاذ الإنسان وإعادة اكتشافه لنفسه، يجب علينا التخلي عن العقل الديني المحاصر بالنص والمذهبية المقيتة التي أصيبت بالعقم التراثي المشلول، و يجب تجاوز الميثولوجيا السياسية التي اختفت وراء قناع الدين والانتقال إلى السياسة المدنية، حيث يكون العقل الشفاف هو العامل المحدد، بدلاً من التمسك بثقافة الفقهاء والتركيز على ثنائية الحياة والموت.

من الضروري اليوم التركيز على الأبحاث النظرية حول الأصولية والربط بينها وبين الظاهرة الدينية، بدلاً من تحويل الحوار إلى معركة طويلة لا تُّحمد عقباها، أذ لم يكن من الضروري إصلاح الفكر الديني، بل دفعه إلى الانفجار على نفسه مثلما حدث مع "داعش" والحركات المتطرفة.

للأسف، المفكر والمؤرخ وعالم الدراسات الإسلامية والفيلسوف والباحث الأكاديمي الجزائري (محمد أركون 1928- 2010) لم يكن محظوظًا بمشاهدة انفجار التطرف الكبير الذي شهده العالم، فعندما يكون لدينا ابتكارات في الفكر، فإن النهايات تأتي على يد المبدعين وليس من قبل الذين يتمتعون بها.

وكما قال المفكر المغربي (محمد عابد الجابري 1935- 2010)..} أن الموروث الإسلامي الخالص- الحديث – مخترق من قبل القيم الكسروية [.

***

شاكر عبد موسى/ العراق

......................

المصادر

- كتاب، المسألة الشيعية.. رؤية فرنسية / أعداد وتحرير وترجمة د. جواد بشارة / دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر، بغداد - شارع المتنبي، 2015م.

- كتاب، الإسلام والتشيع.. قراءة مغايرة للسائد الديني/ الشيخ طالب السنجري/ دار جدل للنشر والتوزيع – بغداد، 2022م.

- كراس، شيعة العراق.. التأسيس، التاريخ، المشروع السياسي/ السيد سامي البدري / دار الفقه للطباعة والنشر – أيران، 1424هـ ق.

- صحيفة القدس العربي/ أركون ونقد الفكر الديني/ عزيز الحدادي – كاتب مغربي/ 29 يناير، كانون الثاني / 2020.

https://www.alquds.co.uk/%D8%A3.

- موقع الجزيرة نت/ التأويل الحداثي للتراث الإسلامي.. كيف خلعوه عن سياقه/ سامح عودة / 8 يناير،كانون الأول / 2018.

https://www.aljazeera.net/midan/int.

طُرحت المصالحة بين الدّين والفلسفة، في المؤتمر الدُّوليّ الثَّاني للفلسفة (6- 7 فبراير 2024، الذي عقدته «جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانيَّة» بأبوظبي، وكان عنوانه «الفلسفة ورهان التَقدم النظريّ والاجتماعي»، كي لا تبق «العلاقة شقية سلبية بين الفلسفة والدِّين»، حسب كلمة الافتتاح لمدير الجامعة الأكاديميّ خليفة مبارك الظّاهري.

أقول: مَن يقرأ تاريخ الفلسفة الإسلامية، سيجد أن المشكلة ليست بالفلسفة والفلاسفة، إنما بالأصولية الدينية، فهي التي حَرّمت الفلسفة، وحذرت مِن تعليمها، مع أنّ مجالها الوجود، والأخلاق، والفن، والعِلم، وكلّ ما يتعلق بالحياة، فلم يفرض الفيلسوف نفسه وكيلاً عن الله، ولا فقيهاً، إلا أنَّ الأصوليّة لا تريد تفكيراً خارج مسلماتها، وإذا أريد تحقيق مصالحة فلا تعني إذابة أحد المجالين في الآخر.

لا أجد أبا هلال العسكريّ(ت: 395 هـ) دقيقاً في كتابه «الأوائل»، لا متقدماً إلا غرف مِن متقدمٍ عليه، لذا عندما أذكرُ أنَّ للمعتزلة(ظهرت 110هجرية) السّبقَ في طرح المصالحة بين الدين والفلسفة، أذكرها على قلقٍ. تسلح المعتزلة بالفلسفة اليونانية، دفاعاً عن الدّين، وهناك مَن اعتبرهم فلاسفة الإسلام الأوائل(ألبير نصري نادر مثلاً)، وبينهم المفسرون والفقهاء.

شبك المعتزلة الفلسفة بمقالات الدِّين، فتحدثوا عن الوجود والعدم، والاختيار والإجبار، العقل في تقييم النص الدينيّ، حتى نجحوا بإثارة فكرة المصالحة بين المجالين، فعندما يجادل المعتزلة في المادة والحركة، وسقوط الأجسام، وقوانين الطبيّعة، لم يجر هذا إلا بعد التشبع بالفلسفة والعقيدة الدّينيَّة معاً، غير أنَّ التّجربة انتهت إلى مماظة(ذروة المخاصمة) بينهم وأصحاب الحديث، مع أنَّ أكثر مِن معتزلٍ فسر القرآن، مثل أبي عليّ الجبائي(ت: 303 هجرية)، وأن الفخر الرّازي(ت: 606 هجرية)، وهو أحد الأشاعرة، أعتمد في كتابه «المحصول» على فِكر المعتزلي أبي الحسين البصري(ت: 436 هجرية) وكتابه «المعتمد»(الصّفدي، الوافي بالوفيات).

كان أروع مَن كتب في تاريخ الفلسفة الإسلامية، مِن المعاصرين، حسين مروة(اغتيل: 1987) «النّزعات الماديّة في الفلسفة العربيَّة الإسلاميّة»، والطَّيب تزيني(ت: 2019) «مِن التّراث إلى الثورة»، وحسام الدِّين الآلوسيّ(ت: 2013) «حوار بين الفلاسفة والمتكلمين»، ومحمد عابد الجابريّ(ت: 2010) «بُنية العقل العربيّ»، وجورج طرابيشيّ(ت: 2016) «مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام»، وغيرهم مِن الرَّاحلين، ناهيك عما صنفه الأحياء مِن المشتغلين في الفلسفة، وهم كثرٌ.

نجد في تاريخ الفلسفة، الذي درسه المذكورون، تجاربَ من المصالحة، والمماظة أيضاً، فهذا أبو نصر الفارابيّ(ت: 339 هجرية)، يشترط بطالب الفلسفة معرفة الشَّريعة: «تعلُم القرآن واللغة وعلم الشرَّع، غير مخل بركن مِن أركان الشَّريعة»(البيهقي، تتمة صوان الحكمة).

كذلك طرح «إخوان الصّفا»(القرن الرَّابع الهجري) المصالحة بين الفلسفة والدّين، فدولتهم «دولة الخير» تقوم على مزج الشَّريعة والفلسفة، بين الأنبياء والحكماء، فقالوا: «فأما من تعلّم علم الشّريعة، وعرف أحكام الدّين، وتحقق أمر النّاموس، فإنَّ نظره في علم الفلسفة لا يضره، بل يزيد في علم الدّين محققاً»(الرِّسالة الثَّالثة/القسم الرَّياضي).

غير أنّ التجارب كافة كانت تُفشلها محاولات رجال الدين بالتفرد في التفكير، عندما يتعلق الأمر بتحكيم العقائد الدينية في السياسة، واحتكار التعليم. فكم فقيه تفلسف وكُفّر مِن قِبل أصحابه الفقهاء، وكم فيلسوف حاول النّظر في الوجود، بمعزل عن المذهب السّائد، فوجهت له تهمة الزندقة!

لهذا أرى إبقاء كلّ في مجاله، لأنَّ النظر بالموجودات يتعارض مع الدّين، إذا أخذت الأفكار مسلمات لا جدال فيها، والفلسفة، عند البحث في الوجود، لا تقبل المسلمات، لأنها أفكار تتوافق وتتعارض، وهذا دَيْدن العِلم، وتبقى هكذا، ومِن يريد الاستزادة يُقابل «تهافت الفلاسفة» بمضاده «تهافت التّهافت». أقول: لا مصالحة تفرض التّداخل، ولا اختلاف إلى حد المماظة، فعندها تتحرر الفلسفة، وتدخل مناهج التّعليم، تساهم في التَّقدم الاجتماعيّ.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

أنت تتصفح في وقت متأخر من الليل عبر انستغرام أو تك توك، وفجأة، تشاهد سلسلة من الصور أو مقاطع الفيديو لأصدقائك أو عائلتك وهم يستمتعون بدونك. تسأل نفسك: لماذا لم يدعوني؟ هل نسوا دعوتي؟

وبعد ذلك، بنفس السرعة، تسقط في حفرة من الحيرة تحاول فهم كل شيء، تتساءل عن الخطأ الذي ارتكبته، وتتمنى لو تم دعوتك، وتقوم بأستعراض ملفاتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي للعثور على أدلة على ما جعلهم يتركونك ويقومون بالنشاط وحدهم. في النهاية، تترك في حالة من الحزن أو الشعور بالذنب أو الخجل لأنك تعاني من (الخوف من الضياع او من أن تنسى او fear of missing out).

أصبح FOMO، أو الخوف من الضياع، سائدا للغاية على مدى العقدين الماضيين. إنها تجربة يعرفها الكثير منا. وعلى الرغم من أنه يرتبط ارتباطا مباشرا باحترامنا وتقديرنا لذاتنا، إلا أن له أيضا تأثير مباشر على صحتنا الجسدية والعقلية والعاطفية، كيف؟ عندما يستمتع الآخرون من حولك بدونك، ما الذي يمكنك فعله لتشعر بالرضا عن مكانك وما تفعله.

يشير FOMO، أو الخوف من الضياع، إلى الشعور أو التصور بأن الآخرين يستمتعون أو يختبرون أشياء جديدة أو يعيشون حياة أفضل منك. وعلى الرغم من أنها غالبا ما تنبثق عندما ترى أو تدرك هذه الخصائص في الأشخاص الذين تحبهم وأنت قريب منهم، إلا أنها يمكن أن تحدث أيضا مع العلاقات شبه الاجتماعية. عندما ترى أشخاصا لا تعرفهم ولكنك تتابعهم على وسائل التواصل الاجتماعي يقومون بأشياء رائعة تتمنى أن تفعلها، يمكن أن يكون لها تأثير دائم على شعورك تجاه نفسك.

مع تقدم وسائل التواصل الاجتماعي، يشعر الناس أنهم لا يستطيعون الهروب من FOMO. لدينا إمكانية الوصول إلى كل شيء على مدار 24 ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع، ومعظم الناس مسجلون على منصات متعددة. لهذا السبب، يشعر الناس أنهم إما يفوتون أو أنهم لا يفعلون ما يكفي للوصول إلى إمكاناتهم الكاملة. لا يعتمد FOMO كليا على وسائل التواصل الاجتماعي (على الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي ربما تكون الجاني الأكبر ل FOMO). يمكن أن يحدث FOMO لأي شخص في أي مكان وفي أي وقت.

قد يعاني الرياضي الذي يرى بشكل متكرر شخصا يقوم بممارسة التمارين الرياضية في صالة الألعاب الرياضية من أربعة إلى خمسة أيام في الأسبوع من الإجهاد المرتبط بالاعتقاد بأنه غير قادر على الالتزام بالوقت أو مواكبة هذه المعايير العالية. قد يصبح الشخص الذي يستمتع بالقراءة مدفوعا بقائمة طويلة من الكتب التي قرأها شخص آخر على مدار عام وقد يشعر كما لو أنه ليس ذكيا بما فيه الكفاية أو متعلما بما فيه الكفاية أو قادرا على الحفاظ على هذا المستوى من الفهم.

قد يشعر الشخص الذي يرغب في أن يكون أكثر انخراطا أو نشاطا اجتماعيا بالإهمال أو القلق أو أنه لا يفعل ما يكفي كلما رأى أو سمع عن أشخاص آخرين يسافرون ويذهبون في مغامرات ويختبرون أشياء لم يختبروها في حياتهم الخاصة. من نواح كثيرة، يشبه FOMO الحديث الظاهرة القديمة المعروفة باسم "مواكبة جونز" او ضغط الاضطرار إلى تلبية أو تجاوز الوضع الاجتماعي لجارك وثروته وشعبيته.

لماذا يحدث FOMO؟

يمكن أن يؤثر FOMO على أي شخص، ولكن بعض الأشخاص معرضون لخطر أكبر للإصابة ب FOMO إذا كان لديهم حالة صحية عقلية معينة أو لديهم مستوى منخفض من احترام الذات. بالطبع، وسائل التواصل الاجتماعي ليست كلها سيئة، ولكنها قد تكون ضارة بشكل خاص إذا كانت علاقتك الشخصية مع صورة جسمك في حالة من الفوضى. وعلى وجه الخصوص، فإن اضطراب القلق والاكتئاب يفسحان المجال لتجربة FOMO بشكل متكرر وله آثار طويلة الأمد.

ما يهمنا هو أن الأشخاص الذين لديهم استعداد للاضطرابات العاطفية مثل القلق أو الاكتئاب عادة ما ينسحبون أو يتجنبون المواقف، وقد تكون طريقتهم في التواصل مع الآخرين من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. التجربة الإنسانية تدور حول الاتصال، لذلك لدينا حاجة فطرية للتواصل. ولكن في حالة الشخص المصاب بالقلق أو الاكتئاب، قد يكون معظم اتصاله من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

ربطت دراسة أجريت عام 2017 بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي اليومية وفرصة أكبر للإصابة باضطراب القلق. بينما تشير دراسة أجريت عام 2022 إلى أن أعراض الاكتئاب والقلق تزداد سوءا كلما قضينا وقتا أطول على وسائل التواصل الاجتماعي. أن وسائل التواصل الاجتماعي و كيفية استخدامها وعدد المرات التي نستخدمها لها بالتأكيد تأثير مباشر على قدرتنا على تجربة FOMO.

عندما تكون لدينا احتياجات أساسية لم تتم تلبيتها ونعتمد على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتلبية تلك الاحتياجات، فمن المحتمل أن يضاعف ذلك من شدة الأعراض التي نعاني منها. تشير الدراسات أيضا إلى أن FOMO هي حالة عاطفية سلبية ناتجة عن احتياجات الارتباط الاجتماعي غير الملباة. من المحتمل أن يكون FOMO هو الأكثر إيذاءا لدى المراهقين أو البالغين الأصغر سنا، خاصة لأنهم يحاولون معرفة المكان المناسب لهم في الحياة والمجموعات التي يناسبونها.

كيف يؤثر FOMO على صحتك؟

يمكن أن يكون للخوف من الضياع تأثير مباشر على صحتك الجسدية والعقلية والعاطفية. قد تواجه جسديا بعض الأعراض المرتبطة بالقلق والتي تشمل:توتر المعدة والغثيان، الصداع، آلام الجسم، خفقان القلب وزيادة معدل ضربات القلب، مشاعر الاضطراب العاطفي. عقليا وعاطفيا، قد تواجه زيادة في الأفكار المتطفلة. قد تستهلكك دورة الحديث السلبي عن النفس، مما يجعل من الصعب إدارتها والإيمان بإحساسك بقيمة الذات واحترام الذات. إذا أصبح أي من هذه الأعراض في أي وقت مزعجا بشكل متزايد، فمن المهم أن تطلب المساعدة.

من وجهة نظر نفسية، عندما يبدأ في التأثير على حياتك اليومية، نعلم أن هناك مشكلة. وهذا هو في أي مجال من مجالات الحياة، التفاعلات الاجتماعية، التمارين الرياضية، والمدرسة، والعلاقات. مهما كان الأمر، إذا تعطل أي جانب من جوانب حياتك، فنحن بحاجة إلى أن نكون قادرين على تحديد جذر المشكلة وأي حلول محتملة يمكن أن تساعد.

نصائح للمساعدة في التغلب على FOMO والتعامل معه

إذن، هل أن حل FOMO بسيط مثل أخذ استراحة من وسائل التواصل الاجتماعي؟ أم أن هناك طرقا أخرى يمكنك من خلالها تعلم كيفية التعامل مع التوتر المرتبط بالاستخدام عبر الإنترنت؟

ما يتعين علينا القيام به هو وضع حدود مناسبة وإجراء تقييم قائم على القيمة لأهدافنا وما يساعدنا على تحقيق تلك الأهداف، بما في ذلك استخدامنا لوسائل التواصل الاجتماعي. تتضمن بعض الحلول المفيدة لتجنب وإدارة FOMO ما يلي:

-التعرف على مشاعرك ووضع الحدود , عندما نبدأ في الشعور بالأعراض الجسدية أو النفسية، نعلم أن الوقت قد حان للوقوف وأخذ قسط من الراحة. علينا أن نضع حدودا.

-يمكن أن يبدو هذا مثل إلغاء تنشيط حسابات الوسائط الاجتماعية الخاصة بك، أو حفظ مشاركة وسائل التواصل الاجتماعي لعطلات نهاية الأسبوع عندما لا تعطل عملك، أو فرض حدود زمنية على هاتفك الذكي حتى تتمكن فقط من الوصول إلى تطبيقات معينة لفترة محدودة من الوقت خلال فترة 24 ساعة. إذا كان لديك طفل في المنزل وكنت قد بدأت للتو في تعريفه بوسائل التواصل الاجتماعي، فمن المهم جدا كوالد أن تضع هذه الحدود للطفل.

تحديد المحفزات

في بعض الأحيان، يمكن أن يكون FOMO شالا. إنه يسحبك إلى حفرة الضياع ويشلك. لهذا السبب، إذا حددت ما هي محفزاتك، فيمكنك العمل على تجنب تلك المحفزات أو إعداد نفسك لكيفية التصرف عند حدوث هذه المحفزات. على سبيل المثال، إذا رأيت شخصا تعرفه في مجموعة أصدقائك ويتسكع مع شخص آخر، وتعلم أن هذا سيثيرك، فأنت بحاجة إلى التأكد من أنك لا تبحث عن هذه الأنواع من الأشياء على وسائل التواصل الاجتماعي، وأنك تتواصل مع هؤلاء الأصدقاء لمعالجة مخاوفك كلما ظهرت.

بشكل عام، حاول ألا تشعر بالغيرة، وبدلا من ذلك، كن ممتنا لأن أصدقائك لديهم أشخاص يهتمون بهم، واعلم أن الشيء نفسه ينطبق عليك. طور إحساسك بالذات،إن تطوير إحساسك بالذات أمر بالغ الأهمية في جميع مراحل حياتك.عندما نبدأ في النظر إلى أنفسنا، فإننا ندرك ما نقدمه للعالم وعلاقاتنا، وندرك قيمتنا. من المهم أيضا أن ندرك ما هي قيمنا وما هي مصالحنا. وفي بعض الأحيان، لا بأس إذا كانت هذه القيم لا تتوافق مع الآخرين، خاصة إذا كانت مهمة بالنسبة لنا.

يمكنك القيام بذلك عن طريق جرد قيمك عن طريق إجراء تقييم قائم على القيمة. قم بعمل قائمة بكل الأشياء التي تجلب لك السعادة، والتي تجعلك تشعر بالثقة، والتي تجعلك تشعر بالرضا عن نفسك والطريقة التي تتحرك بها عبر العالم من حولك. بعد ذلك، قم بعمل قائمة بجميع الأشياء التي لا تخدمك، والأشياء التي تجعلك تشعر بالسوء تجاه نفسك، أو تؤذيك أو تجعلك تشعر أنك لست جيدا بما فيه الكفاية.

من خلال القيام بذلك، يمكنك اكتشاف كل الأشياء التي يجب عليك التمسك بها وربما التفاعل معها أكثر قليلا وجميع الأشياء التي قد تحتاج إلى قطعها من حياتك أو ضبط طريقة تفاعلك معها. نحن بحاجة إلى التأكد من أن الشباب يفهمون قيمتهم بشكل خاص، ويفهمون ما يملأ دلوهم، ويفهمون ما يجعلهم ما هم عليه، وما الذي يجلب القيمة، وما الذي يجلب الفرح وما الذي يحفزهم، حتى يعرفوا أنفسهم بعمق ولا يقضون الوقت في مقارنة أنفسهم بالآخرين، وبالتالي يقلل من قيمتهم الذاتية.

تقييم واقع وسائل التواصل الاجتماعي

من FOMO تأتي أشياء أخرى مثل JOMO (فرحة الضياع) و ROMO (حقيقة الضياع). وهذا الجزء الواقعي هو جزء مهم يجب تذكره، ما تراه على الإنترنت هو مجرد شظية مما يحدث بالفعل وراء الكواليس. في معظم الأوقات، لا نرى سوى نصف الصورة. نحن لا نرى دائما حقيقة ما يحدث وراء الكواليس، ولدينا جميعا صراعات وتحديات نواجهها. علينا أن نسأل أنفسنا، هل نقوم بتقييم وضع حقيقي أم أن هذا مجرد نصف الصورة؟.

اطلب المساعدة من طبيب نفساني, يمكنك تبني الكثير من أدوات الإدارة هذه بنفسك، ولكن في بعض الأحيان، قد تكون المواقف أكثر تعقيدا بعض الشيء، خاصة إذا لم تكن متأكدا من أين تبدأ. يمكن أن يكون الطبيب النفسي المتخصص في العلاج الشخصي أو العلاج السلوكي المعرفي مفيدا في إدارة FOMO والتأكد من أنك تطارد أحلامك في الواقع وليس عبر الإنترنت. بعد كل شيء، عندما تخشى أن تفوتك الفرصة، فمن الجيد معرفة أن لديك شخصا في فريقك يفهم تجربتك.

إن طلب المساعدة من شخص متخصص في علاج الصحة العقلية هو دائما فكرة جيدة. العلاج الشخصي هو وسيلة استثنائية لفهمك كفرد وكيفية ارتباطك بالعالم. العلاج السلوكي المعرفي مفيد أيضا لمزيد من الأعراض الفسيولوجية وتعلم إدارة التشوهات المعرفية واجترار الأفكار.

***

د. احمد المغير

عن / مايوكلنك

 

على رقعة صغيرة من الارض في ريف شرق المانيا، وفي مدينة صغيرة تقع على ضفاف نهر البريغل، عاش مواطن الماني حياة رتيبة، حيث ظل لأكثر من نصف قرن يستيقظ  كل يوم في الخامسة صباحا، كان ينام كل ليلة لمدة سبع ساعات بالتمام والكمال، وعند الساعة الخامسة إلا خمس دقائق، كان " لامب " الرجل الذي يقوم على خدمته يسير الى غرفة الفيلسوف وقد تملكه شعور بانه يؤدي واجباً، ثم يصيح بنبرة عسكرية: " السيد الاستاذ لقد حان الوقت ".

ومن الطريف انه طلب ذات يوم من " لامب " أن يتركه ينام نصف ساعة زيادة، فرفض الرجل رفضا قاطعا وهو يقول:" تريد مني ان اخالف التعاليم ". بعد ان يستيقظ يجلس على منضدة في زاوية من المطبخ ليكتب لمدة ثلاث ساعات لا تزيد دقيقة ولا تنقص دقيقة واحدة، يتناول خلالها قدحا من الشاي. في الثامنة صباحا يرتدي ملابسه التي كان ينسقها حسب فصول السنة، فقد كان يهتم كثيرا باناقته، ويصر على أن تتناغم سترته الطويلة مع جواربه، ويزين رأسه بباروكة بيضاء، وكان يقول لكل من يمتدح أناقته: " من الأفضل ان تكون مجنوناً بالموضة، على ان تكون الموضة خارج حساباتك". كان صاحبنا متوسط الطول، قامته معتدلة، غير انه يعاني من ارتفاع طفيف في كتفه الايمن.. عيناه زرقوين إلا ان اليسرى كانت تعاني من الضعف بسبب القراءة المتواصلة. يكتب عن نفسه:" إنني ضئيل قليل الاهمية إلى حد ان الرياح تمر فوق رأسي فلا تقتلعني كما تفعل بالنباتات التي تعلوني طولا ". يفلسف اهمية الرياضة في حياة الانسان، ويرى أن المشي لمسافات طويله يجب ان يتحول إلى قانون يومي يرافق الانسان، بشرط أن تسير لوحدك دون ان يجهدك صديق او تلميذ في حديث غير مجدي، ولهذا كان يقول أن اولى شروط المشي أن يبقى الفم مغلقا،

في مدينة كونيغسبرغ التي ولد فيها في الثاني والعشرين من نيسان 1724 وعاش فيها اقل من ثمانين عاما باسابيع – توفي في الثاني عشر من شباط عام 1804، لم يغادرها، لكنه تنقل في عدد من البيوت وكان السبب ضوضاء الجيران، حتى انه اشتكى يوما من ديك كان يربيه جاره، واضطر ان ينتقل الى مسكن جديد، الامر الذي دفع الجار ان يقول:" هل يعقل ان ديكا بسيطا، يمكن ان يزعج فيلسوفا عظيما ". لم تربك حياته علاقات نسائية، في شبابه كان يصربعد الانتهاء من القاء محاضراته، على الذهاب الى المقهى للعب البليارد، لأنه كان يعتقد ان في ذلك تنشيطاً للذهن. يحب الهدوء، ويكره السفر، يجد ان حياته مرتبطة ببلدته التي كتب عنها:" ان مدينة مثل  كونيغسبرغ، يمكن ان تجد فيها مكانا مناسبا لتوسيع المعرفة بالانسان والمعرفة بالعالم سواء بسواء، ويمكن ان تكتسب هذه المعرفة دون سفر "- إيمانويل كانط (الانثربولوجيا ) ترجمة فتحي إنقزو -. كانت الناس لاترى فيه سوى استاذ للفلسفة، وعندما كان يمر بهم يحيونه تحية الصديق، ويضبطون ساعاتهم عليه، ولكنهم لم يدركو ان هذا الرجل يمارس بصمت عملية "تهديم" لأفكار قرون مضت "  كانت احواله المادية تتقدم ببطأ، فقد بدأ حياته المهنية  محاضرا في الجامعة عام 1755 براتب ضئيل، كما كانت اثنتان من شقيقاته تعملان خادمتان، وظل يعمل اربعة عشر سنة قبل أن يحصل على وظيفة استاذ.. عاش إيمانويل كانط حياته يمارس عاداته اليومية بانتظام، حتى ان جيرانه كانوا يقولون انهم يستطيعون ضبط ساعاتهم على مواعيد خروجه من بيته وعودته، وبرغم نمط حياته الذي يعتبره البعض ميكانيكيا إلا ان كانط كان متشددا لا يهادن في المسائل التي تتعلق بالعالم من حوله. كان يرى ان الحق واضح والباطل واضح، ولا يجوز الخلط بينهما، ولهذا يسجل له تاريخ الفكر انه من ابرز الذين واجهوا بشجاعة الاكاذيب وظل يؤمن ان الوعي هو الشيء الثمبن  في حياة الانسان، وان قدرتنا على المناقشة المنطقية هي الشيء الوحيد الذي يميزنا عن باقي المخلوقات في الكون. نحن قادرون على تطوير العالم الذي حولنا باستخدام التفكير والارادة. نحن الوحيدون القادرون على توجيه قدرنا. نحن الوحيدون الذين لدينا إدراك لذاتنا. ان تغيير العالم حسب مفهوم كانط لا يتم من خلال ايديولوجية، ولا من خلال تحول جماهيري إلى دين او عقيدة ما، ولا من خلال احلام واهمة عن المستقبل. بل من خلال إحراز النضج والكرامة لكل فرد. ستكون هناك دائما ديانات مختلفة وانظمة وقيم مختلفة قائمة على الثقافة والتجارب، وستكون هناك دائما افكار مختلفة، لكن اصر كانط على ان قضية الكرامة الانسانية واحترام حقوق الانسان، يجب ان تتحول الى قضية عامة وشاملة.

يُصدِر كتابه:" الدين في حدود مجرّد العقل " – ترجمه فتحي المسكيني – بالعبارة التالية:" إنّ دينا يعلن الحرب على العقل سوف يصبح مع مرور الزمن غير قادر على الصمود أمامه ". ونجده يحاول ان يُشدد على الناحية الاخلاقية في كل دين، وبالتالي فأن أي تقرب من الله خارج العمل الانساني الصالح، هو مجرد جري وراء سراب:" كل ما يظن الانسان انه يستطيع ان يفعله من اجل نيل رضا الله خارج التصرف الحسن والعمل الجيد ليس سوى وهم وعبادة خاطئة " - الدين في حدود مجرّد العقل -

كان والد كانط  " يوهان جورج " يعمل سراجا، مات عندما كان كانط في الثانية والعشرين من عمره، اما امه " حنا ريجينا " فقد توفيت وهو في الثالثة عشر من عمره، كان الابن الرابع لعائلة تتكون من تسعة اطفال، مات ثلاثة منهم وهم اطفال، عاشت العائلة في جو ديني متشدد.

بين كانط ومدينته التي كانت جزءً من المانيا، علاقة خاصة جدا، اطلق عليها اسم " مدينة السلام "، وقد تاسست المدينة في نفس السنة التي ولد فيها كانط من تجمع ثلاث مناطق سكنية، عاش في مدينته كونيغسبرغ حياة هادئة، ولم يكن يتوقع يوما ان هذه المدينة الصغيرة ستهب عليها ويلات الحروب التي كان يحذر منها،، وانها ستتصدر مشهد الصراع العسكري بين روسيا والتحالف الغربي، وتتحول الى  قاعدة عسكرية روسية عائمة وسط القارة الأوروبية. وانها ستكون عنوان من عناوين الحروب الاوربية خلا القرون الاخيرة. فهذه البقعة التي لا تزيد مساحتها عن 215 كلم مربع، ويسكنها أقل من نصف مليون انسان، كانت تخضع للسيادة الألمانية، لتنتهي سنة 1945 تحت السيطرة الروسية، ويتغير اسمها من  كونيغسبرغ  الى كالينينغراد حيث قامت روسيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية باخلاء المدينة من السكان الالمان، ورغم تفكك الاتحاد السوفييتي، وظهور دويلات في البلطيق، بقيت كالينينغراد روسية واكتسبت أهمية كونها تخترق اوربا. حاول الغرب إقناع روسيا بالتخلي عنها،  ومنحها الاستقلال  مثل باقي دول المنطقة الصغيرة مثل لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، وقدمت المانيا عرضا مغريا عام 2001 بشراء مسقط راس اعظم فلاسفتها، مقابل، إعفاء روسيا من الديون المستحقة وقتها، التي تجاوزت 25 مليار يورو، لكن روسيا رفضت فالروس يؤمنون ان كونيغسبرغ التي تقع في قلب البلطيق،  قادرة على خلق " مفاجأة استراتيجية"، وان بامكانها ان تزرع الرعب في المنطقة وهذا ما قام به الكرملين عشية الحرب في اوكرونيا، حيث صدرت الاوامر بتعزيز القوة العسكرية الروسية وتوجيه الرؤوس  النووية باتجاه اوربا.

في صباح يوم الحادي والعشرين من كانون الاول عام 1794 كتب ايمانويل كانط الجملة الاولى من كتابه الذي سيختار له اسم " مشروع للسلام الدائم "، وقد اراد كانط لكتابه الصغير الحجم أن يكون بمثابة التطبيق العملي لنظريته السياسية والتي سيضع اسسها فيما بعد في  كتابه " الاصول الميتافيزيقية لفلسفة الحق " والذي صدر عام 1797 اي بعد عامين من صدور " مشروع للسلام الدائم " وسيكتب في مقدمته:" المسألة لم تعد مسألة معرفة ما إذا كان السلام الدائم واقعا حقيقيا او تصورا فارغا، وما إذا كنا لسنا على خطأ في حكمنا النظري.. إنما ينبغي أن نعمل كما لو كان السلام، الذي ربما لن يتحقق، قابلا للتنفيذ، وأن نعمد، سعيا وراء هذه الغاية ".

ربما يقول البعض لماذا نعود بانظارنا الى هذا الفيلسوف الذي عاش قبل ما يقارب الثلثمائة عام، ولماذا  لا نلجأ الى احد معاصرينا من الفلاسفة، يقول برتراند رسل وهو يتحدث عن دور كانط في ترسيخ مفهوم السلام ان هناك اجابة واحدة  تتلخص في الدور المحوري الذي يلعبه مفهوم كانط في كل نقاش عن السلام. ان كتابات كانط كما يقول شوبنهاور:" لا تزال فتية جدا"، ولهذا اذا كنا نعيش في مجتمع ديمقراطي فعلينا ان نتذكر كانط، حيث كان من اوائل الذين اكدوا على ان لكل انسان كرامة اصلية ملازمة له ينبغي احترامها ورعايتها – كانط تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ترجمة عبد الغفار مكاوي – وقد كان اول فيلسوف يطالب بانشاء هيئة عالمية قادرة على ضمان السلام في العالم، كما كان متصلبا وغير مهادنا في موضوعة الاستبداد. وربما كان الفيلسوف الاكثر اهمية الذي تمعن في مفهوم الاخلاق والخير، واصر على ان إرادة الخير "  لا تكون خيرة بما تُحدِثه من أَثر أو تُحرزه من نجاح، لا ولا بصلاحيتها للوصول إلى هذا الهدف أو ذاك، بل إنها تكون كذلك عن طريق فعل الإرادة وحده أعني أنها خيِّرة في ذاتها" - تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق -

بعد الحرب العالمية الثانية قررت المانيا ان تلتفت الى فيلسوفها الكبير، ورغم ان قبره تحول الى ارض روسية، فقد بدأت المطابع باخراج طبعات جديدة من كتاب " مشروع للسلام الدائم " بلغت في عام واحد " 14 " طبعة كتبت لها مقدمات مختلفة، فيما اصدرت مطابع نيويورك ولندن وباريس طبعات لكتاب كانط الذي تم اعتباره اشبه بدستور ينظم حياة البشرية، وهو ما تحقق بمشروع الامم المتحدة الذي يقترب من مقترح كانط في تكوين رابطة تجتمع بها الأمم للتحاكم في النزاعات بغية تعزيز المجتمع السلمي في أنحاء العالم.

في مقدمة كتابه " مشروع للسلام الدائم " يضع كانت هذه العبارة:" لقد وضع احد اصحاب الفنادق من الهولنديين ذات يوم لافته وكتب فوقها عبارة (الى السلام الابدي). ترى أكان مقصودا من ذلك النقش الساخر أن يوجه اللوم الى الناس عامة ام الى رؤساء الدول الذين لا يشبعون من الحرب ابداً، ام الى الفلاسفة الذين الذين يستمرئون حلم السلام اللذيذ ".

لعله منظر بالغ الاهمية والجمال عندما نتخيل ان ايمانويل كانط، الاستاذ الجامعي، الوديع، الذي يعيش حياة منتظمة انتظاما آليا مثل ساعة دقيقة ومحكمة، يجلس ذات يوم بعد ان ينتهي من شرب قدح الشاي الصباحي ليفكر في احوال العالم ويكتب:" لا يجوز الاستيلاء على دولة مستقلة، كبيرة كانت ام صغيرة ". ويكملها بعبارة ستعتبر دستورا يحكم العلاقات بين الدول قائلا:" لا يجوز لدولة ان تتدخل بالقوة في نظام الحكم القائم في دولة اخرى " وفي خضم شرحه لفكرة الوصول إلى الذروة المفترضة من الحرية، يطرح فكرة العلاقات الدولية بين الدول القومية في العالم. حيث اعتبر كانط الدولة القومية ضرورية، للوصول إلى الحرية وبلوغ السلام العالمي. واعتبر التوازن بين هذه الدول، شرطاً أساسياً في الحفاظ على السلم والحرية. وفي المقابل، اعتبر كانط الدولة أو الحكومة العالمية (أي دولة القطب الواحد التي تحكم جميع البشرية) دولة استبدادية تناقض النضال العالمي من أجل بلوغ الحرية. الدولة ليس متاعا يباع ويشترى، بل هي جماعة انسانية لا يجوز لاحد ان يحكمها او يتصرف فيها إلا هي نفسها، وادماج دولة في دولة اخرى يعني القضاء على شخصيتها المعنوية واعتبارها مجرد سلعة، وفي هذا اهدار لها بوصفها كائنا معنويا. ان الحاكم، مهما يكن شأنه لا يحق له ابدا ان ينظر الى أية دولة اخرى مستقلة على انها مجرد عقار يخضع للملكية. ان الحرب وسيلة للدفاع عن الحق، وليست وسيلة للتدمير الشامل، مهما كانت الحجج العسكرية التي يمكن التذرع بها. فهناك فوق اعتبارات الحرب، اعتبارات انسانية تعلوا على كل اعتبار. يرفض كانط في تصويره للدولة وجود عقد سياسي بين الحاكم والمحكومين، لانه بموجب هذا العقد يتنازل الشعب عن كامل حقوقه للحاكم. بحيث يصبح لهذا الاخير السيادة المطلقة على شعبه، لأن الاساس القانوني للدولة عند كانط هو سيادة الإرادة العامة او ارادة الشعب التي لا يوجد سيد غيرها بموجب قوانين الحربة. وكانط هو صاحب الرأي الذي يقول ان الشعب هو صاحب الحق في التشريع وليس الحاكم، وليس للحاكم اي سلطة سوى السلطة التنفيذية التي تخضع لتشريع الشعب. وحتى السلطة القضائية ايضا تخضع لإرادة الشعب من خلال اختيار السلطة القضائية اختيارا حرا. ويؤمن كانط بسن قانون اسماه قانون الشعوب:" ينبغي ان يقوم قانون الشعوب على اساس نظام اتحادي بين دول حرة. ان الشعوب – مثلها مثل الافراد – لكي تخرج من حالة الحرب التي غالبا ما تنشب بسبب انعدام القوانين إلا ان تتخلى كالافراد عن حريتها الجامحة الهوجاء وان تذعن لإلزام القوانين العامة " – مشروع للسلام الدائم  -.

هل تحن بحاجة الى كانط هذه الايام ؟ سيكون الجواب من خلال ثلاثيته النقدية الشهيرة " نقد العقل الخالص "  و" نقد العقل العملي"  و" نقد ملكة الحكم ".حيث يؤكد لنا نحن ابناء القرن الحادي والعشرين ان العقل مفتاح لما نجربه ونختبره  وما نعرفه، وان اي شيء نختبره او نعرفه يرجع الى العقل نفسه، وان الانسان قادر بقوة عقله على فهم الحقيقة.وان علينا ان ندرك ان كل شيء يتحقق في هذا العالم - السعادة والطمانينة والرفاهية -  حين يحترم كل منا حقوق الآخر، ونسمع صوت الحياة الذي يقول لنا على لسان كانط اننا قادرون على وقف المجازر بيننا، لو اصغينا الى صوت العقل، واننا جميعا نملك في اعماقنا بحراً يفيض بالخير.

في وصيته التي سلمها لاحد تلامذته طلب كانط ان يكتب على شاهدة قبره:  " شيئان يملآن قلبي دوماً بالإعجاب المتزايد والخشوع، وهو شعور لا يفارقني كلما أطلت التفكير: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في داخلي. إنني أراهما أمامي مباشرة، وهما يثيران فيّ المرة بعد المرة الوعي بوجودي".

ونحن نعيد قراءة كانط والتمعن في كتاباته سنكتشف ان الرجل الانيق كان ينظر إلى الفلسفة بوصفها شيئاً  لا ينفصل  عن التجربة الفكرية للحياة، بل وانها جزءاً حيويا من هذه التجربة الحياتية..يكتب كارل ياسبرز ان إيمانويل كانط يريد منا جميعا ان نحمل لقب " مخلوق اخلاقي ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

لا ريب في أن أطروحات عالم الاجتماع العراقي الراحل (علي الوردي) وفرضياته الإشكالية بشأن طبيعة المجتمع العراقي وأنماط شخصيته الملتبسة، ستبقى محور نقاشات ومساجلات بين العامة والخاصة على حدّ سواء، مثلما ستبقى فاعلة ومؤثرة في الأوساط الاجتماعية والثقافية التي لامستها تلك الطروحات والفرضيات . ولعل أطروحة (ازدواج الشخصية) تعد في ترسانة فكريات هذا العالم من أبرز تلك الطروحات والفرضيات التي برع في صياغتها، حيث استطاع من خلالها إماطة اللثام عن العديد من الظواهر السلوكية الشاذة التي تتميز بها الشخصية العراقية، دون سائر أنماط شخصيات أقرانه الأخرى من أقوام العرب والمسلمين .

وعلى الرغم من حقيقة تأثر (علي الوردي) بأفكار وآراء (ابن خلدون) وانتهاج نهجه في تحليل ظاهرة (البداوة) في المجتمعين العربي – العراقي، للحدّ الذي أفرد له كتاب خاص تحدث فيه عن أصول ومضامين (فلسفته الاجتماعية)، إلاّ أنه لم يعدم الاستفادة من النظريات السوسيولوجية والفرضيات الانثروبولوجية التي صادفها أثناء دراسته في أمريكا، وخصوصا"تلك التي وضعها كل من عالما الاجتماع الأمريكيان (روبرت ماكيفر) و(وليم اغبورن)، والتي لاحظ ان ما تطرقت إليه تلك الفرضيات والنظريات يمكن – بعد تشذيبها وإعادة ترتيب مضامينها - توظيفها في المجالين العربي والإسلامي، ومن ثم استخلاص بعض الطروحات التي تفيد في تحليل الواقع التاريخي والاجتماعي للعراق .

وبصرف النظر عن حقيقة كون هذا العالم قد استمد أطروحات (التناشز الاجتماعي) و(صراع البداوة والحضارة) و(الشخصية الحلفائية) وغيرها من الأطروحات التي شاعت في أوساطنا الاجتماعية الثقافية . بيد ان هذه المعلومة لا تجرح في قدراته الفكرية وإمكانياته الثقافية بقدر ما تضيف الى رصيده العلمي وترفع من شأنه الاجتماعي، حيث استطاع – وقد نجح في ذلك - من خلالها وبالاعتماد عليها تبيئة وتوظيف تلك الفرضيات، بما ينسجم وطبيعة المجتمع العراقي الموصوف بالتقلب والمزاجية، وبما يتلائم مع خصائص جماعاته ومكوناته الموسومة بالتعصب والتطرف .

ولعل من أشهر وأبرز تلك الفرضيات التي اجترحها كأداة منهجية لتحليل طبيعة المجتمع العراقي وإماطة اللثام عن خصائص شخصيته، ومن ثم الكشف عن بنى تفكيرها ومضمرات سيكولوجيتها وأنماط سلوكها، هي (صراع البداوة والحضارة) التي اعتقد أنها من نتاج عوامل المدّ والجزر بين الأولى والثانية . حيث تسود الحضارة وتنتشر مظاهرها في حالة (المدّ)، في حين تطغى البداوة وتستشري مظاهرها في حالة (الجزر)، هذا دون أن يشير – لا تصريحا"ولا تلميحا"- لأمر حسم الغلبة لأي منها في مضمار هذا التصارع الحضاري المتناوب، تاركا"أمر استخلاص النتيجة لعوامل التطور الاجتماعي التي لا يمكن البت في مسارها المتعرج وسيرورتها المتقطعة .

وعلى قدر ما نمحض تأييدنا ونبدي إعجابنا بهذه الفرضية الانثروبولوجية التي تفسّر لنا الكثير من غوامض وشواذ طبيعة المجتمع العراقي المركبة، إلاّ أننا – بالمقابل – لا نميل الى التفسير الذي اقترحته علينا بشأن ديناميات ومئآلات هذا الصراع . ذلك لأن عوامل كل من (البداوة) و(الحضارة) لا توجد على النحو الذي يفهم منه أن عناصر الأولى تعمل بصورة (مستقلة) عن عناصر الثانية، وأنه لا رابط جدلي ولا صلة وظيفية بين كينونتيهما في إطار صيرورة المجتمع وسيرورة تطوره . بحيث يمكننا العثور على (نقاء) الأولى في القرى والأرياف، مثلما يمكننا اكتشاف (نقاء) الثانية في المدن والحواضر .

وبضوء تطور العلوم الاجتماعية وارتقاء المعارف الإنسانية، بات من المتعذر الركون الى الأفكار والآراء التي تتبنى مقاربات تقليدية تنظر الى الواقع المفعم بالتداخل والتفاعل نظرة استاتيكية ساكنة، مثلما تتعامل مع ظواهره من منطلق (الانفصال) بينها و(الانعزال) عن بعضها، كما لو كانت أشياء جامدة وكيانات ثابتة لا شأن للإرادة الإنسانية في تكوينها أو التأثير والتأثر بها . ولذلك فان ما نراه ونعتقد به هو أن ظاهرة (صراع البداوة والحضارة) في العراق، ناجمة ليس من جراء عمليات (المد) و(الجزر) التي يعتقد أنها تتناوب فيما بينها للفوز بسيادة الانتشار الجغرافي / المكاني والاستئثار الاجتماعي / القيمي، وفقا"لأواليات من الصعود تارة والهبوط تارة ثانية تعتمد على دافع خارجي لا يمكن تحديده بدقة . بل ان ما نرجحه من أسباب ودوافع لحصول تلك الظاهرة قائم على أساس ان بنية الوعي الاجتماعي للإنسان العراقي، فضلا"عن بواطن سيكولوجيته ومكنون مخياله، لا تزال – وستبقى الى أجل غير معلوم - تستنبت في مطمورها اللاوعي جذور (البداوة) وبذور قيمها وأعرافها وتقاليدها في حالة من الكمون، طالما انه لا يشعر بوجود ما يهدد مصالحه الشخصية أو يتعرض لانتماءاته الفئوية بسوء . هذا في حين نجده، على العكس من ذلك، يسارع الى استدعاء واستثمار كل ما في مخزونه الذهني والنفسي والتاريخي من مواريث بدائية، حالما يستشعر اقتراب الخطر من حدود عرين أناه الذاتي والجماعاتي . أي بمعنى ان نوازع البداوة وسلوكيات التبدون لم تغادر شخصية الإنسان العراقي أو تغيب عن أفق تفكيره، بحيث يخطر لنا انه تغلب عليها وتطهّر منها وتحرر من سطوتها، لمجرد انه هجر مرابض قريته وتخلى عن حقول ريفه مفضلا"عليها السكن في المدينة واختيار حياة الاستقرار والسكينة . وإنما هي بالنسبة له بمثابة رفيقه الدائم وحارسه الأمين الذي يحتكم إليه ويستنجد به لحظة الوقوع في مأزق سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي .

وبناء على ذلك، فان الحالة التي يكون فيها حضور الدولة طاغ وظهور قوة السلطة رادع على صعيد المجتمع ككل، فضلا"عما يترتب عليهما من خضوع عام لمؤسسات الأولى وإذعان شامل لتشريعات الثانية، هو ما يجعل ساكن المدينة يتجلبب بجلباب (الحضرية) ويتمظهر بمظاهر قيمها ويتقنع بقناع أعرافها . وليس ما يشاع عن خاصية استعداده الفطري واستجابته الطبيعية للانخراط في ديناميات (المدّ) الحضاري، حالما يصادف ان مقدمات الدور التاريخي لهذا الأخير ضمن سيرورة التطور باتت لها الغلبة على نقيضه (المدّ) البدوي الذي سوف تشهد مكوناته وتكويناته لحظة الاستسلام لعوامل التراجع المديني والأفول الحضاري . والحال سوف نلاحظ حصول العكس عندما تتوقف وتصاب بالجمود، أو حين ترتد وتنتكص أواليات التطور – بصرف النظر عن الأسباب – حينها سنكون أمام حالة من انحسار (المدّ) الحضري وتآكل قيمه من جهة، وانتشار (المدّ) البدوي وتطاول قيمه من جهة أخرى .

والخلاصة، ان فرضية (صراع البداوة والحضارة) في المجتمع العراقي تقوم – من وجهة نظرنا - على ركيزتين أساسيتين ؛ (ذاتية) و(موضوعية) . ففيما يتصل بمضمون الأولى ؛ نعتقد ان جذور (البداوة) وبذور (التبدون) موجودة وقارة في كينونة كل إنسان عراقي – مهما حاول إثبات العكس – حتى دون أن يشعر بها خلال لحظات وعيه أو يستدل عليها عبر معطيات سلوكه . ذلك لأنها رابضة بين طبقات لا- شعوره ومطمورة في رواسب مخياله . وان مسألة طغيان مظاهر (البداوة) و(البدونة) على مظاهر (التمدن) و(التحضرن)، أو بالعكس انكماش واضمحلال الأولى لصالح الثانية ، مرهون بمضمون الركيزة الثانية التي تتمثل بحضور طاغ لمؤسسات (الدولة) وإشهار رادع تشريعات (السلطة)، بحيث يمكننا صياغة المعادلة التالية : دولة (قوية) + سلطة (رادعة) = حضارة، دولة (ضعيفة) + سلطة (عنينة) = (بداوة) ! .

وهكذا فحالما تظهر بوادر الضعف على كيان الدولة ومعالم التراخي على هيكل السلطة، سرعان ما يرتد ذلك الكائن (المتمدن) و(المتحضرن) - شكلا"لا مضمونا"- الى مرابض (قبيلته) وحواضن (تبدونه)، ينشد عندها مقومات الحماية الاجتماعية والرعاية الاقتصادية والمساندة النفسية، على إيقاع انفلات العصبيات وصدام الإرادات وتصارع الجماعات،  التي سرعان ما يجد نفسه وقد انخرط في عواء قطعانها المفترسة ! .

***

ثامر عباس

             

أشرنا في المقال السابق إلى أنَّ في تراثنا القديم الكثير من الهَرْف بغير عِلم، ومن الاستخفاف بالعقول، بل من فقدان العقل النقدي الفِطري، وعدم التساؤل عن مصادر المعلومات.  فكثيرًا ما تَجِد الراوي يتعالم بما شاء، ثمَّ لا يضع بين يديك شيئًا تركن إليه، من عزوٍ، أو إسنادٍ، سِوَى سرد العنعنات الفارغة.  واللافت أن يأتي هذا في تفسير «القرآن الكريم»، الذي هو في غنًى عن بعض التفاسير؛ ليصبح ما يُدلِـي به المفسِّر أحرى بالتفسير من النصِّ المفسَّر نفسه.  ومن ثَمَّ يتحوَّل كتاب التفسير إلى معرض رواياتٍ متضاربة، و«سوالف» خياليَّة غريبة، وأقاصيص شعبيَّة متوارثة، ما أنزل الله بها من سلطان.  وربما عُتِّقت أيضًا، وكثيرًا ما تعتَّق، بروايات إضافيَّة، وأقاصيص أخرى عن أهل الكِتاب، في إسرائيليَّات شتَّى، يُنظَر إليها على أنها نبع النور الَّدُنِّيِّ، وأنَّ فيها من الأسرار ما لا غِنى عنه للمفسِّر.  ليتمخَّض هذا كلُّه عن ركامٍ عجيب، ينمُّ عن فطناتٍ مغيَّبة، وعن منهجيَّاتٍ صِفريَّة؛ فإذا هذه القافلة تمتدُّ فينا وتستشري عبر الأجيال، تلقِّيًا، وتسليمًا، وترديدًا، وأحاديث خرافة. 

ولقد حاول (ابن كثير)، مثلًا، نقد الروايات عن عُمْر (نُوح)، التي ناقشناها في المقال السابق، وهو ما يُحسَب له.  لولا أنه بدوره قد وقع في ميلٍ عاطفي، لا أساس موضوعيًا له؛ إذ رجَّح ما رُوِي عن (ابن عبَّاس)؛ لا لشيء، سوى أنها رواية عن الموصوف بـ«حَبْر هذه الأُمَّة»!  ولئن كان حَبْرًا، فهو ليس بنبيٍّ، يُوحَى إليه ما لم يَرِد في كتابٍ ولا جاء في أثر! فقال بعد أن استغرب الأقوال المشار إليها: «وقول ابن عباس أقرب»!  لماذا هو أقرب، يا ابن كثير؟  أ لأنه الأقل مبالغة في الإشارة إلى عُمر نُوح؟  أم لأنه عن ابن عباس، لا أكثر؟ 

أمَّا القول المطابق لما ورد في «القرآن» وفي «التناخ»، أو ما يُسمَّى «العهد القديم»، فهو ما جاء عن (قتادة)، الذي قال: «يقال: إنَّ عُمْره كلَّه كان ألف سنةٍ إلَّا خمسين عامًا ، لَبِث فيهم قبل أن يدعوهم ثلاثمائة سنة، ودعاهم ثلاث مئة، ولَبِث بعد الطُّوْفان ثلاث مئة وخمسين سنة.» (1) فهو هنا لم يَعْدُ النصَّ، وإنْ أضاف التفصيل حول تقسيم عُمْره، إلى: ما قبل الدعوة، وبعد الدعوة، وبعد الطُّوْفان.  صحيح أنه اجتهادٌ تفصيليٌّ لا أصل له، سِوَى التخمين، ولا قيمة معرفيَّة فيه، غير أنَّ هذا كان الأحرى بالترجيح. 

ولئن لم يكن للمؤمن من سبيلٍ غير التسليم بما نُصَّ عليه في الكتب المقدَّسة، فلقد نجد أن هذا الضرب من التخيُّل حول أعمار القدماء، وأنَّها كانت تمتدُّ إلى قرونٍ، قد ظلَّ ساريًا في الثقافة الإسلاميَّة!  من شواهد ذلك ما زُعِم حول عُمْر (سلمان الفارسي)، على سبيل المثال.  جاء لدَى (ابن حجر العسقلاني)(2): «يقال: إنَّه أدرك (عيسى بن مريم)! وقيل: بل أدرك وصيَّ عيسى!»  فيُصدَم القارئ حين يقرأ هذا، ظانًّا، أوَّل وهلة، أنَّ في النصِّ لبسًا، قبل أن يتبيَّن أنَّ عقل ابن حجر لم يكن ببعيدٍ عن تصديق هذا: أنَّ سلمان الفارسي أدرك المسيح أو وصيَّه!  ولذا لم يُعجِبه تعقُّلُ (الذهبي) في هذه المسألة، فتعقَّبه ليردَّه على عقبيه إلى الخرافة التي يؤمن بها هو، فقال:

«قال الذهبي: وجدتُ الأقوال في سِنِّه كلَّها دالةً على أنه جاوز المئتين وخمسين، والاختلاف إنما هو في الزائد، قال: ثمَّ رجعتُ عن ذلك، وظهرَ لي أنه ما زاد على الثمانين.  قلتُ: لم يَذكُر مستنده في ذلك، وأظنُّه أخذه من شهود سلمان الفتوح بعد النبيِّ، صلى الله عليه وسلَّم، وتزوُّجِه امرأة من كندة، وغير ذلك ممَّا يدلُّ على بقاء بعض النشاط، لكن إنْ ثبت ما ذكروه، يكون ذلك من خوارق العادات في حقِّه. وما المانع من ذلك؟ فقد روى أبو الشيخ في «طبقات الأصبهانيين»، من طريق العباس بن يزيد، قال: أهل العِلم يقولون: عاش سلمان ثلاث مئة وخمسين سنة، فأمَّا مِئتان وخمسون، فلا يشكُّون»! 

قلتُ: بل إنَّ (ابن حجر) نفسه لم يَذكُر مستنده في أنَّ سلمان عاش ثلاث مئة وخمسين سنة، أو مئتين وخمسين، غير ثقته العمياء بما رواه «أبو الشيخ في «طبقات الأصبهانيين»، من طريق العباس بن يزيد، قال: أهل العِلم يقولون:....»! إنْ هو، إذن، إلَّا اتِّباع الظَّن، في الوقت الذي عاب على (الذهبي) أنَّه لم يَذكُر مستنده.  وإنَّما مستند الذهبي، في رجوعه عن تلك المبالغات، العقلُ، ثمَّ أخبار (سلمان) الواقعيَّة، التي لا ترقى قبل الإسلام إلَّا إلى بضعة عقود من السنين، لا إلى قرون!  وما خوارق العادات تلك في حقِّ سلمان التي اختصَّه الله بها؟! ليعيش مدرِكًا (المسيح) و(محمَّدًا)، هكذا دون العالمين!  إنَّ المانع من تصديق ذلك لا يحتاج إلى جدال مع (ابن حجر).  وما جاء تصديق هذه الخوارق، أوَّلًا، إلَّا من قبيل تبجيل سلمان الفارسي، ما جعله يتقبَّل خارقة عُمْرٍ استثنائيٍّ طويل، لم يَقُل بمثله قائل، لا في جاهليةٍ ولا في إسلام.  والسبب الآخر، في ما يبدو، ما ورد في أخبار سلمان قبل الإسلام من أنَّه- في رحلته الطويلة للبحث عن الدِّين الحق- قد التقى بعددٍ من أحبار النصارى، وصَحِبَهم، معتنقًا ديانتهم.  فقفز الخيال بالقافزين لتَصوُّر أنَّ الرَّجل قد أدرك المسيح نفسه، أو أدرك وصيَّه! 

وهكذا يتضح لنا كم في كتب التراث من عناكب الأباطيل، الحريَّة بالمكافحة، عبر التحقيق والنقد، حفاظًا على سويَّة العقل والعِلم!  بيد أنَّ محقِّقي التراث المحدثين ودارسيه قلَّما يولون هذا الجانب اهتمامهم، هذا إنْ لم يكونوا عنه أصلًا غافلين، أو كانوا به مسلِّمين تابعين، كأسلافهم.

-2-

أمَّا ما سُمِّي «الكتاب المقدَّس»، بعهدَيه القديم والجديد- الذي كثيرًا ما نجد تسرُّب ما ورد فيه إلى كتب التاريخ الإسلاميَّة والتفسير- فلم يجتمع بين دفَّتَي كتاب قبل منتصف القرن الرابع الميلادي، أي بعد أكثر من 300 سنة من قِصَّة صلب (المسيح)!  وهي نسخة «كودكس فاتيكانوس»، الموجودة في (الفاتيكان).  وما تزال تُكتَشف الأناجيل- عدا الأربعة: (متَّى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا)- حتى اليوم، في رسائل، ورؤى، وروايات شتَّى، يَقبلون منها ويرفضون، يُثبِتون وينفون.  لعلَّ من آخِرها (إنجيل توما)، المكتشَف في (مِصْر)، لدَى منتصف القرن العشرين. وهي، في ما يظهر، مرويَّات قصصيَّة متعدِّدة، تدور حول السِّيرة الذاتية للمسيح، من خلال نُسَخٍ متناثرةٍ متضاربة، لأتباع مجهولين أو معروفين، ممثِّلةً ما ثقفوه، أو سمعوه، أو وعوه، أو حتى تخيَّلوه فاختلقوه، على أزمان وأماكن متباعدة، من المستحيل تحقيق مرجعيَّة ما يصحُّ منها إلى عصر المسيح، على نحوٍ عِلميٍّ يُعتدُّ به؛ ليس لانقطاع الأسانيد فحسب، كما يقال في عِلم الحديث، ولكن للجهل بها أصلًا، أو عدم وجودها أساسًا.  على أنَّ نسبة ذلك إلى المسيح نفسه منتفٍ موضوعيًّا، فالأناجيل إنما تحكي في معظمها عن المسيح، وتروي عن سيرته وأخباره، من قِبَل آخَرين- بطبيعة الحال- لا من قِبَله هو، ثمَّ تُورِد خلال السَّرد شواهد واقتباسات من مواعظه وكلامه.  ويظلُّ الإشكال في توثيق المخطوط أكبر من الإشكال في توثيق المرويِّ شفويًّا، لا كما يُتصوَّر عادة؛ لأن المرويَّ الشفويَّ يكون مشهورًا غالبًا، ويتوارد من أكثر من طريق، ممَّا يرجِّع صِحَّة نسبته إلى قائله، بخلاف مخطوطٍ مجهولٍ يُعثَر عليه في بلدٍ ما بعد مئات السنين، لا سبيل إلى التوثُّق من صحَّته، ما لم يكن متداوَلًا مشهورًا متفَّقًا على صحَّته، أو وقفتَ في نصِّه على ما يمكن، بنقدٍ نصيٍّ داخليٍّ وقرائن تاريخيَّة، الاطمئنان إلى عَزْوِه.  وهي مجاهل لا أوَّل لها ولا آخِر، كما ترى.  وكذا لم ينشأ الخلاف بين أتباع المسيح حول ماهيَّة المسيح، أهو بشرٌ أم إله، إلَّا في وقتٍ متأخِّر، وذلك في القرن الثالث الميلادي، فانقسموا على أنفسهم: منهم من عدَّه: (الله)، لا غير! ومنهم من تنازل، فعَدَّه: (ابن الله)! ومنهم من رفض هذا وذاك، واعتقد أنه بَشَرٌ رسولٌ جاء بالبشارة.  وقد صنَّفت الكنيسةُ الأرثوذوكسيَّة، بعد حين، هؤلاء الأخيرين، الذين لا يؤلِّهون المسيح، على أنهم «كَفَرَة فَجَرَة»، أو محض هراطقة، وليسوا على شيء!(3)  وما في هذا من  طعنٍ أو تخرُّص، بل هو ما يقرِّره علماء الكتاب أنفسهم، ومؤرِّخوه، وهم من أتباعه، وما من إنسانٍ يملك إثبات خلافه.(4)  غير أنَّ ما يعترفون به في خاصَّتهم درجوا عادةً على أن لا يصرِّحوا به لعامَّتهم، وإنْ كان الخَرْق المعرفيُّ اليوم قد اتسع على الراقع اللاهوتي، وما كان قديمًا يتسنَّى جعله في قَراطيسَ، يبديها أصحابها ويُخفون كثيرًا، ما عادت القراطيس اليوم تُخفي منه شيئًا، هذا إنْ بقيت القراطيس وعاء معلوماتٍ أصلًا في عصرنا هذا!  ولكن لكي يتمَّ الذَّبُّ عن ذلك الواقع، الذي لم يَعُد في الوُسع ردُّه أو ترقيعه، لا بدَّ من الاحتيال، وبأيِّ ثمن، والهجوم، كما يقال، خير وسيلةٍ للدِّفاع، فلتُنسَب، إذن، إلى نصِّ «القرآن» شُبهات من الخَلل، بالغلط، أو التحريف- ذلك الكتاب الذي سبق الباحثين المحدثين إلى تشخيص الحالة التي يعاني منها نَصَّا التَّوراة والإنجيل بسبب تحريف الكَلِم عن مواضعه- وواحدة بواحدة.. وكما تَدين تُدان!

- تَدين أم تُدين؟ [سألتُ مولانا ذا القُروح].

- سؤال غير مهمٍّ هاهنا!  ولكن سوف نناقشه لك في المقال المقبل.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...................

(1)  ابن كثير، (1999)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمَّد السلامة، (الرياض: دار طيبة)، 6: 268.

(2)  (1995)، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق: عادل أحمد عبدالموجود وعلي محمَّد معوَّض، (بيروت: دار الكُتب العلميَّة)، 3: 119.

(3)  حول هذه النقطة، يمكن العودة مثلًا إلى: (زيدان، يوسف، (2010)، اللَّاهوت العَرَبي وأصول العُنف الدِّيني، (القاهرة: دار الشروق)، 73- 76، وغيرها).

(4)  يُنظَر مثلًا: عزيز، (القس) فهيم، (1980)، المدخل إلى العهد الجديد، (القاهرة: دار الثقافة المسيحيَّة)، 111- 112.

 

أعادت الحرب العدوانية على غزة مسلمي أوروبا، الذين يبلغ عددهم خمس وعشرون مليون نسمة، إلى دائرة الضوء من جديد. إن المناقشات المرتبطة بالمسلمين باعتبارهم خطراً أمنياً تصل دائماً إلى درجة عالية من الضجيج بعد وقوع عمل إرهابي مستوحى من الفكر الإسلامي في إحدى البلدان الأوروبية، أو إن شهدت منطقة الشرق الأوسط تداعيات نتيجة الحروب.

يرى بعض مسؤولو الأمن الأوروبيون خطراً متزايداً لشن هجمات يشنها إسلاميون تحولوا إلى التطرف بسبب الحرب بين إسرائيل وحماس. ومن المرجح أن يأتي التهديد الأكبر من مهاجمين "ذئاب منفردة" يصعب تعقبها. في ذات الوقت الذي تُوجه فيه اتهامات للمسلمين في أوروبا أنهم يتطلعون إلى أسلمة المجتمع.

فيما يبدي الزعماء المسلمون في أوروبا قلقهم من الزيادة في الهجمات على المسلمين والمساجد منذ غارة حماس في السابع من أكتوبر، ويصفون مناخ الخوف بأنه مؤسف مع انتشار المعلومات المضللة عبر الإنترنت. ويشعر الكثير من المسلمين بالغضب من ضراوة الهجوم الإسرائيلي، حيث يعتبرون أن على الحكومات الأوروبية أن تفعل المزيد لكبح جماح إسرائيل. وأثارت زيارات الزعماء البريطانيين والفرنسيين والألمان وغيرهم من قادة أوروبا لإسرائيل، غضب المسلمين المقيمين في أوروبا، من انحياز أوروبا للموقف الإسرائيلي، ومن اللغة المستخدمة في الخطاب، التي تخلق شعوراً بـ"نحن وهم".

اتهامات زائفة

إن المناقشات المتوترة حول مكانة الإسلام في أوروبا والادعاءات بأن المسلمين الأوروبيين هم جنود في مواجهة وجودية بين أوروبا والإسلام، ويمثلون "آخر" من المستحيل اندماجه، كانت تلاحق المسلمين في جميع أنحاء القارة لعقود من الزمن.

فالخطاب حول "أسلمة" أوروبا المزعومة يتم تأجيجه من قبل الأحزاب اليمينية الشعبوية الكارهة للأجانب، وتم تبنيه من قبل العديد من الساسة الأوروبيين الرئيسيين أيضاً.

ويناقش وزراء الداخلية في الاتحاد الأوروبي باستمرار اتخاذ إجراءات لمنع الدعاية الإسلامية عبر الإنترنت، وتدريب الأئمة على القيم "الأوروبية"، وإيلاء المزيد من الاهتمام لدمج المسلمين. وإذا كان لبعض هذه الإجراءات ما يبررها نظراً للمخاوف من تزايد الإرهاب المرتبط بالإسلاميين، لكن مثل هذه الأفعال تؤدي غالباً إلى زيادة العنف والتمييز والكراهية ضد المواطنين المسلمين. إن العلاقة بين الحكومات الأوروبية ومواطنيها المسلمين في حاجة ماسة إلى إعادة ضبط. إن مناخ الشك المتبادل يشكل تقويضاً لقيم الشمول والتسامح التي يدعي الاتحاد الأوروبي أنه يؤيدها، كما أنه يدعم الادعاء المتطرف بأنه لا يمكن أن يكون هناك تعايش بين الإسلام والغرب.

إن صياغة عقد اجتماعي جديد وتحويله إلى محادثة بناءة تتطلب تحويل التفكير الذي عفا عليه الزمن والاعتراف بأخطاء الماضي ومفاهيمه الخاطئة. وكخطوة أولى مهمة، لا بد من تحدي أسطورة المسلمين الأوروبيين باعتبارهم غرباء إلى الأبد، ويتمتعون بثقافة وعادات تجعلهم أوروبيين "غير حقيقيين" إلى الأبد. وهذا يعني عدم الخلط بين تصرفات أقلية صغيرة من المتطرفين الإسلاميين، وبين معتقدات وسلوك الأغلبية، التي تمقت مثل هذه الآراء. ويعني أيضاً ليس قبول دور الإسلام التاريخي ونفوذه في أوروبا فحسب ـ كما فعل ماكرون ـ بل يعني أيضاً الاعتراف ـ كما فعلت أنجيلا ميركل في عام 2018ـ بأن الإسلام جزء من أوروبا الحديثة.

في جميع أنحاء القارة، تمكنت المنظمات والأفراد المعادون للإسلام من تعزيز أجندتهم. أصبحت حركات الشوارع والأحزاب السياسية المعادية للإسلام أكثر شعبية. وقد تم دمج أفكارهم في - وفي بعض الحالات تغذيتها - آلية الدولة الحديثة، التي تراقب المسلمين وتشرف عليهم، وتصورهم كتهديد لحياة الأمة. فمن الشارع إلى الدولة، تغلغلت ظاهرة الإسلاموفوبيا في الحياة السياسية الأوروبية.

أصبحت الأحزاب اليمينية المتطرفة المبنية على الإسلاموفوبيا وسياسات مكافحة الجهاد ناجحة انتخابيا. لقد أصبح حزب فلامس بيلانج في بلجيكا، وحزب الديمقراطيين السويديين، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب فوكس القومي في إسبانيا، حزب الرابطة وحزب إخوة إيطاليا في إيطاليا، وحزب الحرية النمساوي، وحزب الاستقلال البريطاني، وحزب الجبهة الوطنية الفرنسية، وحركة مجر أفضل "فيدس" في المجر، وحزب الحرية الهولندي، وحزب الشعب الدنمركي، وحزب الفجر الذهبي في اليونان، وحزب القانون والعدالة في بولندا. أصبحت هذه الأحزاب في الأعوام القليلة الماضية من الأحزاب الرئيسية التي تحظى بدعم كبير. وقد تسربت أفكارهم إلى خطاب وسياسات أحزاب يمين الوسط في جميع أنحاء أوروبا.

مشكلة الإسلام في أوروبا

يرى الأوروبيون أن قضيتي اللاجئون وعضوية تركيا المحتملة في الاتحاد الأوروبي تشكلان مشكلتان حاسمتان تعوقان تطور هوية الاتحاد الأوروبي. ــويمكن إرجاعهما إلى التصورات السلبية للإسلام. لماذا يعتبر الإسلام مشكلة؟ ماذا نعني عندما نتحدث عن القضايا المتعلقة بالإسلام؟ هذا النقاش يخلق مشاكل في معظم دول الاتحاد الأوروبي. ويكمن وراء كلا النقاشين السؤال المركزي للغاية المتعلق بالهوية الأوروبية وعلاقتها بالإسلام.

 تنظر عدة مجموعات مختلفة في أوروبا إلى الإسلام باعتباره مشكلة تثير قلقاً بالغاً. ويشعر آخرون بعدم الارتياح الشديد عند الربط المباشر بين كلمتي "الإسلام" و"المشكلة" لأنهم يخشون إصدار تعميم غير عادل يؤدي إلى نفور فئة في المجتمع يعتبرونها ضعيفة بالفعل.

لكن إخفاء المشكلة لا يحلها. إن التردد المستمر لبعض للسياسيين الأوروبيين لا يساعد على إيجاد حلول لكثير من المشاكل في بلدانهم، مثل ضعف المشاركة الاجتماعية، وعدد الشباب الذين يتركون المدارس الثانوية، والعنف، والتعصب الديني المتشدد بين الأشخاص ذوي الخلفية الإسلامية.

هذا لا يعني أن المشاكل المذكورة أعلاه يتم حلها فقط من خلال توضيح كيفية الارتباط بين الإسلام وبعض المشاكل الاجتماعية. يمكن تقسيم الأسباب التي تجعل الإسلام يبدو مزعجاً للبعض إلى ظروف قصيرة المدى وطويلة المدى على التوالي. والأكثر إلحاحاً هو الخوف من أعمال العنف الخالصة التي تُرتكب باسم الإسلام. مصطلح الإرهاب ينشر الشعور بعدم اليقين والخوف بين مجموعات كبيرة من المواطنين الأوروبيين.

إضافة إلى الخوف من العنف الصريح، يبدو أن هناك قلقاً كبيراً لدى الكثير من الأوروبيين بشأن الحركات الاجتماعية والدينية والسياسية الإسلامية في جميع أنحاء أوروبا الغربية. حيث تُوجه لهذه الجمعيات والمنظمات اتهامان بأنها تعمل بالتوازي مع الشبكات الإرهابية وعادة ما تعمل من خلال الدعوة "أئمة الصلاة والدعاة" المكلفين بنشر الرسالة "المتطرفة" للإسلام السياسي.

تشكل هذه الحركات القوى المهيمنة وراء انتشار الأصولية الإسلامية في أوروبا المعاصرة. بشكل عام، هذه المنظمات ليس لديها برنامج يعتمد العنف، لكن يعتبر الأوروبيين أن العديد من الشباب المسلمين يمرون عبر هذه الجماعات في طريقهم إلى التفسير المتطرف والمتشدد للدين الإسلامي.

هذه الجماعات متهمة بأنها توفر أرضاً خصبة للإرهابيين الجدد، لكن أجهزة المخابرات تفشل في اختراقها بشكل كافٍ. تشير التقارير الواردة من أجهزة الاستخبارات في العديد من دول أوروبا الغربية إلى كيفية عمل هذه الشبكات كملاذات آمنة، فداخلها يعيش العداء تجاه المجتمع الغربي بشكل واسع لدرجة أنه يتم التسامح مع الإرهابيين المحتملين ولا يتم توبيخ أفكارهم بأي شكل من الأشكال.

مخاوف مماثلة

وعلى نحو مماثل، هناك مجموعة واسعة من المخاوف الملحوظة طويلة الأجل. أولاً يثير التعليم الإسلامي في المدارس الإسلامية الخاصة في البلدان الأوروبية العديد من المخاوف. تضم هذه المدارس تركيزات عالية من الطلاب المحرومين، سواء بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي أو من حيث المهارات اللغوية. وتشتبه السلطات الأمنية في البلدان الأوروبية أن بعض هذه المدارس على الأقل، وخاصة تلك التي تتمتع بتعاون وثيق مع المساجد القريبة، هي أرض خصبة محتملة لمجموعات كبيرة من الطلاب المتشددين المناهضين للغرب. وفي هذا السياق، غالباً ما يُنظر إلى دور الشخصيات الدينية في مجالس المدارس على أنه مثير للإشكالية.

ويُنظر أيضاً إلى تشكيل الأحياء الفقيرة وأسلمة بعض المناطق الحضرية على أنه مشكلة مثيرة للقلق. تشير الاتجاهات في التركيبة السكانية إلى أن هذا النوع من العزلة التي أدت إلى قيام تجمعات سكانية موازية يقطنها اللاجئين والمهاجرين سيستمر. وهذا الشكل الواضح من الفصل العرقي والثقافي يمثل مشكلة. في البلدات والقرى والمقاطعات التي يهيمن عليها الإسلام، يمكن أن يؤدي ذلك إلى أن تصبح أجزاء من الشريعة الإسلامية جزءًا من الممارسة اليومية للسكان، حتى لو لم يتم سن تشريع رسمي لهذا الشأن.

أصبحت مثل هذه الجيوب ذات الأغلبية المسلمة في أوروبا الغربية، مرئية على مدى العقدين الماضيين، وتحولت إلى مصدر للقلق للسلطات والسكان. يمكن العثور على هذه التجمعات الإسلامية في مدن مثل باريس، ولندن، وبروكسل، وأمستردام، وبرلين، وكوبنهاغن، ومالمو، وغيرها من المدن الأخرى. حيث حدثت/ وتحدث بالفعل عملية أسلمة غير رسمية. توقفت كثير من محلات السوبر ماركت عن بيع لحم الخنزير والمشروبات الكحولية، وأصبح ذبح الأغنام نشاطاً رسمياً. وتظهر السيطرة الاجتماعية مرتفعة بشكل لا يصدق بين المسلمين، الذين يشكلون ثلثي العدد الإجمالي للسكان في مدينة "إيفري" الفرنسية على سبيل المثال.

وعلى الرغم من عدم إضفاء الطابع المؤسسي عليها رسمياً، إلا أن الشريعة هي السائدة في هذه المناطق، وليس الدستور العلماني. وتشعر فئات كبيرة من المجتمع بالقلق بشكل أساسي من الظهور التدريجي لهذا النوع من التركيز داخل الدولة، حيث تملي قواعد وقيم أخرى غير تلك القيم المتسامحة والديمقراطية السلوك الاجتماعي.

تشكل كراهية الأجانب في مختلف أنحاء أوروبا الغربية أساساً آخر للخوف من الإسلام. وعلى عكس أسباب الخوف الأخرى، فإن هذا النوع ليس له أساس تجريبي. على الرغم من أن أعضاء الجماعات التقليدية التي تكره الأجانب لم يكن لديهم في كثير من الأحيان سوى اتصال ضئيل، أو معدوم بالإسلام، أو المسلمين، أو المهاجرين من أي نوع، إلا أنهم يتخذون مواقف سلبية للغاية تجاه أي مجموعة ذات خلفيات ثقافية أو أصول عرقية مختلفة. وبالإضافة إلى الإسلام، يمكن أيضاً توجيه عدائهم تجاه الأقليات الأخرى مثل الغجر، أو حتى مواطني دولة مجاورة.

من الواضح أن هذه الجماعات تثير الخوف بين السياسيين الراسخين، ويرجع ذلك جزئياً إلى خطابها وأحياناً لأن استخدامها للرموز يثير الارتباط بالفاشية والنازية. وتخلف أفكارهم الدنيئة تأثيراً معطلاً على المناقشة حول المهاجرين والإسلام، وذلك لأن الساسة وصناع الرأي الفاعلين يخشون أن تكون العواقب السلبية المترتبة على الهجرة والإسلام، بمثابة تفضيل للتيارات اليمينية الأوروبية المتطرفة. لذلك يجد عدد من الأوروبيين أنفسهم في طريق مسدود.

إن قضية الهجرة، وانضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي هي في الأساس قضية تثير التساؤلات حول الهوية بين شعوب أوروبا. ومع ذلك، فإن التساؤلات حول العلاقة بين الإسلام وأوروبا لم تُثار من قبل النخب التي تخشى أن يؤدي فتح مناقشة عامة حول قضايا الهوية إلى ردود فعل عكسية إسلامية ومحلية. ولكن إذا تم تجاهل المشكلة، فإنهم يخلقون فراغاً كبيراً وخطيراً في الهوية، وهو ما يؤدي إلى تعزيز كافة أشكال التعصب الأصولي. تتطلب الديمقراطية نقاشاً مفتوحاً حول القضايا الحساسة. إن الفشل في مناقشة الهوية الأوروبية والإسلام من شأنه أن يقوض الثقة في استجابة الحكومات ويؤدي إلى عجز خطير في الديمقراطية والهوية، الأمر الذي يهدد بإضعاف الاتحاد الأوروبي في وقت مهم من تاريخه إذا لم يتحرك على هذا النحو.

هل يتحدى الإسلام أوروبا؟

يعتبر كثير من المنظرين الغربيين أن الغرب يخوض معركة ثقافية مع المهاجرين المسلمين، حيث إن للثقافة جذوراً في الدين، وبالتالي يمكن للإسلام أن يخلق فوضى ثقافية في أوروبا.

هل يمكن دمج المسلمين في أوروبا، وهل ينبغي توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل الدول الإسلامية؟ هذان هما السؤالان الأساسيان اللذان يشكلان أساساً لنقاش العديد من المفكرين الغربيين الذين ينتقدون بشدة سياسات الهجرة الأوروبية.

كتاب "الإسلام كتحدي في الاتحاد الأوروبي: الفوضى الثقافية على الطريق؟" Islam som udfordring i EU : kulturkaos på vej? للكاتب الدنمركي "بول أندرسن" Poul Andersen يشكل مساهمة جدلية ومهمة في المناقشة الدائرة حول الهجرة والتنمية الاجتماعية، لأنه يركز في الأساس على الثقافة باعتبارها شيئاً أساسياً للتماسك في أوروبا. في عصر العولمة والعابر للحدود، حيث أصبحت الديمقراطية وحقوق الإنسان في كثير من الأحيان الأساس المشترك الوحيد لتعاون الاتحاد الأوروبي. تشير العديد من المساهمات إلى أن الثقافة الأوروبية - وبالتالي المسيحية أيضاً- هي قضية مهمة في التنمية لمستقبل أوروبا.

يذكر بول إريك أندرسن في فصله التمهيدي أن مستقبل سكان أوروبا الأصليين مهدد ولا يمكن التنبؤ به إذا لم تأخذ التنمية في الاعتبار حقيقة أن الثقافة الأوروبية متجذرة في المسيحية. ويشير إلى أن الأنثروبولوجيا الثقافية الكلاسيكية نظرت إلى الثقافة باعتبارها بُعداً محدداً يجب فهمه من خلال المجتمع الوطني، الذي تم إنشاؤه من خلال اللغة والتاريخ والدين. اليوم، أصبحت المفاهيم الثقافية الثابتة نسبية، ولهذا السبب ليس من المشروع الادعاء بأن بعض المواقف أو التقاليد أفضل من غيرها. ويشير إلى أن انتقادات الحضارة في الغرب، والتي أعقبت الحرب العالمية الثانية، قوضت الثقة وفهم التراث الثقافي الكلاسيكي، مما جعل السكان الأوروبيين غير مستعدين لهجرة المسلمين. "فقط إذا أمكن توحيد هذه القيم في هدف مشترك، ستتمكن أوروبا من حل المشاكل الناجمة عن الهجرة"، كما يعتقد ويشير إلى أنه من الضروري لأوروبا تعزيز هويتها الثقافية.

ومن بين المنظرين وجهات نظر معروفة لمعارضين معروفين للهجرة والاتحاد الأوروبي. مثل الفيلسوف الدنمركي "كاي سورلاندر" Kai Sørlander  الذي يشير في كتاباته المثيرة، إلى الصعوبات التي يواجهها الإسلام مع الديمقراطية من خلال التعمق في جوهر الدين. لقد تم بناء الإسلام، على النقيض من المسيحية، كدين دولة مع فكرة مركزية مفادها أن الدين هو مصدر التشريع. ولذلك، لا يوجد في الإسلام طريق داخلي لعلمنة السياسي، ولهذا السبب تواجه الثقافات الإسلامية مثل هذه الصعوبة في تطوير الديمقراطيات، كما يقول.

وفي كتابه "الدفاع عن العقلانية: الدين والسياسة من منظور فلسفي" Forsvar for rationaliteten: religion og politik i filosofisk perspektiv  يرى "سورلاندر" أن المسيحية لعبت دوراً مهماً في تطوير الديمقراطيات العلمانية وحقوق الإنسان المستقلة عن الدين في العالم الغربي. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى حقيقة أن المسيحية - على النقيض من الإسلام - لديها تقليديا فصل واضح بين السياسة والدين "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" وبالتالي فإن إمكانات العلمنة أكبر داخل المسيحية.

هل هذا هو موت أوروبا؟

يؤكد الكاتب البريطاني المعروف "دوجلاس موراي"Douglas Murray في كتاب "الموت الغريب لأوروبا: الهجرة والهوية والإسلام" The Strange Death of Europe: Immigration, Identity, Islam الذي صدر عام 2017، أن الحضارة الأوروبية كما كانت تاريخياً لن تستمر. ويستكشف عاملين في تفسير ذلك: الأول هو الجمع بين الهجرة الجماعية للشعوب الجديدة إلى أوروبا مع انخفاض معدلات المواليد. والثاني هو ما وصفه موراي بأنه "حقيقة أنه في الوقت نفسه فقدت أوروبا إيمانها بمعتقداتها وتقاليدها وشرعيتها".

عنوان الكتاب مستوحى من كتاب "جورج دانجرفيلد" George Dangerfield الكلاسيكي للتاريخ السياسي "الموت الغريب لإنجلترا الليبرالية"، الذي نُشر عام 1935.

الموضوع الرئيسي للكتاب هو الهجرة واسعة النطاق من الدول الإسلامية إلى أوروبا، وتأثير ذلك على الثقافة الغربية، والمؤسسات السياسية والاجتماعية. يقدم الكتاب أيضاً تحليلاً شاملاً للمتطلبات الاجتماعية والثقافية للهجرة الجماعية. الكتاب يقدم وجهة نظر محافظة ومنتقدة للهجرة، ويُعتبر كتاب متشائم وكئيب للغاية، وهو ما يشير إليه بالفعل عنوان الكتاب. الرسالة واضحة بالفعل في الجملة الأولى من الكتاب: "أوروبا على وشك الانتحار". والسؤال هو ما إذا كان موراي قادراً بشكل مُرضٍ على تبرير تشخيصه وتوقعاته المجتمعية.

نقطة البداية لتحليلات موراي هي الوضع الديموغرافي في أوروبا. حيث تعاني جميع الدول الأوروبية تقريبًا من شيخوخة سكانية شديدة. والسبب هو ارتفاع أعداد المواليد في العقد الأول بعد الحرب العالمية الثانية، وانخفاض معدل المواليد الحالي بين العرقيين الأوروبيين. وإذا أُريد أن يظل حجم السكان مستقراً، يجب أن يكون لدى كل زوجين ما معدله 2.1 طفل.

واليوم، لا توجد دولة أوروبية واحدة يتحقق فيها هذا الأمر. تتمتع الدول الاسكندنافية ـ على سبيل المثال ـ  بواحد من أعلى معدلات الخصوبة في أوروبا حيث يبلغ 1.86، وهو ما لا يزال أقل بكثير من المستوى الذي يمكن أن يبقي السكان من أصل أوروبي عند مستوى مستقر. وللمقارنة يمكن الإشارة إلى أن المعدل في ألمانيا هو 1.44.

يوجد في أوروبا اليوم ثلاث مجموعات فقط من الناس لديهم ثلاثة أطفال أو أكثر وهم الأغنياء والفقراء والمهاجرون الجدد. ومع ذلك، فرغم أن هناك زيادة في عدد السكان في العديد من البلدان الأوروبية، فإن ذلك يرجع إلى الهجرة، وأن المهاجرين لديهم أطفال أكثر من الأطفال ذوي الأصل الأوروبي.

تحتل الصومال المركز الثالث كبلد منشأ للمهاجرين في بلد مثل النرويج، بعد بولندا وليتوانيا. في الصومال، يبلغ معدل المواليد 5.99، وهو رابع أعلى معدل في العالم بحسب بيانات عام 2021.

لقد أدى انخفاض معدلات المواليد بين الأوروبيين العرقيين، والهجرة، وارتفاع معدلات المواليد بين المهاجرين في العديد من البلدان الأوروبية إلى وجود نسب عالية من ذوي الخلفيات الأجنبية. تبلغ نسبة المهاجرين في الدنمرك 15.4%، وفي النرويج 17%، وفي السويد حوالي20%.

يذكر موراي في كتابه أن التحليلات الديموغرافية تظهر أن السويديين العرقيين قد يصبحون أقلية في بلدهم في حياة معظم السويديين الذين لا يزالون على قيد الحياة. ويعتقد أن الثقافة والعقلية الأوروبية تتميز بنوع من الضجر والازدراء لثقافة الفرد وقيمه الخاصة، وما يصاحب ذلك من إضفاء جمالية مفرطة على الثقافة والتقاليد الإسلامية.

كما يعتقد موراي أن الإرهاق الذي تعاني منه أوروبا يرجع إلى حد كبير إلى تراجع المسيحية. في بريطانيا، يتراجع الدعم للمسيحية بشكل أسرع من معظم الدول الغربية الأخرى. كان ثلثا السكان تقريباً مسيحيون في عام 2010. وإذا استمرت عملية اجتثاث المسيحية بنفس الوتيرة الحالية، فسوف تنخفض النسبة إلى الثلث في عام 2050. وحقيقة أن أوروبا على وشك أن تفقد دينها وإيمانها بقيمها الخاصة تعني أنها على وشك خسارة تاريخها، لأن المسيحية كانت العمود الفقري لهذا التاريخ كما يرى موراي.

صياغة عقد اجتماعي جديد

يناقش وزراء الداخلية في الاتحاد الأوروبي باستمرار اتخاذ إجراءات لمنع الدعاية الإسلامية عبر الإنترنت، وتدريب الأئمة على القيم "الأوروبية"، وإيلاء المزيد من الاهتمام لدمج المسلمين. وإذا كان لبعض هذه الإجراءات ما يبررها نظراً للمخاوف من تزايد الإرهاب المرتبط بالإسلاميين، لكن مثل هذه الأفعال تؤدي غالباً إلى زيادة العنف والتمييز والكراهية ضد المواطنين المسلمين.

في جميع أنحاء القارة، تمكنت المنظمات والأفراد المعادون للإسلام من تعزيز أجندتهم. أصبحت حركات الشوارع والأحزاب السياسية المعادية للإسلام أكثر شعبية. وقد تم دمج أفكارهم في - وفي بعض الحالات تغذيتها - آلية الدولة الحديثة، التي تراقب المسلمين وتشرف عليهم، وتصورهم كتهديد لحياة الأمة. فمن الشارع إلى الدولة، تغلغلت ظاهرة الإسلاموفوبيا في الحياة السياسية الأوروبية.

أصبحت الأحزاب اليمينية المتطرفة المبنية على الإسلاموفوبيا وسياسات مكافحة الجهاد ناجحة انتخابيا. لقد أصبح حزب فلامس بيلانج في بلجيكا، وحزب الديمقراطيين السويديين، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب فوكس القومي في إسبانيا، حزب الرابطة وحزب إخوة إيطاليا في إيطاليا، وحزب الحرية النمساوي، وحزب الاستقلال البريطاني، وحزب الجبهة الوطنية الفرنسية، وحركة مجر أفضل "فيدس" في المجر، وحزب الحرية الهولندي، وحزب الشعب الدنمركي، وحزب الفجر الذهبي في اليونان، وحزب القانون والعدالة في بولندا، أصبحت في الأعوام القليلة الماضية من الأحزاب الرئيسية التي تحظى بدعم كبير. وقد تسربت أفكارهم إلى خطاب وسياسات أحزاب يمين الوسط في جميع أنحاء أوروبا.

إن العلاقة بين الحكومات الأوروبية ومواطنيها المسلمين في حاجة ماسة إلى إعادة ضبط. يشكل مناخ الشك المتبادل تقويضاً لقيم الشمول والتسامح التي يدعي الاتحاد الأوروبي أنه يؤيدها، كما أنه يدعم الادعاء المتطرف بأنه لا يمكن أن يكون هناك تعايش بين الإسلام والغرب. إن صياغة عقد اجتماعي جديد وتحويله إلى محادثة بناءة تتطلب تحويل التفكير الذي عفا عليه الزمن والاعتراف بأخطاء الماضي ومفاهيمه الخاطئة. وكخطوة أولى مهمة، لا بد من تحدي أسطورة المسلمين الأوروبيين باعتبارهم غرباء إلى الأبد، ويتمتعون بثقافة وعادات تجعلهم أوروبيين "غير حقيقيين" إلى الأبد. وهذا يعني عدم الخلط بين تصرفات أقلية صغيرة من المتطرفين الإسلاميين، وبين معتقدات وسلوك الأغلبية، التي تمقت مثل هذه الآراء. ويعني أيضاً ليس قبول دور الإسلام التاريخي ونفوذه في أوروبا فحسب ـ كما فعل ماكرون ـ بل يعني أيضاً الاعتراف ـ كما فعلت أنجيلا ميركل في عام 2018ـ بأن الإسلام جزء من أوروبا الحديثة.

***

د. حسن العاصي

باحث فلسطيني مقيم في الدنمرك

نسمعُ بين الحين والآخر من يتحدث بقضايا التاريخ وبثقة تامة! فنراه "مُحَلّلاً" و"مُفكِّكَاً" لحوادث كبيرة وخطيرة فيه:

كانت ثورة 14 تموز مجرد انقلاب بريطاني ضد النفوذ الأمريكي "الوافد الجديد" الى المنطقة!

سرق عبد الكريم قاسم خطط مجلس الإعمار الملكي ونفّذها ثم نسبها لنفسه!

لم يكن النظام الإقطاعي في العراق من صُنع النظام الملكي العراقي، بل كان "تركَةً عثمانية".

وهي كلمة حق يُراد بها باطل بكل تأكيد، اذ يتم التغاضي من خلالها على "الإدامة الملكية العراقية" لهذه التركة!!، والا فهل اطلّع صاحب هذه المقولة على الرؤية السعيدية ـ نسبة لنوري السعيد ـ للوضع الاجتماعي آنذاك؟ فقد ذكر السعيد وبكل صراحة أمام مجلس النواب في عام 1931، بأن المولود من أبٍ فقير سيبقى فقيراً، والمولود من أبٍ غني سيبقى غنياً، وهكذا تجري الأمور!! (1).

أتحدث هنا عن تاريخ العراق المعاصر، باعتباري مهتمٌ ومختصٌ به. لكني اليوم سأنتقل لتاريخ بلد آخر، ألا وهو "تاريخ ايران المعاصر".

يعلم القارىء المتابع لكتاباتي بأني لم أخض في تاريخ ايران أبداً، ويرجع هذا لعدم الاطلاع على تاريخ هذا البلد الكبير. لكن بعد ان بدأت بقراءة هذا التاريخ، سأسمح لنفسي أن أتحدث عن "المتطفلين" عليه، كما تحدثت عن أقرانهم في تاريخ العراق المعاصر.

يتحدثون كثيراً عن ايران البهلوية، وكيف تم التغيير فيها، من خلال ما يلي:

قامت المخابرات الأمريكية بتدريب وتجنيد آية الله الخميني في فرنسا، ثم جاءت به الى طهران وأزاحت النظام الشاهنشاهي!!!

ديباجة في غاية السهولة! فما أسهل أن يتحدث الشخص بعيداً عن التثبّت والتعَقّل! والأنكى من هذا أن هناك من "يقطع" برأي في التاريخ، وعندما تسأله: كيف وصلت لذلك؟ سيقول: من خلال التفكير العقلي!! وهذا يعني "الجهل" بعينه في التاريخ، إذ لا تاريخ بلا وثائق (2)، لكن أنّى لهؤلاء التحدث من خلال الوثائق والمصادر والمراجع! فلو تحدّثوا من خلالها، لما رأيناهم "يقطعون" بالرأي بهذه السهولة واليُسر! لكني لم أستغرب منها ـ هذه الديباجة ـ كثيراً، فقد خبرتها سابقاً في تاريخ العراق وثورة تموز كما أسلفت. وفي اطار الرد على هذا الزعم لا بُدّ من الآتي:

هل اطّلع هؤلاء على تاريخ الخميني؟ هل تعرّفوا على شخصيته؟ هل قرأوا خطابه الذي ألقاه في المدرسة الفيضية يوم 4 / 6 / 1963 عندما وصف الشاه محمد رضا بهلوي صراحة ب"الشقي البائس" (3)؟ هذه الشخصية الحدّية التي لا تعرف غير ما تؤمن به، وتقولها بشجاعة منقطعة النظير.

هل اطّلعوا على ما حدث بين رسول الرئيس العراقي أحمد حسن البكر ـ وهو زوج ابنة البكر ـ والخميني؟ فقد أرسله البكر في عام 1974 الى الخميني في النجف عندما كانت العلاقات متوترة بين العراق وايران، فطلب البكر تأييد الخميني في حملة يشنها العراق ضد الشاه، فرفض الخميني الطلب، إذ آثر على نفسه ان يختار وقت الهجوم والاّ يتعاون مع أحد (4).

وهل اطّلعوا على المؤتمر الصحفي لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية جيمي كارتر في 12 / 12 / 1978 عندما عَرّض فيه بالخميني ضمنياً واصفاً بياناته بالطائشة مع عدم الإشارة لإسمه؟ فعَلّقت صحيفة نيويورك تايمز قائلة: لقد تَعَمّد كارتر عدم الإشارة الى الاسم الذي كان في ذهنه وهو الخميني (5). وهل عرفوا برَدّ الخميني على كارتر عندما وصفه صراحة: أنت كذّاب؟! وكارتر أفسد شخص على وجه الكرة الأرضية عند الخميني!(6).

وهل يعلمون ب"فوضى" الإدارة الأمريكية في التعامل مع الأزمة الإيرانية بين: سوليفان وبرجينسكي وهايزر وفانس لدرجة أن يُصاب كارتر بالصداع كما ذكر شابور بختيار آخر رئيس وزراء بهلوي (7). فكلّ يُلقي اللوم على الآخر، برجينسكي يلوم فانس، وفانس يوجّه اللوم الى العسكريين، والعسكريون يوجهون اللوم لوكالة المخابرات المركزية، والوكالة تشكو من عدم اطلاق يديها (8). والنهاية أن الولايات المتحدة كانت ساذجة في تعاملها مع الشأن الإيراني (9).

ثم هل سأل هؤلاء أنفسهم سؤالاً قهرياً:

ما الذي ستجنيه الولايات المتحدة من اسقاط رجلها المطيع بل "شرطيها" في المنطقة، والمجيء بنظام اصولي قروسطي لا يعترف بالحداثة؟ فقد بدا الخميني لهيكل آنذاك وكأنه شخصية من شخصيات الفتنة الكبرى في الإسلام، رجل لا علاقة له بزماننا (10)؟؟

وأخيراً لا بُد من الآتي:

اعترف آية الله الخميني بجميل الولايات المتحدة التي أوصلته الى السلطة، بأن قام بمحاصرة سفارتها، واحتجز الأمريكيين فيها بحادثة الرهائن المشهورة!!!

النتيجة التي نروم لتسليط الضوء عليها:

لا يمكن لمن هَبّ ودَبّ أن يتحدث في التاريخ، فهو علم له أصول وضوابط لا بُد من مراعاتها قبل الدخول اليه والخوض فيه، أما من يَتَطَفّل ويتَدَخّل لمنطقة لا يُجيد السير فيها، فليس أمامه الا أن يكون "سخرية" للتاريخ.

تنبيه: لا بد من التأكيد هنا على أننا نقول بذلك بعيداً عن الاتفاق والاختلاف مع الاتجاه الإسلامي المتمثل بآية الله الخميني، فالفصل بين اتجاه الباحث ـ آيديولوجيته ـ وبين الموضوع الذي يتناوله، أي الفصل بين الذات والموضوع، ضرورة قاهرة للباحث الموضوعي.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

............................

الحواشي:

1ـ حيدر عطية كاظم: الفقراء في العراق والموقف الرسمي والشعبي منهم 1921 ـ 1945 دراسة تاريخية ج1، وزارة الثقافة والسياحة والآثار، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 2023 ص63 و 64

2ـ المصدر السابق ص12

3ـ غلام رضا نجاتي: التاريخ الإيراني المعاصر ـ ايران في العصر البهلوي، نقله الى العربية: عبد الرحيم الحمراني، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي قُم ط1 2008 ص234

4ـ محمد حسنين هيكل: مدافع آية الله ـ قصة ايران والثورة، دار الشروق القاهرة ط6 2002 ص185

5ـ غلام نجاتي: المصدر السابق ص625 و 626

6ـ المصدر السابق ص627 و 679

7ـ المصدر السابق ص670

8ـ هيكل: المصدر السابق ص220

9ـ غلام نجاتي: المصدر السابق ص747

10ـ هيكل: المصدر السابق ص8

 

الاتّجاهات القرائيّة للنّصّ الدّيني تمايزت بين اتّجاهات مختلفة، منها متداخلة، ومنها متوازية، منهم من مال إلى الاتّجاهات الحرفيّة الظّاهريّة للنّصّ الدّينيّ، ومنهم من توسع في التّعامل معه أصوليّا علليّا ومقاصديّا، وهؤلاء أيضا على درجات، ومنهم من مال إلى القراءات الفلسفيّة له، أي وفق المناهج الفلسفيّة قديما وحديثا، ومنهم من مال إلى القراءات العرفانيّة والرّمزيّة، وهؤلاء أيضا على درجات بين موسع ومضيّق.

في المغرب العربيّ مثلا حدث توسع في القراءات المقاصديّة له، فألف محمّد الطّاهر ابن عاشور (ت 1973م) كتابه الشّهير "مقاصد الشّريعة الإسلاميّة"، بينما حدث توسع في إيران في القراءات العرفانيّة والبرهانيّة الفلسفيّة للنّصّ الدّينيّ، وإن كان في جملتها لم تخرج عن إطار النّظريّات القديمة واللّاهوتيّة كنظريّة ابن عربيّ (ت 638هـ) والملّا صدرا (ت 1050هـ) والطّاطبائيّ (ت 1981م)، بينما بدأ يميل العالم العربيّ إلى قراءات أكثر انفتاحا على المناهج الغربيّة كقراءات محمّد أركون (ت 2010م)،  ونصر حامد أبو زيد (ت 2010م)، ومنهم من له قراءات لم تبتعد عن القراءات الكلاسيكيّة، ولكنها وفق مراجعات مختلفة معاصرة، كقراءات الجابري (ت 2010م) ومحمّد شحرور (ت 2019م)، وعلى المناهج الغربيّة في الجانب الإيرانيّ عبد الكريم سروش ومليكان، وعلى القراءات النّاقدة وفق القراءات الكلاسيكيّة كمال الحيدريّ.

بيد أنّه في إيران ساد لديهم القراءات العرفانيّة للنّصّ الدّينيّ،  ويعتبر ابن عربيّ من أكثر المؤثرين في العرفان الشّيعيّ، ثم جاء الملّا صدرا (ت 1050هـ) "وعرفان الفلسفة، أي ألبس الفلسفة لباس العرفان، وممكن أن نقول ألبس العرفان لباس الفلسفة، وفلسفته المسماة بالحكمة المتعالية حسب ظاهرها فلسفة، إلّا أنّ باطنها عرفان"، "وفلسفة الملّا صدرا بالتّحديد في القرن الأخير اتّسعت وتعمّقت في المحاضر الفلسفيّة الشّيعيّة، وبعد الثّورة الإسلاميّة وبما أنّ الإمام الخمينيّ (ت 1989م) كان مؤمنا ومتبنيّا لهذه الفلسفة؛ أخذت أكثر انتشارا وشهرة في الحوزات العلميّة، وكذلك في الزّمان نفسه، وبالتّوازي كان لدينا الطّباطبائيّ، والّذي كان معتقدا ومروّجا لهذه الفلسفة أيضا، وكتب كتابين مهمّين وهما بداية ونهاية الحكمة، والّذين صارا يدرّسان في الحوزة العلميّة".

ويرى مهدي نصيري أنّه "إلى القرن العاشر الهجريّ، لم تكن الفلسفة اليونانيّة والعرفان اليونانيّ، والّتي يطلقون عليهما حاليا الفلسفة الإسلاميّة والعرفان الإسلاميّ رائجة ومنتشرة في الحوزات العلميّة الشّيعيّة عموما، وكان حضورها ضعيفا جدّا، وإلى القرن الرّابع الهجريّ، علم الكلام الشّيعيّ، والّذي بدأ مع الشّيخ الطّوسيّ (ت 460هـ)، واستمر مع الخواجة نصير الدّين الطّوسيّ (ت 672هــ)، ومن ثم مع الحلّيّ (ت 726هـ) شارح تجريد الاعتقاد للخواجة نصير الدّين الطّوسيّ، فإنّ علم الكلام العقليّ كانت له الغلبة، وانتشار الفلسفة والعرفان في الحوزات العلميّة الشّيعيّة بدأ منذ القرن العاشر الهجريّ فيما بعد مع الملّا صدرا، حيث جاء وأسّس الحكمة المتعالية، وجمع بين فلسفة ابن سينا (ت 427هـ) وعرفان ابن عربيّ، وقبل ذلك حتّى فلسفة الملّا صدرا إلى مائة سنة سابقة لم يكن لها هذا الانتشار والنّفوذ، وهذا الانتشار والسّعة لفلسفة الملّا صدرا في الحوزات العلميّة، وبالتّحديد في قم يعود إلى الطّباطبائيّ، والّذي بدأ نشاطه، وكرّس درسه الفلسفيّ قبل الثّورة الإسلاميّة، وحصلت هناك بعض المعارضة، فالمرحوم السّيّد البروجرديّ (ت 1380هـ/ 1961م)، وهو أحد كبار مراجع الشّيعة في قم، وكان لديه اختلاف مع الطّباطبائيّ".

وفق هذا حدث تداخل بين النّصّ الدينيّ والبرهان الفلسفيّ والإشراق العرفانيّ، وبدأت قراءات تدخل في النّصّ الدّينيّ، فولدت في هذا المحيط مدرسة جديدة، قد تكون ذات خصوصيّة إيرانيّة، إلّا أنّها بدأت تتوسع في القراءات الكلاسيكيّة واللّاهوتيّة، وهي مدرسة التّفكيك، أو المدرسة التّفكيكيّة.

والمراد بمدرسة التّفكيك هنا ليس كمراد جاك دريدا (ت 2004م)، وإنّما الاشتراك في المصطلح مع اختلاف المصاديق، فهذه المدرسة تمايز بين ثلاث اتّجاهات: مدرسة الوحي (الدّين والقرآن)، ومدرسة العقل (الفلسفة والبرهان)، ومدرسة الكشف (الرّياضة والعرفان)، أي أنّها تمايز بين الدّين والفلسفة والعرفان، وتفكّك كلّا منهما إلى حدّة، لتخلص أنّ "الحقائق العلميّة والمعرفيّة لا تكون صحيحة إلّا إذا كانت مستقاة عن طريق الوحيّ الإلهيّ، والعلم الرّبانيّ"، لكنّها كما يرى محمد رضا حكيميّ الخراسانيّ ليست ضدّ العلوم الفلسفيّة والعرفانيّة، إلّا أنّ مهمّتها التّفكيك وليس التّعطيل، لأنّه "يجب علينا أن نستخلص العلم الصّحيح، والمعرفة الحقّة الأصيلة من معدن النّور، كلام الله، وكلام المعصوم الّذي هو شرح لكلام الله عزّوجل، ونتمثله في سرائر وجودنا، ولا نمزجه بشيء آخر أبدا".

وإذا كانت مدرسة العرفاء الشّيعيّة ردّة فعل على التصوّف ذات البعد السّنيّ، وأرثدوكسيّة العلماء الشّيعة الّذين جاءوا إلى إيران من جبل عامل بلبنان في بدايات الدّولة الصّفويّة، فمدرسة التّفكيك تقترب من هذه الأرثدوكسيّة، لهذا هي ردّة فعل على المدرسة العرفانيّة الصّدرائيّة والّتي تأثرت بفلسفة ابن عربيّ، وتمثلت في العرفانيّة الخمينيّة بشكل كبير، فهي ترى "أنّ الفلسفة الّتي جاء بها صدر المتألهين جمعت بين المشائيّة والإشراقيّة والرّواقيّة والمسالك الصّوفيّة والعرفانيّة".

 ويرى مهدي نصيري أنّ ما يطلق عليه العرفان الإسلاميّ الّذي وصل إلى ذروته مع ابن عربيّ  متأثر بشدّة بآراء أفلوطين، ونظريّة وحدة الوجود الّتي هي محور البحث العرفانيّ، والتي ينادي بها ابن عربيّ، هي مأخوذة من كتب أفلوطين بشكل دقيق، وما يُعرف بمدرسة التّفكيك، والذي طُرح في زمن الميرزا مهدي الأصفهانيّ (ت 1365هـ) ليست مدرسة جديدة، إنّما صياغة جديدة لهذا النّزاع القديم بين الكلام الشّيعيّ والفلسفة والعرفان اليونانيّ، ثمّ جاء محمّد رضا حكيميّ بعد أربعين سنة من الميرزا مهدي الأصفهانيّ، وصار مروّجا لمدرسة التّفكيك بكتبه وآثاره، وأحيا هذا البحث من جديد بقوّة، ونشره في السّاحة الفكريّة، وصار البحث حيّا ومعاصرا بسببه".

ويرى أنّ "اسم التّفكيك من إبداع الأستاذ الحكيميّ حينما أراد نقد الفلسفة والعرفان، سعى أن لا يكون نقده لاذعا ومثيرا للحساسيّة، خصوصا أنّ المدرسة الفلسفيّة والصّدرائيّة كانت مسيطرة على أجواء الحوزات العلميّة بعد قيام الثّورة الإسلاميّة، وكان الأمر يحتاج إلى جرأة خاصّة، بحيث يأتي شخص وينتقد هذه الفلسفة الّتي يتبناها قائد الثّورة الإسلاميّة أي الامام الخمينيّ، ولأجل أن تكون نبرة ولحن نقده معتدلة، قال: لابدّ أن نفكّك بين الفلسفة الّتي جاءت من اليونان وأرسطو وأفلاطون وأفلوطين وبين علم الكلام الاسلاميّ، وأن لا نخلطهما ببعض، وإذا تمّ الخلطّ فسنقع في المشكلات، وستفهم المسائل بشكل خاطئ، وبهذا نكون قد حرّفنا الوحي، ومن هنا تمّ طرح اسم التّفكيك، أي أن نفكّك بين المعارف الوحيانيّة وبين المعارف الفلسفيّة والعرفانيّة".

هذه المدرسة لقت ردّة فعل كبيرة في المشهد الإيرانيّ وحوزاته الدّينيّة كما يرى الباحثّ في التّأريخ الإيرانيّ والفارسيّ محمّد صادق زاده أنّ "مدرسة التّفكيك كانت ردّة فعل للمدرسة الصّدرائيّة والفلسفيّة عموما، وصاروا أقرب إلى حشويّة الشّيعة، حيث يقفون عند ظاهريّة النّصوص، لهذا تلقى مواجهة وحربا كبيرة من الاتّجاهات العرفانيّة في إيران، لكن لها حضورها الكبير في مشهد وخراسان وطهران وقم، ولها أنصارها ومؤسّساتها الضّخمة".

وإن كنتُ أرى أنّه يصعب في الحقيقة فصل النّصّ عن الفلسفة؛ لأنّ الإنسان بذاته متفلسف في تعامله مع النّصّ الدّينيّ وفق الأداة والحالة الزّمكانيّة، إلّا أنّ العرفان في جوهره صورة من صور التّأريخيّة الفلسفيّة في التّعامل مع النّصّ الدّينيّ، كما أنّ العلليّة الأصوليّة هي صورة منها أيضا، فالأول محاولة للبحث عن جوهر النّصّ والغاية منه، والثّانية محاولة لربط النّصّ بظرفيّته الزّمكانيّة من حيث العلّة، وكلاهما استفادا من تراث الأمم الأخرى خارج دائرة الإسلام، ولا يمكن التّعامل مع النّصّ بحرفيّته الأولى الّتي نزل فيها، لأنّ هذه إماتة للنّصّ ذاته، قبل أن يكون إماتة للعقل وتطوّر الاجتماع البشريّ، وهذا لا يعني أنّ مدرسة التّفكيك ترفص الفلسفة أو العرفان بالكليّة، لكنّها تحاول أن لا تجعلها حاكمة على النّصّ الدّينيّ، خصوصا ما لها مرجعيّات خارج الإطار الإسلاميّ في نظرهم، يونانيّة قديما أو غربيّة في العصر الحالي.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

......................

مراجع المقالة: كتاب  المدرسة التّفكيكيّة لمحمّد رضا حكيمي، ولقاءات مع الباحثين في العرفان والتّفكيك والتّأريخ الإيراني: حسن رمضانيّ، ومحمّد سوريّ، ومهدي نصيريّ، ومحمّد صادق زاده.

 

هناك اربعة أساليب للتواصل او الاتصال بالآخرين .هل سبق لك أن حاولت التحدث إلى شخص ما في العمل، لتقابل برد متعالي عليك؟ هل سبق لك أن تم تكليفك بمشروع مع تفاصيل قليلة، ثم ليخبرك المدير أن تكتشف التفاصيل بنفسك؟ يمكن بسهولة أن تعزى هذه السلوكيات المزعجة إلى الاختلافات في أساليب التواصل التي يمكن أن تعيق سير العمل.

يمكن تقسيم التواصل إلى أساليب -  ومثلما يمتلك كل شخص أسلوبا شخصيا مختلفا قد ينعكس في كيفية تقديم نفسه جسديا ، فإن لديه أيضا أسلوبا مختلفا للتواصل يظهر في العلاقات الشخصية وهولا يقتصر فقط على التواصل الشفهي، وأنما يترجم إلى التواصل المرئي مثل لغة الجسد والتواصل الكتابي.

يمكن أن يكون لجميع أنواع التواصل إيجابيات وسلبيات. هناك جوانب من أساليب الاتصال تجعل التواصل فعالا، ولكن أسلوب الاتصال نفسه قد ينفر بعض الأفراد ويخلق انقطاعا. يعد فهم كيفية عمل أنماط الاتصال هذه أمرا حيويا في الأعمال الناجحة.

هناك أربعة أنماط اتصال شائعة:

أسلوب المتحكم / المدير

أسلوب المروج / الاجتماعي

أسلوب المحلل / المفكر

أسلوب الداعم / المواصل

تلعب هذه الأساليب او الأنماط الأربعة المختلفة دورا هاما في ارتباطات الاشخاص مع الآخرين داخل وخارج مكان العمل. على سبيل المثال، أسلوب الاتصال المتحكم هو إلى حد ما عكس أسلوب الاتصال المروج.

ولكن كيف تلعب هذه الأساليب المختلفة مثل هذه الأهمية في مكان العمل؟ ما هي الاختلافات، وكيف تساعد أو تمنع التواصل الفعال؟ هل تسبب الصراع أو تزيد الإنتاجية؟ فيما يلي تفصيل لأنماط الاتصال الأربعة هذه وكيف تبدو في مواقف مكان العمل.

المتحكم / المدير

أسلوب اتصال المتحكم مباشر للغاية -  يطالب بالحقائق بطريقة مباشرة وصريحة للغاية. يميل الأشخاص الذين يتواصلون بهذه الطريقة إلى امتلاك سمات الشخصية التالية.

- يمكن أن يكونوا متحمسين للغاية ومكرسين لمهامهم.

- هم موجهون للغاية نحو الهدف ومصممون على الوفاء بالمواعيد النهائية والأهداف.

- إنهم يتواصلون بالعين وغالبا ما ينظر إليهم على أنهم يظهرون أسلوبا عدوانيا وسلوكا حازما.

- كما ينظر إليهم أحيانا على أنهم متواصلون عدوانيون ومتسلطون في صرامتهم.

- إنهم من النوع الذي عندما يعملون على مشروع فأنهم يقضون الليل وحتى وقت متأخر حتى يفي بمعاييرهم.

- يجب أن تكون المحادثة مع المتحكم قصيرة وبلطف ومباشرة.

في مكان العمل، يميل هؤلاء الأشخاص إلى أن يكونوا قادة يتمتعون بمهارات الاتصال ولكنهم يميلون إلى الظهور على أنهم متسلطون. بشكل صريح ومباشر. إنهم يوجزون الكلمات ويتوقعون نفس الإيجاز في المقابل. إنهم يريدون معرفة العوامل المهمة ولكن ليس لديهم وقت للتفاصيل الصغيرة. لا تضيع وقتهم بمعلومات غير ضرورية، لأنهم لن يبالغوا في الشرح عند إعطاء مشروع لك. عند التواصل مع المتحكم توقع اكتشاف الكثير من الأشياء أثناء النقاش لأنهم لن يقضوا الكثير من الوقت في الشرح.

المروج / الاجتماعي

أسلوب التواصل مع المروج متحمس ومدفوع بالناس. المروج هو الشخص الذي يتمتع بالخصائص التالية.

- سيقضون ساعات في الحديث عن خطط عطلة نهاية الأسبوع الخاصة بهم ولكنهم سيقومون أيضا بتفصيل المشروع من البداية إلى النهاية، مما يوفر التفاصيل الأكثر تعقيدا.

- إنهم متحمسون وجذابون وليسوا قلقين للغاية بشأن أخذ أنفسهم على محمل الجد.

- هم ممتازون في التواصل الفعال بين الأشخاص.

- من السهل استكشافهم لأنهم عادة ما يمثلون الفراشات الاجتماعية في المكتب.

- إنهم يتحدثون دائما عن حياتهم وخططهم وطموحاتهم، ويسارعون إلى سؤالك عن الشيء نفسه.

- إنهم يحبون توصيل رسالة شخصية عند التحدث مع الزملاء وتلبية مشاريعهم ومحادثاتهم مع جمهورهم.

- أساليب التواصل اللفظي وغير اللفظي لديهم مفتوحة وصادقة ومتحمسة. وهذا يجعل من السهل التعامل معهم بالأسئلة أو التعليقات في مكان العمل.

- يسعدهم تقديم شرح إضافي لمشروع أو عميل ويحبون المساعدة حيثما أمكنهم ذلك.

يمكنك الذهاب إليهم بسؤال سريع وستفقد ساعة من الوقت لأنهم سيقفزون إلى مجموعة من الموضوعات المختلفة. هم ليسوا موجهون نحو التفاصيل بقدر ما نحو الناس والخبرة. عند التعامل مع المروج، اطرح عليه أسئلة شخصية وتوقع أن يقوم بطرحها عليك في المقابل.

المحلل / المفكر

- منظم وذكي، يحب المحلل الحقائق والتفاصيل المعقدة. هذا النوع له الخصائص التالية.

- إنهم منظمون للغاية ويجعلون التنظيم وفهم جميع جوانب المشروع أولوية قبل أي شيء آخر.

- هذا النوع من التواصل عميق ومدروس وتحليلي وعادة ما يكون أكثر جدية من المتصلين الآخرين.

- إنهم يريدون الحصول على جميع الحقائق قبل اتخاذ قرار أو تنفيذ فكرة أو مبادرة يمكن أن تكون محبطة لأعضاء الفريق الذين يرغبون في المضي قدما في المشروع.

- تتطلب هذه الأنواع اتصالا عالي السياق ولكنها لا تبدو حازمة أو عدوانية بشكل مفرط ولكنها متهمة بالتشكيك والمضاربة. لكن عقليتهم التحليلية تعني أنهم ينظرون دائما إلى الصورة الكبيرة بناء على مجموعة من التفاصيل المعقدة.

- يمكن أن ينظر إليهم في بعض الأحيان على أنهم متواصلون متشائمون.

- في مكان العمل، تحتاج هذه الأنواع إلى كل الحقائق في أسرع وقت ممكن. إنهم يريدون تحليل المشروع والتحقيق فيه وفهمه من جميع الزوايا.

عند التعامل مع محلل، تأكد من أن لديك كل الحقائق وحددت مشروعا بالتفصيل قبل لفت انتباهه إليك. استعد أيضا للأسئلة — لأنهم سيكثرون منها عليك و قد يكون هذا محبطا. قد يجعلك تشعر ببعض السخافة أو الغباء بسبب ترددهم في تصديقك أو تقبل فكرتك أو رؤيتك تماما -  ولكن هذا فقط لأنهم يحاولون فهمها بأكبر قدر ممكن من الدقة. يتطلب المحللون الصبر، لكن المردود من التعامل معهم يستحق ذلك. وبالمثل، توقع عرضا تقديميا متعمقا عند إعطاء مشروع من قبل محلل.

الداعم / المواصل

- الهدوء والبرود هو طريقة دقيقة نسبيا لوصف الداعم. هذا النوع من الشخصية له الخصائص التالية.

- إنهم محبوبون ومتساهلون في مشاعرهم وطرق العمل والتفاعل مع الزملاء.

- لديهم مهارات اتصال ممتازة مع الأشخاص وهم دائما منفتحون للحديث عن المزيد من الموضوعات الشخصية -  على الرغم من أنهم لا يبحثون عنها بشغف مثل المروج.

- هذا النوع من التواصل هو الأكثر شيوعا الذي يمكن العثور عليه داخل وخارج مكان العمل لأنهم حريصون على النجاح على الرغم من المحتوى والهدوء في سعيهم.

- يتفوق الداعمون في حل النزاعات لأنهم عادة ما يكونون متزنين للغاية. إنهم مستمعون رائعون ويذهب إليهم الكثيرون بمشاكل ومخاوف.

- هم محبوبون من قبل معظم الناس.

عند التفاعل مع أحد الداعمين في مكان العمل، توقع شخصا هادئا ويسهل الاقتراب منه. إنهم منفتحون ومرحبون للغاية، لكن من الجيد ألا تكون متطرفا جدا في نهجك. إنهم يتطلبون نوعا من الاتصال يقع بين الاتصال عالي السياق والاتصال منخفض السياق. ابدأ ببطء عند التعرف عليهم وتوقع اكتساب الثقة خطوة بخطوة. الداعمون موثوقون وفعالون للغاية، لذا لا تبالغ في استكشاف ذكائهم أو محاولة تقويضه. تحدث إليهم كما لو كنت تتحدث إلى صديق جديد ( أن تكون مترددا في القصص الشخصية ولكنك منفتح على المحادثة غير الرسمية).

يتواصل الجميع بشكل مختلف -  وفهم كيفية تواصل الشخص أمر حيوي لفهم كيفية عمله والتعامل معه. كما أنه أمر حيوي لبناء علاقات في مكان العمل ومساعي تجارية ناجحة. والأمر متروك لك لمعرفة كيف تتشابك أنماط الآخرين أو تتعارض مع أسلوبك.

 يمكن أن يكون التواصل لفظيا وغير لفظي و من المهم ملاحظة لغة جسد المقابل، سواء كان التواصل بالعين او اتصال غير مباشر أو مباشر. سيضمن ذلك معرفة كيفية التفاعل في المستقبل وعدم الدخول في موقف تتعارض فيها شخصيتك وأسلوب اتصالك مع شخصيتهم. التواصل في مكان العمل هو شيء يجب تعلمه أثناء التدرج، ولكن الكشف عن هذه الاختلافات والعمل نحو أرضية مشتركة للتواصل مع الأفراد الآخرين أمر حيوي ليس فقط للنجاح في مكان العمل ولكن أيضا للنجاح على المستوى الشخصي.

ما هو أسلوب الاتصال الذي تتميز به انت ؟ هل تغير أسلوبك اعتمادا على الشخص أو الأشخاص الذين تتواجد معهم، أو البيئة (المنزل، العمل، إلخ)، أو الظروف؟ أسئلة عليك أن تجيب عليها بنفسك.

***

د. احمد المغير

 

يعد الذكاء الاصطناعي فرصة هامة لحل العديد من المشاكل والتحديات التي يواجهها العراق في مجالات مختلفة مثل الصحة والتعليم والزراعة والامن والطاقة والبيئة وغيرها لما يهدف الى تطوير انظمة وبرامج قادرة على تقليد وتجسيد القدرات الذهنية والسلوكية للبشر مثل التعلم والاستنتاج والابداع والتفكير النقدي والتواصل والتعاون. ومع ذلك، يتطلب تحقيق هذا الهدف تطوير مستمر ومتابعة للتقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي يحدث في هذه المجالات على مستوى العالم.

وفقا للمنظمة العالمية للملكية الفكرية التابعة للأمم المتحدة، يحتل العراق المرتبة ما قبل الأخيرة في مؤشر الابتكار العالمي. وهذا يشير الى حجم التحديات الهائلة التي يواجهها العراق والعقبات التي تعترض طريق تطوره، الأمر الذي يدعو إلى تغيير شامل. من هذه التحديات والمشاكل:

نقص الدعم الحكومي والخاص للبحث العلمي والابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، وعدم وجود استراتيجية وطنية شاملة ومتكاملة لتنمية هذا المجال وتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص.

نقص الكفاءات البشرية المؤهلة والمدربة في مجال الذكاء الاصطناعي، وعدم توافر برامج تعليمية وتدريبية متخصصة ومعتمدة في هذا المجال في المؤسسات التعليمية والاكاديمية.

نقص البنية التحتية التكنولوجية اللازمة لتطوير وتشغيل الانظمة والتطبيقات القائمة على الذكاء الاصطناعي، مثل الاتصالات السريعة والموثوقة والامنة والمتاحة والميسورة، والحوسبة السحابية والكمية، والمنصات والادوات والمكتبات البرمجية المفتوحة المصدر.

نقص البيانات الكبيرة والمتنوعة والموثوقة والمتاحة والمشاركة، والتي تعتبر مصدرا اساسيا لتغذية وتدريب وتحسين الخوارزميات والنماذج القائمة على الذكاء الاصطناعي، وخاصة البيانات المحلية والمتعلقة باللغة العربية والثقافة والمجتمع العراقي.

نقص الوعي والثقة والقبول والمشاركة من قبل المجتمع والمستخدمين للذكاء الاصطناعي، وعدم توافر اليات ومعايير وقوانين واخلاقيات تضمن الحماية والخصوصية والامن والمساءلة والشفافية والعدالة في استخدام الذكاء الاصطناعي.

وبالتالي، فان العراق بحاجة الى مواجهة هذه المشاكل والتغلب عليها بجهود مشتركة ومتسقة بين جميع الاطراف المعنية، وبالاستفادة من الخبرات والتجارب الدولية والاقليمية في هذا المجال، وبالتركيز على تحديد الاولويات والاحتياجات والفرص والتحديات الخاصة بالعراق، وبالتوازن بين الجوانب التقنية والاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية للذكاء الاصطناعي والابتكار.

***

محمد الربيعي

ليس ثمة إنسان، في الوقت الحاضر، يجهل أسباب هيمنة بلدان العالم الغربي على بلدان العالم الشرقي، كما ليس ثمة ما يعتم عليه رؤية العوامل الحقيقة التي بوأت الحضارة الغربية مكان الصدارة في مضامير التنافس البارد والتصارع الساخن بين حضارة الأول وحضارة الثاني . ولكن، مع ذلك، قلما يحسّ هذا الإنسان بوطأة تلك الوقائع والمعطيات لكي يضعها نصب عينيه حين تداهمه الأحداث وتعصف به الوقائع، ويضطر، من ثم، للانغمار في أتون البحث الحلول واستنباط المعالجات .

وعليه، قد يتساءل الإنسان العربي عن سرّ استمرار تفوق العالم الغربي على نظيره العالم الشرقي، ليس فقط في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية فحسب، بل وكذلك في الميادين الاجتماعية والثقافية والحضارية والعلمية، حتى بعد أن ظفر هذا الأخير بكل ما كان يعتقد أنها مقومات (الاستقلال) السياسي وبناء دوله (الوطنية) . بالرغم من مرور عشرات العقود من السنين على لحظات (فك الارتباط) ما بين القوى الاستعمارية التي كانت تهيمن على معظم مجتمعات بلدان هذا العالم من جهة، وبين قوى ما يسمى بالأحزاب والحركات المحلية التي كانت تسوق نفسها (كمنقذ) وحيد و(ممثل) وطني بلا منافس من جهة أخرى . هذا في حين استمرت مؤشرات هذه المجتمعات بالتدني في مضامير البناء والتردي في ميادين الإنتاج، كما لو أنها تستعيد مجددا"سيرة كينونتها الأولى يوم كانت تعيش حياة التوحش الاجتماعي والتبربر الحضاري . 

ولكي لا نذهب بعيدا"، فان ما يعطي لدول الغرب ميزة تفاضلية على دول الشرق هي المحافظة على استدامة متلازمة (الإرادة) و(القوة)، ليس فقط على مستوى التحكم باتجاهات العلاقات الدولية فحسب، وإنما على صعيد افتعال وإدارة الأزمات الإقليمية والدولية، بحيث لا تسمح بتاتا"بانفراط عقد طرفي هذه المتلازمة مهما كانت الأسباب أو مهما استجد من ظروف . وهنا نسارع الى القول ؛ ان التأكيد على تلازم هذه الثنائية من قبل دول العالم الغربي، لا يعني أنها معدومة كليا"لدى نظيرها دول العالم الشرقي كما قد يتبادر الى أذهاننا، إنما الفارق يكمن بالنسبة للأولى في الإبقاء على مستوى عال من الترابط العضوي بين طرفي تلك المتلازمة بما يجعلها في حالة من التفاعل الدائم والفاعلية المستمرة، دون السماح لأي طارئ بتعطيل ديناميتها وتنافر عناصرها . أما الفارق بالنسبة للثانية فيتحدد باستحالة قدرتها على الجمع بين طرفي تلك المتلازمة، أي بمعنى أنها قد تمتلك في فترة من الفترات (الإرادة) دون حيازة (القوة) أو بالعكس، باستثناء حالات نادرة لا يعتد بها كونها ذات طبيعة (طارئة) سرعان ما تفقد أحد القطبين ؛

أولا" - إما لأسباب ذاتية تتعلق بتورط الدولة (= السلطة) المعنية بانتهاج سياسات خاطئة وتعسفية، بحيث تستهلك طاقاتها وتستنزف قدراتها في مواجهات عبثية ضد معارضيها سياسيا"وإيديولوجيا"من جهة، وتفقد، من جهة أخرى، كل ما بحوزتها من أرصدة وطنية سابقة وشرعية مكتسبة يصعب - ان لم يستحيل – تعويضها في الأمدين القصير والمتوسط .

وثانيا"- وإما لأسباب موضوعية ترتبط بانخراط ذات الدول في تكتلات إقليمية وصراعات دولية لا ناقة لها فيها ولا جمل، وإنما لمجرد التعبير عن التزاماتها الدبلوماسية إزاء شركائها أو حلفائها ممن يتعذر عليها التنصل من املاءاتهم وشروطهم . من هنا، لا تلبث أن تسرّع عمليات استهلاك إمكاناتها الاقتصادية وقدراتها العسكرية وشرعيتها السيادية، وبالتالي تفقد في كلا الحالتين أحد تينك العنصرين من عناصر المتلازمة المذكورة .

وهكذا نلاحظ على مدى عقود القرنين التاسع عشر والعشرين – يبدو ان المؤشرات ذاتها في القرن الحادي والعشرين -ان مسار متلازمة (الإرادة) و(القوة) وما يستتبعه من رجحان كفة الدول المستعمرة (بالكسر) على الدول المستعمرة (بالفتح)، لم – ولن – ينحرف عن الاتجاه الذي اختطه لنفسه من الغرب الى الشرق، طالما استمرت هذه الأخيرة عاجزة عن حيازة أحد قطبي تلك المتلازمة، ناهيك عن إمكانية الجمع بينهما بحيث يبقى العالم الأول يضع الخطط ويصدر يأمر، ويستمر العالم الثاني بإظهار الطاعة والإذعان لينفذ مضامينها مهما كانت الخسارات والانكسارات ! . 

***

ثامر عباس

"ليست لغة العرب أغنى لغات العالم فحسب، بل إنّ الّذين نبغوا في التأليف بها لا يكاد يأتي عليهم العدّ، وإنّ اختلافنا عنهم في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربيّة وبين ما ألّفوه حجاباً لا يتبيّن ما وراءه إلّا بصعوبة"... (المستشرق الألمانيّ فرنباغ)

يرى الباحثون في تاريخ الحضارات الإنسانيّة، أنّ اللغة العربيّة كانت في مرحلة الازدهار الحضاريّ أصلاً في العلم، وروحاً في المعرفة، وشغفاً في الثقافة، ومنطلقاً للنهوض الحضاريّ. وفي هذه المرحلة استطاعت العربيّة أن تكون وطناً للعلوم الطبيعيّة والإنسانيّة في مجالات الهندسة والجبر والفلك والطبّ والفلسفة. وكانت اللغة العربيّة وثيقة الصلة بالوضعيّة الحضاريّة للأمّة، والتعريب كان دائماً هو الوجه الآخر للتعبير عن الحضارة العربيّة حضوراً وانحساراً نهوضاً وانكساراً.

فلكلّ حضارة لسان تعبّر به عن ذاتها ووجودها ولسان الحضارة العربيّة لم يكن سوى العربيّة الّتي ازدهرت في مراحل النموّ الحضاريّ، وامتدّت لتعبّر عن مختلف خلجات الحضارة العربيّة في مختلف العصور. ويقيناً أنّه عندما تضعف الحضارة يضعف لسان حالها، وتذوي لغتها وتنحدر ثمّ تنحسر.

ويمكن أن نميّز حالتين حضاريّتين أساسيّتين في تاريخ التعريب: التعريب في حالة الازدهار الحضاريّ والتعريب في حالة الانحسار الحضاريّ. حيث يأخذ الأوّل صورة المدّ الحضاريّ الشامل، بينما يأخذ الثاني صورة المحافظة على الهويّة الحضاريّة وممانعة الذوبان الحضاريّ في عصر الركود الحضاريّ الّذي تشهده الأمّة العربيّة اليوم.

بدأت حركة التعريب فعليّاً مع بداية الدعوة الإسلاميّة، حيث جمع الإسلام بلغته القرآنيّة لهجات العرب في لغة واحدة سامية هي لغة القرآن الكريم. فانطلق التعريب مع بداية الخلافة الإسلاميّة، وتجسّد ذلك في الاهتمام السياسيّ الّذي أبداه الخلفاء الراشدون باللغة العربيّة، فعملوا على تمكينها في قلوب الناطقين فيها، وفي عقولهم وعلى ألسنتهم. ويرى الباحثون أنّ أولى محاولات التعريب بدأت بـ(تعريب النقود) في عهد الخليفة الراشديّ عمر بن الخطّاب -رضي اللّه عنه- إذ ضرب الدراهم على أسماء عربيّة فجعل نقش بعضها (الحمد لله) ونقش بعضها الآخر (محمّد رسول اللّه) أو (لا إله إلّا اللّه وحده) وقد نهج على نهجه الخلفاء الّذي جاؤوا من بعده.

وقاد الخليفة الأمويّ( ) عبد الملك بن مروان أكبر عمليّة تعريب حضاريّة في تاريخ العرب شملت جميع مناحي الحياة الفكريّة والعلميّة والسياسيّة والعسكريّة، إذ قام بتعريب دواوين الدولة برمّتها، ثمّ عرب عملة الدولة المتداولة بين الناس، وقد أدّت هذه العمليّة إلى نشر اللغة العربيّة في مختلف أصقاع الدولة الإسلاميّة، وأتاحت للعرب فرصة الوصول إلى أرفع المناصب الإداريّة وأهمّها شأناً، بعد أن كان ذلك يقتصر على غير العرب، الأمر الّذي كان يضعف تكوين الدولة القوميّ، ويتناقص مع سياسة الدولة العامّة، ويوهن الثقة بين الدولة والإدارة، ولا يمكن أن تقوى هذه الثقة ما دام موظّفوها ليسوا عرباً، وما دامت لغتها غير عربيّة. لهذا فقد كان لفكرة التعريب أثرها العظيم في رفع شأن اللغة العربيّة، حتّـى غدت اللغة الرئيسيّة بعد أن كانت في عداد اللغات الأجنبيّة كسواها بالنسبة لأهل البلاد المفتوحة. وقد سار على نهجه ابنه الوليد بن عبد الملك وسائر الخلفاء الأمويّين، فعملوا على ترسيخ اللغة العربيّة الواحدة لغة الدولة والثقافة والمعرفة والمصير.

فالحضارة العربيّة الإسلاميّة انطلقت عبر حركة تعريب واسعة في مختلف المدن والمقاطعات والبلدان الّتي فتحها العرب والمسلمون في مختلف أرجاء الأرض. وقد عمل العرب على نشر لغتهم في مختلف أصقاع الدولة حتّى شمل التعريب كلّ مناحي الحياة والوجود. وكان على سكّان البلاد المفتوحة أن يتعلّموا العربيّة وأن يستفيدوا منها لدينهم ودنياهم حتّى اضطرّوا أن يتعلّموا النحو لإصلاح لغتهم. ثمّ أقبل الناس على تعلّم العربيّة، فنقلوا إليها علومهم وحتّى كتبهم المقدّسة وذلك لإظهار تراثهم الحضاريّ والثقافيّ للفاتحين ونتيجة لشعورهم برغبة المسلمين للاطّلاع على ما عند الأمم الأخرى من علوم ومعارف كما أنّ إقبال البعض من أهل البلاد المفتوحة على ذلك تحقيقاً لمكاسب مادّيّة ومعنويّة. وقد شهدت الحضارة العربيّة الإسلاميّة - كنتيجة طبيعيّة لهذه الفعاليّة التعريبيّة - نشاطاً علميّاً يندر مثيله في تاريخ العصور العلماء؛ إذ ظهرت طائفة من العلماء والمفكّرين والعباقرة في مختلف الميادين العلميّة مثل: البيرونيّ، والكنديّ، والرازيّ، وابن سيناء، والإدريسيّ، وابن باجة، وعمر الخيّام، وابن زهر، وابن طفيل، وابن رشد، وابن حزم الأندلسيّ، وكان عدد العلماء والمفكّرين يفوق التعداد والعصر، ولم تكن هذه الظاهرة حالة خاصّة بل كان هذا هو الحال العامّ في الحضارة الإسلاميّة.

وبقيت هذه الحالة قائمة حتّى مرحلة تراجع الحضارة العربيّة وانحسارها السياسيّ حيث بدأت اللغة العربيّة تتراجع وتنحسر وتذوي وتغيب تدريجيّاً حتّى آلت إلى ما هي عليه من انحدار وتصدّع في مختلف البلدان العربيّة والإسلاميّة.

ومن ثمّ استمرّت حركة التعريب على أشدّها في العهد العبّاسيّ ولاسيّما في القرنين الثامن والتاسع الميلاديّين، أي في مرحلة الازدهار الحضاريّ، أي في عهد هارون الرشيد، والأمين، والمأمون، والمعتصم باللّه. وكان المأمون الخليفة العبّاسيّ العالم المستنير (ت 833) يتفانى في خدمة العلم والمعرفة ويحثّ العلماء عليّ طلب العلم، ويضع المكافآت الثنيّة لهم، وقد أنشأ لهم بيت الحكمة لتكون أكاديميّة البحث العلميّ ببغداد تحت رعايته الشخصيّة. وأقام به مرصداً ومكتبة ضخمة. كما أقام مرصداً ثانياً في سهل تدمّر بالشام. وجمع المخطوطات من الدنيا كلّها لتترجم علومها.

ويروي المؤرّخون أنّ بيت المال أيّام المأمون كادت تنفّذ خزائنه من كثرة ما كان يدفع أجراً للمترجمين. ويروي الثقات من أهل العلم أنّ حنين بن إسحاق كان يتقاضى وزن ما يترجم ذهباً، ولمّا كان الرجل نحيلاً وحريصاً على نموّ ثروته، فقد كان يكتب بخطّ كبير الحجم، كما كان يكتب على لوحات ثقيلة، ولا غرابة في هذا المسلك فيما وصلت إليه أمّة الإسلام في ذلك العصر من عزّ ومجد حضاريّ وثقافيّ واجتماعيّ كان نتاجاً طبيعيّاً لحصيلة العلم والرغبة في المعرفة

وفي عهد المأمون شهدت الدولة الإسلاميّة أعظم نهضة علميّة حضاريّة في تاريخ الأمّة؛ فظهرت الجامعات الإسلاميّة لأوّل مرّة بالعالم الإسلاميّ قبل أوروبا بقرنين. وكانت جامعة بيت الحكمة أوّل جامعة أنشئت في بغداد سنة 830 م، ثمّ تلاها جامعة القرويّين سنة 859 م في فاس، ثمّ جامعة الأزهر سنة 970 م في القاهرة. وبالمقارنة فإنّ أوّل جامعة في أوروبا أنشئت في "سالرنو" بصقلّيّة سنة 1090م على عهد ملك صقلّيّة روجر الثاني. وقد أخذ فكرتها عن العرب هناك. ثمّ تلاها جامعة بادوفا بإيطاليا .

ومع ضعف الدولة العربيّة في بغداد وسقوط الدولة العبّاسيّة عام 1258 بدأت اللغة العربيّة تشهد تراجعاً كبيراً وانحساراً في مختلف مناحي الحياة والوجود ولاسيّما في مجال العلوم والمعارف، ويلاحظ الباحثون أنّ اللغة العربيّة بدأت تأفل مع أفول الحضارة العربيّة وتراجعها.

وفي ظلّ الدولة العثمانيّة (1299-1923) تراجعت اللغة العربيّة، وأصبحت اللغة التركيّة هي لغة الدواوين والإدارة والاقتصاد وبقين هذه الحالة قرابة أربعة قرون عجاف أدّت إلى انحسار كبير في اللغة العربيّة وتراجعها في مختلف الميادين. وكانت الطامّة الكبرى بوصول جمعيّة الاتّحاد والترقّي الطورانيّة إلى السلطة في الدولة العثمانيّة، إذ بدؤوا بعمليّة "تتريك" واسعة شاملة لمختلف مناحي الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في البلدان العربيّة أو الناطقة بها. وتعدّ حركة "التتريك" الّتي تعرّضت لها اللغة العربيّة أولى لمحاولات السياسيّة الممنهجة للقضاء على اللغة العربيّة في ديارها وإحلال اللغة التركيّة بديلاً عنها، وحدث ذلك في بداية القرن العشرين، إذ قام الأتراك "بتتريك" الدواوين والجيش والتعليم. ومنع استخدام اللغات غير التركيّة في الإعلام والتدريس كما فرض على جميع سكّان تركيّا تبنّي أسماء تركيّة، وحوّلت أسماء الكثير من المدن (ومنها العربيّة في الجنوب) إلى أسماء تركيّة. كذلك منعت المطبوعات والأنشطة الثقافيّة بغير اللغة التركيّة، وحول الأذان من العربيّة إلى التركيّة.

وبرهنت العربيّة مرّة ثانية في العصر الحديث، بأنّها صنوّ العلم، وحاضن المعرفة، وملهم الثقافة، حتّى أتى يوم من الدهر أصبحت فيه قصيّة مستبعدة، بعدما أخرجت من عرينها الأكاديميّ، فهزمت في عقر دارها وفي فضاء أوطانها. وقد جاء هذا البرهان العظيم على يد محمّد علي باشا، والي مصر، الّذي تسلّم مقاليد السلطة في مصر عام 1805، فأسّس دولة عربيّة حديثة تقوم على العلم والمدنيّة؛ ثمّ أرسل البعثات الدراسيّة إلى أوربا، وفتح عدداً من المدارس العسكريّة والطبّيّة والهندسيّة، واعتمد اللغة العربيّة لغة رسميّة في مختلف مناحي الحياة العلميّة والسياسيّة والأكاديميّة، فعادت اللغة العربيّة مجدّداً لغة الدولة الرسميّة، وغدت لغة التدريس في جميع المدارس الجديدة والمؤسّسات التعليميّة الناهضة.

وفي هذه المرحلة الجديدة، من حكم محمّد علي باشا، استطاعت اللغة العربيّة أن تثبت جدارتها، ولاسيّما عندما أنشأ محمّد علي باشا أوّل كلّيّة للطبّ في أبي زعبل بمصر عام 1826، فجعل من العربيّة لغة التدريس والبحث العلميّ فيها، وكانت هذه الكلّيّة أعظم مؤشّر على مظاهر النهضة العلميّة الّتي انطلقت في عهده حيث برهنت اللغة العربيّة قدرتها الهائلة على احتواء العلوم وقدرتها على أن تكون لغة التدريس والحوار والإبداع طيلة سبعين عاماً برز خلالها الكثير من الأساتذة والمترجمين الّذين خدموا العربيّة خدمات جليلة.

ويروي الثقات أنّ محمّد علي استقدم الأساتذة الأجانب للتدريس في الكلّيّة بداية، وجعل لهم مترجمين يترجمون الدروس في قاعات المحاضرات، وخلال هذه الفترة ألف الأطبّاء والباحثون في الطبّ في هذه الكلّيّة 53 كتاباً مرجعيّاً في الطبّ. وهكذا عمل الاستعمار البريطانيّ على قهر اللغة العربيّة، وأخرجها من عقر دارها ليجعل من اللغة الإنكليزيّة لغة التعليم الطبّيّ في الجامعات والمؤسّسات العلميّة.

وهكذا انطلقت اللغة العربيّة لتأخذ طريقها إلى دنيا العلوم والحضارة الحديثة، ولم يكتف محمّد علي بتأسيس كلّيّة الطبّ فحسب، بل أسّس مدارس ومؤسّسات ومعاهد في الطبّ والهندسة والزراعة والعسكريّات، وكانت اللغة العربيّة في كلّ هذه المؤسّسات لغة التعليم والخطابة والتأليف والنشر.

 ومن أعظم ما قدّمه محمّد علي للعربيّة هو افتتاحه مدرسة الألسن عام 1836 الّتي شكّلت معلّماً بارزاً من معالم النهوض باللغة العربيّة الفصحى وتطويعها لاستيعاب العلوم الحديثة واحتواء مصطلحاتها بعد ذلك الانقطاع الطويل بين الفصحى والعلم عصوراً متتابعة. ولابدّ من الإشارة في هذا السياق إلى تلك الحماسة الّتي كانت تملأ النفوس، والإخلاص الّذي كان يعمّر القلوب لدى أولئك العلماء الّذين عملوا بطريقة عبقريّة فذّة على نقل العلوم الحديثة وترجمتها إلى اللغة العربيّة.

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى المصلح الكبير رفاعة الطهطاوي الّذي اشتغل بالترجمة في مدرسة الطبّ، فعمل على تطوير مناهج الدراسة بالعربيّة في العلوم الطبيعيّة، وإليه يعود الفضل في افتتاح مدرسة الترجمة عام 1935 الّتي صارت فيما بعد مدرسة الألسن، وعيّـن مديراً لها، إلى جانب عمله مدرّساً بها. وفي هذه الفترة تجلّى المشروع الثقافيّ الكبير لرفاعة الطهطاوي؛ ووضع الأساس لحركة النهضة باللغة العربيّة، إذ ساعد فريق من العلماء والمفكّرين بترجمة متون الفلسفة والعلوم والتاريخ الغربيّ، ونصوص العلوم الغربيّة المتقدّمة، إلى اللغة العربيّة.

 وقد أنشأ الطهطاويّ أقساماً متخصّصة للترجمة في مجالات الرياضيّات والطبيعيّات والإنسانيّات، وكان من أعظم ما قدّمه للّغة العربيّة استصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربيّة (وهي العلوم والمعارف الّتي تدرس اليوم في بلادنا باللغات الأجنبيّة)، وكان قد أصدر صحيفة الوقائع المصريّة بالعربيّة بدلاً من التركيّة؛ هذا إلى جانب عشرين كتاباً من ترجمته، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها. ويرى الباحثون في هذا السياق أنّ المدارس الطبّيّة والهندسيّة والعلميّة نجحت في التدريس باللغة العربيّة مدّة ستّين عاماً متّصلة، وخرجت لنا أفضل العلماء والباحثين والمفكّرين.

غير أنّ الإنجليز، حين احتلّوا مصر عام 1883، سارعوا إلى جعل التدريس في كلّيّة الطبّ بالإنجليزيّة؛ وكان ذلك انتكاساً أصاب العربيّة وأهلها في عرين العروبة من جديد. وهكذا، وبعد ستّين عاماً من التدريس والبحث العلميّ، اتّخذت الحكومة المصريّة تحت ضغط السلطات الاستعماريّة قراراً بإقصاء العربيّة وتبنّي اللغة الإنكليزيّة فيها عام 1887 بعد أن كانت حركة التعريب للعلوم المختلفة قد سارت بخطى ثابتة، فأبدع عدد من العلماء والمفكّرين، وألّفوا كتباً حيّة أصيلة في مجال علوم النبات والحيوان والفيزياء والجيولوجيا والرياضيّات والصيدلة والنجوم والفلك.

أمّا في بلاد الشام، فقد عملت الإرساليّات التبشيريّة للدول الأجنبيّة في القرن التاسع عشر على تدريس العربيّة، وسعت إلى نشرها؛ مدفوعة بدوافع سياسيّة تهدف إلى تقويض الخلافة العثمانيّة الّتي بالغت في أواخر عهدها في تتريك العرب وإجبارهم على التخلّي عن لغتهم.

وقد تمّ إنشاء الكلّيّة السوريّة الإنجيليّة في بيروت الّتي سمّيت فيما بعد بالجامعة الأمريكيّة ببيروت عام 1866، وأنشئت بعدها عام 1883 مدرسة الطبّ اليسوعيّة، وكان الطبّ يعلّم فيها باللغة العربيّة حتّى اللحظة الّتي وقعت فيها لبنان وسوريا تحت الاستعمار الفرنسيّ، فتحوّل تعليم الطبّ في هاتين الكليّتين إلى الإنجليزيّة والفرنسيّة. وشهدت هذه الحركة التعريبيّة نشاطها الكبير في هذه الكلّيّة، فظهرت مؤلّفات المستشرقين الأمريكان، من أمثال: كرفيلوس فانديك، ويوحنّا، وجورج بوست، بمعاونة أساتذتهم العرب من أمثال بطرس البستانيّ، واليازجيّين ومنهم: ناصيف وإبراهيم، ويوسف الأسير، وأحمد فارس الشدياق، تغطّي برامج الدراسة في علوم الطبّ والفيزياء والكيمياء والصيدلة والرياضيّات والفلك وسواها بلغة عربيّة سليمة ومستوى علميّ جيّد، ولم يخطر ببال روّاد النهضة الحديثة، عرباً أو أجانب من المخلصين، التدريس بغير العربيّة، تطبيقاً لمنطق علميّ براغماتيّ بسيط ما زال هو المنطق العمليّ الصحيح اليوم.

وفي سوريا أسّست كلّيّة الطبّ في دمشق عام 1919، وكانت تدرس الطبّ باللغة العربيّة، واستمرّت فيه حتّى اليوم، على الرغم من محاولات الانتداب الفرنسيّ لفرض اللغة الفرنسيّة فيها .

ويمكن القول في هذا السياق أنّ الجهود العربيّة في المجال العلميّ، والّتي بدأت في عهد النهضة تعدّ حلقة من سلسلة متواصلة لدعم التراث العلميّ العربيّ وتطويره، "وقد واجهت هجمة استعماريّة شرسة، عصفت بتلك الجهود إثر استعمار الوطن العربيّ من محيطه إلى خليجه، هذا الاستعمار أدّى بدوره إلى قتل روح الإبداع، ومنها البذرة الأولى وهي التدريس باللغة العربيّة في المجالات العلميّة في مناطق الشام ومصر وتونس؛ ممّا أدّى إلى النزوح عن اللغة العربيّة، وهجرها كلغة تدريس، والتدريس بلغة المستعمر الأجنبيّ الإنجليزيّة في المشرق والفرنسيّة في المغرب العربيّ" (خريوش، 1997) .

وكذلك فعلت الجامعة الأمريكيّة في بيروت مدّة ثماني عشرة سنة في مطلع عملها وما فعلته جامعة دمشق في سوريا العربيّة منذ مطلع القرن العشرين، ولا تزال حتّى الآن، حيث قامت هذه الجامعة بتعريب عمليّة التدريس بشكل شبه كامل، وخرج إلى النور عدد لا يستهان به من الكتب الّتي تشكّل قواميساً للموادّ العلميّة الّتي تدرس في الجامعات وخاصّة الطبّيّة منها. (الحمود، 2005).

بدأت حركة التعريب في العالم العربيّ في عصر النهضة العربيّة الحديثة في أوائل القرن التاسع عشر، وساهمت في إحياء الثقافة العربيّة بعد زمن طويل من الركود اللغويّ والفكريّ، وكان لها إسهامات كبيرة في مسيرة التحرّر من الاستعمار وآثاره اللغويّة وغيرها، إضافة إلى الدور الفاعل لمجامع اللغة العربيّة في بعض الدول العربيّة، والإسهامات الكبيرة لبعض علماء اللغة والعاملين بالترجمة مثل أحمد فارس الشدياق وبطرس البستانيّ.

ولكنّ حركة التعريب في الوقت الحاضر تعاني من ركود، مقارنة بغيرها من دول العالم المتقدّم وغير المتقدّم غير الناطقة باللغة الإنجليزيّة مثل أرمينيا واليونان وتركيّا وكوريا والصين وأندونيسيا واليابان وألمانيا ممّن تستخدم اللغة القوميّة في التعليم الجامعيّ.

مع انحسار الاستعمار الغربيّ في البلدان العربيّة، وظهور ملامح الدولة الوطنيّة القوميّة بادرت الحكومات العربيّة إلى مواجهة قضيّة التعريب من جديد، وبدأت الجهود العربيّة تتعاظم في مجال تعريب الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. وجاء التعبير عن هذه المرحلة من جديد كبير من القرارات السياسيّة الّتي أرادت للعربيّة أن تعيد للعربيّة أمجادها بوصفها لغة الحياة والوجود. وقد ترافقت هذه الجهود السياسيّة بولادة مجاميع اللغة العربيّة في مختلف الأقطار وتقاطر الجهود والقرارات الّتي أرادت للعربيّة أن تكون لغة الأمّة والدولة والوطن.

خلاصة:

شهدت اللغة العربيّة نهضتها العظيمة ووحدتها الكبرى في التجلّيات القرآنيّة للحضارة الإنسانيّة، فاتّحدت لهجات العرب العديدة في لغة عربيّة فصيحة واحدة هي لغة القرآن الكريم. وشهدت هذه اللغة تأكيداً لحضورها وتفانيا في تأصيل قوّتها ووجودها في العهد الراشديّ العظيم.

ثمّ كان العصر الأمويّ الّذي كان عصر العروبة والتعريب بامتياز. واستمرّت العربيّة في تقدّمها في العصر العبّاسيّ الأوّل عصر الازدهار العظيم، فتحوّلت العربيّة إلى لغة الدنيا والحضارة والناس في مشرق الدنيا وفي مغاربها.

وبدأ عصر الانحسار مع ضعف الدولة العربيّة وانهيارها؛ ومن ثمّ سقوطها على يد المغول والتتار في عام 258 ، فكانت المأساة الّتي تعاظمت مع الخلافة العثمانيّة، واشتدّت مخاطرها مع الهجمة على اللغة العربيّة في العهد الطورانيّ حيث تعرّضت اللغة العربيّة لعمليّة تتريك شاملة. وهكذا بقيت اللغة العربيّة أسيرة الضعف والانحلال والإقصاء على مدى أربعمائة سنة من عهد العثمانيّين والأتراك.

وفي عصر النهضة انتفضت العربيّة من جديد بجهود النهضويّين العرب والمفكّرين،  وكانت مرحلة محمّد علي هي مرحلة النهوض العظيم للّغة العربيّة، ولكنّ هذه المرحلة لم تستمرّ طويلاً فجاء الاستعمار الغربيّ ليقلّب الموازين ليقصي اللغة العربيّة عن التعليم والحياة العلميّة؛ ومن ثمّ لينادي باللغات الأجنبيّة والإنكليزيّة لغات للمعرفة والعلم والتدريس. وما يؤسف عليه أنّ تأثير الاستعمار الغربيّ ما زال قائماً، وما زالت اللغة العربيّة قصّيّة نائية عن مقاصدها الحضاريّة والثقافيّة باستمرار هذا الاستعمار في صورة الاستعمار الخفيّ الّذي يأخذ صورة علميّة جارفة ضاربة لا تقيم للّغة العربيّة وزناً أو أهمّيّة.

***

علي أسعد وطفة

جامعة الكويت

روى هذه القصة الدكتور إبراهيم البعيز، الأستاذ الجامعي والخبير البارز في سياسات التواصل الثقافي. وهي تدور حول لحظة اكتشاف الفجوة الثقافية التي تفصلنا عن مجتمعات الغرب. يقول إنه انضم إلى فصل يدرس العلاقات الثقافية، مخصص لطلبة الدكتوراه بجامعة ولاية أوهايو الأميركية، سنة 1983. وكان الطلاب ملزمين بكتابة تقرير أسبوعي عن قراءاتهم في الموضوع. واعتاد الأستاذ أن يحدد أفضل تقرير وأسوأ تقرير، كي يلقيه صاحبه على بقية الزملاء. في أحد الأسابيع أراد البعيز أن يكتب عن تجربته الخاصة في التواصل مع الثقافة الأميركية، فكتب ما خلاصته أنه كان حريصاً على مطالعة جوانب الثقافة الأميركية، كي يختار منها ما يلائم ثقافته وقيمه العربية.

سألني الأستاذ -يقول الدكتور إبراهيم-: هل تستطيع حقاً أن تختار؟ وهل هذي هي الطريقة الأفضل في التواصل الثقافي مع العالم؟

تلك الحادثة فتحت عيني على وهم شائع في مجتمعنا، خلاصته أننا نتخيل علاقة مع العالم تشبه رحلة التسوق: تدخل إلى «السوبرماركت»، تختار ما تريد، تضعه في العربة، ثم تدفع قيمته وتخرج. وقد سألت نفسي كثيراً، وسألت الزملاء: هل نستطيع حقاً أن نطبق «موديل السوبرماركت»؟ أن نفكك ثقافة الآخرين إلى أجزاء فنختار هذا الجزء ونترك ذاك؟

يرى الدكتور إبراهيم أن الانفتاح على العالم يتطلب –من حيث المبدأ– استعداداً لتقبل التغيير، أي التخلي عن المخزون الثقافي الذي ورثناه، أو حُشيت به أدمغتنا، أو اخترناه في سياق تجربتنا المعيشية، وأن نستبدل به منظومة جديدة قادرة على إثبات أفضليتها؛ لا سيما قدرتها على استيعاب تحديات الحاضر، والوفاء بحاجات المجتمع الثقافية والحياتية. هذا يعني –إلى حد كبير– تبديل النظام الثقافي نفسه، وليس استبدال عناصر محددة. أجزاء الثقافة الأجنبية التي ربما نفكر في انتقائها ليست قطعاً صلبة قائمة بذاتها.

إنها أشبه بأجزاء رواية أو قصيدة، تصمم ضمن منظور شامل يجمعها بسائر الأجزاء. تخيل أنك أخذت فقرة من رواية فيكتور هيغو «البؤساء» وأقحمتها وسط صفحة من رواية نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل»، فهل ستندمج وتمسي جزءاً من نسيجها.

نحن نجادل كثيراً في أن الانتقاء هو الخيار الوحيد المتاح، وأننا لا نستطيع الأخذ بعناصر الثقافة والقيم الغربية، إذا تعارضت مع ثقافتنا أو قيمنا. فهل هذا حقاً هو الخيار الوحيد، وهل هو الخيار المفيد؟

قلت لصديقي الدكتور إبراهيم، إني أنظر للمسألة من زاوية أخرى: التواصل مع الشعوب الأخرى ليس من الأمور المحبذة في موروثنا الثقافي. هناك شعور عميق بالخوف من أن يؤدي التواصل إلى خلخلة الالتزام الديني؛ لا سيما إذا كان الطرف الآخر في التواصل أقوى مادياً أو ثقافياً. ونتذكر على سبيل المثال أن السفر للخارج لم يكن موضع ترحيب من جانب الزعماء الدينيين؛ بل ربما تشدد بعضهم فاعتبره حراماً، إن لم يكن لحاجة ماسة. وكذا التواصل مع القادمين إلينا من خارج إطارنا الثقافي؛ لا سيما إن كانوا غير مسلمين.

في وقت لاحق، تراجع هؤلاء؛ لأن الناس لم يطيعوهم، فطُرحت فكرة الانتقاء مما عند الآخرين بوصفها بديلاً معقولاً في تلك الظروف. وفي الوقت الحاضر يتحدث جميع الناس عن هذا النوع من التبادل، أي «موديل السوبرماركت»، باعتباره الخيار الأمثل.

حسناً، إذا كنا سنختار ما يلائم ثقافتنا وأعرافنا، فهذا يعني أن ثقافتنا وأعرافنا هي المعيار والميزان الذي نقيس عليه بضائع الآخرين. فهل نؤمن –حقاً– بأنَّ ثقافتنا وأعرافنا بلغت هذا المستوى؟.

إذا كان الأمر على هذا النحو، فلماذا نأخذ مما عند الآخرين، لماذا لا نكتفي بالذي عندنا؟.

واقع الأمر أنَّنا نأخذ بثقافة الآخرين؛ لأن ثقافتنا متخلفة، عاجزة عن استيعاب تحديات الحياة في عصرنا، فكيف يكون الفاشل معياراً يوزن به الناجحون؟.

***

د. توفيق السيف

 

استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية (السمات النحوية والدلالية) في التفاوض

في عالم المفاوضات، تلعب استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية (السمات النحوية والدلالية) دورا حاسما في تشكيل التفاعلات وتحقيق نتائج ناجحة. تشير السمات النحوية إلى الجوانب الهيكلية للغة، بما في ذلك ترتيب الكلمات وبنية الجملة والأنماط النحوية. يتم استخدام هذه الميزات في المفاوضات لعدة أسباب، بما في ذلك تعزيز الوضوح، وإدارة ديناميكيات السلطة، وإقامة علاقة، والتأكيد على النقاط الرئيسية، ونقل المعلومات بشكل فعال. سوف يتعمق هذا المقال في أهمية السمات النحوية في المفاوضات ويستكشف كيفية مساهمتها في التواصل الفعال وتحقيق النتائج المرجوة.

أولا، يتم استخدام السمات النحوية في المفاوضات لتعزيز الوضوح وتقليل سوء الفهم. غالبا ما تتضمن المفاوضات أفكارا معقدة ووجهات نظر متعددة، واستخدام بنية الجملة المناسبة وترتيب الكلمات يمكن أن يساعد في نقل هذه الأفكار بدقة. ويضمن التواصل الواضح من خلال بناء الجملة الدقيق أن كلا الطرفين يفهمان تمامًا مواقف بعضهما البعض ويتجنبان أي ارتباك أو سوء تفسير غير ضروري. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد استخدام توافق الفعل والموضوع المناسب ووضع الكلمات المناسب في التعبير عن النوايا والمطالب بوضوح، دون ترك مجال للغموض.

 تعد استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية (السمات النحوية والدلالية) ضرورية لإدارة ديناميكيات القوة في المفاوضات. ومن خلال استخدام تركيبات نحوية محددة، يمكن للمفاوضين تأكيد الهيمنة أو التأكيد على المساواة. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي استخدام الجمل الآمرة أو الأوامر المباشرة إلى إنشاء السلطة والإشارة إلى موقف قوي، في حين أن استخدام لغة أكثر مؤقتة أو مهذبة يمكن أن يدل على التعاون. يتيح هذا النشر الاستراتيجي للميزات النحوية للمفاوضين تشكيل ديناميكيات المحادثة والتأثير على النتيجة لصالحهم.

 تعتبر السمات النحوية ضرورية لإقامة علاقة وتطوير الاتصالات بين الأشخاص أثناء المفاوضات. يمكن أن تكون المفاوضات في كثير من الأحيان متوترة ومتعارضة، ولكن من خلال استخدام بعض الهياكل اللغوية، يمكن للمفاوضين تعزيز الشعور بالتفاهم والتعاون. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي استخدام لغة شاملة مثل "نحن" أو "أنتم" بدلا من "أنا" أو "أنت" إلى إنشاء هوية مشتركة وتعزيز التعاون بين الأطراف المتفاوضة. ومن خلال استخدام هذه الآليات النحوية، يستطيع المفاوضون بناء علاقة، وتسهيل الثقة، وخلق جو أكثر إيجابية يفضي إلى التوصل إلى اتفاقيات مفيدة للطرفين.

 يتم استخدام السمات النحوية في المفاوضات للتأكيد على النقاط الرئيسية وتسليط الضوء على المعلومات المهمة. غالبا ما يكون لدى المفاوضين أهداف محددة أو نتائج مرغوبة، واستخدام الهياكل النحوية المناسبة يمكن أن يساعد في لفت الانتباه إلى هذه العناصر الحاسمة. ومن خلال استخدام تقنيات مثل التوازي أو التكرار، يستطيع المفاوضون التأكيد على حججهم وإحداث تأثير دائم. تجذب هذه السمات النحوية انتباه الطرف الآخر وتعزز أهمية مواقف المفاوض، مما يزيد من احتمالات النجاح.

 تسمح الميزات النحوية للمفاوضين بنقل المعلومات بشكل فعال. غالبا ما تتضمن المفاوضات تبادل الحقائق والأرقام والمقترحات، وباستخدام تراكيب الجمل والأنماط النحوية المناسبة، يضمن المفاوضون النقل الدقيق لهذه المعلومات. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد استخدام بناء جملة واضح وموجز في تلخيص البيانات المعقدة أو تقديم المقترحات بدقة. وهذا يسهل التفاهم ويمكّن كلا الطرفين من اتخاذ قرارات مستنيرة، مما يؤدي إلى مفاوضات أكثر فعالية.

 يتم استخدام السمات النحوية في المفاوضات لإثارة الاستجابات العاطفية والتأثير على الحكم. إن الطريقة التي يتم بها تقديم المعلومات من خلال تركيب الجمل واختيار الكلمات يمكن أن تؤثر على الحالة العاطفية للطرف المفاوض الآخر. باستخدام بعض السمات النحوية مثل الأسئلة البلاغية، أو العبارات التعجبية، أو اللغة العاطفية، يمكن للمفاوضين إثارة مشاعر أو ردود أفعال معينة من نظرائهم. يمكن أن تؤثر هذه الاستجابات العاطفية على عملية صنع القرار وترجيح كفة المفاوضات لصالح المفاوض الذي يستخدم هذه التقنيات اللغوية.

وتساهم الميزات النحوية في إقناع الحجج في المفاوضات. ومن خلال استخدام تقنيات مثل استخدام علاقات السبب والنتيجة، أو الجمل الشرطية، أو الأدوات البلاغية المقنعة مثل التكرار أو الاستعارة، يمكن للمفاوضين أن يجعلوا حججهم أكثر إقناعا وإقناعا. تساعد هذه الميزات في بناء الحجج بطريقة منطقية ومتماسكة، مما يجذب العقل ويزيد من احتمال قبول الطرف الآخر للمقترحات المطروحة.

 إن استخدام السمات النحوية يسمح للمفاوضين بتكييف أسلوب تواصلهم مع السياقات الثقافية المختلفة. غالبا ما تتضمن المفاوضات أطرافا من خلفيات متنوعة، كما أن فهم ودمج السمات النحوية الخاصة بالثقافات المختلفة يمكن أن يسهل التواصل الفعال.

استراتيجيات التخاطب اللغوية في اتفاقيات كامب ديفيد (نموذجا)

شكلت اتفاقيات كامب ديفيد، الموقعة بين مصر وإسرائيل عام ١٩٧٨ نقطة تحول مهمة في العلاقة بين عدوين. وكانت هذه الاتفاقيات نتيجة لمفاوضات مكثفة بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، بتيسير من الولايات المتحدة بقيادة الرئيس جيمي كارتر. لعبت

استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية(السمات النحوية والدلالية) المستخدمة في اتفاقيات كامب ديفيد دورا حاسما في وضوح الاتفاقيات وخصوصيتها. ويعود الفضل في دقة التعابير وخصوصيتها ووضوحها لعلماء اللغة لدى الأطراف المعنية. وهو مالم يتوفر في أي اتفاقيات أخرى مماثلة وقعتها إسرائيل مع دول أخرى.

فأولا وقبل كل شيء، كان استخدام الجمل التصريحية في اتفاقيات كامب ديفيد سببا في ضمان اتباع نهج مباشر ومباشر في نقل شروط وأحكام الاتفاقيات. سمح هذا النمط من بناء الجملة بالوضوح وأزال أي غموض قد ينشأ عن استخدام أنواع الجمل الأخرى.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستخدام المكثف للجمل المعقدة في الاتفاقيات مكن من إدراج فقرات وبنود فرعية متعددة، مما يسمح باستكشاف شامل لكل قضية يتم تناولها. سمحت هذه الميزة النحوية بإجراء فحص شامل للتعقيدات التي تنطوي عليها مفاوضات السلام وتأكدت من أخذ الجوانب المختلفة في الاعتبار.

علاوة على ذلك، استخدمت الاتفاقيات استخدام هياكل متوازية في جميع أنحاء الوثائق. وقد عززت هذه الميزة النحوية وضوح الاتفاقيات من خلال عرض الأفكار والمفاهيم بشكل متماسك ومتوازن. كما أنه سهّل الفهم وخلق إحساسا بالتماثل والتناظر بين الفرقاء، مما عزز المساواة الملموسة من الناحية القانونية بين مصر وإسرائيل.

كما استخدمت الاتفاقيات أيضا استخداما استراتيجيا للجمل المشروطة لتحديد عواقب والتزامات كلا الطرفين. ومن خلال ذكر الشروط والنتائج المتوقعة، أتاحت هذه الميزة النحوية فهما واضحا للتداعيات المحتملة إذا فشل أي طرف في الوفاء بالتزاماته.

كما استخدمت اتفاقيات كامب ديفيد صيغة المبني للمجهول للتأكيد على تصرفات ومسؤوليات كل من مصر وإسرائيل. وباستخدام صيغة المبني للمجهول، تم تحويل التركيز من الفرد (الأفراد) الذي يقوم بالعمل إلى الفعل نفسه، مما يؤكد الطبيعة الجماعية للاتفاقات وتعزيز الشعور بالمسؤولية المشتركة.

الميزة النحوية الأخرى المستخدمة كانت الاستخدام المكثف لأدوات العطف التنسيقية لربط الأفكار والمفاهيم ذات الصلة. وقد كفل هذا التدفق المنطقي للمعلومات وخلق سردا متماسكا، مما يسهل على كلا الطرفين فهم الترابط بين مختلف البنود والأحكام.

و استخدمت الاتفاقيات  الجمل الآمرة لنقل التعليمات والمطالب. وقد مكنت هذه الميزة النحوية المفاوضين من التعبير بوضوح عن توقعاتهم ومتطلباتهم، دون ترك مجال لسوء التفسير أو الغموض.

كما استخدمت الاتفاقيات خاصية التكرار النحوية للتأكيد على النقاط الحاسمة والتأكيد على أهميتها. ومن خلال إعادة صياغة الأفكار والأحكام الرئيسية في جميع أنحاء الوثيقة، عززت الاتفاقيات أهميتها وسعت إلى ضمان عدم إغفال أي جانب أو إساءة فهمه.

وأخيرا، استخدمت اتفاقيات كامب ديفيد علامات الترقيم بشكل فعال، وخاصة الفواصل المنقوطة والنقطتين، لبناء وتنظيم الجمل المعقدة. وقد مكن ذلك المفاوضين من تقديم أفكار ومفاهيم مفصلة دون التضحية بالتماسك والفهم.

وفي الختام، لعبت استراتيجيات التخاطب اللغوية والصياغة القانونية (السمات النحوية والدلالية) المستخدمة في اتفاقيات كامب ديفيد دورا حيويا في نقل شروط وأحكام الاتفاقيات بين مصر وإسرائيل. إن استخدام الجمل التصريحية، وهياكل الجملة المعقدة، والتوازي، والجمل الشرطية، والمبني للمعلوم والمبني للمجهول، وأدوات العطف المنسقة، والجمل الأمرية، والتكرار، وعلامات الترقيم المناسبة، كلها ساهمت في وضوح الاتفاقيات ودقتها. وقد أدت هذه الاختيارات اللغوية معا إلى تحسين فهم الوثيقة وسهولة قراءتها، مما سهل المفاوضات الناجحة ومهد الطريق لتحسين العلاقات بين مصر وإسرائيل.

***

محمد عبد الكريم يوسف

يبحث كل إنسان منا عن السعادة، فيكد وقد يشقى كثيراً لينال منها بنصيب وافر، وفي سعيه عنها بكل مرحلة من مراحل حياته يظن إن هذه السعادة الذي يرجونها ، ولكن سرعان ما يتبخر هذا المذاق السريع للسعادة ليعاود البحث عنها مجددا في جوانب أخرى من حياته.

وكل ما أدركته حتى الآن إن مبادرتي بلعبة أو حلوى الشكولاتة لطفل تغمره بالسعادة والانتماء إليك ، وتسري ابتسامته كفلق الصبح في عيني وقلبي وروحي، فتنعشني وتمدني بالطمأنينة والغبطة وطاقة روحية تملأ الكون شرقا ومحبة.

يتزايد هذا الشعور عندما أقدم هذه الهدايا البسيطة للطفل اليتيم، واربط بيدي حانية على شعره، واحتضنه فيشعر بالأمان والاهتمام والحنان، فيرمقني بنظرة امتنان وحب تغسل قلبي من أكدار الحياة، فأصفو صفاء البدر ليلة اكتماله.

قد تتداخل المشاعر عند إنجاز كتاب لي، وأفرغ من همه، فأشعر بالراحة النفسية، أو عند نجاحي في مهمة إنسانية معينة أو رسالة أبثها عبر مقالاتي، واجد رجع الصدى الجيد حولها، فأشعر بالغبطة من وصول رسالتي للناس؛ مما يشجعني على استكمال المشوار.

ولكن فرحتي تتعمق أكثر من الإنجاز عندما يسأل عني من انقطع عني لسنوات، وعاد محملا بذكريات الطفولة وأيام البراءة الأولى ، فأشعر كأنني ولدت مجددا وإني ما زلت طفلة تلهو مع صديقاتها أسفل منزلها تسمع زقزقة العصفور، وتتابع سرب الحمام، وهو يطير بجناحيه في منظومة إبداعية رائعة.

الناس عادة في سنوات العمر الأولى تحصر السعادة في أشياء مادية كالتفوق العلمي والتميز المهني، وتحقيق الذات والشهرة والنجاح المتوالي، ورغد العيش وامتلاك المال والبيوت والسيارة، والزواج الناجح والأبناء وغيرها من متطلبات الحياة الضرورية، ولا ننكر إن إشباع هذه الأهداف يحقق قدرا من السعادة المهمة، لكنها كانت سعادة مؤقتة تنتهي لفترتها بزهو اللحظات التي نعيشها من تفوق وحب وزواج وعمل، فصرنا نبحث عن معاني جديدة للسعادة لم نشرب كاساتها بعد.

وهذا يعني إن رؤيتنا للسعادة قد تتبدل من مرحلة عمرية لأخرى، ومن معطى ثقافي واقتصادي لآخر، ومن بيئة لأخرى، لكنها النهاية تعبير عن الفرح والابتهاج، وكل ما يزرع السرور في النفس البشرية، وتتباين تعريفات السعادة من مجتمع لآخر وفقا لطبيعته الفكرية والاجتماعية والدينية، كما تتباين في مفهومها لدى الفلاسفة والأدباء كل حسب تجربته مع السعادة.

ولكن بالعموم، فإننا كثيرا ما نخلط بين السعادة والمتعة، كما لاحظ سالم العنزي في مدونته، فالمتعة قصيرة الأجل وهي شعور يخص الإنسان وحده، وتكون ردة فعل على العوامل الخارجية كما تكون مؤقتة حيث أنها تؤخذ ولا تعطى المتعة شعور يرتبط بالأخذ، وتعتمد كيميائياً على الدوبامين (مادة كيميائية تتفاعل في الدماغ لتؤثر في كثير من الأحاسيس والسلوكي).

قد تتحقق المتعة بشعور البهجة أو الفرح عند القيام بعمل يسبب المتعة. وتختلف مصادر.

المتعة من شخص لآخر، فمنهم من يشعر بالمتعة عند القراءة، ومنهم من يشعر بالمتعة.

عند الاستماع إلى الموسيقى، ومنهم من يشعر بالمتعة عند ممارسة الرياضة، وغيرها.

بينما السعادة الأطول أجلا فهي شعور يتأثر به من حولك، وقد تكون ردة فعل على إنجازات على المستوى الشخصي.

وتتميز بأنها تعطى ولا تؤخذ

السعادة شعور يرتبط بالعطاء، وتعتمد كيميائياً على السيروتونين (إحدى الناقلات العصبية، وتلعب هذه المادة دورا مهما في تنظيم مزاج الإنسان )

وترتبط السعادة برضى الإنسان عن حياته بمختلف جوانبها الشخصية والعاطفية و.

الاجتماعية والمهنية أيضاً، بما ينعكس على الحالة المزاجية للفرد تجعله أكثر استقرارا.

نفسيا.

تختلف نظرة كبار المفكرين والفلاسفة للسعادة وفقا لخبراتهم الحياتية ومعتقداتهم الدينية والفلسفية للحياة. فمارتن لوثر، يرى إن الأشخاص الذين لا يبحثون عن.

السعادة، هم غالباً ما يجدونها، لأن أفضل طريقة لنسيان السعادة، هي في البحث عنها.

عند الآخرين.

بينما ستيف مارابولي، يعتقد إن السعادة هي ليست غياب المشاكل، وإنّما القدرة على.

التعامل مع هذه المشكلات.

ويعتبر كاري جونز، أن سر السعادة يكمن في الحرية، ويكمن سر الحرية في.

الشجاعة.

ويربط البعض بين السعادة والعطاء، وليس الأخذ، مثل غاندي، الذي يرى أن السعادة تتوقف على ما تستطيع إعطاءه ، لا على ما تستطيع الحصول عليه.

وأيضا، إن فرانك، يذهب إلى اعتبار الأشخاص السعداء، هم الذين يجعلون من حولهم يشعرون بالسعادة والسرور.

هذا التعدد لمفاهيم السعادة لدى المفكرين والمصلحين والفلاسفة إنما تعكس حقيقة اختلاف السعادة من شخص لآخر حسب تركيبته الجينية والميول الوراثية وخبراته.

الحياتية وتربيته ومعتقداته، وطرق التكيف مع الشدائد والمحن.

فقد يجد البعض السعادة في الأشياء البسيطة، بينما يحتاج البعض الآخر إلى تجارب أكثر.

تعقيدًا ليشعروا بالسعادة.

وقد تختلف نظرتنا إلى السعادة بحسب العمر والجنس والاختلافات المعرفية ومستوى القدرات والمهارات العقلية ومع هذا قد يكون متوسطو الذكاء ومحدودي المعارف أكثر سعادة من المفكرين والفلاسفة، لأنهم يتعاملون مع الحياة ببساطة ومع مشكلاتها بتلقائية كأنها سحابة صيف، وتمر بسلام مما يشعرهم بالطمأنينة.

ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ وأخي الجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ.

تتباين النظرة إلى السعادة بين شعوب الشرق وشعوب الغرب، فبينما يعتبر الغرب عناصر الثروة أساسا للسعادة، فإن النظرة الشرقية للسعادة تتداخل فيها مقومات أخرى للسعادة كالعلاقات والاجتماعية والأسرية.

والروابط البشرية القوية والعلاقات الشخصية مهمة لتحقيق السعادة في مناطق أخرى من العالم مثل سويسرا وأيسلندا وأستراليا، تمامًا ودول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.

أما في المنظور الصوفي الإسلامي فتحقق السعادة عندما ينجح الإنسان في تحطيم أصنامه الشخصية من غرور وكبر وطمع وجشع وأنانية وتملك، ويتحرر من خوفه ألا من الخالق العظيم، وهنا يحدث له التخلي عن حقارة الدنيا، وحقارة نفسه الأمارة بالسوء، فيدخلا مرحلة التحلي وهي التحلي بالصفات الأخلاقية والروحية ثم مرحلة التجلي حيث يتجلى فيه نور الحق، ويرى الدنيا على حقيقتها لا تساوي جناح بعوضة، فيسلم قيادته لربه، ويشعر بالرضا والطمأنينة والسلام الداخلي مهما كان الوضع الذي يعيشه.

ختاما، فإننا بحاجة إلى تقوية روابطنا الإنسانية والأسرية الدافئة التي كانت وستظل مبعثا على السلام والأمان والسعادة، وأن نتعاون جميعا في خلق حالة جماعية من السعادة، وإن نبث روح الدعابة والفكاهة بيننا لنتجاوز الطاقات السلبية التي قد تصيبنا من جهد العمل والطموح الشاق أو الأمراض والفشل وغيره، ولنتواصل مع أدياننا السماوية والتي كرست لتبادل البشر المحبة فيما بينهم كما يتبادلون المنافع الدنيوية - فلحظة حب صادقة كفيلة بإزالة جبال الأحزان من صدورنا وزرع ياسمين الفرح والسعادة في قلوبنا وقلوب محبينا، فالحب بين البشر كفيل بخلق فردوس السعادة على كوكبنا الأرضي .

متع الله الجميع بنعمة الرضا والعطاء وإدخال السعادة الغامرة على قلب محزون.

وفي وجهة نظري أيضا إن السعادة هي الرضا والقناعة بطريقة لا تعيق الطموح والسعي إنما الرضا مهما كانت نتائج العمل والاجتهاد سواء على الصعيد الشخصي أو المهني أو العام.

والسعادة هي التناغم بين العقل والروح والقلب والجسد، وجعل حالة من التوافق والصداقة بينهم، حتى لا يتنافر كل ما بداخلك، ويدخلك في صراعات تقلق سلامك الداخلي وانسجام أركانك.

كما إن السعادة برأيي هي نابعة من النفس الداخلية فالكثير من الأشخاص يملكون كل مقومات السعادة من نجاح واستقرار مادي وأسرى ولكن لا يشعرون بنعم الله عليهم بسبب الأمراض التي تصيب قلوبهم وأرواحهم فهنا يجب علاج النفس وعقد جلسات صلح بين الروح والجسد الذي يتعامل مع المحيط بحواسه الداخلية والخارجية.

في الفترة التي كنت أعيش بها في بلد أجنبي كانوا دائما يحثونا على تعلم الاعتماد على النفس وتعلم العيش منفردين، حتى لا تكون سعادتنا مرتبطة بأشخاص ومعتمدة عليهم.

ولكن بطبيعة تربيتنا ونشأتنا كشرقيين لا يمكن أبدا فصل أنفسنا عن أهلنا وأسرتنا فنحن كائنات اجتماعية أسرية نفرح باللمة الحلوة، وتجمع الأهل والاصدقاء، ولا نستطيع العيش بمفردنا ونحن أيضا كشعوب تتسم بالعاطفة والإنسانية لا يمكننا أن نشعر بالسعادة إذا أحد أفراد أسرتنا حزين أو مريض، بل نتعاطف ونتأثر بمن حولنا بدليل شعورنا بالحزن على أهلنا في فلسطين واليمن وسوريا والسودان، وقبلها العراق وليبيا ولبنان

نحن شعوب نفقد السعادة إذا رأينا طفلاً يشعر بالبرد أو امرأة مسنة مكسورة القلب على ابنها الشهيد أو رجل جائع أو أسرة بلا مأوى.

نحن شعوب تفقد سعادتها إذا ما رأت تراجعاً في القيم والمبادئ والسلوك والأخلاق والعلم والثقافة.

نحن تعلمنا أن نحمل الهموم، فلم تكن همومنا الشخصية همنا الوحيد إنما نحمل في قلوبنا هموم أمة بأكملها.

نحاول أن نسترق بعض السعادة وبعض الوقت، ونرفه عن أنفسنا ولكن.

أقول كما قال شاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار

فبلادكم بلدي وبعض مصابكم همّي وبعض همومكم الأمي

فداركم داري وبعض تلادكم هو طارفي ومناكم أحلامي

وكما لكم هدف فان لمثله سعيي وغايتي وصبوتي وهيامي

***

سارة طالب السهيل

تطنب وتسهب أدبيات العلوم السياسية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لاسيما المباحث المتعلقة بالعلاقات والقانون الدوليين، في التشديد على مراعاة مسائل (الشرعية) في العلاقات الدولية من حيث وضعها الموضع الذي يتناسب وأهميتها في قضايا حقوق الإنسان وسيادة الدول، التي يترتب على الأطراف المعنية أخذها بنظر الاعتبار كلما دعت الضرورة الى ذلك. ولعل من أبرز المسائل التي تعنى بها هذه (الشرعية) الدولية كونها تمارس (كبحا") سياسيا" و(تأنيبا") أخلاقيا"، حيال أية بادرة تنم عن نزوع الدول الكبرى التقليدية ليس فقط لتوسيع رقعة نفوذها السياسي وتمدد ذراعها العسكري وبسط سلطانها الاقتصادي فحسب، بل وكذلك للهيمنة على مقدرات شعوب العالم الضعيفة والمغلوبة على أمرها خلافا"لمصالحها وضدا"عن إرادتها.

ولما كانت الدول الكبرى التي خرجت من أتون الحرب العالمية الثانية منتصرة هي من وضع أسس وشروط هذه (الشرعية)، فقد استمرت المبادئ والقيم والأعراف المقترنة بها مرهونة بأهداف ومصالح تلك الدول، بصرف النظر عن كونها تتعارض أو تتناقض مع أهداف ومصالح بقية الأعضاء والشركاء المنتمين لذات المنظمة الأممية من عدمه. أي بمعنى ان ما تعتبره الدول المنتصرة المؤسسة (شرعيا") بالنسبة لها، ليس مهما"ولا ملزما"أن يكون شرعيا" بالنسبة لباقي دول المنظمة العديمة القوة والضعيفة والإرادة والعكس بالعكس. وعلى هذا الأساس، فقد حملت هذه (الشرعية) المزعومة – منذ ولادتها خاصية (الازدواجية) في التعاطي مع الأحداث الإقليمية والدولية الساخنة، كلما استدعت الضرورات السياسية والعسكرية الملتهبة في أرجاء العالم اللجوء إليها والاحتكام عندها لتجريم المعتدين وإنصاف المعتدى عليهم.

والحقيقة لو قارنا بين دول العالم المختلفة لجهة الاستعانة بما يسمى ب(الشرعية) الدولية لفض المنازعات التي لا تفتأ تتفاقم في جهات العالم الأربع، سنلاحظ ان خطابات الدول الكبرى – القوية قلما تحتوي على هذه المفردة (المطاطة) والملتسبة إلاّ في حالات نادرة، وتكاد تكون مقتصرة على حالة (واحدة) تتمحور حول تبرير سياساتها العدوانية وتسويغ مطامعها الاستعمارية، التي لا تني تتوسع وتتمدد عموديا"وأفقيا"باتجاه جغرافيات بلدان العالم (الثالث) أو (الرابع)، وخصوصا"تلك التي لا تزال شعوبها ترسف في أغلال التخلف الاجتماعي والتأخر الاقتصادي والتراجع الحضاري. هذا في حين نجد ان خطابات الدول الصغرى – الضعيفة لا تكاد تخلو من تلك (العبارة / الملاذ)، حيث ينظر إليها كطوق نجاة من قبل صناع القرار في هذه الدول المستباحة فضلا"عن شعوبها، وذلك لإدراكها استحالة تغيير موازين القوى لصالحها على صعيد العلاقات الدولية نتيجة لعدة أسباب ؛ منها تبعية إرادتها السياسية، وارتهان قرارها السيادي، وانعدام تأثيرها الاستراتيجي. هذا بالإضافة الى استشراء مظاهر تخلفها في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية. 

وعلى الرغم من كل الدلائل والمؤشرات التي يكفي الاحتكام الى واحد منها فقط لإقناع كل ذي بصيرة، ان ما يسمى ب(الشرعية) الدولية ليست سوى المرادف لمعنى (القوة) و(الاستطاعة) التي بحوزة الدول الكبرى، حيث توفرها على الإمكانيات الفعلية وليس الافتراضية – كما يتجلى ذلك في سياسات العالم الغربي حيال الهمجية الصهيونية في غزة الآن - لفرض الشروط التي تريد وإملاء القرارات التي ترغب. نقول على الرغم من كل ذلك، فان حكومات الدول العنينة والمخصية قلما تفكر في إيجاد صيغة مناسبة أو وسيلة ملائمة، لا تجنبها فقط الوقوع في دائرة الاستهداف المباشر وغير المباشر من لدن ضواري الاستعمار القدامى والجدد وما ينطوي عليه من احتواء واستتباع فحسب، وإنما يضاعف وزنها الاعتباري في مضمار العلاقات الدولية، حيث التزاحم الجيوبولتيكي والتنافس الاقتصادي والصراع السياسي على أشده !. 

***

ثامر عباس – باحث وكاتب عراقي

 

سارت الرُّكبان بما كتبه ابن خلدون (ت: 808هجرية) بخصوص العرب، ونقل عنه آخرون، وكأن الجميع جعلوا مِن الرّوايتين، التي سأل في إحداهما سُليمان بن عبد الملك (ت: 99هجريَّة)، عن فقهاء الأمصار، ولم يظهر منهم غير عربي إلا واحد، فقال: «كادت تخرج نفسي ولا تقول واحدٌ عربيّ» (ابن العديم، بُغية الطَّلب). أمَّا الأخرى: استفسار الأمير العباسيّ عيسى بن موسى (ت: 167هجريّة)، وكان متعصباً للعرب، عن الفقهاء، ولكثرة ما ذُكر بينهم مِن غير العرب، يقول الرّاوي: «رأيتُ فيه الشَّر، فقلت: إبراهيم، والشّعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان. قال: الله أكبر! وسكن جأشه» (ابن عبد ربه، العقد الفريد).

علينا الحذر مِن الرّوايات، إذا أخذنا بالاعتبار تصاعد الشّعوبيّة آنذاك، الحركة الثقافية المعروفة، التي جاءت رداً على التّعصب الأمويّ ضد الموالي، والتعصب المذكور يُبرر بكثرة الثَّورات، التي اشترك الموالي فيها، كحركة ابن الأشعث، التي كادت تُطيح بالأمويين (80هجريّة).

يُعد ناجي معروف (1910-1977) مِن كبار المؤرخين العراقيين العرب، طالما عرفنا اسمه على أغلفة كتب التّاريخ في المدارس، كان مؤرخاً فذاً، لا يلوي أعناق الحقائق مسايرةً لاعتقاده. تجرأتُ عليه في كتابي «المباح واللامباح» (فصل تغييب الألسن)، الذي صنعته في نهاية التسعينيات، ناقداً ناقماً، تحت ضغط معاداة «البعث» بالعراق، ولم أكن معتدلاً ولا علميّاً في ما كتبته. لكن بعد زوال المؤثر، رأيت كتابه «عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجميّة في المشرق الإسلاميّ» (ثلاثة أجزاء)، وقارنته بمقدمة ابن خلدون، وجدتُ عنده الإنصاف للعربيّ وغير العربيّ. فكان ابن خلدون قد صنف النَّاس على الألقاب، ومَن تابعه في ذلك، فمثلاً جعلوا أبا فرج الأصفهاني (ت: 356هجرية) صاحب «الأغاني» غير عربي، والرّجل كان أموياً مروانياً.

كتب معروف راداً على ابن خلدون: «زعم العلامة ابن خلدون أنَّ حَملَة العِلم في الملة الإسلاميَّة، أكثرهم العجم، وعقد في مقدمته الشّهيرة فصلاً خاصاً، شرح فيه تلك النَّظرية، وجاء بعده حاجي خليفة، المتوفى 1067(هجرية)، فنقل نظرية ابن خلدون بحذافيرها، وأودعها كتابه «كشف الظنون»، دون أن ينسبها إلى ابن خلدون... بل عدوا كلَّ مَن انتسب إلى مدينة أعجميّة أعجميَّاً» (عروبة العلماء). أرّخ ناجي معروف لأكثر مِن ثلاثمئة عالمٍ وفقيهٍ عربي، اشتهروا بنسبتهم لمدن أعجميّة، لكنهم كانوا عرباً.

ماذا وراء تغييب عروبة العلماء، بعد صعود غير العرب إلى مراكز السُّلطة، في العهد العباسيّ، أو دوافع منع غير العرب، في الزَّمن الأَموي، مِن إمامة الصّلاة مثلاً أو القضاء، مثلما قرر الحجَّاج بن يوسف الثَّقفي (ت: 95 هجريّة)، غير التّعصب السّياسّي والاجتماعيّ؟! فكلّ تعصب يولد آخر، وإذا لم تؤخذ الإنسانيَّة، أصلاً في المعاملة، «ستبقى طويلاً هذه الأزمات» (الشطر للجواهري). نعم فند معروف ما جاء به ابن خلدون، واعتقده غيره، ببحث مرموق، لكنه جعل الإمام أبا حنيفة النّعمان (ت: 150 هجرية) عربيّاً أيضاً، ربّما رداً لكثرة ما أشيع عن فارسيته، والنُّعمان مع تعظيمه لإمامة قريش (النَّاشئ، الكتاب الأوسط)، لم يكن عربيّاً ولا فارسيّاً، إنما كان عراقيَّاً، مِن نواحي بابل، ويغلب على الظّن مِن العراقيين القدماء كالسريان.

لكننا قد نتلمس لمؤرخنا عذراً، في اعتبار أبي حنيفة عربيَّاً، وهو العذر الذي جعل فيه ابن عساكر (ت: 571هجريَّة)، الإمام الشَّافعيّ (ت: 204هجريّة) دمشقياً، فقال: «اجتاز بدمشق أو بساحلها حين ذهب إلى مصر» (تاريخ مدينة دمشق)، كي يدخله الكِتاب، فأفرد لترجمته مجلداً، والشَّافعيّ لم يصل دمشق ولم يمر بها. كذلك معروف عربيّ المحتد والهوى، ويجلُ أبا حنيفة، فأراد له أن يكون عربيّاً.

أقول: ابن خلدون على ثقله، إلا أنَّ نظريته هذه كانت خفيفة، لم يتحر لها أصول مَن وصفهم بالأعجميّة، على خلاف معروف ظهرَ سمتاً في تأليفه.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

إن الشعبية الهائلة لكرة القدم فرضت عليها أن تكون أكثر من مجرد رياضة ممتعة، فقد أصبحت مجالاً للاستثمار في العديد من المجالات مثل السياسة والاقتصاد والسياحة وغيرها، ومن أهم ما تُستخدم كرة القدم فيه هو اعتبارها وسيلة قوّة ناعمة لتحقيق مصالح الدولة.

يعتبر المفكر الأمريكي جوزيف ناي أول من نادى بمفهوم القوة الناعمة، ويراها بأنها "القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال. وهي تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما ... فقد يتمكن بلد ما من الحصول على النتائج التي يريدها في السياسة العالمية لأن بلدانا أخرى معجبة به ... فإن أقنعتك بالرغبة في أن تفعل ما أريد فعندئذٍ لن أضطر لاستخدام الجزر والعصا لأجعلك تفعله."، ويرى ناي أن الدول قادرة على تحسين صورة سياستها الداخلية والخارجية من خلال استخدام القوة الناعمة، إذ أنها تؤثر على السلوك الاجتماعي.

إن الرياضة تلعب دورا مهما في تحقيق أهداف القوة الناعمة، إذ أن الألعاب الرياضية هي استراتيجية توظفها الدول في علاقاتها الدولية لبناء الهوية وإثبات التفوُّق، فقد أدركت الحكومات الأهمية السياسية للنجاح الرياضي في تعزيز جاذبيتها في مختلف المجالات مثل تحسين علاماتها التجارية.

إن الدبلوماسية الرياضية الموجهة نحو الجماهير تختلف عن الدبلوماسية الرسمية التي تركز على السياسات الوطنية وتوجَّه عادةً لصانعي القرارات في الدول الأخرى. على سبيل المثال استثمرت ألمانيا خلال فترة تنظيما لكأس العالم عام 2006م لهذا الحدث العالمي من أجل تصحيح صورتها السلبية المرتبطة بالحرب العالمية الثانية، وركزت المملكة المتحدة خلال استضافتها لأولمبياد عام 2012م على جذب الأعمال والتجارة وتنشيط منطقة "إيست إند" في لندن.

بذكر كأس العالم، فإن تنظيمه يترتب عليه التقدير الدولي للدولة المضيفة والاهتمام الإعلامي العالمي بها، حيث تصبح الدولة المضيفة محط أنظار العالم الذين يزورون أو يشاهدون مباريات بلدانهم، إلى جانب زيادة الثقة والشعور القومي لدى مواطني الدولة اتجاه حكومتهم، مما يحسّن الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها.

ولا يُمكن القول إن الدوافع الاقتصادية هي وحدها من يجعل الدول تسعى لاحتضان المنافسات الرياضية، بل هناك اعتبارات أخرى. إذ أن هذه المناسبات هي أدوات لإثبات المكانة الإقليمية والدولية بالنسبة للبلد المستضيف، ووسيلة لزيادة ظهوره في المجتمع الدولي وتقديم الدولة نفسها على أنها لاعبٌ دوليٌّ له وزنه ومكانته.

في الجانب المقابل، تسعى الدول لاستخدام الألعاب الرياضية الدولية والمشاركة في المنافسات الخارجية لدعم صحة توجهاتها الأيديولوجية والسياسية وتحويل الانتصار في المجال الرياضي إلى انتصار في المجال السياسي، مما يدعم العقيدة السياسية للحكومة. لذا تصوِّر كثيرٌ من الدول نجاحاتها الرياضية كأنه نجاح لمنهجها الأيديولوجي وانعكاس لقوتها السياسية، حتى أصبح المشاركون في المنافسات الرياضية-في بعض الأحيان- أبطالا قوميين يساهمون في دعم المكانة السياسية للدولة.

فعلى سبيل المثال، وظفت قطر كرة القدم أداةً فعّالة باعتبارها قوة ناعمة، وسعت جاهدة للحصول على تنظيم كأس العالم الأخير الذي شهدناه جميعا، وقد زاد النجاح المبهر لهذا التنظيم من ظهور قطر في الساحة الدولية، بالإضافة لمحاولة قطر تمرير بعض الرسائل الأخرى المتعلقة بواجباتها القومية من خلال كأس العالم، مثل تخصيص مساحة في احتفال المباراة النهائية للشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي ليلقي كلمة فيها مذكِّرًا بالقضية الفلسطينية، وكما يشير بونيفاس في مقاله المنشور على الجزيرة (الدبلوماسية الرياضية لدولة قطر والقوة الناعمة) أن صورة قطر قد تغيرت في فرنسا بعد شرائها نادي "باريس سانجرمان" حيث أصبح اسم قطر يتردد كثيرا في الإعلام الفرنسي.

مثال آخر يُمكن طرحه هو البرازيل التي تعتبر احدى الدول التي تستثمر بشكل كبير في كرة القدم من أجل الرقي بمكانتها الدولية وتطوير قوتها الناعمة على المستوى الدولي، فمن خلال تسويق النموذج البرازيلي القائم على التعدد الاثني المندمج، تحاول البرازيل إظهار نفسها بشكل أكبر، إضافة لذلك فإن اللاعبين العالميين البرازيليين يتصرفون في أحيان كثيرة كأنهم سفراء لدولتهم كما حدث مع بيلي وزيكو ورونالدو ورونالدينيو إذ حاولوا إعطاء صورة عن بلادهم تتعلق بصناعة النجوم العالميين.

إضافة لذلك يقوم الإعلام الرياضي بدور بارز في إظهار مكانة الدولة كذلك، فعلى سبيل المثال، أصبحت قناة بي إن سبورت القطرية منبرا إعلاميا رياضيا كبيرا وبارزا له شعبية إقليمية ودولية، فضلا عن صنع بروباجندا مضادة في حال تم توظيف الرياضة من أجل تحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية، كما حدث في كأس العالم الأخير عندما حاول المنتخب الألماني تشكيل ضغط من أجل مصالح معينة من خلال إصراره على دعم مجتمع الشواذ عندما وضع اللاعبون أيديهم على أفواههم.

الخلاصة أن كرة القدم تعتبر وسيلة سياسية ناعمة لا يُمكن الاستغناء عنها، لذلك تسعى الحكومات لاستغلالها من أجل دفع مصالحها سواء من خلال إبراز صورتها على الساحة الدولية أو تشكيل ضغط ناعم على الحكومات الأخرى وصناعة بروباجندا سياسية أو بناء وتحسين علاقات مع الدول، لذا فلا معنى لقول القائل أن لا علاقة بين السياسة وكرة القدم، فهذا قول رومانسيٌّ في أحسن الأحوال، والرابح من نظر للواقع وحاول استغلاله.

***

جاسم بني عرابة

 

في ضوء التطورات المتلاحقة التي تشهدها وسائل الاعلام وخاصة في المجال التقني وتعدد الادوات المستخدمة في عالم الصحافة والاعلام، وسيل المعلومات والاخبار التي تشهدها الساحة واهمية ايصال المعلومة بدقة ووضوح الى المتلقي، وفي خضم المعلومات المظللة التي تسوق للقارئ والمستمع والمشاهد وضرورة الحرص على تأمين بيئة نظيفة لإنتقال الخبر والمعلومة أضحت المقابلة الصحفية واحدة من اهم الفنون الصحفية التي تؤمن صلة المتلقي او المواطن بمصدر الخبر او المعلومة واطلاعه المباشر على صحة وحقيقة الحدث بتجرد ونزاهة، وهذه بلا شك من اهم واجبات الصحفي المحايد.

لكن المقابلة الصحفية ذاتها تطورت بشكل كبير وبات اعتماد الصيغ القديمة و البالية والقاء الاسئلة التقليدية، المعروفة سلفا اجابتها والتي لا تسبر غور الحدث، وتحويل موضوع المقابلة الى مجرد تفصيل ممل للخبر، شكلا غادرته الصحافة ونحن على اعتاب الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين لهذا فإن الالمام بالمقومات الناجحة للمقابلة الصحفية في محتلف الوسائل المتاحة (الصحف، القنوات التلفازية، الاذاعات، ومنصات السوشيال ميديا وغيرها) يكتسب أهمية بالغة لتقديم المعلومة الخالية من الزيف والتضليل والتشويش على قيم المجتمع وقناعات الناس.

أسس المقابلة الناجحة

من هذا المنطلق فإن على المقابلة الصحفية أن تحقق الامور الاساسية التالية لتكون فعالة وناجحة:

أولا – ابتداء وقبل إجراء المقابلة علينا ان نحدد الهدف منها هل هي مقابلة الوصول الى المعلومات والحقائق العامة لحدث ما من الضيف، أو التحقق من صدقيتها بعد ان تناولتها الاخبار بطرق مختلفة ومتناقضة .

ثانيا - يجب اشعار الضيف قبل البدء بالمقابلة بالحيادية والابتعاد عن اسلوب الاستفزاز والاستجواب وكأن المحاور يضع الضيف في موضع الاتهام المسبق وهناك البعض من الصحفيين او معدي البرامج يتجاوزون على الضيف ياسلوب بعيد عن اللياقة والاحترام، ولا شك ان هذا الاسلوب يفقد المقابلة الحياد ولا يمكن تحقيق الهدف منها.

ثالثا - يجب احترام وقت الضيف والمتلقي من خلال اعداد اسئلة ذات علاقة مباشرة بالموضوع وعدم تشتيت الموضوع من خلال طرح قضايا لا تمس المحور الرئيسي للمقابلة او احراج الضيف باسئلة لا تخص اختصاصه وعلاقته بالحدث الاساسي للمقابلة ويفضل ان تكون الاسئلة قصيرة وهادفة.

رابعا - لكي تكتسب المقابلة اسسها الصحيحة يجب الحرص على الاعداد المسبق لها ومن ثم اختيار الضيف ذو الاختصاص المباشر بالحدث ومن ثم التنفيذ الجيد الذي يعكس موهبة وقدرة المحاور والمامه بحيثيات الموضوع.وهذا يدعو المحاور الى استضافة اشخاص قد لا يكون المسؤول الاول في المؤسسة او الدائرة ذات العلاقة.

خامسا: من الضروري الاهتمام بالمظهر الملائم لكل مقابلة واعطاء الموضوع العناية التامة

سادسا - من اسرار المقابلة الناجحة اكمال الاسس الاتية:

1. توفير خزين جيد من المعلومات حول موضوع المقابلة.

2. المعرفة التامة بالشخصية التي سيتم اجراء المقابلة معها ومدى تخصصها في الموضوع.

3. التأكد إن كانت هناك مقابلات سابقة اجريت حول الموضوع وما المسائل التي تجاهلتها وتخطي هذا النقص في المقابلة الجديدة.

4. ضرورة انتقاء الوقت المناسب لأجراء المقابلة وخاصة فيما يتعلق بأحداث الساعة وعدم مرور وقت طويل عليها بحيث لا تنال الاهتمام والمتابعة من الناس .

5. اشعار المتلقي والضيف معا بالاهتمام والجدية بموضوع المقابلة من خلال الاعداد الجيد لها وامتلاك المحاور لفيض من المعلومات المتعلقة بالموضوع المستهدف بحيث لا يمرر الضيف معلومات مضللة او ناقصة او اخفاء حقائق متصلة بالحدث..

6. الانصات الجيد للضيف واستنتاج اسئلة جديدة من خلال النقاش لالقاء المزيد من الضوء على موضوع المقابلة ومحاولة عدم قطع حديث المحاور قبل انتهائه من الجواب الا اذا خرج عن موضوع المقابلة وحاول توظيف المقابلة لاغراض دعائية او استعراضية

7. لكي يؤكد الصحفي الجيد إلمامه الجيد بالموضوع وجديته ومتابعته فعليه تذكيرالضيف بما قاله سابقا عن الموضوع حتى يستطيع ترتيب سلسلة افكاره.هذا ما قلته في مقابلة سابقة لك فماذا تغير؟”.

نقاط يجب اخذها بنظر الاعتبار

من الضروري ان يأخذ الصحفي بنظر الاعتبار النقاط التالية خلال المباشرة بالمقابلة:

1. عدم تقديم اجوبة ضمنية مع الاسئلة لان ذلك يؤدي الى الغاء اهمية ودور المحاور بل ويشعر الضيف بأن مشاركته صورية وغير ذات جدوى.

2. ضرورة اعتماد لغة مفهومة بعيدة عن المصطلحات المعقدة وغير المعروفة لدى عامة الناس وتوضيح معان ودلالات بعض المصطلحات التي لابد منها لهم لشدهم الى المقابلة .

3. الاهتمام بوحدة الموضوع ومحاولة تكثيف السؤال والجواب بدقة بحيث لا يترك مجالا للاافة او التلاعب عند تجزئة المقابلة ونشر محاور منها في وسائل السوشيال ميديا مثلا.

4. الاهتمام التام بمنطوق الايات القرانية او احاديث الرسول صلى الله عليه وسلم او الاشارة الى التواريخ والاحداث المهمة واسماء الشخصيات وغيرها.

بعد نشر المقابلة

يجب ان لا ينتهي مهمة الصحفي مع انتهاء نشر المقابلة فهناك اسس عليه متابعتها للارتقاء بأدائه الصحفي وسمعته ومكانته لدى متابعيه ومنها

1. اهمية مراجعة نص المقابلة المحاور – الاسئلة – الارقام – المفاهيم والمصطلحات الوثائق والمصادر التي تم الاستناد اليها لضمان عدم تكرار الخطأ إن وجد.

2. متابعة صدى المقابلة وردود الفعل على الاصعدة كافة والاستفادة من الانطباع الايجابي الذي حققته لخلق قرص مقابلات ناجحة اخرى .

***

محمد حسين الداغستاني

كان الإصلاحي ادموند بيرك (1729-1797) يبدو كأنه رجلا متناقضا ومثيرا للقلق. فمن جهة، هو اعتبره البعض "ابو سياسة المحافظة"، ومن جهة اخرى، هو كان اصلاحيا متحمسا. لكن كلا النزعتين – المحافظة والاصلاح – ليستا متناقضتين اذا كانت هناك أشياء في المجتمع يجب الحفاظ عليها وأشياء اخرى بحاجة للتغيير. فمثلا، اذا كانت في المجتمع ديمقراطية فاعلة، فان المواطنين المتحمسين يجب ان يكونوا نشطين في الحفاظ عليها كما في الاصلاح. والاصلاح يجب ان يكون عملية حذرة تحسّن الديمقراطية بدلا من إضعافها. وحتى عند تحديد العيوب، يجب ان نعترف بالصفات الايجابية. ادموند بيرك جسّد هذه المحاولة في التوازن بين الغرائز الاصلاحية والمحافظة.

وُلد بيرك في دبلن من ام كاثوليكية واب محامي في كنيسة أيرلندا. هو اتّبع أنجليكانية أبوه بينما اخته اتبعت كاثوليكية امها. يرى بيرك ان الدين والطبقة الراقية أساسيان للحضارة، لكنه لم يكن طائفيا، ودعم قانون الإنعتاق الكاثوليكي catholic Relief bills للفترة 1778-1791. كان بيرك عضوا في البرلمان البريطاني من عام 1766 الى 1794، وترك بصماته هناك كخطيب ومنظّر سياسي. حاليا يتذكره الناس لعمله (تأملات حول الثورة في فرنسا، 1790)، وهو عمل محافظ كُتب كرد فعل لراديكالية الثورة الفرنسية التي حدثت قبل ذلك بسنة.

كمصلح هو نجح بقيادة التغيير وتقليص السيطرة الملكية على الحكومة، ودعم قضايا خارجية مثل الثورة الامريكية، واستقلال اكبر لآيرلندا، وممارسة أفضل لحكم شركة الهند الشرقية للهند. سنعرض لحجج بيرك في الحذر المحافظ، ونتوصل من هذه الحجج الى مبادئ عامة للاصلاحات اليوم.

طبيعة سياسة المحافظة لدى بيرك

تدور محافظة بيرك حول إعجابه بالنظام السياسي البريطاني. قياسا بالانظمة السياسية الاخرى في زمانه، حازت بريطانيا على مزايا برلمان راسخ ونشط، وحرية أكبر للصحافة، وإنفتاح على الإصلاح. الكثير من تلك القضايا كان يتطلب المحافظة في السياسة البريطانية، لذا كانت سياسة المحافظة منطقية الى حد ما.

ولو نظرنا الى افكار بيرك في العديد من أحاديثة وكتاباته، يمكن لنا ربط اثنين من حججه على اساس من تلك الرؤى. هاتان الحجتان يمكن استخلاصهما من كتبه (تأملات في الثورة في فرنسا، 1790)، وكلامه في لجنة التحقيق في حالة التمثيل النيابي عام 1782، ونداء من اليمين الجديد الى القديم (1791). الحجة الاولى تقترح انه بالنظر للتطور المعقد والبطيء لأي مجتمع مستقر، فمن الصعب جدا التدخل الثوري الناجح في المجتمع عن طريق الثورة. الحجة الثانية تحذّر من المخاطر العالية عندما يتعلق الأمر بالبدء بتغيير اجتماعي كبير. كلا الحجتين توازنان بين عدم اليقين ومخاطر التغيير مقابل ما يراه بيرك "افتراضا ثوريا". لذا فان تركيز بيرك ينصب اولا على مخاطر التدخل في الدستور بدلا من التركيز على الشروط الجيدة للاصلاح.

يمكن تلخيص الحجة الاولى كما يلي: إحداث تغيير اجتماعي ناجح هو امر صعب بسبب:

1- المجتمع معقد ويصعب فهمه

2- المجتمع يتطور ببطء ونتائج التغييرات المؤسسية تبرز فقط بمرور الزمن.

3- التدخل يتطلب "مفكرين عميقين" وليس محامين روتينيين متواضعين.

بكلمة اخرى، التغيير الاجتماعي الجيد يتطلب اناس حكماء بدلا من رعاع بلا حكمة، كاولئك الذين بدأوا الثورة الفرنسية. بيرك يقارن ساخراّ تعقيدية المجتمع بتعقيدية الساعة:

"الانسان الجاهل، الذي هو ليس أحمق بما يكفي للتدخل في الساعة، هو مع ذلك واثق تماما لتفكيكها الى قطع متناثرة ثم وضعها مجتمعة حسب رغبته، ماكنة أخلاقية من شكل آخر من حيث الاهمية والتعقيدية، مركبة من عجلات ونوابض وموازين وقوى مضادة ومتعاونة".

لهذا السبب، ينصح بيرك بالتردد قبل التدخل بمثل هكذا تجمع معقد كالمجتمع. لكن المجتمع ليس فقط معقد جدا، انه يتكون عبر فترة طويلة من الزمن: "انه صُنع بظروف غريبة ومناسبات وأمزجة وميول وعادات اجتماعية مدنية وأخلاقية للناس، الذين يكشفون عن أنفسهم فقط عبر فترة زمنية طويلة". اذا كان تطور النظام السياسي بطيئا، فان محاولات تحسين عمله يجب ان تتم بنفس الطريقة عبر اطار زمني أطول.

الإصلاح التدريجي البطيء هو الوسيلة الملائمة الوحيدة لتطور الدولة، طالما ان نتائج أي تغيير قد لا تكون واضحة في البداية: مايبدو جيدا في البدء يتضح انه سيئ والعكس صحيح. وكنتيجة لصعوبة التغيير الاجتماعي الجيد، نحتاج الى اكثر من "تصرفات بسيطة او توجيهات للسلطة". في الحقيقة، نحن نحتاج الى "مفكرين عميقين" وليس الى نوع من المحامين الضعفاء الذين وُجدوا في برلمان الثورة الفرنسية:

"الدستور البريطاني لم يكن ناجحا بعدد من الرجال المتعجرفين مثل برلمان المحامين الضعفاء في باريس .. انه نتيجة أفكار عدة أذهان في عدة عصور. انه ليس بسيطا، ليس شيئا سطحيا، ولا يُقيّم بفهم سطحي ... الدستور البريطاني قد تتم الاشارة الى مزاياه للعقول الحكيمة والمتأملة، ولكنه ذات مرتبة عالية جدا من التميّز بحيث لا يمكن تكييفه مع تلك العقول العادية. انه يأخذ العديد من الرؤى، يعمل العديد من المركبات، لا يُتوقع فهمه بالتفاهمات الضحلة والسطحية. المفكرون العميقون سيفهمونه في منطقه وروحه" (تأملات في ثورة فرنسا، 1790).

احتمال وجود مفكرين عميقين نشطين للتدخل في المجتمع عرضه بيرك بإحساس سلبي في نقده لمنْ ليست لديهم المواصفات الضرورية، مثل الثوريين الفرنسيين. لكنه يجسد حالة ايجابية حين يؤكد ان المفكرين العميقين يتعلمون من التجربة بدلا من "المبادئ المجردة". في تلك الأثناء، يبدو ان الخوف من الحافز الثوري عبر دول القنال الاوربية، دفع بيرك لدعم الوضع الراهن في بريطانيا بين الارستقراطيين والطبقة الراقية بالاضافة الى الناخبين.

اذا كانت الحجة الاولى لبيرك تتعامل مع صعوبة تأثير التغيير الايجابي، فان حجته الثانية تشير الى المخاطرة:

1- كل المجتمعات لها عيوبها، لكننا يجب علينا ان نحافظ على الشعور بالتناسب حول هذه العيوب.

2- الأنظمة السياسية الاوربية التقليدية لها عدة سمات ايجابية ولذلك

3- "مسؤولية الإقناع" تقع على عاتق الذين يريدون تحمّل الكلفة الحتمية للتغيير المنهجي لتحقيق مكاسب غير مؤكدة.

يرى بيرك ان مهاجمة الثوريين لعيوب الأنظمة القائمة هي كما لو كانت هذه العيوب أساسية او هي الشيء الرئيسي. هو يقول، نحن يجب ان لا نرفض كليا نظاما فقط لأن فيه عيوب ثانوية: "الادّعاء الثاني للمجتمع الثوري هو "الحق في محاسبة حكومته على سوء السلوك" .. لا يمكن لحكومة البقاء للحظة واحدة اذا كانت في مهب أي شيء فضفاض وغير محدد كفكرة "السلوك السيء". (التأملات).

لذا، نحن يجب ان نحافظ على الإحساس بالتناسب حول أخطاء المجتمع. هذا الإحساس يترسخ لو اعترفنا بكل سمات المجتمع كما عرضتها فرنسا القديمة، بما في ذلك ازدهار التصنيع والفنون والمدن المعقدة والبناء المعماري، وأفراد خيّرين او أبطال. يستنتج بيرك : "انا لا أعترف وفق هذه الرؤية باستبداد تركيا ولا أحتقر شخصية الحكومة التي كانت قمعية او فاسدة جدا او متهاونة كما لو كانت غير صالحة تماما لأي إصلاح. انا يجب ان اعتقد ان هكذا حكومة تستحق للإرتقاء بتميّزها، وتصحيح أخطائها، وتحسين قدراتها في الدستور البريطاني".

انطلاقا من دعوته للتوازن حول مزايا وعيوب النظام السياسي، يدّعي بيرك ان العبء يقع على الراديكاليين لإثبات ان تصميمهم لا ينتج أذى اكثر من الخير، نظرا لأن التغيير الراديكالي يتضمن كلفة عالية (مئات الآلاف من الناس في حالة فرنسا): "عبء الإثبات يقع بقوة على اولئك الذين يمزقون نسيج مجتمعهم الى قطع..." وبكلمة اخرى، هناك الكثير من المخاطر لبدء تغيير دراماتيكي عندما لم تتوفر أسباب كافية له.(1)

يريد بيرك تحذير البريطانيين من محاكاة الأفعال السريعة للفرنسيين عبر التأكيد على لايقينية وخطورة الفعل الثوري. عدم اليقين والمخاطرة المتعلقان بالتغيير هما في الحقيقة الرسالة الأساسية لكلا حجتي بيرك. المجتمع معقد جدا والمخاطر عالية جدا للسماح بتدخل سريع ، لذا فان التغيير يجب ان يكون تدريجيا وحذرا وبطيئا بدلا من ان يكون ساحقا وشاملا. مع ذلك، بيرك يعترف بالحاجة للتقدم. احدى ادّعاءاته الواضحة بشأن الاصلاح هي انه حتى الإصلاح يدعم التبرير المحافظ: "الدولة التي لا تملك وسائل إحداث بعض التغيير لا تملك وسائل الحفاظ على ذاتها". غير ان حماسة بيرك لتبريراته الاصلاحية تقترح اكثر من الملائمة المحافظة حين يبدي التزاما بالاصلاح بنفس مقدار المحافظة اثناء عمله المهني . ان تعقيدية بيرك ربما جرى تقييمها كتعقيدية للحياة – تعقيدية تتضمن ان المرء يمكنه الوقوف مع الوضع الراهن وايضا يدعم حركات هامة لإصلاحه. الحافزان غير متناقضين لو كان المرء مثل بيرك، كتدريجي حذر.

استنتاجات للحاضر

ان حجج بيرك هي أكثر ملائمة لعالم اليوم منه الى عالمه. الديموقراطيات الاجتماعية التي نعيش بها الان تقدم الكثير من الخير لشعوبها قياسا بسياسة بريطانيا في القرن الثامن عشر. هناك الكثير لدينا للحفاظ عليه قياسا بزمان بيرك. الملائمة الخاصة لكتابات بيرك اليوم يمكن الحكم عليها عبر النظر في ارشادات اخرى للاصلاح مرتكزة على رؤاه. من بين اولئك الذين أحدثوا تقدما في التفكير المحافظ في هذا المجال هو مايكل اوكشوت Michael Oakeshott (1901-1990)، الذي يقدم في كتابه (العقلانية في السياسة، 1962) ومقالات اخرى، تطورات مقنعة وملائمة لحجج بيرك.

سنعرض الآن بعض النقاط التي تطبق في مهمة تعزيز التغيير السياسي والاجتماعي في العالم الحديث. النقاط الثلاث الاولى تتعلق بمحاولة بيرك، اما النقطتان الرابعة والخامسة فهما من اوكشوت:

1- لا وجود هناك لمجتمع مثالي. الانسانية معيبة خلقيا، وهذه الحقيقة يجب ان تخفف من أهدافنا. نحن يجب ايضا ان نكون واعين بان العديد من الحاجات تلُبى في الديمقراطيات الاجتماعية الحالية، وان سوء السلوك من جانب أي سلطة ليس بذاته سببا لرفض النظام السياسي ككل. هناك دائما مكان للتحسين.

2- المجتمع معقد ولذلك فان نتائج التدخلات ستكون غير مؤكدة. لذا فان التدخلات يجب ان تكون تدريجية لكي يمكن تقليل حجم النتائج غير المتوقعة، وليُسمح بإجراء تصحيحات في السياسة.

3- ان نتائج التدخلات تكشف عن نفسها فقط بمرور الزمن، لذا حتى الاصلاح التدريجي يجب ان يكون في فترات متباعدة، لكي يُسمح بإنكشاف النتائج المقصودة وغير المقصودة . هذا سوف يسمح لنا للتعامل مع النتائج السلبية قبل تحمّل أي اضطراب غير ضروري آخر من خلال إصلاحات اخرى سيئة.

4- "الابتكار يتضمن خسارة معينة وفقط مكاسب محتملة، لذلك، فان عبء الاثبات في بيان ان التغيير المقترح يُتوقع ان يكون نافعا بمجمله، يقع على عاتق المبتكر" (العقلانية في السياسة).

5- المحافظ "يعتقد ان المناسبة هامة، وبثبات الأشياء الاخرى، هو يرى ان افضل مناسبة للابتكار تكون عندما يُحتمل جدا ان يكون التغيير المخطط محدودا بما هو مقصود وأقل احتمالا ان يُفسد بالنتائج غير المرغوبة والتي لايمكن ادارتها" (نفس المصدر). الإعتراف بغياب المجتمع المثالي يجب ان يلوّن تقييمنا لديموقراطيتنا الاجتماعية ومشاكلها بطريقة تقلل طموحات طلبات التغيير. والى جانب الاعتراف بنواقص الانسانية، نحن يجب ايضا ان نكون واعين بالطريقة التي تلبي بها الديمقراطيات الاجتماعية حاجات العديد من الناس، ربما أغلب مواطنيها. المصالح جرى تلبيتها بالتعديلات الملحة، وان معظم الناس وجدوا مكانا لأنفسهم في هيكل بناءهم الاجتماعي.

لذلك يجب على المرء ان لا يضع نفسه ضد الصرح الكلي للمجتمع، لأن هذا يعني انه يضع نفسه مقابل مصالح غالبية الناس – والذي هو خطأ لكل من الحقوق والاستراتيجية.

الحافز الثوري للتغيير الكاسح مخالف لحقيقة ان لا وجود للمثالية، وان الهندسة الاجتماعية هي صعبة، ولعبة غير مؤكدة تنطوي على تكاليف هائلة. لذا يجب تخفيف الاهداف الاصلاحية، وان تكون وسائلنا تدريجية. الحماس القوي للإصلاح التدريجي ربما يكون مناسبا، على الأقل وفق استدلالات بيرك، لكن الاصلاحيين لايحتاجون إعطاء توضيح جيد لما يعنيه التغيير للناس العاديين، ولماذا يستحق المخاطر وتكاليف التحول.

***

حاتم حميد محسن

........................

Edmund Burke and the politics of reform, philosophy Now, Feb/March2024

الهوامش

(1) تجدر الاشارة ان الثورة الفرنسية التي حدثت عام 1789 أطاحت بالملكية وأسست اول جمهورية فرنسية، لكن الثورة في النهاية فشلت بسبب الفراغ الشديد في السلطة الناتج عن الاطاحة بالنظام الملكي والذي سمح للراديكاليين الاستيلاء على الحكم وهو ما خلق حالة من الفوضى في عموم البلاد و اتساع العنف وامتداده لفترات طويلة قاد بالنهاية الى إعادة العائلة الملكية من جديد وان كانت بقدرات محدودة. فشل الثورة كان بسبب عدم القدرة على إزالة الملكية بشكل دائم حتى بعد 20 عاما من الاضطرابات السياسية والعديد من الحروب .

 

لأسبابٍ شخصيّة أو عقائدية مذهبيّة أو لنيل حظوة مِن خليفة أو وزير

إذا علمنا مِن عداوة أو تبادل مثالب، بين الكُتاب والشُّعراء اليوم، فهذا امتياز امتاز به مثقفو العصور كافة. فليس غريباً ما يحصل اليوم، فهي الحرفة الأكثر تحاسداً بين أصحابها، لأسبابٍ شخصيّة، أو عقائدية مذهبيّة، أو حسداً لنيل حظوة مِن خليفة أو وزير. أقلها أن يُسمي أحدهم الآخر «حاطب ليل»، وهو نعت ليس قليلاً اليوم، وكم فيه مِن إلغاء وشطب على موهبة ومقدرة، أي لا يدري ما يكتب أو ما يؤرخ، إذا كان مؤرخاً.

فهذا الأشعريّ عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ) قلل من شأن المعتزلي عبد الله البلَّخي (ت 319هـ)، مع أنّ الاثنين كانا كباراً في مجالهما. قائلاً فيه: «حاطب ليل، يدعي كلَّ شيء، وهو خالٍ من كلِّ شيء» (البغداديّ، الملل والنِّحل)، مع أنَّ البلخي أحد علماء ومتكلمي معتزلة بغداد، ومؤرخ مقالات الإسلاميين. هنا آتي بنماذج فقط، أو مثلما يُقال: «غيض مِن فيض» قليل مِن كثير، محاولاً ذِكرها على تسلسل الزمن، الأقدم فالأحدث.

عندما تولى هارون الرّشيد (170 - 193هـ) الخلافة، شكل لجنة لفحص قصائد الشّعراء ونصوص الخُطباء المتقدمين للاحتفال بهذه المناسبة، فكثر المادحون، واختلط الغث بالسَّمين، وأخذ الصّغار أو الهواة ينافسون الكبار، لذا قرر الوزير الفضل بن يحيى البرمكي (ت 193هـ) تكليف الشّاعر والأديب أحمد بن سيار الجُرجانيّ، المعروف بمدحه للقائد العباسيّ يزيد بن مزيد الشّيباني (ت 183هـ) لتمييز قصائد الشُّعراء، مَن يمنح مكافأة ومَن لا يمنح، أو مَن تُقبل قصيدته ومَن لا تُقبل، وكان أبو نواس (ت 195) أحد المتقدمين، لكن خصوم الأخير من الشّعراء، مثل مسلم بن الوليد وأبان اللاحقيّ وأشجع السُّلمي، وآخرين طلبوا مِن المُحكم الجُرجانيّ الحط مِن قصيدة أبي نواس، ورفضها لعدم جودتها. فلما عرض أبو نواس قصيدته على الجُرجانيّ رمى بها، ولم يقبلها، قائلاً: «هذا لا يستحق قائله دِرهمين» (الجهشياريّ، الوزراء والكُتاب)، فلم يقرأ أبو نواس، وهو على عظمة قدره، وعلو كعبه بين شعراء عصره.

فلم يكن أمامه إلا هجاء الجُرجانيّ، قائلاً: «بما أهجوك لا أدري - لساني فيك لا يجري - إذا فكرتُ في قدرِ - ك أشفقتُ على شعري» (الجهشياري...).

كان أبو عبد الله إبراهيم بن محمد الواسطي المعروف بنفطويه (ت 323هـ) عالماً بالحديث والعربية، وأستاذه صاحب الكامل محمد بن يزيد المبرد (ت 286هـ)، وكان صاحب «الاشتقاق» و«الجمهرة» ابن دريد محمّد بن الحسن البصريّ (ت 321هـ) أشهر من نار على عَلم في عِلم اللّغة، لكن بينهما اللُّجاج في شدة الخصومة، من إنكار أحدهم باع الآخر. فأشاع نفطويه أن ابن دريد لا يفقه شيئاً، وهو منتحل كتاب «العين» لأحمد بن خليل الفراهيدي البصري (ت 181هـ)، وجعلها «الجمهرة»، مع أن من يطلع على معجم العين وكتاب الجمهرة لا يجد انتحالاً بينهما. وكي يرسخ ذلك في الأذهان جعل نفطويه التّهمة شعراً، فسارت بها الرّكبان. قال:

«ابن دريد بقره - وفيه لؤم وشره - قد ادعى بجهله - وضع كتاب الجمهره - وهو كتاب العين إلّا - أنه قد غيره». فردّ عليه ابن دريد شعراً أيضاً، وعيّره بسواده، حتّى لُقب لهذا السبب بنفطويه، والنّفط يخرج من الأرض أسود، مع نتانة رائحته. فقال: «أف على النحو وأربابه - قد صار من أربابه نفطويه - أحرقه الله بنصف اسمه - وصير الباقي صراخاً عليه» (الأنباريّ، زهرة الألباب في طبقات الأدباء). فكان بينهما ما هو أشد من فظاعة الحسد، حتّى وصف بـالمماظّة بينهما (الحموي، معجم الأدباء).

كان بين صاحب «الأغاني» أبي فرج الأصفهانيّ (ت 356هـ) والنحوي أبي سعيد السّيرافي (ت 368هـ) عداوة، فقال الأول في الثّاني ناكراً عليه علمه، بل ناكراً على كل سيراف: «لست صَدرا وَلَا قَرَأت على صدرٍ - وَلَا علمك البكي بكافي - لعن الله كل شعر وَنَحْو - وعروض يَجِيء من سيراف» (الثّعالبيّ، يتيمة الدَّهر).

ما أنّ غفل الحنبليّ أبو الفرج بن الجوزيّ (ت 597هـ) بنقل رواية خاطئة، مِن دون تمحيصها، إلا نجد الشّافعي ابن حجر العسقلانيّ (ت 852هـ) قد ترك صاحب الخطأ الأصل، وهو عبد القاهر البغداديّ، وقال عن ابن الجوزيّ: «ودلت هذه القصة على أنَّ ابن الجوزي حاطب ليل، لا ينقد ما يُحدث به» (ابن حجر، لسان الميزان). مع أن ابن الجوزي، في «المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم» قد ذَكر مصدره الذي نقل عنه الرّواية، وهو كتاب البغداديّ «الفرق بين الفرقِ».

كذلك كان بين ابن الجوزي وأبي سعد السَّمعانيّ (ت 562هـ)، صاحب كتاب «الأنساب»، عداوة وخلاف عميقان، وكانا متجايلين ومتجاورين ببغداد، فالأول كان حنبليّاً والثّاني شافعيّاً، فلما جاء ابن الجوزي على ترجمة السّمعاني، في منتظمه، أنكر عليه أنه شد الرّحال إلى التّعلم والدَّرس عند علماء ما وراء النّهر (نهر سيحون)، فقال: «كان يأخذ الشَّيخ البغدادي، فيجلس معه فوق نهر عيسى (نهر عباسي ببغداد)، ويقول حدثني فلان من وراء النَّهر، ويجلس معه في رقةِ بغداد، ويقول حدثني فلان بالرِّقة (رقة الشّام)، في أشياء من هذا الفن، لا تخفى على المحدثين، وكان فيه سوء فهم» (ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم).

فردّ صاحب الكامل عزّ الدِّين الجزيريّ المعروف بابن الأثير (ت 630هـ) على ابن الجوزي، وقد أدرك الاثنان، السّمعانيّ وابن الجوزيّ، قائلاً: «كان مكثراً من سماع الحديث، سافر في طلبه، وسمع ما لم يسمعه غيره، ورحل إلى ما وراء النهر، وخراسان، ودخل إلى بلد الجبل، وأصفهان، والعراق، والموصل، والجزيرة، والشَّام، وغيرها... وذَكره أبو الفرج بن الجوزيّ وقطعه... أي حاجة به إلى هذا التلبيس البارد؟ وإنما ذنبه عند ابن الجوزي أنه شافعي، وله أسوة بغيره...». (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ).

بعد هذه النّماذج التي قلنا إنها «غيض مِن فيض»، وإلا فكتب التّراث ملأى بمثل هذه المواقف، نأتي بما يراه أبو حيان التَّوحيدي (ت 414هـ) في نقد هذا التحاسد، وبدلاً عنه يُصار إلى تبادل الفائدة والاعتراف بالموهبة، وقد تحدث عما كان يحصل مع النحويّ أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي (ت 377هـ)، وكتابه «التّعليقة على كتاب سيبويه»، لأن القوم يفضلون كتاب صاحبهم أبي الحسن علي بن عيسى الرُّماني (ت 384هـ)، وكان الفارسي والرماني ندّين. قال أبو حيان: «يكثرون الطَّلب لكتاب شرح سيبويه، ويجتهدون في تحصيله، فقلت لهم: إنكم لا تزالون تقعون فيه، وتزرون على مؤلّفه، فما لكم وله؟ قالوا: نريد أن نردّ عليه ونعرّفه خطأه فيه. قال أبو حيان: فحصّلوه واستفادوا منه ولم يردّ عليه أحد منهم. أو كما قال أبو حيان، فإني لم أنقل ألفاظ الخبر لعدم الأصل الذي قرأته منه» (الحموي، معجم الأدباء).

كما انتقد التّوحيديّ ما كان يوجهه أبو سعيد السّيرافي، مِن صاحب الأغاني وأبي علي الفارسيّ، والجميع كانوا في عصر واحد، قال: «كان أبو علي وأصحابه كثيري الحسد لأبي سعيد، وكانوا يفضلون عليه الرُّماني، فحكى ابن جني عن أبي علي أن أبا سعيد قرأ على ابن السَّراج 50 ورقة من أول الكتاب ثم انقطع، قال أبو علي: فلقيته بعد ذلك فعاتبته على انقطاعه فقال لي: يجب على الإنسان أنْ يقدم ما هو أهم، وهو علم الوقت من اللُّغة، والشِّعر، والسّماع من الشُّيوخ، فكان يلزم ابن دريد، ومن جرى مجراه من أهل السّماع» (الحموي، معجم الأدباء).

غير أنَّ مَن يقرأ «ذم الوزيرين» أو «مثالب الوزيرين» لأبي حيان التّوحيدي يرى العجب العجاب، فقد أظهر ابن العميد (ت 360هـ)، وابن عباد الصَّاحب (ت 385هـ)، صاحب المحيط في اللغة، والشّاعر، جاهلين لا يملكان مواهبَ ولا آداب، وتداعى ثلبهما إلى ثلب الشّعر والشعراء. وربّما له عذره الشّخصي، فقد كان نساخاً لرسائلهما وكتبهما (مثالب الوزيرين، أخلاق الصاحب بن عباد وابن العميد). وهذا إذا دخلنا فيه لا يسعه المقال.

***

د. رشيد الخيّون

التاريخانية تكتيك فكري في مشروع الدكتور عبد الله العروي

عاش عبد الله العروي تفاعلات علمية وفكرية منذ صباه. استفاد في البداية من والده الذي نعته في أحد خرجاته الإعلامية بنصف المثقف. لقد كان يعيد كل رمضان قراءة المقدمة لابن خلدون، الشيء الذي مكن عبد الله العروي من تكوين فكرة عن القضايا الدينية مبكرا. بهذا الرصيد المعرفي المتواضع، تابع دراسته بعد الحرب العالمية الأولى بمراكش. التحق بالرباط إلى جانب جيل الوطنيين، بحيث كان حدث الاصطدام مع المستعمر مناسبة بداية تأثره بالسياسة (1950). عمق أبحاثه كمؤرخ في تاريخ المغرب (ما قبل الحماية-الاستعمار-وصراعات ما بعد الاستقلال). تابع كيف تشكل التياران التقليدي والحداثي على أسس معرفية سطحية، وكيف تحول هذا التقابل المتنافر إلى عائق تنموي.

بفضل عطاء المفكرين المغاربة الكبار، وعلى رأسهم العروي والجابري، مر المغرب من عدة مراحل تاريخية برزت من خلالها خصوصية مؤشرات تطوره وانفتاحه. ثقافته التقليدية ما قبل القرن العشرين كانت قابلة للاستعمار. عاش بعد ذلك ازدواجية ثقافية أججت الصراع داخل المجتمع. التأم من جديد رواد الفكر التقليدي مستثمرين في التعصب التراثي لتقوية حدة الاصطدام مع المستعمر. هذا الأخير اعتمد بدوره ازدواجية في التربية والتعليم. إلى جانب خلق المدرسة الفرنسية بمراكش والرباط للفرنسيين وبعض المغاربة، أحدثت مدارس مزدوجة خاصة بالمغاربة سميت بأسماء الملوك. حتى التحسينات التي أدخلتها فرنسا على المدارس المغربية العتيقة (القرويين بفاس كنموذج)، بقيت أنفاس التحديث الفكري في برامجها التعليمية والتكوينية ضعيفة.

موازاة مع استمرار سيطرة الثقافة التقليدية مغربيا، عاشت الشعوب الأوروبية مزايا الفكر الثوري (فرنسا، بريطانيا وأمريكا). امتدت الثورات في القرن العشرين إلى كل من روسيا (البولشيفية) والصين (الثورة الثقافية الماوية) مشكلة بذلك قطب الشرق المعاكس إيديولوجيا للغرب.

استحضر العروي ألمانيا بأوضاعها المتردية المتشابهة بالأوضاع العربية. الهيجيليون الشباب أغرقوا الوعي الألماني في الخيالات والأوهام والأفكار المجردة. جعلوا من الفكرة التأملية آلية محركة للتاريخ، فتحول هذا الأخير معهم إلى مسرح للأرواح والأشباح. لقد أبرز العروي بالبراهين الدامغة كيف لعب ماركس وفريديريك الأدوار الريادية لخلق التحول الثقافي في حياة الشعب الألماني. لقد ورد في كتاب "الإيديولوجيا الألمانية" فقرة غاية في الأهمية: "فبينما كانت البرجوازية الفرنسية، بواسطة أضخم ثورة عرفها التاريخ ترتفع إلى السلطة وتغزوا القارة الأوروبية، وبينما كانت البورجوازية الإنجليزية التي سبق أن تحررت سياسيا تُطَور الصناعة وتُخْضع الهند سياسيا وبقية العالم تجاريا، لم يذهب البورجوازيون الألمان في عجزهم إلى أبعد من "الإرادة الطيبة" ... إن إرادة كانط الطيبة هي الانعكاس التام للعجز والجمود والمسكنة لدى البورجوازيين الألمان".

أمام هذه التحولات، انتقد العروي الفكر الغربي الاستشراقي بأبعاده الاستعمارية. لقد تشبع بالفكر الثوري النقدي مبكرا. انتقد في نفس الآن الحضارة التقليدية المغربية التي كانت أساس الاستعمار والفكر الغربي الامبريالي/الاستعماري. ناصر التاريخانية كمنهج تكتيكي واستثمر فيه لنقد أسس الأنظمة الاجتماعية والثقافية التقليدية. التراكمات الغربية في القرنين 18 و19 شكلت بالنسبة له مرجعا زاخرا بمقومات الفكر الثوري النهضوي الديمقراطي. إنه يدعو إلى الارتماء في أحضان الليبرالية من هذا المنظور. النهضة المغربية تتطلب كأولوية استيعاب وقبول وفهم وتطبيق الأسس التي تشكلت عليها الحضارة الغربية بمظهريها الرأسمالي والاشتراكي (الأسس الليبرالية). المجتمع المغربي لا يمكن أن يكون عصريا إلا إذا استوعب وتشبع بأسس المجتمع الغربي عصر الأنوار.

عكس ما روجه الفكر السلفي في شأن التاريخانية معتبرين إياها توجها مناوئا للدين (التعصب المتفاقم للقداسة في كل شيء رهان خاسر)، قدم العروي ما يكفي من التحليلات والبراهين موضحا بجلاء مزايا مفهوم "القطيعة المنهجية مع التراث". لقد أبرزت التفاعلات الفكرية قبيل عصر الأنوار أن الماركسية الموضوعية كانت الأساس الفكري المرجعي الذي كان وراء الوصول إلى تحقيق السرعة القياسية لعبور مراحل النهضة غربيا. لقد نجحت في تغيير الواقع وتحقيق حياة أفضل للإنسان الغربي. ماركس النافع، يقول العروي، هو المخلص والمؤول والمنظر للفكر الأوروبي العام والممثل للحداثة بكل مظاهرها. وعليه، من أجل ربح الوقت، يدعونا العروي إلى اتخاذ ماركس معلما ومرشدا لسبر أغوار المعارف والعلوم والثقافة الحداثية. بالاقتداء به، ليس كزعيم سياسي، يمكن للمغاربة النجاح في انتقاء الأفكار الهادفة وتحقيق الأغراض القومية التحررية.

عبر كل من الزعيمين علال الفاسي وعبد الله كنون عن تخوفهما من هجرة عبد الله العروي إلى فرنسا لاستكمال دراسته. لقد اعتبرا هذا الخيار بمثابة ارتماء بلا عودة في أحضان الحضارة الغربية. عاد العروي إلى بلاده كمفكر لامع مغربيا وعربيا ودوليا ومنظر نجم في مجال النهضة المغربية والعربية. أحداث تاريخ شخصيته، كما رتبها في كتابه "بين الفلسفة والتاريخ"، توجت في ملخصه بقوله هامة للغاية: "التاريخانية عندي علامة على تواضع. بما أنني أوثر العمل على النظر، فإنني أعتقد أنه لن يكون بإمكاني أن أجد جوابا معقولا عن شاغل فلسفي مشروع إلا انطلاقا مما يوحي به البحث التاريخي، وفي إطاره".

ربح الوقت، بالنسبة للعروي، يستوجب اعتماد منهج تاريخي يؤجل مؤقتا الاهتمام بالأوهام والأساطير والنقاشات العقائدية العقيمة والخرافات ... سرعة اتساع الهوة بيننا وبين الحضارة الغربية تستدعي التركيز على الظروف الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمالية الواقعية المادية. لقد اعتبر العروي قراءة الوقائع التاريخية الكلية بحقائقها المادية ومعطياتها الثقافية وأوهامها وأساطيرها وخيالاتها وخرافاتها ...، التي دعا إليها أركون، لن تفي بالغرض المطلوب. تحتاج الأمة العربية عامة والمغربية خاصة إلى اعتماد منهج تكتيكي يكتفي بتسجيل الوقائع التاريخية المادية وترتبيها في خط زمني متواصل تقرأ من خلاله البدايات والأصول والتأثيرات والأحداث من كل نوع. العروي يرى أنه غير مجدي تشتيت تفكير الفاعل في النهضة بالدفع به للتركيز أيضا على دلالة القوى التي ضغطن تاريخيا على الحقائق التكتيكية كتخيل الحماسات الجماعية والأحلام الممكنة والتطلعات غير المشبعة والمبادرات المجتمعية والأساطير المحركة ... إلخ.

كتابات العروي تجعل القارئ يستنتج مآزق وأزمات الاستثمار المغلوط في التراث. حالة الفشل التي يتعرض لها الإسلام السياسي لا يولد إلا تمظهرات مكرسة لارتباط الإسلام بالعنف، أي الإسلام السياسي الغاضب. الغضب يتحول إلى تطرف عنيف جراء فشل رواد التقليدانية في قيادة مجتمعاتها إلى الإنتاج المادي. وحتى التجارب التقليدية الأكثر تماسكا لم تستطع تملك الآلة السياسية، أي الدولة، لتحقيق مشروعها، وبالتالي جعل النصوص الدينية حركية في الحياة العامة متوخية تغيير الواقع بشكل متعسف في تجاوز صارخ لتاريخانية تفاعل النص القرآني مع الواقع. على عكس تداعيات الفكر التقليدي في عدد من الدول العربية، قطع المغرب أشواطا هامة في تقوية بنية المدينة المغربية، والاستثمار في الإصلاح الديني، وإنجاز البنيات والتجهيزات المهيكلة للتراب الوطني، وخلق فضاءات التعليم العالي مختصة في الصناعة والبحث العلمي والتكنولوجيات الحديثة والطاقات المتجددة (أقطاب لإثمار التميز العلمي).

***

الحسين بوخرطة

مهندس احصائي-اقتصادي ومهيئ معماري

 

كنتُ قد سألتُ (ذا القُروح) في المساق السابق: كيف امتدَّ الخِطاب العنصري من "التَّناخ/ العهد القديم" ليصبَّ في "العهد الجديد"؟ فأجاب:

- أنت تقرأ، مثلًا، في "إنجيل متَّى"(1):

"ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُناكَ وانْصَرَفَ إِلَى نَواحِي صُورَ وصَيْداءَ. وإِذا امْرَأَةٌ كَنْعانِيَّةٌ خارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قائِلَةً:"ارْحَمْنِي، يا سَيِّدُ، يا ابْنَ داوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا". فَلَمْ يُجِبْها بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ، وطَلَبُوا إِلَيْهِ قائِلِينَ:"اصْرِفْها، لأَنَّها تَصِيحُ وَراءَنا!" فَأَجابَ وقالَ:"لَمْ أُرْسَلْ إِلَّا إِلَى خِرافِ بَيْتِ إِسْرائِيلَ الضَّالَّةِ." فَأَتَتْ وسَجَدَتْ لَهُ قائِلَةً:"يا سَيِّدُ، أَعِنِّي!" فَأَجابَ وقالَ:"لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ البَنِينَ ويُطْرَحَ لِلْكِلاب!" فَقالَتْ:"نَعَمْ، يا سَيِّدُ! والكِلابُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الفُتاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مائِدَةِ أَرْبابِها!" حِينَئِذٍ أَجابَ يَسُوعُ وقالَ لَها: "يا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَما تُرِيدِينَ." فَشُفِيَتِ ابْنَتُها مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ."

فكيف يكون (يسوع) كما يصفونه وينظر إلى غير أبناء قومه، من "خِرافِ بَيْتِ إِسْرائِيلَ الضَّالَّةِ"، على أنهم "كلاب"؟! وحتى لو كانوا كلابًا، ألا يستحقُّون الرحمة، من باب الرفق بالحيوان؟! كلَّا، لا يستحقُّون؛ فالإنسان الكنعاني، الفلسطيني، لا ينبغي أن يُلتفَت إليه؛ لأنه من عِرقٍ آخَر، و"لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ البَنِينَ ويُطْرَحَ لِلْكِلاب!" وتصريحات وزير العدوان الإسرائيلي، (يواف غالانت)، إذ وصف الفلسطينيِّين بأنهم "حيوانات بَشريَّة"، هو شاهد حيٌّ على ذلك الموروث المشترك بين أتباع العهدَين! تلك عقيدة راسخة لديهما، وليست وليدة اليوم.

- ماذا عن الطُّوفان؟

- أمَّا قِصَّة الطُّوفان- كما قَصَّها "التناخ" تحديدًا، أو "العهد القديم"، كما يسمِّيه النصارى- فنحن نجد جذورها لدَى السومريِّين والأكديِّين، في (قِصَّة الطُّوفان)، أو "ملحمة كَلْكامش"، على سبيل المثال.

- ما الذي حدث؟

- تدلُّ الحفريَّات الأثريَّة الحديثة على أنه قد حدث في (العراق) وما جاورها فيضانٌ رهيبٌ بالفعل في قديم الزمان. ومن خلال المكتشفات الأثريَّة لمدينة (أور) يتبيَّن أنَّ حضارةً كانت قائمةً هنالك ضربها طُوفانٌ عظيم، ثمَّ نشأت حضارات على آثارها. إلى غير هذا من الشواهد التي اكتُشفت في العصر الحديث، دالَّةً على أصلٍ تاريخيٍّ ما لتلك القِصَّة. أمَّا تلك التفاصيل الواردة في "التناخ"، فواضح أنَّ الخيال الشعبيَّ الأُسطوريَّ قد اشتغل عليها. وقد ظلَّت من مطاعن الملاحدة على المؤمنين، لتنافيها مع العقل والتاريخ. ولقد تسرَّبت بعض تلك التصوُّرات الأُسطوريَّة إلى الثقافة الإسلاميَّة أيضًا. مع أنَّ القِصَّة القرآنيَّة لا تُناقض العقل ولا شواهد التاريخ. فهي لا تعدو الإشارة إلى غَرَق قومٍ، كان فيهم رسولٌ يُدعَى (نوح). ولم تَرِد إشارة مطلقًا في "القرآن" إلى أنَّ الماء قد أغرق الكُرة الأرضيَّة. وأمَّا معنى "الطُّوفان"، ففيضانٌ مائي، كما جاء في الإشارة إلى فيضان (النِّيل) على قوم (فرعون): ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ، والجَرادَ، والقُمَّلَ، والضَّفادِعَ، والدَّمَ، آياتٍ مُفَصَّلَاتٍ، فَاسْتَكْبَرُوا، وكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِين.﴾ كما لم يَرِد الزَّعم أنَّ من كان مع نوح في الفُلك هم أصل البشريَّة، التالية على ذلك العهد، فضلًا عن أنَّ من جاء بعد نوح هم من نسل نوحٍ فقط. كلُّ ما هنالك أنه حملَ معه أهل بيته المؤمنين، ومَن آمن معه من قومه، وما آمن معه إلَّا قليل، حتى إنَّ أحد أبنائه لم يؤمن. وبطبيعة الحال كان لا بُدَّ أن يصطحبوا معهم بعض حيواناتهم التي يعتمدون عليها، ولا غنى لهم عنها في حياتهم اليوميَّة، فاصطحب معه زوجين اثنين فقط من كل حيوان. تلك كلُّ الحكاية بعيدًا عن القِصَّة الكونيَّة التوراتيَّة العارمة. وهذا ما ورد عن ذلك، في أوسع تفصيل له، من (سورة هود)(2):

﴿... وأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ: أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ؛ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. واصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ووَحْيِنَا، ولَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا؛ إِنَّهُم مُغْرَقُونَ. ويَصْنَعُ الفُلْكَ، وكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ، قَالَ: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا، فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ، ويَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ. حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا، وفَارَ التَّنُّورُ، قُلْنَا: احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وأَهْلَكَ، إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ، ومَنْ آمَنَ، ومَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وقَالَ: ارْكَبُوا فِيهَا، بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا ومُرْسَاهَا، إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ. وهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالجِبَالِ، ونَادَى نُوحٌ ابْنَهُ، وكَانَ فِي مَعْزِلٍ: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا، ولَا تَكُنْ مَعَ الكَافِرِينَ!  قَالَ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المَاءِ، قَالَ: لَا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ، إِلَّا مَن رَحِمَ. وحَالَ بَيْنَهُمَا المَوْجُ، فَكَانَ مِنَ المُغْرَقِينَ.  وقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ، ويَا سَمَاءُ أَقْلِعِي، وغِيضَ المَاءُ، وقُضِيَ الأَمْرُ، واسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ، وقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. ونَادَى نُوحٌ رَبَّهُ، فَقَالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ، وأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ. قَالَ: يَا نُوحُ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ؛ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ؛ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ! قَالَ: رَبِّ، إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وإِلَّا تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي، أَكُن مِنَ الخَاسِرِينَ. قِيلَ: يَا نُوحُ، اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وعَلَى أُمَمٍ مِمَّن مَعَكَ، وأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ. تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ، مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ ولَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا؛ فَاصْبِرْ، إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.﴾

- وماذا عن عُمْر (نوح)؟

- جاء في (سُورة العنكبوت: الآية 14) أيضًا ذِكرٌ لعُمْر (نوح): ﴿ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ، فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وهُمْ ظَالِمُونَ.﴾ وكذا جاء في "التناخ": "وعَاشَ نُوحٌ بَعْدَ الطُّوفانِ ثَلاَثَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً. فَكانَتْ كُلُّ أَيَّامِ نُوحٍ تِسْعَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً، وماتَ."

- غير أنَّ من المسلمين، يا (ذا القُروح)، من فهم أنَّ "الألف سنة إلَّا خمسين عامًا" إنَّما هي القرون من مبعثه إلى وقوع الطُّوفان، وقد عاش أيضًا، كما زعموا، قبل البعث سنين طويلة، وبعد الطُّوفان سنين أطول!

- لا حول ولا قُوَّة إلَّا بالله! العجب أنَّ هؤلاء الرُّواة يتجرؤون بطرح مزاعم في هذا لا أساس لها من تاريخ أو من نصٍّ يُرجَع إليه! وإلَّا فإن السؤال البدهي: من أين كانت تُستقَى المعلومات حول عُمْر نوح، للقول:" بَعث الله نوحًا وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلَّا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، وعاش بعد الطُّوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا"؟(3)  أجاء ذلك في قرآن؟ كلَّا! أم جاء في حديث صحيح عن الرسول؟ كلَّا! وإنْ كان قد رُوي حديث ضعَّفه علماء الحديث، يشير إلى أن عُمْر نوح 1450 سنة.(4) ولو صحَّ، لما وقع الخلاف في عُمْر نوحٍ، بين مقدِّم ومؤخِّر.

- أسئلة لم تكن لتدور في الذهن السَّلَفي، لا في هذه المسألة ولا في غيرها، بل هو يروي، ويردِّد، ويورِّث مَن بعده!

- ولم يكن (ابن عبَّاس) وحده من تُنسَب إليه هذه المعلومات، التي لا يُدرَى مصدرها، بل تَرادَف آخرون حول الإدلاء بكلامٍ طويل حول عُمْر نوح. ومنهم (كعب الأحبار)، الذي رُوِي عنه أنه قال: "عاش بعد ذلك [أي بعد أَلْف سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا] سبعين عامًا!"(5) وغريب أن يكون هذا قول كعب، بصفةٍ خاصَّة، فيُظهِر أنه لا يعلم ما ورد في "العهد القديم"، مع أنه "كعب أحبار"! وقيل: بل عاش (1400 سنة)! روايةً عن (وهب بن منبِّه)!(6) والعجب هنا كذلك في رواية كهذه عن واحد من أهل الكتاب، كان يهوديَّ الدِّيانة، فإذا هو لا يتفق في قوله لا مع ما ورد في كتابه القديم، ولا مع ما ورد في كتابه الجديد! وزعمَ آخرون أنه لا صحَّة لما رواه السابقون، بل عاش نوح أكثر مما ذكروا، عاش: (1650 سنة)! وهو ما روي عن (عون بن أبي شدَّاد)، ويبدو أنَّ له من اسمه نصيبًا في هذا الزعم، قال: " إنَّ الله تبارك وتعالى أرسل نوحًا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاث مئة سنة، فدعاهم ألف سنة إلَّا خمسين عامًا ، ثمَّ عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مئة سنة"!(7) ثمَّ جاء، في هذا المزاد العلني، من زاد على (عون بن أبي شدَّاد)، فقال: لا، بل عاش: (1700 سنة)! وهي رواية عن (عكرمة)، الذي نُسِب إليه القول: " كان عُمْر نوح عليه السلام قبل أن يُبعث إلى قومه وبعدما بُعث ألفًا وسبعمائة سنة"!(8)

- ماذا أردت أن تقول يا (ذا القُروح)؟ ثمَّ ما لنا اليوم ولعُمر نوح وطوفانه، في زمن (طُوفان الأقصى)؟!

- ما أُحدِّثك عنه هو الطُّوفان الثقافيُّ الأقصى! ومَن لم يراجع أمسه، لم يفهم يومه. وإنَّ في ذلك لآية على مقدار ما في صفحات التراث ممَّا يستدعي المراجعة والنقد؛ أمَّا تقديس النقل والرُّواة، فنتاج العقليَّة الاتِّباعيَّة، ولا يُغني من الحقِّ والدليل شيئًا.

- أجل، ما أكثر ما في سرديَّات تراثنا من هَرْفٍ لا يخفَى على ذي بصر، ومن استخفافٍ بالعقول، بل من فقدانٍ للعقل النقديِّ الفطري، مع عدم تساؤلٍ عن مصادر المعلومات.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1) الإصحاح الخامس عشر: 21- 28.

(2) الآيات 25- 49.

(3) يُنظَر: ابن كثير، (1999)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمَّد السلامة، (الرياض: دار طيبة)، 6: 268.

(4) يُنظَر: موقع "الشبكة الإسلاميَّة": https://rb.gy/wb9ot

(5) يُنظَر: ابن أبي حاتم، (1997)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: أسعد محمَّد الطيب، (مكَّة- الرِّياض: مكتبة نزار مصطفى الباز)، 3041.

(6) يُنظَر: القرطبي، (1964)، الجامع لأحكام القرآن، (القاهرة: دار الكتب)، 13: 332.

(7) يُنظَر: ابن أبي حاتم، 3042؛ الطبري، (2001)، جامع البيان، تحقيق: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، (القاهرة: دار هجر)، 18: 370.

(8) يُنظَر: السيوطي، (2011)، تفسير الدُّر المنثور في التفسير المأثور، (بيروت: دار الفكر)، 6: 456.

 

القرآن الكريم هو دستور العربية الأول، بها نزل، بألفاظها ومعانيها وتراكيبها اللغوية والبلاغية. من هنا كان للقرآن الكريم الفضل فى نشأة وتطور الدرس اللسانى، فالعرب يمارسون هذه اللغة وتراكيبها قبل الإسلام بقرون، لكن لم تكن هناك أية رؤية لدرس هذه التراكيب، ولم تكن هناك حاجة لدرسها واكتشاف قواعدها اللسانية. حتى نزل القرآن الكريم النص المعجز الذى تحدى العرب أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، ثم أمعن فى التحدى وتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة فعجزوا، مع أنه بلغتهم وهم الفصحاء الذين لا يجاريهم أحد فى المراس اللسانى.

وكان المسلمون فى البداية يحفظون ما ينزل من القرآن مدركين إعجازه، لكن لم ينصرف أحد لدرس هذا الإعجاز اللغوى، لم تكن طبيعة الفترة ولا اهتمامهم يدفع لذلك. ولما نزل القرآن الكريم بلسان عربى مبين، كما أنه حوى بعض ألفاظ غير عربية الأصل ثم جرت على الألسن العربية، وفيه من لغات القبائل، فقد استغلق فهم بعض الكلمات أو بعض المعانى على المسلمين، من هنا كانت بداية البحث اللسانى، وكانت هذه أولى درجاته، هى البحث فى معنى هذه اللفظة أو مقصود هذا التركيب.

ومن ذلك حين سُئل سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، عن معنى قوله تعالى { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا }[ عبس / 31 ]، فسُئل عن معنى { أَبًّا } فلم يعرف فى البداية، ثم شحذ قريحته اللغوية، ثم قال لنفسه : إن هذا لهو الكلف يا عمر. وعند البعض إن هذا لهو الكلأ يا عمر، أى العشب.

ومعنى ذلك أن هناك بعض كلمات ومعان، قد انتقل النبى ﷺ إلى الرفيق الأعلى، والمسلمون لم يكونوا قد عرفوها أو حاولوا استكشاف معناها. نعم، ما كان يُسأل فيه النبى كان يجيب، ولكن كان اهتمامهم الأكبر بفهم ما يتعلق بأركان العقيدة والفقه ومناسك الدين. ومثلما كانوا يسألون عمر، فإنهم كانوا يسألون عبد الله بن عباس وغيرهما ممن وثقوا فى فطنتهم اللغوية.

إذن كان هذا هو المحرك الأول للدرس اللسانى، وهو فهم معانى ومقاصد بعض الكلمات القرآنية، ومن ثم ظهرت بعد ذلك عدة مؤلفات تحمل نفس العنوان " معانى القرآن ". ثم تطور الأمر وكانت المرحلة الثانية من أثر القرآن الكريم فى نشأة الدرس اللسانى، فظهر كتاب " مجاز القرآن " لأبى عبيدة، وكان يصب فيه اهتمامه على الكلمة ومقصودها المجازى، أى معنى الكلمة فى أصل اللغة ثم معناها الذى تحولت إليه. ومن ذلك كلمة الصلاة التى هى فى الأصل بمعنى الدعاء ثم تحولت لمعناها الشرعى الذى نعرفه، والزكاة التى تعنى فى أصل اللغة النماء والزيادة ثم تحولت لمعناها الشرعى الذى نعرفه، وكذلك الصوم الذى معناه فى الأصل الامتناع، والحج الذى معناه فى الأصل الزيارة، ثم أصبح لكل منهما المعنى الشرعى الذى نعرفه.

ومثال ذلك أيضـًا قوله تعالى { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ }[ النساء / 43 ] فالملامسة فى الأصل هى مجرد حدوث تلامس حتى ولو عن غير قصد، أما فى معناها المجازى فمقصدها الجماع. من هنا كان اختلاف بعض المذاهب الفقهية فمنهم من رأى أن مجرد حدوث ملامسة بين رجل وامرأة حتى ولو عن غير قصد، فإنه إن كان على وضوء لزمه إعادة الوضوء. فى حين فطنت مذاهب أخرى إلى الدرس اللسانى فى الآية الكريمة والمعنى المجازى الذى أتت عليه، فقالوا إن المقصد هنا هو الجماع الذى يوجب الاغتسال.

ولعلنا نلاحظ هنا فى هذا الطور بداية التداخل بين الدرس اللسانى والدرس البلاغى، حتى تطور الأمر وتداخل الدرس الدرس اللسانى مع الدرس النحوى أيضـًا، فظهرت مؤلفات إعراب القرآن، وعرفنا فيما بعد مقولة الإعراب فرع المعنى، وتبينوا إعراب القرآن بناء على معرفة الدرس اللسانى وسياق التركيب اللغوى والتقديم والتأخير والمبتدأ المحذوف وما إلى ذلك.

ثم كان التطور الرائع فى الدرس اللسانى حين نظر العلماء إلى التركيب اللغوى باعتباره وحدة كلية، وكان ذلك على يد عبد القاهر الجرجانى فى " دلائل الإعجاز " و" أسرار البلاغة ". وكان الجرجانى واحدًا من اللسانيين البارزين، إلا أن شهرته باعتباره بلاغيا قد طغت على شهرته باعتباره لغويا، وخير شاهد على ذلك كتاباه " دلائل الإعجاز " و " أسرار البلاغة ".

ثم بدأ الدرس اللسانى يتطور فى رحاب القرآن الكريم، فبدأ العلماء يفطنون إلى : لماذا استعمل القرآن هذه الكلمة ولم يستعمل الكلمة الأخرى المرادفة لها ؟ ومن هنا توصلوا إلى كوامن وأسرار فى الدرس اللسانى وأن لكل كلمة معنى يختلف عن الأخرى التى ترادفها. وأن الكلمة فى موضعها هذا تعنى معنى بينما فى موضع آخر تعنى معنى آخر. ومثال ذلك الفرق بين الوالدين والأبوين، فالوالدين تعنى الأم والأب مع إبراز الاهتمام بالأم أكثر، ولذلك استعمل لفظة الوالدين لأن الأم هى التى تلد. أما الأبوين فهى تعنى الأب والأم مع إبراز الاهتمام بجانب الأب. وفى مواضع أخرى نجد الأبوين تعنى الأب والجد عند بعض اللغويين. وعلى إثر ذلك صاغ العلماء نظريات الترادف والمشترك اللفظى والكلمات الأضداد وغيرها من النظريات اللغوية، واستنادًا إلى ما جاء فى القرآن الكريم من كلمات غير عربية الأصل صاغوا نظرية الاقتراض اللغوى.

ومع بزوغ علم التجويد ومخارج الحروف وطبقات الصوت، ظهرت نظريات الصوتيات ثم تبلور علم الصوتيات الذى نسميه الآن " الفونتكس ". وكذا دراسة البنية الصرفية للكلمة القرآنية، فظهر بعد ذلك ما سميناه فى عصرنا " المورفيم " وهو أصغر وحدة صرفية فى الكلمة وهو الحرف، فكل كلمة تتكون من مجموعة مورفيمات أى مجموعة حروف.

ولا يزال الدرس اللسانى فى تطور ونماء، ولو كشفنا عن كثير من نظريات الدرس اللسانى لوجدنا أنها فى أصلها ناشئة فى رحاب القرآن الكريم، بل إن كثيرًا من نظريات الدرس اللسانى الحديث الوافدة إلينا من الغرب لو تأملناها، لوجدنا بذورها وأصولها عند اللسانيين العرب الأوائل وأنها نشأت فى رحاب القرآن الكريم، ثم أخذها الغرب وأعادوا تصديرها لنا فى زى جديد.

***

د. أيمن عيسى - مصر

أن الاسترقاق ليس حديث العهد أو انه موضوع جديد ظهر مؤخراً، بل هو موضوع قديم جداً ترجع بداياته إلى قرون عديدة وكان يمثل استملاك الانسان لإنسان آخر يعمل على خدمته تحت مسمى ما يعرف بالعبد!، ويتم شراء العبيد من أسواق معينة أو عن طريق سرقتهم أو أسرهم اثناء الحروب، وكما هو معروف كان العبيد هم من يقومون ببناء القصور والمعابد والمدن وتسجل جميعها بأسم الملك أو مالكهم أي سيدهم،  فهم يقومون بالأعمال الشاقة دون أجر  وهكذا الحال مستمر إلى ان ظهر انبياء الله الذين يدعون الناس إلى المساوة وعدم ظلم الانسان لأخيه الانسان . لكن في الحقيقة موضوع المقالة اليوم لا يتحدث عن الرق أو العبيد فيما مضى وانما ما أود التحديث عنه الآن هو عبيد اليوم أو ما يعرف بالعبودية المعاصرة أو الحديثة وسأخصص الموضوع اليوم عن العبودية الاجتماعية و ليس عن عبيد المؤسسات وما يتعلق بالموظفين وعلاقتهم مع مؤسساتهم .

الانسان بالفطرة لا يحب الظلم ويحب أن يكون حراً في كل ما يتعلق بحياتهِ لكنه في الحقيقة هو من يجلب لنفسه أحياناً العبودية فيختار أن يكون عبداً بدلاً من أن يكون حراً، من خلال التعاملات الاجتماعية يصبح مقيداً ببعض المفاهيم الغير صحيحة فلا يستطيع ان يكون صادقاً مع نفسه ومع من يتعامل معهم ولعل صفة الكذب هي من أهم ما يتميز به الانسان الحر عن الانسان العبد فقد يكذب من أجل أبسط الأمور خوفاً من الملامة الاجتماعية أو ملامة الناس له فقد يبرر لنفسه أن الكذب هو وسيلة مشروعة لتلميع صورته أو جعله شخص مثالي في نظر الآخرين !، هذا بالإضافة إلى صفات أخرى كالغش وتبريره بانه ذكاء تجاري وفطنة!، وكذلك التملق والمحاباة ووو .. إلى آخره من الصفات . فيمكن القول ان تلك الصفات السيئة هي من تجعل من الانسان عبداً وفي بتلك الحالة يكون الانسان أسير نفسه وافكاره ولا يستطيع التعبير عن افكاره أو افعاله بصورة حرة دون اللجوء إلى صفات غير اخلاقية فيتقيد في حياته ويكون في موضع حذر من ان يكشف كذبه أو غشه في أي وقت ويبقى في صراع مع نفسه وبذلك يكون بعيداً تماماً عن الحرية التي تجعل منه انسان واثق من نفسه يتصرف بأريحية في حياته، لذلك من الأمور الصائبة هو ان يعيش الانسان ببساطة دون الوقوع بأخطاء تجعل منه عبداً مع ذاته ومع مجتمعه وإذا وقع في الخطأ كان سبيله الاعتراف والاعتذار خيراً له من الكذب . واختتم مقالتي بأن لم يمتلك الشجاعة في قول الحقيقة سيعيش عبداً طوال حياته..

***

سراب سعدي

 

السَّترُ هو لباس المرأةِ المسلمةِ الذي يشن عليه التغريبيونَ حملةً شديدةً خصوصاً هذهِ الايام مع تزايد ارتداء المسلمات للباس الساتر لاجسادهن.

واخترتُ كلمةَ السَّتر بدلاً من كلمة الحجب ؛ لأنَّ لباسَ المرأةِ المسلمةِ لايحجبُها عن ممارسة دورها في الحياة، ولايعزلها عن ممارسةِ أدوارها الاجتماعيَّةِ . والفقهاء استخدموا عبارة " الستر والساتر"في الصلاة .

أمّا الحجاب الذي يعني الحجب والعزل فقد ورد في نساء النبيِّ صلى الله عليه وآلِهِ وسلم لخصوصية نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول الله تعالى:(وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ).الاحزاب: الاية:( 53 ) .

والستر ظاهرةٌ فطريَّةٌ موجودةٌ في كل المجتمعات على اختلاف ثقافاتها ودياناتها ورؤاها ، ولكنَّ الاختلافَ ليس في الظاهرة نفسها بل في المساحات التي يجب ان تستر من الجسم وبالخصوص جسم المراة . اختلافُنا مع الاخرين هو اختلافٌ في الكم ، اي في كمية اجزاء الجسم التي ينبغي سترها. والا فالعريُ مرفوضٌ عند كل البشر باستثناء الشاذين منهم. نجد ذلك حتى في الديانات الاخرى كالراهبات في المسيحية وفي اليهودية وغيرها من الديانات سماويةً كانت أم وضعيَّةً.

هذا في جانب الكم ، اذ الاختلاف في كم المساحةِ المستورةِ من الجسمِ .ولكن هناك جانبٌ آخرَ من الستر في التصور الاسلامي هو الستر الباطني ... السَّترُ الذي أشرنا اليه هو " الستر الظاهري" ولكن التصور الاسلاميَّ للستر لايقتصر على الستر الظاهري ، بل يشدد -ايضاً- على الستر الباطنيِّ والذي هو " الحياء" ، يقولُ اللهُ تعالى:

(الآية: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾.الاعراف: الاية:26

ولباس التقوى لباس باطني يستر باطن الانسان ، وهو الحياء ، فالمرأةُ المتسترة ظاهرياً ومتهتكة باطنياً ، المرأة التي نزعت عنها جلباب الحياء لاقيمة لمظهرها الخارجي ، وان كان ذلك مطلوباً دينياً ؛ لان السترَ الظاهريَّ يؤدي وظيفةً اجتماعيةً وهي حماية المجتمع اخلاقياً من سعار الغريزة وانفلات الشهوات.. وهذا الكلام الذي نقوله ليس كلاماً طوباوياً وانما هو كلام يشهد عليه الواقع بالارقام الموثقة والمؤكدة ، فالستر الظاهريُّ يقوم بدور حماية المجتمع من الاهتزاز الاخلاقي والستر الباطني" الحياء" يقوم باكمال المهمةِ التي تتجاوز حدود الستر كواجب ؛ لان الواجب الظاهريَّ قد يتعرض الى الاهتزاز والضغوط ولكن قوّةَ الايمان من الداخل تحميه من الانهيار. الستر الباطني يجعل الشخصيَّةَ متماسكةً وصلبةً في وجه التحديات والظغوط . الستر الظاهري وحده لايكفي للصمود بوجه التحديات فالبعض من النساء خلعن سترهن الظاهريَّ بسبب الضغوط والسخرية لان تماسكهن الداخليَّ ضعيف لايقوى على الصمود بوجه المعركة المستمرة على سترِ المرأةِ المسلمة وعفافه.

***

زعيم الخيرالله

 

في العالم لا يختلف اثنان حول خطورة هجرة العقول والكفاءات المهاجرة، فشأن هذا الموضوع شأن المواضيع الساخنة الاخرى التي تعرقل حل المشاكل والقضاء على الازمات ودفع مسيرة التطور الاقتصادي والاجتماعي الى الامام. وفي صدد تقديم اجوبة شافية للاسباب الداعية لهجرة الادمغة العراقية، وبصورة عامة العربية، ساحاول في هذه المقالة الاجابة عن بعض الاسئلة حول تاريخ ودوافع الهجرة وانواعها وعن اسباب الهجرة وعجز العراق من الاستفادة من كفاءات الخارج.. لماذا يترك الموهوبون بلادهم ويهاجرون؟ ما هي عواقب مثل هذه الهجرات خاصة على قطاع التعليم؟ ما هي السياسات التي يمكن اعتمادها لوقف مثل هذه الهجرات من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة؟

ما هي هجرة العقول؟

هجرة العقول هي ظاهرة تتمثل في انتقال الأفراد ذوي المهارات العالية من بلد إلى آخر، مما يسبب فقداناً للقوى العاملة والإمكانات الاقتصادية للبلدان المصدرة (1). يمكن أن يحدث هذا لعدة أسباب، بما في ذلك:

* الفرص المهنية: قد يبحث الأفراد ذوو المهارات العالية عن فرص عمل أفضل في بلدان أخرى، حيث قد تكون الرواتب أعلى أو الفرص أكثر تنوعا.

* الظروف السياسية والاقتصادية: قد يهاجر الأفراد ذوو المهارات العالية من البلدان التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي أو الاقتصادي.

* العوامل الاجتماعية والثقافية: قد يهاجر الأفراد ذوو المهارات العالية من البلدان التي لا تلبي احتياجاتهم الاجتماعية أو الثقافية.

يمكن أن يكون لهجرة العقول تأثير سلبي كبير على البلدان المصدرة، فيمكن أن تؤدي إلى انخفاض الإنتاجية والابتكار، وزيادة البطالة، وانخفاض القدرة التنافسية.

تشير العديد من الدراسات إلى ظاهرة هجرة العقول العربية، لكن معظمها يعتمد على بيانات من دراسات سابقة. من الدراسات المهمة في هذا المجال دراسة الجامعة العربية (2)، التي تشير إلى أن فرنسا تستقبل 40% من العقول المهاجرة، والولايات المتحدة 23%، وكندا 10% ، ويقدر أن هجرة العقول تكلف الدول العربية ما لا يقل عن 200 مليار دولار سنوياً.

الهجرة حلم الباحثين العرب

يشير تقرير لمركز الخليج للدراسات الستراتيجية (3) إلى أن استطلاعا حديثا أجراه المركز شمل 1000 باحث في العالم العربي، وجد أن 91٪ منهم يرغبون في الهجر. ومن بين هؤلاء، ذكر 68٪ أنهم يرغبون في الذهاب إلى أوروبا، و55٪ إلى أمريكا الشمالية. كما يشير التقرير إلى أن الدوافع المالية لا تأتي دائما في المقدمة بالنسبة للباحثين العرب الذين يرغبون في الهجرة. ففي الدول الخليجية، ذكر 62٪ من الباحثين أنهم يريدون السفر إلى الخارج للاستفادة من المزيد من الحرية الأكاديمية، بينما ذكر 26٪ فقط أن دوافعهم تتعلق بدفع أجور أعلى.

تاريخ هجرة العراقيين

يتناول الدكتور عبد الحسين شعبان في مقالته على موقع الجزيرة (4) تاريخ هجرة العراقيين منذ تأسيس المملكة العراقية في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي شملت المسيحيين واليهود بشكل خاص. ويذكر أن الوضع السياسي المضطرب بعد انقلاب حزب البعث واندلاع الحرب مع إيران كان سببا آخر للهجرة. ويشير إلى أن الحصار الاقتصادي أجبر مئات الآلاف على مغادرة العراق بسبب فقدان الأمل في التغيير. ويستعرض أثار الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، والذي أدى إلى هجرة كبيرة بسبب التفجيرات ووجود الميليشيات. ويذكر إن عام 2006 كان أسوأ عام للهجرة، بينما تحسن الوضع قليلا في عام 2007، وعاد بعض العراقيين إلى بلادهم. ويعتقد أن هناك حوالي أربعة ملايين عراقي يتواجدون في الشتات، بالإضافة إلى ستة ملايين نزحوا داخليا بسبب داعش، لكن معظمهم رجعوا إلى مناطقهم. ويلفت الاهتمام إلى استمرار هجرة الأكراد إلى أوروبا، وزيادة عدد الضحايا جراء ذلك. ويبلغنا الكاتب إن العراقيين هاجروا بشكل أكبر وأسرع من غيرهم من العرب، سواء من لبنان أو سوريا، اللذين هاجرا قبلهم بوقت طويل.

في المقال نفسه، يذكر شعبان أن الهجرة العراقية لم تتوقف عن الارتفاع سنة بعد سنة، بسبب الظروف المعيشية الصعبة والأزمات السياسية والفقر والبطالة. فمثلاً، أصبح عدد العراقيين الذين يهاجرون إلى أستراليا أكثر من عدد الهنود وغيرهم، مقارنة بما كانوا عليه في بداية التسعينات.

يصنف شعبان الهجرات التي شهدها العراق في الزمن الحاضر إلى ست فترات رئيسية، أدت إلى خروج ملايين العراقيين من بلادهم. هذه الفترات هي: هجرة نهاية السبعينات بسبب الإضطهاد، هجرة حرب الخليج، هجرة تشريد الأسر العراقية، هجرة احتلال الكويت، هجرة سقوط الديكتاتورية، وهجرة التهجير الداخلي والخارجي للمسيحيين وغيرهم من الأقليات.

نسب المهاجرين إلى الدول الأوروبية ونسبة الكفاءات

وفقا لتقرير من المفوضية الأوروبية (5)، تختلف نسبة المهاجرين والكفاءات بين الدول الأوروبية باختلاف حجمها وسكانها. نلاحظ أن الدول الأوروبية المتقدمة التي تستطيع استيعاب أعداد كبيرة من المهاجرين مقارنة بسكانها تجذب معظم الهجرات. مثلا، في لوكسمبرغ التي يبلغ عدد سكانها حوالي 650 ألف نسمة، يشكل المهاجرون نحو نصف هذا الرقم. أما في المملكة المتحدة التي يبلغ عدد سكانها 67 مليون نسمة، فإن نسبة المهاجرين لا تزيد عن 13.5%، وما يعادل أكثر من 9 ملايين مهاجر. لكن هذه العلاقة بين حجم الدولة ونسبة المهاجرين ليست ثابتة في جميع الدول الأوروبية، فهناك عوامل أخرى تؤثر على توزيع المهاجرين على البلدان الأوروبية، مثل اللغة وفرص العمل والثقافة الاجتماعية وسهولة الوصول وطلب اللجوء. كما أن العلاقات الأوروبية المشتركة تلعب دورا في تحديد عدد اللاجئين في كل دولة.

ووفقا لتقرير "هجرة الأدمغة" الذي أصدرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (6)، فإن نسب هجرة الأفراد ذوي المهارات العالية تفوق نسب هجرة الأفراد ذوي المهارات الضعيفة في معظم الدول. يظهر هذا التحيز في المهارات في نسب الهجرة بشكل واضح في الدول ذات الدخل المنخفض. تعاني الدول الصغيرة والفقيرة من أعلى نسب هجرة الأدمغة فتفقد هذه الدول التي تضررت بشدة بهجرة أكثر من 80٪ من "أدمغتها" إلى خارج حدودها مثل هايتي وجامايكا والعديد من الدول الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة. هناك حوالي 20 دولة أخرى تخسر بين ثلث ونصف خريجي جامعاتها. معظم هذه الدول في أفريقيا جنوب الصحراء (مثل ليبيريا وسيراليون والصومال) وآسيا (مثل أفغانستان وكمبوديا). وتعتبر بعض الدول الصغيرة ذات الدخل المرتفع، مثل هونغ كونغ وأيرلندا، استثناءات.

مؤشر هجرة العقول

يقيس مؤشر هجرة العقول (7) الآثار الاقتصادية لانتقال البشر (لأسباب سياسية أو اقتصادية) وكيف يؤثر ذلك على تطور الدولة. كلما كان المؤشر أعلى، كانت الهجرة أكثر. هذا التفسير مبني على نتائج 177 دولة لسنة 2022. المتوسط العالمي للمؤشر هو 5.21. أعلى الدول العربية في مؤشر الهجرة والتي تنتمي إلى أعلى 20 دولة هي فلسطين وسوريا والسودان. بينما تحتل المغرب موقعا متقدما بمؤشر 7.40 والعراق قريب منه بمؤشر 6.40.3340 مؤشر هجرة العقول العراقية

مؤشر هجرة العقول. من 0 (منخفض) الى 10 (مرتفع)

لو نظرنا الى عدد المهاجرين من البلدان العربية ومن بلدان الشرق الاوسط لوجدنا اختلافات كثيرة، ويحدد هذه الهجرة على الاغلب عوامل داخلية وتاريخية. تمثل تركيا والجزائر وايران وتونس والعراق ولبنان ومصر اكثر الدول تصديرا للمهاجرين. واذا نظرنا الى نسبة المهاجرين من اصحاب الشهادات العلمية والكفاءات لوجدنا ان هذه النسبة لا تتناسب مع عدد المهاجرين. يبدو ان بعض الدول تصدر عمالا وبعضها تصدر كفاءات. نسبة المهاجرين العلميين تبدو عالية جدا في دول كلبنان وايران والمغرب وتونس والعراق (6).

اسباب الهجرة: قد تبدو الاسباب واضحة ولا غبار عليها الا ان تسلسها في الاهمية قد تختلف من بلد لاخر. معظم اسباب الهجرة تعود الى تحسين الوضعية الاقتصادية، وتوفر فرص العمل ثم الهجرة لغرض الدراسة ولاكتساب الخبرة والمعرفة، وكنتيجة لتفشي الفساد في البلد وسوء نظام الحكم، والخوف من الاضطهاد السياسي، وعدم توفر الامن، ولاسباب عائلية ودينية.

مخاطر الهجرة: يعتمد خطورة الهجرة على كونها هجرة للعامة او هجرة للعقول والكفاءات. كما ان هناك انواع مختلفة من هجرة العقول بالخصوص تلك العقول التي تكونت في المهجر عن طريق الدراسة وعادت للوطن الا انها هاجرت، وتلك العقول التي تكونت بالمهجر ولم تعد للوطن. هذه عقول درست وتدربت في المهجر الا ان الحياة والعمل قد اغراها فبقت في الخارج. على الجانب الاخر تجد هناك الكثير من العقول التي تكونت في الوطن الا انها اجبرت على الهجرة، وهناك شريحة مهمة من العقول التي نتيجة لشحة الامكانيات وضعف القاعدة العلمية وانعدام الحريات الاكاديمية اجبرت على الخمول والانضواء ولم تقدم شيئا ملحوظا لبلدها.

الهجرة الخارجية هي ما يتكلم عليه الكتّاب والمختصين عندما يريد منها حساب التكلفة للبلد. والحقيقة ان الكلفة لا تكون دقيقة في معظم الاحيان، ولربما في بعض الاحيان تدر على البلد اكثر مما كلفته. الكلفة هي مقدار ما صرفه البلد على تدريس وتدريب الشخص. كل هذا يعتمد على مستوى التدريب وحاجة المجتمع والصناعة لهم. ولكنه في بعض من الاحيان يبقى الارتباط بالوطن الام شديدا مما يفيد الوطن سواء بالاموال المحولة والمستثمرة في داخل البلد، وهذا ما يحدث حاليا عن طريق المهاجرين العرب الى دول الخليج، والمغاربة خاصة في دول المهجر كفرنسا واسبانيا وكندا.

اسباب هجرة العقول العراقية او بقاءها في الخارج

ادناه الاسباب الرئيسية التي ادت في الماضي ولازال بعضها يؤدي الى هجرة العقول العراقية الى الخارج:

- الحروب والارهاب والاضطهاد وانتشار الاعراف العشائرية

- انتشار ظاهرة خطف واغتيال الأكاديميين والاطباء والكفاءات بصورة عامة

- فقر الامكانيات والقدرات والذي يعكس نقص الخدمات الاساسية، انخفاض مستوى المعيشة ونوعية الحياة معا

- ارتباط التوظيف بالارتباط الحزبي او بشراء الوظيفة

- المجتمع العراقي اصبح بيئة طاردة للكفاءات العلمية وليست جاذبة أو ‏‏حاضنة للكفاءات

- ضعف مستوى الانفاق على التطوير والابتكار والبحث العلمي ‏ والتقني

- هيكلية ادارية بيروقراطية فاسدة وضعيفة ومتخلفة

- عدم إشباع روح البحث والتطوير أو المشاركة الفاعلة في الرأي والخبرة أو الحصول على الدعم المادي والمعنوي

- النهج والاراء العدائية ضد كفاءات الخارج.

كيف يمكن وقف هجرة العلماء؟

لابد من سياسة هادفة لجذب العقول كوسيلة لانقاذ العراق من الركود الاقتصادي والتكنولوجي ولحاجة الوطن للاختصاصات العلمية والهندسية والطبية ولقيادة خطط التنمية، ولاجل تأهيل المعرفة والفكر والعلم وتأثيرها في المجتمع العراقي، وجعل التفكير والاختصاص المهني والقدرة العلمية جزءا من نسيج المجتمع. ولاجل تحقيق اهداف هذه السياسة لابد ان تتضمن عوامل جذب ومغريات، ومنها:

- توفير الامان والاستقرار وتقليل الاختناق الطائفي

- وضع الشخص المناسب في المكان المناسب

- تحسين مستويات الدخل والمعيشة

- تعديل قانون الخدمة الجامعية

- زيادة امكانات البحث العلمي وتشجيع الاستثمار والتطوير

- تقليل الاجراءات الروتينية فيما يتعلق بالاوراق الرسمية التي تنهك صاحب الكفاءة العائد

- ابعاد الصراعات السياسية عن الجامعات

- تعديل التشريعات والقوانين والامتيازات الاقتصادية بما فيها مساعدة العائدين ماديا وتسهيل معاملاتهم

- القضاء على الفساد الاداري والمالي ودعم الجهاز الاداري للدولة بالكفاءات

- الحد من ظاهرة العداء لكفاءات الخارج ومحاولة فهمها ووضع افضل السبل لمعالجتها

حان الوقت لفهم وقبول أن هجرة الكفاءات هو جزء من الحياة في القرن الحادي والعشرين طالما هناك فروق في مستويات المعيشة والحريات وفرص العمل بين البلدان. تحتاج بلداننا إلى الاقرار بأنها تتنافس مع أفضل الدول والمؤسسات في العالم من أجل القوى العاملة عالية الجودة.

لم يجلب مطلع القرن الحادي والعشرين تكنولوجيا جديدة مثل الذكاء الصناعي وحواسيب الكونتم والتحرير الجيني فحسب، بل جلب أيضا أنماطا يمكن من خلالها ربط العلماء في جميع أنحاء العالم في أي وقت من الأوقات. في هذا العالم المعولم قد يكون لدى الكفاءات في العالم المتقدم اعمال خاصة بهم في العالم النامي (8). أصبح التواصل السهل والسفر السريع والتعاون الأكبر بين البلدان المتقدمة والنامية أكثر شيوعا بشكل متزايد ونحن بحاجة إلى تطوير طرق يمكن للكفاءات المهاجرة من خلالها المساهمة في بلدانهم الأصلية. ومن هذه الطرق هو الاستثمار في الكفاءات المهاجرة.

يوجد في الدول النامية نموذجين تم تنفيذىما من أجل مواجهة هذه الظاهرة، وهما: النموذج الاول والذي اختارته كل من كوريا الجنوبية وتايوان، وهو مكلف جدا من الناحية المالية، انه يفترض إعادة إنتاج نفس شروط العمل في البلد المتقدم للتمكن من تنظيم عودة حاملي الشهادات. وتهدف هذه الدول إلى استعادة الاستثمار الذي بذل في إعداد هذه الكفاءات، بالاضافة إلى فائض القيمة الناتج عن الخبرة المكتسبة في بلد الاستقبال (8).

اما النموذج الثاني ويعد أكثر براغماتية، حيث يهدف إلى جعل ذوي الكفاءات المهاجرين نافعين لبلدهم الاصلي حيثما يوجدون .هىذه التجربة خاضتها بعض البلدان، من بينها كولومبيا (شبكة كالداس) وجنوب أفريقيا (شبكة جنوب افريقيا للكفاءات المهاجرة في الخارج) وكذاك الهند من خلال العلماء ورجال الاعمال الهنود العاملين في "السيليكون فالي" بالولايات المتحدة الامريكية والذين أسسوا رابطتين من أشهر روابط العلماء في السليكون فالي وهي "رابطة العلماء الهنود العاملين في السيليكون فالي"، و"منظمة رجال الاعمال الهنود العاملين في السيليكون فالي" . هذا النموذج الذي لا يفترض العودة الفعلية ويقتضي الامر تطوير البلد لشبكة من الباحثين المغتربين هدفها من جهة تواصل الكفاءات فيما بينيم ومن جهة أخرى توطيد العلاقات مع بلدهم حتى يستطيعوا الاسهام -حيثما يوجدون -في التنمية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية لبلدهم الاصلي. وقد طبقنا هذا النموذج بتاسيس شبكة العلماء العراقيين في الخارج (نيسا) والتي تضم النخبة المهاجرة التي تحتل المواقع الاولى للصحوة التكنولوجية والعلمية.

صيغة لاستثمار الطاقات العراقية المتواجدة في الخارج

ان فرص الاستفادة من كفاءات الخارج هائلة ولا تتطلب تخصيص مبالغ مالية كبيرة اذا ما اعتمدنا مبدأ "تحفيز الكفاءات على استثمار طاقاتها داخل العراق" وذلك بالاستناد الى خيار بقاء هذه العقول في الخارج كبديل عن خيار العودة لكون هذا الاسلوب هو الوحيد القادر فعليا على الاستفادة من العقول المهاجرة لانه حل منطقي وعملي وهو حل ملائم لاصحاب الكفاءات المهاجرة التي تريد خدمة وطنها مع بقاءها في الخارج، ويمكن مراجعة كتاب "العقول العراقية المهاجرة بين الاستنزاف والاستثمار" للدكتور نادر عبد الغفور احمد (9) والذي يقدم دراسة تحليلية لهجرة العقول العراقية وكيفية استثمارها لخدمة الوطن بالاستناد الى خيار بقاء العقول في خارج الوطن.

وخلاصة ما يستهدفه خيار الاستثمار في مجال التعليم العالي هو بقاء العقول في الخارج مع اشراكهم في التدريس والاشراف على الدراسات العليا عن طريق الزيارات والتواجد لفترات قصيرة داخل الوطن او "التعليم عن بعد" وطرق ايصال المعرفة الاخرى.

باختصار، يتطلب استثمار الطاقات العراقية المتواجدة في الخارج اتخاذ الاجراءات التالية:

- تشكيل لجنة خاصة (والافضل انشاء دائرة – دائرة استثمار الكفاءات المهاجرة - لها تركيبها الاداري الخاص)

- تشكيل بنك معلومات عراقي يضم معلومات كافية عن العقول المهاجرة وكفاءاتها العلمية والفنية والادارية.

- تشكيل هيئة استشارية ترتبط بدائرة الكفاءات المهاجرة لغرض استطلاع اراء العقول المهاجرة بخصوص استثمار طاقاتهم وابداعاتهم لخدمة الوطن وتوضع خلاله استراتيجية اولية تهدف للاستفادة من العقول المهاجرة.

- تقوم الدائرة بتنظيم العلاقة بين العقول المهاجرة والجامعات العراقية والملحقيات الثقافية في الخارج ووضع الجداول الزمنية للمحاضرات ولتقديم الخبرة.

- دعم الملحقيات الثقافية بجهاز وظيفي متكامل لتكون الرابط بين العقول المهاجرة والوطن ولتنظيم الزيارات ولكي تتمكن من توفير الدعم اللوجستكي لمشروع "التعليم عن بعد" وتنظيم المحاضرات والسمينرات المنقولة عن طريق الانترنت الى الجامعات العراقية.

هذا المشروع مشابه لحد كبير مع مشاريع لدى بعض البلدان، مثل الهند والصين. على سبيل المثال، في حزيران من هذا العام، أطلقت الحكومة الهندية برنامج (فايشفيك بهارتيا فايجيانيك)، الذي يقدم المنح الدراسية للعلماء الهنود في الشتات الذين يتعاونون مع المؤسسات الهندية ويقضون شهرا أو شهرين في الهند كل عام.

تذكر رنا دجاني في مقالة لها في مجلة النيجر (10) درسا من دروس القمة العالمية للمغتربين في دبلن في أبريل 2022، والتي نظمتها المنظمة الدولية للهجرة بخصوص اهمية بناء شبكات تصاعدية للمغتربين يقودها الأعضاء والتي ينبغي لها أن تتواصل مع الحكومة والوكالات العلمية والأكاديميات الوطنية والمجتمع العلمي في بلدها الأصلي. وتعتبر شبكة العلماء العراقيين في الخارج (نيسا) مثالا ناجحا على مثل هذه الشبكات، وهدفها توفير الخبرة والدعم للبلد في مجال العلوم والتكنولوجيا وفروع المعرفة الاخرى باعتبارها جزءا حيويا من التنمية والتطوير في العراق ولتبادل المعرفة والزيارات لتدريب العلماء والفنيين والخبراء والمناقشه في مجال التربية والتعليم والابتكار ونقل التكنولوجيا.

وما نصبو اليه هو ان يتم العمل على تعزيز الجوانب التنظيمية والادارية للزيارات العلمية على مستوى الوزارات والجامعات لتحسين النشاط التدريبي والاستشاري والبحثي وتعزيز فاعليته وبحيث يصبح دعوة العلماء عملا مستمرا لكل وزارة ولكل جامعة. لذلك يتوجب العمل وبسرعة لكي لا يستمر النزف هو ان تقوم الدولة والوزارات المختلفة بوضع الاجراءات الضرورية وخلق الاليات العملية وتخصيص الاموال اللازمة لزيادة ميزانيات البحث والتطوير وبوضع التعليمات التي تؤدي الى تشجيع وتسهيل الدعوات لعلماء وكفاءات الخارج بزيارة الوطن والمشاركة في بناءه. كما يتطلب اخذ الاجراءات التي من شأنها ان تشجع كل كفاءة خارجية بالاتصال بجامعة او بمعهد تدريب او تطوير او بوزارة لاعلامها بوجوده وبرغبته لتقديم خبرته حتى ولو كانت على صورة محاضرة قصيرة او اجتماع قصير.

ان جامعات ومؤسسات البحث والتطوير العالمية تتطلع وتتوق الى زيارات العلماء من خارجها وتخصص التمويل اللازم لاستضافتهم والاستفادة من خبرتهم، كما تقوم الشركات العالمية بالاستفادة من خبرة العلماء عن طريق الاستشارة وتكلفها مثل هذه الفعاليات أموالاً طائلة لان العلماء لا يمنحون جهودهم مجانا للشركات الصناعية مثلما يمنحون هذه الجهود للجامعات الاخرى. فاذا كانت جامعاتنا العراقية ومؤسسات البحث والتطوير في التعليم العالي وفي العلوم والتكنولوجيا وفي الوزارات الاخرى راغبة حقا في الاستفادة من العقول المهاجرة فستجد المئات من العلماء العراقيين مستعدين لتلبية الدعوة وتقديم الخبرة، مستجيبين بذلك إلى الرغبة بتعويض وطنهم الاصلي جزئيا من الضرر الواقع نتيجة هجرة تلك الأدمغة.

***

ا. د. محمد الربيعي:

.........................

المصادر

1- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، "هجرة الأدمغة"

2- الجامعة العربية، "تقرير حول هجرة الأدمغة في الوطن العربي"، 2017.

3- تقرير مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية، "هجرة العقول العربية: الأسباب والآثار"، 2018

4- عبد الحسين شعبان، "هجرة العراقيين: أسبابها وآثارها،" موقع الجزيرة نت، 2023.

5- تقرير "هجرة الكفاءات إلى أوروبا" الصادر عن المفوضية الأوروبية، 2023

6- تقرير "هجرة الأدمغة" الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، 2023

7- تقرير "مؤشر هجرة العقول" الصادر عن مؤسسة بريتش كونسل، لندن، 2022

8- زينب محمد العبد الله، "هجرة الكفاءات العلمية من الدول العربية: الظاهرة، الأسباب، الآثار، وسبل الحد منها." كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2008

9- نادر عبد الغفور احمد، "العقول العراقية المهاجرة بين الاستنزاف والاستثمار"، مؤسسة الرافد، 2003

10- رنا ديجاني، "العلماء في المهجر مورد قوي لبلاهم الأصلية" مجلة النيجر، 622، 671، 2023

 

يعدّ العراق بلد الشعر والشعراء، ولا يمكن لبلد هو موطن الشعر والشعراء ما لم يكن اهله مثقفين، وقيل حديثا.. مصر تكتب ولبنان تطبع والعراق يقرأ.

والتساؤل: كيف هو حال المثقف العراقي بعد عشرين سنة عاشها في نظام ديمقراطي تحكمه عملية سياسية تقوم على المحاصصة والطائفية؟!

في مقال سابق اشرنا الى ان النظام الدكتاتوري اعتمد ثقافة الحاكم الواحد والحزب الواحد، وحصل بعد سقوطه أول تحول سيكولوجي بظهور (ثقافة الضحية) التي صنفت العراقيين الى ضحيتين هما الشيعة والكورد، وان على الضحية المظلومة ان تقتص من الجلاد الظالم الذي هم السنّة.

وحصل ما كنا حذرنا منه في حينه يوم قلنا لمن هو في السلطة بان انتصار الضحية على من تعدّه جلادها سيدفعها سيكولوجيا الى التعبير بانفعالية في تضخيم ما أصابها من ظلم، وستشرعن الاقتصاص ممن كان محسوباً على الجلاد. وكالعادة فان سيكولوجيا السلطة في العراق لا تأخذ بما يقوله المفكرون وعلماء النفس والاجتماع.. فكان الذي تعرفونه من الكوارث والفواجع.

بعدها بسنة، اي في(2004) ظهر التحول السيكولوجي الثاني تمثل في (ثقافة الأحتماء).. فبعد أن تعطل القانون وصارت الحياة فوضى والسلطة لمن هو أقوى في الشارع.. اضطر البغداديون بشكل خاص الى أن يغادروا بغداد ليحتموا إما بالعشيرة أو المدينة التي ينتمي لها.. كأن يذهب الراوي الى راوة مثلاً.

ومن يومها تراجعت ثقافة الانتماء للوطن التي توحّد،، وشاع وتعمّق اخطر تحول سيكولوجي هو (ثقافة الولاءات المتعددة) التي فرّقت العراقيين واوصلتهم الى أبشع حال تمثل في احتراب الهويات القاتلة لسنتين كارثية(2006-2008). ومن يومها أيضاً تراجعت ثقافة المواطنة التي سدد لها بريمر ضربة ثقافة التثليث(شيعة، سنّة، كرد)، وثقافة التسامح وثقافة الحوار، لتظهر ثقافات متعددة الأسماء :

ثقافة التحرير، ثقافة الغزو، ثقافة العمالة، ثقافة الارهاب، ثقافة المقاومة، وثقافة كاتم الصوت. وكان أقبحها هي ثقافة الطائفية التي وزعت العراقيين الى جماعات تفرقها ثقافة التعصب وتجمعها ثقافة الكراهية.

ثقافة.. الحول العقلي!

اوصلتنا متابعتنا للعملية السياسية وحال الثقافة في العراق خلال العشرين سنة الماضية الى ابتكارمصطلح جديد في علم النفس هو (الحول العقلي). ويعني أن المصاب به يرى الايجابيات في جماعته ويغمض عينه عن سلبياتها، ويضخّم سلبيات الجماعة الأخرى ويغمض عينه عن ايجابياتها، ويرى ان جماعته، طائفته، قوميته.. على حق والأخرى على باطل، وان هذه الأخرى هي سبب الأزمات مع ان جماعته شريك فيها.

في البدء، كانت ثقافة الحول العقلي مقتصرة على حكام استلموا السلطة بعد 2003، ثم انتشرت عدواها بعد 2008 وبدءا من عام 2008 لتصاب بها كتل سياسية وفصائل مسلحة، كل واحدة ترى ان فكرها.. عقيدتها.. رؤيتها للأمور هي الصح والأخرى زندقة او ضلالة او غباء.. واشتد هذا الحول في 2019 ليوصل الجميع بأن الحكم للسيف لا للعقل.. فحصد السيف رقاب المئات بينهم قادة قوم وشباب فكر وابرياء وصبايا واحداث.. وامهات وحبيبات مفجوعات. ووصل الحال أن اهل العراق ما عادوا (اهل نظر وفطنة ) كما قال الجاحظ، بل انهم اصيبوا بالحول العقلي، والأخطر ان عدوى الحول العقلي اصابت وزارة الثقافة، واصابت مثقفين يعدون انفسهم ( قامات ) وآخرين ينتمون الى منظمات معنية بالثقافة التنويرية ومؤسسات علمية بعضها يترأسها (أحول عقل) خالص!.

بأن (الحول العقلي) انتقل بالعدوى عبر عشرين سنة ليصيب حتى من كان يعد نفسه تقدميا!.

استطلاعات رأي

في 2018 استطلعنا رأي جمهور الفيسبوك عن حال المثقف بعد التغيير، اليكم نماذج من اجاباتهم:

* المثقف العراقي يواجه ثقافة دينية طائفية عشائرية مدججة بالسلاح والمال والنفوذ لكنه رغم ذلك يعمل ويبدع ويقاوم.

* المثقفون لا يملكون قوة المال ولا غاز مسيل للدموع والهجمة الان ضخمة وقوية.

* بدون زعل، لانهم لم يسمعوا كلام غادة السمان، فهاجروا ثم ذبلت ازهارهم هناك ولم يدركوا ان الاشجار لا تهاجر.

* المثقفون.. منهم من وجد ذاته بعيدا وغادر الوطن ولم يتذكره، والموجودون في واد والجماهير في واد اخر، ومنهم من انساق وراء مغريات السلطة للاسف.

* لا يوجد تاثير للمثقف على سواد الناس الذين يمثلون قاعدة الجهل العريضة ويتأثرون بخزعبلات الملّا والمشعوذ، والبعض منهم يعتبر المثقف بانه ينشر الكفر بين الناس.

* لا يوجد مثقفون في العراق بل يوجد متعلمون يجيدون الكتابة واللغوة في المقاهي والمطاعم والفنادق الشعبية.

بعد خمس سنوات وفي (2023)اعدنا نفس الأستطلاع.. اليكم نماذج من اجابات حرصنا ان تحمل افكارا مختلفة:

*حسب رأي غرامشي.. الاكثرية في المجتمع هم مثقفون لكن بثلاثة اصناف: التقليدي المهني مثل الموظف والمعلم، والثاني الذين يعرفون الأخطاء ويقبلون بها طمعا بعطاء من السلطة وهم الأغلبية في العراق من كتاب وفنانيين وآخرين، والثالث هم الذين يشخصّون الاخطاء ويعملون على تصحيحها ويدافعون عن التغيير نحو الأفضل.

* المثقف العراقي الحقيقي غائب او مغيب في وسط هذا التزاحم والفوضى وقلة الوعي وانتشار الخرافة والتدين الزائف والجهل المدقع والتدليس والاميه بكل أنواعها. هناك مثقف اجتماعي يحمل هموم الناس ويسعى إلى تغير الواقع، واخر لا يهمه سوى منجزه الأدبي. أما الانتهازيون والمتكسبون فهم الفئه الأكبر الآن، وهولاء يلعقون ما ترميه لهم السلطه ويعتاشون على فتاتها.

*صنف ابن المؤسسات السياسية، وصنف غارق في العزلة، وصنف مهووس بوجع الوطن.

* الثقافة معرفة كل شيء عن الشيء ومعرفة الشيء عن كل شيء. المثقفون في وقتنا الحاضر قليلون جدا والسبب هو تغلب النزوات والغرائز على العقل بسبب ظروف الحرب وقساوة الحياة وتدمير عقل الانسان. المثقف هو الذي يعمل بكل الاتجاهات ويوازن بين التوافقات لحل لغز الحياة والحديث يطول يا دكتورنا الغالي.

*المثقف العراقي انسان اولا، منهم النرجسي والموضوعي والذاتي والمتواضع والمتكبر الذي لا تغير ثقافته من طبعه. الكم الهائل من ثقافة العصر جعلت من الصعب على المثقف الحفاظ على موقعه، ولا اعتقد ان على المثقف ان يطلب من الآخرين جلد ذواتهم، وهو الأمر الذي يحدث لدينا ولا يحدث في العالم المتقدم الذي يعتبر المشاركة الثقافية فخرا لصاحبها.

* المثقف العراقي اليوم نتاج بيئة مجتمعية وسياسية متدنية، فاعتقد مثل هذه البيئة ستنتج عقلا ثقافيا يحاكيها.. لذلك امثالكم نتاج بيئة مستقرة كان فيها الحراك الثقافي والسياسي يستطيع الحركة. اليوم المثقف متعالي لاينزل للشارع وكأن الثقافة تقول له: تثقف لتعلو على الآخرين. المثقف لا زال بعيدا عن الناس والناس بعيدة عن المثقف، وحين يتحقق الاستقرار السياسي عند ذاك سيصل صوته والناس ستقترب منه، اما في ظل بيئة شائكة معقدة كالتي نشهدها فأن السعي وراء المال هو الهدف. وللاسف الكثير يحمل صفة المثقف لكنه لا يزال يفكر بعيون طائفية وما ان يمس طائفته (يعوج براطمه). خالص احترامي دكتور.

*المثقف الحقيقي ذو الكرامة والاحساس الوطني منزو (بامكاني أن أعطي اسماء ولكن أخشى أن أصحابها لا يوافقون). أما البقية فهم مثقفو الطموح.. أن يكون مستشارا في سوق بيع وشراء المثقف والثقافة والتجارة بها كما التجارة بالدين وهم كثر.

* لا يوجد مثقفون في العراق، لان الثقافة تعني الوعي و الفكر و المحتوى المثمر، من يدعي الثقافة في هذا البلد اما ان يكون جزءا من ماكنة التجهيل او تراه صامتا.

* الثقافة العراقية الرصينة هي التي أرسى ركائزها ذلك الجيل الذهبي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ويعود الفضل لمثقفي الحزب الشيوعي الذين اسسوا مدارس في الشعر ظلت منهلا خصبا للباحثين عنها. الثقافة العراقية كانت مزدهرة في الستينيات بشكل رائع جدا في مجالات القصة والشعر والفن التشكيلي والنحت بحيث حتى دور الطباعة العربية أطلقت شعار حينها ان القاهرة تؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ.. اين نحن الآن من ذالك العصر الذهبي يادكتور؟!

اشكاليات المثقف العراقي

عاش المثقف العراقي بعد التغيير، وما يزال، ثلاث اشكاليات:

الأولى.. سيكولوجية، يشعر فيها بالتهميش فيعاني بسببها الاغتراب وفقدان المعنى من وجوده في الحياة.

الثانية.. فجوة كبيرة بينه وبين المجتمع، خلاصتها انه يرى المجتمع قد وصل الى حالة (بعد ما تصيرله جاره).

الثالثة الأخطر.. اشكاليته مع السلطة، وهذه تحتاج ان نتوقف عندها لنوجزها بالآتي:

* المثقف ناقد بطبيعته للجوانب السلبية، فيما السلطة بطبيعتها لا تحب من ينقدها. (الحاكم العراقي يحيط نفسه بمستشارين يقولون له ما يحب ان يسمعه).

* الصورة التي يحملها المثقف عن السلطة انها (عدوة) له، والصورة التي تحملها السلطة عن المثقف الملتزم بقول الحقيقة انه (عدو) لها.. وهذه متلازمة يبدو انها ستبقى أبدية.

* السلطة اعتادت ان تقوم بدور المتحدث، وعودت الناس على دور المنصت، فيما المثقف يعدّ نفسه الاكفأ بالتحدث والاصدق.. فتخشاه لأنه اقرب منها نفسيا للناس.

* السلطة تعدّ قناعاتها هي الصحيحة لأنها ناجمة، برأيها، عن (طبخة) ناضجة وعملية، فيما (طبخة) المثقف ناقصة برأيها.. ولهذا فانها لا تستمع لرأيه حتى لو كان يمنح (طبخته) طعما طيبا.. الا اذا كان حلوا في فمها.

* السلطة تميل الى التعميم وتعمل على ان تشيع ثقافة تنتج افرادا بالمواصفات التي تريدها هي، فيما المثقف يميل الى التفريد، ولا يضع للثقافة مواصفات او حدودا.

* السلطة تشعر بالنقص الثقافي امام المثقف، فتتولد لدى كليهما عقدتان سيكولوجيتان متناقضتان: شعور السياسي بالنقص وشعور المثقف بالاستعلاء.

في الجانب المشرق.. هنالك مثقفون تبنوا قضية الجماهير وعملوا على ان يفهموا السلطة ان الأحتجاج السياسي سلوك مشروع وحق ديمقراطي وثقافة جديدة، ويفهموا الجماهير ان التظاهرات.. واجب ديمقراطي أن تكون سلمية. وحصول ظاهرة بدأت تعيد الق وزهو الثقافة العراقية تمثلت بفتح مراكز ومؤسسات ومنظمات ثقافية في العاصمة بغداد ومراكز المحافظات والمدن.. وبعض القرى ايضا!.. ما يعني حصول ادراك جماهيري (شعبي) ان وسيلة التغيير لأن يعيش العراقيون في وطن يمتلك كل مقومات الحياة بكرامة ورفاهية.. هي الثقافة!، شرط أن يفهمها بانها ليست الكتابة والقراءة فقط، بل والفن والموسيقى والانفتاح على ثقافات وفنون الشعوب.. وجميل لو يكمل حبات مسبحتها بتعلم لغة أجنبية!.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

النقاش حول تفاوت العقول والثقافات بين الأمم والمجتمعات، يفتح الباب على قضايا كثيرة، ربما نود تناسيها. لكنه أيضاً يكشف عن مفاهيم جديرة بالتأمل. خذ مثلاً معنى العقل: هل يساوي الذكاء، أم الثقافة، أم الاتزان، أم القدرة على التفكر، أي الفك والربط؟ هذه - كما نعرف - معانٍ ذكرها باحثون في مختلف الأزمنة. لكن لو سألنا أنفسنا: هل توجد حقاً أمة بكاملها أذكى من الأمم الأخرى، أو أكثر ثقافةً، أو اتزاناً؟

لو سألت شخصاً من الصين مثلاً، فسوف يبادر بالقول إنَّ الصينيين أكثر ذكاءً. وسيدلل على قوله بعشرات الشواهد عن التاريخ الحضاري القديم، والتقدم التقني الراهن، وتفوق التلاميذ الصينيين في الرياضيات... إلخ. ولو سألت عربياً لضرب لك أمثلة أخرى، ولو سألت إسرائيلياً لفعل الشيء نفسه، وهكذا.

تلك شواهد صحيحة بالتأكيد. وكل منها يدل على أن هذه الأمة أو تلك، تتمتع بذكاء أو ثقافة أو اتزان أو قدرة على التفكيك والربط. لكن المقارنة لا تثبت أبداً أنَّ هذه الأمة أذكى من تلك، بمعنى أنَّ صفات الذكاء أعلى من نظيرتها في الأمم الأخرى، وأنها جارية في أنسابهم وجيناتهم. الأميركيون في مقدمة أمم العالم اليوم. لكنَّهم لم يوجدوا قبل عام 1600 حين بدأت أولى الهجرات من أوروبا. الصينيون متقدمون في جوانب كثيرة في الماضي والحاضر، لكن هذا ليس حالهم على الدوام، فقد مرّوا بأزمان مات فيها الآلاف منهم، بسبب المجاعة. والمجاعة لا تأتي إلا من التخلف والبؤس. وكان العرب أقوى الأمم في أزمان سابقة، وليسوا اليوم كذلك. وكان البرتغاليون سادة البحار في يوم من الأيام، بينما لا تكاد تسمع بهم اليوم.

نفترض أن هذا يكفي لنفي الصلة بين العقل والنسب. كما يوضح أن اختلاف العقول هو اختلاف ثقافات، أي تنوع يسير أفقياً نحو اليمين أو نحو الشمال. فلكل أمة ميزات تخالف غيرها في جانب أو أكثر. لكننا لا نستطيع أخذ صفات أمة بعينها معياراً لتحديد قيمة الآخرين على سلم عمودي.

- ما هي أهمية هذا الكلام؟

لقد وجدت الأكثرية الساحقة من الناس، عرباً وغير عرب، يتقبلون الفكرة السابقة، وينفون بشدة أنهم أقل ذكاءً من غيرهم، أو أن أمتهم أقل معرفةً من سائر الأمم. ويصرّون على أن تفوق إحدى الأمم في وقت بعينه، ناتج من ظروف وإمكانات لم تتوفر لغيرها. ولو توفرت لحصل هنا ما حصل هناك بلا فرق.

الأمر المثير للدهشة، أن هؤلاء أنفسهم، أو كثيراً منهم، يتقبلون فكرة أن الله فضّل جنساً على جنس، أو أن قبيلة أرفع نسباً من غيرها. وأقرأ بين حين وآخر تعليقات لأشخاص متعلمين، يتحدّون غيرهم أن يذكروا نسبهم، ونعلم أن المقصود بهذا هو الإشارة إلى أن أصولهم غير عربية أو غير قبلية. ولعل بعضنا يذكر قضايا «عدم التكافؤ في النسب» التي أدت في سنوات ماضية إلى هدم أسر والتفريق بين أزواج، بعدما اكتشف أقارب الزوجة أن قبيلة الزوج أدنى كعباً من قبيلتهم.

على المستوى النظري، نتباهى بأنَّ الإسلام ساوى بين الناس، وعاب التفاخر بالأنساب والانتماءات القومية والعرقية. لكننا في الوقت نفسه نتقبل فكرة أننا كأمة أفضل من سائر الأمم، أو أن جنس الرجال أفضل من جنس النساء، أو أننا نجيز هدم العائلات إذا ظهر أن الزوج ينتمي إلى عرق أو قبيلة أدنى من زوجته. فهل هذه وتلك من نوع السقطات العفوية، أم أننا نفكر بعقلين متوازيين: عقل واعٍ يزن الأمور، وآخر انفعالي يقوم مرة ويتخبط أخرى؟

هذا تأمل في قصة العقول واختلافها، وددت مشاركة القراء الأعزاء فيه، ولعله يثير في أنفسهم حاجة إلى التفكير في بعض الجوانب التي ربما نرتاح لتناسيها.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

نعيش عالمين متناقضين ومختلفين، الأدب بشفافيته وثرائه بالمشاعر الانسانية، والسياسة بجفافها وفقرها للمشاعر الانسانية، وهل الأدب يؤثر في السياسة أم أن السياسة تؤثر في الأدب؟ الأدب له عالم والسياسة لها عالم آخر، ولكن حين ندقق النظر ونمعن التفكير نجد أنهما يتبعان لعالم واحد وهو عالم الانسان، ولكن السياسة تخطئ كثيرا وتفقد انسانيتها،  وبالتالي تفقد ثقة المواطن بها،، والادب يخلق قضايا انسانية عليا، أو أدبا عاطفيا غارقا في المشاعر، الادب يؤثر في السياسة ويجعل القارئ العادي يكتشف نواحي جديدة في حياته ليس لأنه لا يعرفها، ولكن لأنه يتجاهلها فيأتي الأدب ليوقظ فكره ويلفت نظره لما هو منسي أو مدفون في واقعه أو ذاته.

الادب عصب الحياة، فهو ليس مجرد لوحة فنية مكتوبة بل إيقاظا للضمير و نهضة للفكر يؤشر للقارئ الى مكامن الخطأ، يستفز مشاعره، ويشحذ أفكاره، يمده بالقوة الروحية لكي يقول لا، فأغلب الثورات والتغييرات الجذرية في العالم كانت نتيجة أفكار، مجرد أفكار ولكنها غيرت أمم اوبدلت حكاما؛ لهذا لا يجب تسخيف الأدب، ولا يجب أن تتم كتابته بسطحية، لأنه بنية أساسية في تشكيل فكر وسلوك الشعوب، ولابد لكاتب الأدب أن يكون على دراية واسعة بالسياسة، ليس لأجل أن يقوم بعمل الثورات، بل لأجل أن يكون واعياً بدروه،الأدب له أثر في السياسة، فإن الأدب أيضاً كان ولا يزال له عميق الأثر على أصحاب السلطة من ملوك وامراء وحتى الجنرالات، منهم الإمبراطور اليوناني هادريان الملقب بالإمبراطور المثقف، ونابليون الذي جعل الأدب يخدم أهدافه السياسية؛ كما أن الأدب بالنسبة لأصحاب السلطة هو فرصة لتخليد أعمالهم وصفاتهم عبر أعمال ادبية تبقى خالدة حتى بعد رحيلهم، وهو ما يدركه كل رجل سلطة، ويكفي أن نطلع على العدد الضخم للمؤلفات الأدبية التي تناولت حياة رجال السلطة من كل الجنسيات وفي كل العصور، التي لا تزال تلاقي رواجاً كبيراً لندرك أهمية الأدب بالنسبة لأي سياسي، السياسي يمر بحقبة زمنية ويكا د لايذكره احد،، بينما العالم و الفنان و الأديب مخلدون،، لا أحد يتذكر حاكم أثينا الأغريقية القديمة لكن الكل يتذكر الفيلسوف سقراط و أفلاطون وارسطو،و لا أحد يتذكر حاكم غرناطة، لا أحد يتذكر حاكم شمال افريقيا لكن الكل يتذكر الشاعر ابن زيدون وقصيدته (اضحى التنائي بديلا عن تدانينا و ناب عن طيب لقيانا تجافينا) لكن الكل يتذكر ابن خلدون و مقدمته المشهورة . لا أحد يراجع مدونات ساسة العراق او يتذكرها لكن الكل يراجع و يستذكر العلامة علي الوردي و مؤلفاته الرصينة، الكل يذكر نجيب محفوظ وهيكل واحسان عبد القدوس ومي زياد ونزار القباني والعقاد واحمد شوقي والجواهري والسياب والرصافي،، واذكروا لي بعض القادة التاريخيين الذين غيروا حياة الانسانية ؟!

***

نهاد الحديثي

 

من منا لم يكن مشتاقا ومتلهفا لزيارة جدته أو جده،حتى يظفر بتلك اللحظات المميزة وهو يستمتع بتلك الحكايات الرائعة التي كانا يقصانها على مسامعه بين الفينة والأخرى. والغريب في الأمر أنه وبالرغم من محاولة آبائنا المتكررة في محاكاتهم، إلا أن محاولتهم تظل متواضعة بل محتشمة مقارنة بحكايات الأجداد حتى وإن تعلق الأمر بالحكاية ذاتها.وما يجب توضيحه في هذا الصدد أن الأمر ليس من باب الصدفة وإنما يعزى لعدة أسباب،لكن قبل التفصيل فيها حبذا أن نقدم تعريفا بسيطا عن الحكاية من باب المعرفة.

فالحكاية تعد فنا أدبيا يعتمد على الإلقاء الشفهي ؛ وتقوم على تداول قصص خيالية أو حتى أحداثا لوقائع حقيقية، ويكون التشويق والإثارة عنصرين مهمين فيها. كما تتميز الحكاية بطابعها السردي والوصفي، وبأحداثها المتسلسلة والمتناغمة. وتقوم الحكاية على أربعة عناصر أساسية، وجب استحضارها أثناء حياكتها، علاوة على انتقائها بعناية وبشكل يضفي على الحكاية نوعا من التفرد والإثارة، وتشمل هاته العناصر ما يلي: الشخصيات،الزمان، المكان، فالأحداث.

وبالوقوف عند هذا السياق يتضح جليا أن التشويق والإثارة عنصران مهمان في نجاح الحكاية وسرعة تقبلها من الأشخاص سواء كانوا راشدين أو أطفالا، أضف إلى ذلك فطريقة الإلقاء تلعب دورا مهما في التقاط الحكاية وتقبلها، فمثلا تغيير نبرة الصوت عند السؤال والتعجب وتغييره كذلك تزامنا مع تغيير الشخصيات، أو حتى تجسيد حركات تتناسب مع بعض مواقف الحكاية، كلها عوامل من شأنها أن تزيد من جاذبية الحكاية والتعلق بها بل التهافت إلى الاستماع إليها مجددا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالحكاية التي تتضمن شخصيات مميزة وخارقة، وأحداث غريبة متشابكة بحبكة متقنة تتخللها أزمنة وأمكنة مختلفة، هي من تنجح في جذب انتباه المتلقي. أما في ما يخص مسألة تمكن أجدادنا من فن الحكاية دون غيرهم من الأجيال الحالية، فيمكن تبرير ذلك بكون الحكاية وغيرها من الفنون التقليدية كالأسطورة والحكايات الشعبية تعتمد بالأساس على الإلقاء الشفهي وفي غياب وسائل التكلنوجيا في السنوات الماضية، فقد كانت الطريقة الشفهية هي الناجعة أنذاك في تناقل الأخبار وتداولها،إلى أن صار الأمر أشبه بحرفة يتقنونها. بيد أنه ومع ظهور وسائل التكنولوجيا كالتلفاز والحاسوب والهاتف أصبحت الحكاية تندثر شيئا فشيئا، ونادرا ما يتم تداولها. باعتبارها لا تتماشى وتطلعات حاضرنا، ولا تواكب ما وصلت إليه البشرية من تطور وتقدم. دون أننسى انشغالات الآباء بضغوط العمل وانعدام الوقت الكافي من أجل سرد الحكايات لأطفالهم. وحفاظا على هذا الموروث الثقافي الفني من الاندثار، فقد تم إدراجها في البرامج التعليمية المدرسية في العديد من الدول، وفي مقدمتهم : المغرب،لما لها من إيجابيات كثيرة يمكن استثمارها في تطوير شخصية الطفل ومعارفه وقيمه، إضافة إلى أن الحكاية تعتبر مجالا خصبا لتنمية خيال الطفل، وفرصة مهمة لتمرير القيم والمبادئ ومنبعا غنيا لاستقاء المفردات والأساليب.

كما تساعد الحكاية على تقوية التركيز والانتباه لدى الطفل، وتجدر الإشارة إلى أن الاستماع إليها بشكل دائم يعمل على تقوية حاسة السمع والتقاط المعلومات بشكل سريع..و تعتبر الحكاية وسيلة ترفيهية وإحدى العوالم الممتعة التي يجد فيها الطفل متنفسه وملاذه، لذ فإدراجها كمكون أساسي ضمن مكونات اللغة العربية المدرسة من شأنه إضفاء المتعة على التعلمات وتجنب الرتابة التي يمكن أ ن تحول دون مواكبة الطفل سير الدروس.

وختاما، فالحكاية وبالرغم من طابعها الشفهي الإلقائي إلا أنها تقتضي الحنكة والبراعة وقوة الإلقاء، والمحاكاة، وتظل أجمل هدية يمكن أن نقدمها لأطفالنا خاصة قبل النوم.

***

الشاعرة والكاتبة إلهام العويفي من المغرب

تأليف: شايلا لاف

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

يستمر الباحثون في مناقشة ما إذا كانت بعض الوظائف عديمة الفائدة بطبيعتها، ولكنهم يتفقون جميعًا على أنه من المضر رؤية وظيفتك بهذه الطريقة.

وصف مارك غالبية ما فعله في وظيفته بأنه "صناديق معلمة". كان عمله كمسؤول كبير عن الجودة والأداء في مجلس محلي في المملكة المتحدة ينطوي على "التظاهر بأن الأمور رائعة بالنسبة لكبار المديرين، وعمومًا "إطعام الوحش" بأرقام لا معنى لها تعطي الوهم بالسيطرة،" كما أخبر عالم الأنثروبولوجيا الراحل ديفيد جريبر، كما هو مقتبس في كتاب جريبر وظائف تافهة (2018).

وكان رجل آخر، هانيبال، أكثر حدة. تم تعيينه لدى شركة استشارات رقمية لقسم التسويق في إحدى شركات الأدوية، ووصف عمله بأنه "محض هراء خالص"، والذي "لا يخدم أي غرض".

وقال: "لقد تمكنت مؤخرًا من الحصول على ما يقرب من اثني عشر ألف جنيه إسترليني لكتابة تقرير من صفحتين لأحد عملاء الأدوية لتقديمه خلال اجتماع استراتيجي عالمي". "لم يتم استخدام التقرير في النهاية لأنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى هذه النقطة من جدول الأعمال."

كتب جريبر لأول مرة عن "الوظائف التافهة" في مقال نشره عام 2013 وحقق نجاحًا كبيرًا على الفور. وقد قرأه أكثر من مليون شخص، وقام الناشطون بلصق اقتباسات منه على الإعلانات في قطارات أنفاق لندن. في كتابه الأخير عن "نظرية الوظيفة التافهة"، وسع جريبر حجته، فعرّف الوظيفة التافهة بأنها "شكل من أشكال العمل مدفوع الأجر الذي لا فائدة منه على الإطلاق، أو غير ضروري، أو ضار، حتى أنه لا يستطيع حتى الموظف تبرير وجوده". رغم ذلك، كجزء من شروط التوظيف، يشعر الموظف بأنه ملزم بالتظاهر بأن هذا ليس هو الحال "- وهو وصف ينطبق، وفقًا لجريبر، على أكثر من نصف معظم الوظائف.

في حين أنه ليس هناك شك في أن حجج جريبر كان لها صدى ثقافي، عندما بدأ الباحثون الأكاديميون في تحديد الحجم الفعلي للوظائف التافهة، كانت النتائج التي توصلوا إليها تتعارض إلى حد كبير مع ادعاءات جريبر. وتشير البيانات التجريبية إلى أن عدداً قليلاً نسبياً من الناس في واقع الأمر يبدو أنهم يعتبرون وظائفهم عديمة الفائدة ( تافهة ) ــ الأمر الذي يؤدي إلى معارضة إمكانية تطبيق مفهوم جريبر في الحياة الواقعية.

على سبيل المثال، في عام 2015، وجد استطلاع أجرته مؤسسة يوجوف أن 37% من البالغين البريطانيين العاملين يعتقدون أن وظائفهم لا تقدم مساهمة ذات معنى للعالم. وفي عام 2018، وجدت دراسة شملت 47 دولة، أن 8% من العمال ينظرون إلى وظائفهم على أنها عديمة الفائدة اجتماعيا، في حين كان 17% متشككين بشأن فائدة وظائفهم. ثم في عام 2021، وجدت دراسة مبنية على بيانات مسح عالية الجودة جمعتها إحدى وكالات الاتحاد الأوروبي، أن حوالي 5 % فقط من العمال يعتبرون وظائفهم عديمة الفائدة. اقترح مؤلفو تلك الورقة الأخيرة أن الأمر لم يكن أن بعض الوظائف كانت، بطبيعتها، عديمة الفائدة، ولكن الناس في العديد من أنواع الوظائف يمكن أن يشعروا بالغربة ويعانوا من ظروف العمل والعلاقات السيئة.

قادت هذه السلسلة من النتائج معلقًا واحدًا على الأقل إلى اقتراح أن نظرية الوظائف التافهة التي قدمها جريبر كانت مجرد هراء. لكن ربما كان ذلك سابق لأوانه. نُشرت في إحدى مجلات جمعية علم الاجتماع البريطانية (العمل والتوظيف والمجتمع) في يوليو، وقد ظهرت الآن دراسة أخرى تشير إلى أنه على الرغم من أهمية عوامل مثل الاغتراب، إلا أنه يبدو أن هناك بعض المهن التي يقول الناس إنها عديمة الفائدة أكثر من غيرها علاوة على ذلك، فإنها تتوافق مع فئات الوظائف الهراء/ التافهة التي اقترحها جريبر.

سيمون والو، عالم اجتماع ما بعد الدكتوراه في جامعة زيورخ ومؤلف هذا المقال الأخير، قرأ "وظائف تافهة" أثناء كتابته لأطروحة الماجستير. يقول: "في ذلك الوقت، كنت أفكر كثيرًا فيما يجب أن أفعله في حياتي". "لم أكن أعرف حقًا ما أريد أن أفعله، ولكني شعرت أنه يجب أن يكون شيئًا ذا معنى." يقول والو إنه فوجئ عندما قرأ أن الكثير من الناس يشعرون أن لديهم وظيفة عديمة الفائدة اجتماعيا.

اقترح جريبر خمس فئات مختلفة من الوظائف التي تعتبر "تافهة". هناك "مساعدون"، مثل المساعدين الإداريين أو مشغلي المصاعد، الذين يعملون فقط لجعل الآخرين يشعرون بأهميتهم؛ "المتنمرون"، مثل جماعات الضغط أو المسوقين عبر الهاتف، الذين يخدعون الآخرين لصالح رؤسائهم؛ "التناقص التدريجي للقناة"، مثل موظفي خدمة العملاء، الذين يقدمون حلولاً مؤقتة رديئة للمشاكل؛ "المؤشرات الصندوقية"، مثل مارك وهانيبال، الذين يقضون أيامهم في إنتاج وثائق أو استطلاعات عديمة الفائدة؛ وأخيرًا "رؤساء العمال" أو المديرون الذين يطلبون من الناس القيام بأشياء عديمة الفائدة دون أن يفعلوا الكثير بأنفسهم.

قام والو بتحليل بيانات من مسح ظروف العمل الأمريكية لعام 2015 وركز على ثلاث فئات من جريبر قال إنها يمكن ربطها بمهن محددة: وظائف المساعدين، والمتنمرون، ورؤساء العمال. غطى الاستطلاع 21 مهنة في المجموع، أربعة منها كان من الممكن أن يصنفها جريبر على أنها بكالوريوس (الدعم الإداري، والمبيعات، والمهن التجارية والمالية، والمديرين)، وطلب من الأشخاص الإشارة إلى ما إذا كانوا يعتقدون أن وظائفهم قدمت مساهمة كبيرة في  المجتمع أو فى حياتهم. واستنادًا إلى هذه التصنيفات، قدّر والو أن 19% من الأشخاص في الولايات المتحدة يعتقدون أن وظائفهم "هراء/ تافهة "، وبالنسبة للجزء الأكبر، فإن العمل في إحدى مهن جريبر التي تحمل درجة البكالوريوس يزيد بشكل كبير من احتمالية أن ينظر الشخص إلى وظيفته على أنها عديمة الفائدة اجتماعيا، مقارنة بكونك في نوع آخر من الوظائف. المهنة الوحيدة التي صنفها جريبر على أنها بكالوريوس والتي لم تظهر هذا التأثير هي المهن القانونية.

تختلف هذه النتائج قليلاً عن دراسات عامي 2018 و2021، وقد يكون لها علاقة بالطريقة التي يتم بها طرح السؤال حول فائدة الوظيفة، كما يقول روبرت دور، أستاذ الاقتصاد في جامعة إيراسموس روتردام والمؤلف المشارك لورقة 2018. في ورقة والو، سُئل الأشخاص عما إذا كانت وظائفهم مفيدة لمجتمعهم ولحياتهم، في حين تساءلت ورقة 2021 بشكل عام عن الفائدة ولكنها لم تحدد مفيدة لمن؟ وبعبارة أخرى، ربما يكون بحث والو قد وضع معيارًا أعلى لمفهوم لفائدة.

تقول ماجدالينا صوفيا، وهى عالمة اجتماع ما بعد الدكتوراه في معهد مستقبل العمل والمؤلفة المشاركة في بحث عام 2021، إنهم عندما حصلوا على نتائجهم المتمثلة في أن 5 % فقط من الأشخاص يرون أن وظائفهم عديمة الفائدة، وقد أشار ذلك لها إلى أن ثمة شىء هناك يحدث أكثر من مجرد فئة من الوظائف تعد هراء / تافهة.

وهي تعتقد أن الأمر لا يعني أن بعض الوظائف هي تافهة بطبيعتها، ولكن الأمر يتعلق بجودة أكثر عمومية للخبرة أثناء العمل. يتضمن ذلك ما إذا كان لديك إمكانية الوصول إلى "إدارة الجودة"، والاستقلالية، والاختيار والتحكم في إدارة عملك، وما إذا كان لديك إمكانية الوصول إلى علاقات هادفة مع الآخرين. وفي حالة عدم وجود شروط التوظيف الأوسع هذه، فمن المرجح أن يرى الناس وظائفهم على أنها عديمة الفائدة. تقول صوفيا: "أميل إلى أن أكون أكثر ترددًا في قبول الاستنتاج القائل بأنه لا تزال هناك مهن تعد تافهة بطبيعتها".

يوافق والو على أن نظرية جريبر لا تشرح كل شيء عن السبب الذي يجعل الناس يعتقدون أن وظائفهم مجرد هراء. ويقول إن الناس قد يعتقدون أن وظائفهم هراء/ تافهة لأنها كذلك في بعض الأحيان، ولأنهم غير راضين عن ظروف عملهم، وفي بعض الأحيان تتداخل هذه الأشياء. ويضيف والو: "أنا أقبل جميع النتائج التي توصلت إليها الدراسات الأخرى، وأعتقد أنها ذات قيمة كبيرة". "لكن ما يتغير الآن هو أن هناك تفسيرات متعددة لنفس الشيء."

بشكل حاسم، عندما أخذ والو في الاعتبار تأثير عوامل التوظيف الأوسع، مثل الاغتراب، وجد أنه لا تزال هناك بعض المهن، التي تتماشى مع أفكار جريبر، التي يؤيدها الناس باعتبارها عديمة الفائدة أكثر من غيرها. يقول والو إن هذا يشير إلى أن العزلة أو عدم الرضا ليس دائمًا هو ما يدفع الناس إلى الاعتقاد بأن وظائفهم عديمة الفائدة، ولكن في بعض الأحيان يكون هناك شيء متأصل في هذه الوظائف يجعل الناس ينظرون إليها على أنها "هراء". وحتى لو لم تكن الأرقام مرتفعة كما اقترح جريبر في البداية، كما يقول والو، فإن ذلك مازال يعني أن الملايين يعتبرون طبيعة عملهم عديمة الفائدة اجتماعيًا.

اعترف جريبر أنه كان من الصعب على شخص واحد، أو عدة أشخاص، أن يحددوا بشكل عام ما الذي يجعل الوظيفة "مفيدة" أو "ضرورية". وكتب: «لا يمكن أن يكون هناك مقياس موضوعي للقيمة الاجتماعية».

ما يمكنك فعله هو أن تسأل الناس عن رأيهم في وظائفهم. يقول دور: "لا ينبغي لنا أن نقلل من أهمية المعتقدات الشخصية للناس فيما يتعلق بمدى فائدة وظائفهم". لقد توصل عدد من الدراسات أن المعتقدات الذاتية حول فائدة الوظيفة تؤثر على دوافع الناس للعمل وكذلك على رضاهم الوظيفي.

مع استمرار الباحثين في تحسين حجم أو طبيعة الوظائف عديمة الفائدة، هناك حقيقة مهمة واحدة صحيحة: عندما يعتقد الناس أن وظائفهم عديمة الفائدة، فإن ذلك يرتبط بانخفاض في الصحة العقلية. تقول صوفيا: "كان هذا مؤشر ارتباطى قوى للغاية [في بيانات دراستنا]". يبدو أن هذا يتوافق مع حجة جريبر بأن الوظيفة التافهة تفرض "عنفًا نفسيًا عميقًا" على أي شخص في تلك الوظيفة. وكتب: "إن الضررين الأخلاقي والروحي الناجمين عن هذا الوضع عميقان". "إنهما بمثابة ندبة في روحنا الجمعية."

تقول صوفيا: "نظرًا لأهمية الصحة العقلية والرفاهية النفسية، نعتقد أننا بحاجة حقًا إلى إيجاد تفسير لذلك [العلاقة بين الشعور بأن وظيفة المرء عديمة الفائدة وضعف الصحة العقلية]"

وهي تعتقد أن الإجابة أكثر تعقيدا من التخلص من فئات الوظائف التي تعتبر عديمة الفائدة، وبدلا من ذلك، يجب على الباحثين أن يتوصلوا إلى طرق لقياس جودة وظائف الناس بشكل فعال، في حين ينبغي على أصحاب العمل أن يمنحوا الناس دوراً أكبر في تصميم بيئة العمل الخاصة بهم. ومع التقدم في الذكاء الاصطناعي والتهديد بأن الذكاء الاصطناعي سيتولى بعض الوظائف، فإن هذا النوع من الاستقلالية والقياس سيكون أكثر أهمية من أي وقت مضى، كما أخبرتني. "هناك طرق عديدة للعثور على المعنى من خلال العمل. من وجهة نظري، ما إذا كان تقديم مساهمة للمجتمع هي مجرد طريقة واحدة لقياس قيمة العمل"

إذا ما عدت الوظائف عديمة الفائدة اجتماعيًا لأسباب مختلفة، فهذا يعني أن هناك أكثر من طريقة لتحسين الوضع. بالنسبة لبعض الناس، قد يكون الأمر يتعلق بمعالجة الاغتراب أو الاستقلالية.

وكتب والو في ورقته البحثية: "إذا أخذنا في الاعتبار احتمال أن تكون بعض أنواع العمل عديمة الفائدة بطبيعتها للمجتمع، فإن لهذا آثار مختلفة تمامًا". "ولتخفيف هذه المشكلة، يتعين على المرء إجراء تعديلات في النظام الاقتصادي وتقييد أنشطة [التوظيف] التي لا تهدف إلى تحقيق أي هدف للمجتمع أو التى لا تستهدفه على الإطلاق".

ويعتقد جريبر أن الوظائف التافهة تفسر لماذا لم تتحقق توقعات جون ماينارد كينز الاقتصادية. كتب كينز أنه بعد زيادة الكفاءة التكنولوجية، سيعمل الناس تدريجياً بشكل أقل فأقل إلى أن تصبح مشكلتنا الأكبر هي ملء كل وقت الفراغ المتاح لدينا. لم يحدث هذا، ولذلك سيتعين علينا الاستمرار في التعامل مع الهدف من العمل بدلاً من ذلك. تقول صوفيا: "هذا هو موقف المناقشة في الوقت الحالي". "إنه تحدٍ مستمر: معرفة كيف يمكننا، بموضوعية قدر الإمكان، قياس ما إذا كانت الوظيفة مفيدة أم لا."

تشير الجاذبية طويلة الأمد لنظرية الوظيفة التافهة إلى أن هذا يمثل تحديًا حاسمًا للكثيرين، بسبب الأسئلة الكبرى حول معنى الحياة التي تنشأ عنها. وعلى حد تعبير جريبر: "كيف يمكن للمرء أن يبدأ في الحديث عن الكرامة في العمل عندما يشعر المرء سراً أن وظيفته لا ينبغي أن توجد؟"

(انتهى)

***

...........................

المؤلفة: شايلا لافShayla Love  كاتبة في Psyche. وقد ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك.تقدم نفسها على موقعها الرقمى قائلة فى عبارة مكثفة وشاملة فى ذات الوقت: أنا صحفية علمية مقيمة في بروكلين. ينصب تركيزي في المقام الأول على علم النفس، وعلم الأعصاب الإدراكي، والمخدرات، والعلوم الاجتماعية، وتقاطع التاريخ والثقافة والفلسفة مع الأبحاث الحالية. لقد انجذبت إلى الأماكن التي تتداخل فيها التخصصات، وقبل كل شيء، كيف تؤثر على التجربة الإنسانية.

رابط المقال الأصلى على مجلة سايكى / Psyche : https://psyche.co/ideas/why-do-so-many-people-think-they-are-in-a-bullshit-job

مقتطفات من المقال اترك تنسيقها داخل المقال للسيد المحرر إذا ما لزم الأمر:

يطلب رؤساء العمال أو المديرون من الناس القيام بأشياء عديمة الفائدة دون أن يفعلوا الكثير بأنفسهم.

وحتى لو لم تكن الأعداد مرتفعة كما اقترح جريبر في البداية، فهذا يعني أن الملايين يعتبرون عملهم عديم الفائدة.

كتب كينز أنه بعد زيادة الكفاءة التكنولوجية، سيعمل الناس بشكل أقل فأقل. هذا لم يحدث.

 

إن المعري 973- 1057 كان سباقاً بطرح (العدمية) والفلسفة الوجودية بزمن بعيد أي قبل شوبنهاور1788-  1860 بأكثر من 800 سنة وهو فارق زمني ومكاني كبير والغريب أكثر تقاربهما في الوضع العائلي والتناحرات السياسية ورحى الحروب الطاحنة الداخلية والخارجية لذا أصبحا في نظر العالم والطبيعة والأفراد والمجتمع بتبني (الثقافة السوداوية العدمية)، فيكون القاسم المشترك بينهما العدمية التشاؤمية مع التقارب بالوضع الفردي والعائلي والبيئة المحيطة بهما من جهة أخرى.

وسأستوحي بعضاً من أفكار ورؤى الفيلسوفين الكبيرين من خلال ما بين سطورمنجزيهما، كتاب اللزوميات للمعري وكتاب العالم كأرادة وفكرة لشوبنهاور، وفي تحليل تشابهما في العدمية لابد من معرفة الآسباب:

لنبدأ بالمعري:

- فقد بصرهُ بعد أصابته يمرض الجدري وهو طفل بعمر خمسة سنوات وترك المرض اللعين أخاديد ونتوءات وتشوهات خلقيةِ في وجههِ.

-  وفاة أبيه المفاجيء وذاق مرارة اليتم وهو طفل بعمر ستة سنوات.

-  ترك الدراسة في مدارس الشام وبغداد بعد سماع مرض أمهِ وثم خبر موتها.

-  عاش زمن الأرهاصات والتقاطعات الفكرية وتناقضات الصراعات الطبقية وأضطرابات سياسية وحزبية بين الحمدانيين والفاطميين أضافة إلى الحروب الطاحنة الخارجية مع الروم البيزنطيين.

-  أتهم بالزندقة لوجوديته عند التعامل الفكري مع الكون والحياة والموت.

-  وكان المعري نباتياً رأفة بالحيوان.

-  عاش ناقماً ومات ناقما على الحياة بسوداوية وأحباط ويأس ليوصي كتابة هذه العبارة على قبره "هذا ما جناه عليَ أِبي ولم أجني أنا على أحد" (اللزوميات لآبي العلاء المعري).

أما بالنسبة لآرتورشوبنهاور:

هو أحد فلاسفة الالمان المثاليين ذو الأفكار اليمينية المثالية الطوباوية والمتسمة بالعدمية والتشاؤمية التي تعاكس الحداثة المعاصرة في زمنهِ وجغرافيته الأوربية.

- ورث مزاجية وجينات أبيه الذي يعاني من أضطرابات نفسية حادة في الخوف واللقلق والعزلة والأكتئاب وكراهية الحياة حيث وُجد منتحراً بطريقة بشعة برمي نفسهِ من علوٍ شامخ.

-  سلوكية غير مريحة مع أمهِ حيث كانت نابغة في سردية القصة متصفة بالغرور والفوقية حتى على أبنها، فالعلاقة كانت مضطربة بينهُ وبين أمه بقسوتها عليه بالتجافي والمشاكسة، وخصوصاً عند أشتهارهِ في الوسط الثقافي والعلمي القيمي والنبوغ وسعة الآدراك وعند أخبارها الفيلسوف (غوته) بعظمة عقلية أبنها أشتاطت غيضاً عليه.

-  عاش سلسلة الحروب النابليونية والأضطرابات السياسية في عموم أوربا.

-  تعمق لديه شعور بأن الحياة شرَليس بها ألا الآلم والمرض والشيخوخة والموت.

التقارب الفكري بين الفيلسوفين

- طغيان الصفة التشاؤمية السوداوية (العدمية) على عقلية ورؤى كل منهما.

-  الخير والسعادة عندهما أحداث سلبية سرعان ما تغيب لتحل عليها العدمية والسوداوية التشاؤمية وتحيطها الأحزان والآلام والتي أطلقوا عليها الأحداث والآمور الأيجابية.

-  الحياة في نظرهما متعبة ومقرفة لآقترانها مع الشر.

ولهذا يقول المعري:

إلا إنما الدنيا نحوسَ لآهلها

فما في زمانٍ أنت فيه سعود

*

نزولُ كما زال أجدادنا

ويبقى الزمانُ على مانرى

- ويشترك الأثنان في رؤية الفرد بمتلاومة الآلم  الذي لا مفر منه، فتصبح قواعد أفكارهما المنحوسة (منصة) أنتقادية للبشرية جمعاء التي هي: أستدامة متلازمة الألم والتشاؤم والعدمية.

-  والأغرب رغم البعد الشاسع في الزمكنة وكأن الواحد يلقن الآخر بأفكاره السوداوية.

فيقول المعري:

في العُدم كنا وحكم الله أوجدنا

ثم أتفقنا على ثان ٍ من العدمِ

أو:

نمرُسراعاً بين عدمين مالنا

لباثُ كأنا عابرون على جسرٍ

ويجيبهُ شوبنهاور أفتراضياً:

نعم يا صاح إن الحياة تتأرجح كالبندول بين ألألم والسأم وفي الحالين لا خير في هذا العالم سوى حياة بائسة عافرة.

- أتفقا في أعتزال النساء، كان أبو العلاء زاهداً من الدنيا متقشفاً نباتي الطعام رأفة بالحيوان، أعتزل النساء ولم يتزوج لكي يجنب النسل الموروثات الجينية السيئة ومآسي الحياة: حتى أوصى أن يكتب على قبرهِ: هذا ما جناهُ علي أبي وأنا لم أجني على أحد، أما شوبنهاور فهو يكره النساء، يعتبرالمرأة منبع الشرور وهي توأم الحياة المقرفة لذا عاش عقدة النساء في حياته فلم يتزوج.

-  التقارب العقلي والوجداني بين المعري وشوبنهاور في المعتقدات الدينية والكون والموت هاجم أبو العلاء المعري عقائد الدين لذا أتهم بالزندقة، أما شوبنهاور يقول: إن الوجود هو (المادة) الملموسة فقط أما ما يطرح في غيبياتها فلا قيمة لها وهويميل – كذلك -  إلى التعمق في دراسة الديانة الهندية وسيرة بوذا التي تقوم على أساس إن الحياة قائمة على أنواع من الشرور الطبيعية والخلقية، أما الوجود عبارة عن المادة المطلقة، فليس في الوجود سوى المادة.

-  ويتفق الأثنان على إن الموت نهاية لألام وعذابات الحياة، وجدتُ في فلسفة الفيلسوف الأ لماني: للحفاظ على الحياة في (النوع)  وديمومة استمرارية الحياة ببؤسها وشقائها يستلزم آرتون شوبنهاورأمرين هما: (العقل والغريزة الجنسية) بل يذهب أكثر في الغلو والسوداوية يدعو الأنسان إلى نبذ الحياة الشريرة ولو كان بالأنتحار!؟ وبالمناسبة أنتحر والدهُ بطريقة بشعة برمي نفسه من علوٍ شاهق لكونه كان مصاباً بأمراض نفسية حادة كالكآبة والعزلة والخوف والقلق.

***

عبد الجبار نوري - كاتب وباحث عراقي مغترب

...........................

مصادر وهوامش

-  كتاب اللزوميات لأبي العلاء المعري ترجمة سامي الدروبي

-  كتاب العالم أرادة وفكرلآرتورشوبنهاور

كُتب في بغداد الحبيبة\ كانون ثاني\ 2024

 

المدخل لهذا المقال مشهدان حصلا في غضون أسبوع واحد:

* الأول صدور امر مهم من وزير التعليم العالي بمنح التدريسي مبلغ 3 مليون دينار في حال نشر بحث في مجلة ضمن أعلى التصنيفات العالمية فقط (المبلغ يكاد يزيد أحيانا او يقل عن قيمة النشر في كثير منها رغم ان بعضها تنشر مجانا). تلك التفاتة كبيرة رغم ان البحث الرصين يتطلب ضعف هذا المبلغ او اكثر، عن قيمة الأجهزة والمواد المختبرية التي يتحملها الباحث.

* الثاني صدور أمر من رئيس الوزراء بمنح كل لاعب في منتخب "الطوبة" مبلغ 10 الاف دولار (يزيد عن 15 مليون دينار) بسبب فوز في مباراة واحدة. ذلك بلحاظ انها مهنتهم التي يحصلون منها على ملايين وسفرات وعزايم في ملاه وحفلات وووو.... وقبل ذلك صدور امر من نفس الجهة بمنح الفنانين مليارات الدنانير لصندوق التقاعد وغيره.

المشهد الثاني أجده ترسيخا وتماهيا وتأصيلا "قد يكون دون قصد" للفخ الذي زرعته وسائل الاعلام الممنهجة في اذهان شعب تنخر بنيته الاجتماعية سوس الامية والتجهيل بقصد توجيه الأنظار عن كل ما هو مفيد ونافع لبناء الحياة والبنى التحتية من علوم وتكنولوجيا باتجاه العشوائية والاثارة الشعبوية، باتجاهٍ يكون الصراخ والتنابز بالالقاب والصدامات البذيئة والعنفية أساسه استغلالا للنزوع الموجود أصلا في النفس البشرية في الرغبة بالتفوق والإحساس بالافضلية مهما كان مجال التنافس.

أمثلة للمسيرة الممنهجة لتأصيل مثل ذلك الفخ يمكن ان يلاحظها فاقد البصر في التهافت العجيب لكل العناوين القيادية على نشر التهاني والتبريكات على شاشات التلفاز والمواقع الإخبارية مع أي فوز للمنتخب او لنادٍ ولو كان على فريق "طيور الغبشة" بقصد التقرب من المزاج الشعبي. تهانٍ وتبريكات للاعبين لا يكاد احدهم يملك الشهادة الابتدائية بينما أؤكد ان أيا من أولئك المهنئين لا يعرف اسم اثنين او ثلاثة من علماء العراق/أساتذة/مهندسين/أطباء ولا منجزاتهم او افكارهم. أحضان الحكومات والقيادات المتنفذة "وهي كثيرة" مفتوحة على مصراعيها لحمل اللاعبين والفنانين لاقصى الأرض فيما عبارة "على ان لا تتحمل ال...اية نفقات" عن مشاركة الباحث العراقي في أي محفل علمي تتصدر الكتب الرسمية.

كي لا أكون قاسيا بحق القيادات فان الجهل بأسماء وإمكانات وإنجازات العلماء العراقيين بات حالة عامة حيث يحفظ العراقي أسماء راقصات وفاشنستات " وهي وصف منمق لصاحبات مهنة قديمة جدا" تصرّح احداهن انها تسوق الرجال ب50 الف دينار، ومهرجين كحسحس وكنكن وووو بينما لا يكاد الطالب الجامعي يعرف اسم استاذه الذي يدّرسه في الجامعة وان عرف الاسم الأول لا يعرف سواه. لماذا وما السبب؟

 تراكمات انهيار المنظومة التعليمية الأساس وانهيار سوق العمل الذي رمى الشباب منذ 2003 والذين باتوا في سن البلوغ اليوم، لغياهب البطالة، مع هجمة إعلامية منظمة تنظيما وتمويلا عاليين بحيث باتت قادرة على تحريك الملايين في مناسبات كثيرة ليست تشرين آخرها، يرافق كل ذلك أداء أسوأ من السيء للمنظومة الحكومية (ان صحّت تسميتها أصلا) ، كل ذلك وأكثر جعل المجتمع والشباب منه خاصة هاضما كبيرا لاي فخ وأخطرها عنوان هذه المقالة وباتت تلك اللعبة التي يفترض بها أن تطور الناحية التنافسية الفكرية والجسدية، الى وسيلة تباعد وتباغض لا تقتصر على أبناء البلد عموما فقط "كما يحصل بين المحافظات" او بين القوميات بل بين أبناء المدينة الواحدة وحتى الطائفة الواحدة. العنف والتخريب باتا سمة ثابتة سواء عند الفوز او الخسارة، ودونكم البرامج التلفزيونية السمجة التي ليس فيها من الادب والذوق قطرة بل يملؤها السباب والتخوين وأنواع البذاءات.

عن أي وحدة وطنية او لم شمل يمكن ان نتحدث مع شعب يلهث خلف صراخات وطبول تصم الاذان عن أي صوت لحكمة او منطق، شعب تشجع حكوماته وقياداته على إقامة مهرجانات العري والسفه لزبائن و"منتسبي/منتسبات" الملاهي تحت عناوين متنوعة يتم خلالها تتويج "صدورهن" بأوسمة ويعزف لاجلهن السلام الجمهوري والنشيد الوطني بينما لا تجد في أي مؤتمر علمي سوى الباحثين الذين ينتظرون دورهم في القاء البحث لكراسٍ فارغة!!!!!

***

أ.د. سلام جمعه المالكي

   زعم (زكريا القزويني، -682هـ= 1283م) في كتابه "آثار البلاد وأخبار العباد"(1)، خلال حديثه عن بلاد (إفرنجة)، التي قاعدتها (باريس)، (=فرنسا)، أنها:

"بلدةٌ عظيمةٌ، ومملكةٌ عريضة، في بلاد النصارى... ولهم مَلك ذو بأس، وعدد كثير، وقُوَّة مُلك، له مدينتان أو ثلاث على ساحل البحر من هذا الجانب في وسط بلاد الإسلام، وهو يحميها من ذلك الجانب، كلما بعث المسلمون إليها من يفتحها، يبعث هو من ذلك الجانب من يحميها.  وعساكره ذوو بأس شديد؛ لا يَرون الفرار أصلًا عند اللقاء، ويَرون الموت دون ذلك.  لا ترى أقذر منهم، وهم أهل غدرٍ ودناءة أخلاق، لا يتنظَّفون ولا يغتسلون في العام إلَّا مرَّة أو مرَّتين بالماء البارد! ولا يغسلون ثيابهم منذ لبسوها إلى أن تتقطع!  ويحلقون لحاهم، وإنَّما تنبت بعد الحلق خشنةً مستكرهة.  سُئل واحدٌ عن حلق اللِّحى؟ فقال: الشَّعر فَضْلة، أنتم تزيلونها عن سوءاتكم، فكيف نتركها نحن على وجوهنا؟!"

وأقول "زعم"؛ لأنَّ لهذا القزويني خزعبلات لا تخفى، في كتابه هذا وفي غيره، يصعب تصديقها.  بل له تخليطات جغرافيَّة، حتى في كلامه حول مواضع معروفة في الجزيرة العَرَبيَّة، عرفها وعرَّف بها معاصروه وسابقوه.  وليس هذا بمقام مناقشة هذا الآن.  أمَّا ما ذكرَه عن الثقافة الأوربيَّة خلال القرون الوسطى، فله شواهد متواترة من طُرقٍ متعدِّدة، لعلَّ أشهرها ما وصفه (أحمد ابن فضلان)، في رسالته المعروفة، التي صوَّر فيها مجتمعات (أوربا الشرقيَّة)، خلال العصر العباسي الثاني، إبَّان عهد (المقتدر، -320هـ= 932م).  والشاهد من هذا أنَّ الحضارة دوَّارة، والحضارة الماديَّة ليست بمقياس التحضُّر الأمثل، مهما بلغ البهرج والعنفوان.  وآيات ذلك المعاصرة ليست في حاجة إلى استشهاد أو تفسير.  فإذا كان (نزار قباني) قد ناح على بني جلدته:

خلاصةُ القضيةْ

توجز في عبارةْ:

لقد لبسنا قِشرة الحضارةْ

والرُّوح جاهليَّةْ!

فما أروع جاهليَّتنا العَرَبيَّة الأُولى، قياسًا إلى بعض الجاهليَّات المعاصرة، وريثة الجاهليَّات الأوربيَّة المعولمة!  وما فضائح الملياردير الأميركي اليهودي- واليهوديَّة نفسها منه براء- (جِفري سيمور جي إبستين Epstein Jeffrey، - 2019)- صاحب (جزيرة القدِّيس يعقوب)، والمدفون في (مقبرة نجمة داود)، بعد أن هلك منتحرًا- ولا فظائع زمرته من شياطين الإنس، منَّا ببعيد!  ويا للنفاق، فأنتَ تلحظ هنا الرموز الدِّينية المحيطة بهذا الشيطان الرجيم، حيًّا وميتًا: "القدِّيس.. يعقوب.. نجمة داوود"!  ويالها من قداسة، ونجوميَّة، وداووديَّة!  وهل تألُّب شياطينهم، من أحفاد أسلاف البدائيَّة الغربيَّة، على مستضعفي (غَزَّة) من النساء والولدان بغريبٍ على جذورهم التاريخيَّة؟! إنَّ الحيَّة لا تَلِد إلَّا الحيَّة، وما أشبه الليلة بالبارحة!  على أنَّ التوحش البَشري يزداد ضراوةً وقُبحًا حين يتلبَّس لبوس الدِّين.

هكذا صفعَ وجودَنا (ذو القُروح)، ونحن ما نكاد نستفيق من صفعاته السالفة.  فقلت، وقد أوشك أن يخرج عن طوره، لعلِّي أستعيده إلى بعض حواره التاريخي السابق:

- ألا تلحظ في صراع الأديان المعاصرة، وهو صراعٌ مسيَّس، ذلك الجهاد في سبيل الذَّبِّ عن القول بتحريف "الكتاب المقدَّس"، سهوًا أو قصدًا؟!

- بلى ألحظ.  وذاك لتنقية صفحات التاريخ ممَّا تستعيد كتابته صفحات المعاصِر. ويحدث ذلك كذلك لأسباب من الاختلافات الأيديولوجيَّة، وهو ما دفع الكنيسة إلى أن تتنصَّل من بعض الكِتاب، فتجعله بين قوسَين، تنبيهًا إلى عدم وجوده في الأصول القديمة، وذلك كقِصَّة (مريم المجدليَّة).(2) 

- ألهذا فقط وقع التحريف؟

- له ولغيره من المآرب والأهواء التاريخية، عبر رحلات تلك الأسفار من النُّسخ المخطوطة، المفقودة أصولها، التي كتبها المعاصرون لـ(موسى وعيسى، عليهما السلام). 

- كيف؟

- كيف هذه حكاية تطول!  ذلك أنَّ ما بقي لا يعدو نُسَخًا منقولة عن نسخٍ ضائعة، مختلفة الروايات، وأَقْدَم مخطوطٍ غير أصليٍّ لـ(العهد الجديد) لا يرقى إلى أقدم من القرن الثاني الميلادي.  ثمَّ زاد الطين بِلَّةً ما حدث من تحريفاتٍ، أو من أخطاء إضافيَّة قسريَّة، جرَّاء رحلاتٍ أخرى بين أيدي مترجمي تلك النُّسخ غير الأصليَّة نفسها، من لغات قديمة- كالعبرانيَّة والآراميَّة، فيما يتعلق بـ(العهد القديم)، واليونانيَّة، فيما يتعلق بـ(العهد الجديد)- إلى لغات أحدث، أو إلى لغات أخرى.

- وهل من جديدٍ تحت الشمس؟

- الجديد أنَّ الكتاب الأوَّل قد حوى تراثًا من الأساطير، مقتبسًا عن شعوب شتَّى، ولاسيما الأساطير السومريَّة، والأكديَّة، والبابليَّة، التي يبدو أنَّ القوم استقوا شِقْصًا منها إبَّان السَّبي البابلي. 

- شِقْصًا؟

- أعني شِقًّا منها. ولنضرب على هذا نموذجًا واحدًا.  وهو (قِصَّة الطوفان).  جاءت تلك القِصَّة المثيرة في (سِفر التكوين)(3)، على النحو الآتي:

"ورَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسانِ قَدْ كَثُرَ في الأَرْضِ... فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسانَ في الأَرْضِ، وتَأَسَّفَ في قَلْبِهِ! فَقالَ الرَّبُّ: "أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسانَ مَعَ بَهائِمَ ودَبَّاباتٍ وطُيُورِ السَّماءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ!"... فَقالَ اللهُ لِنُوحٍ:... اِصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا... فَها أَنا آتٍ بِطُوفانِ الماءِ عَلَى الأَرْضِ لأُهْلِكَ كُلَّ جَسَدٍ فيهِ رُوحُ حَياةٍ مِنْ تَحْتِ السَّماءِ. كُلُّ ما في الأَرْضِ يَمُوتُ. ولكِنْ أُقِيمُ عَهْدِي مَعَكَ، فَتَدْخُلُ الفُلْكَ أَنْتَ وبَنُوكَ وامْرَأَتُكَ ونِساءُ بَنِيكَ مَعَكَ. ومِنْ كُلِّ حَيٍّ مِنْ كُلِّ ذِي جَسَدٍ، اثْنَيْنِ مِنْ كُلٍّ تُدْخِلُ إِلَى الفُلْكِ لاسْتِبْقائِها مَعَكَ. تَكُونُ ذَكَرًا وأُنْثَى... في سَنَةِ سِتِّ مِئَةٍ مِنْ حَياةِ نُوحٍ، في الشَّهْرِ الثَّانِي، في اليَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ في ذلِكَ اليَوْمِ، انْفَجَرَتْ كُلُّ يَنابِيعِ الغَمْرِ العَظِيمِ، وانْفَتَحَتْ طاقاتُ السَّماءِ. وكانَ المَطَرُ عَلَى الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وأَرْبَعِينَ لَيْلَةً... فَماتَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ... كُلُّ ما في أَنْفِهِ نَسَمَةُ رُوحِ حَياةٍ مِنْ كُلِّ ما في اليابِسَةِ ماتَ. فَمَحا اللهُ كُلَّ قائِمٍ كانَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ... ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ نُوحًا وكُلَّ الوُحُوشِ وكُلَّ البَهائِمِ الَّتِي مَعَهُ في الفُلْكِ. وأَجازَ اللهُ رِيحًا عَلَى الأَرْضِ فَهَدَأَتِ المِياهُ. وانْسَدَّتْ يَنابِيعُ الغَمْرِ وطاقاتُ السَّماءِ، فامْتَنَعَ المَطَرُ مِنَ السَّماءِ. ورَجَعَتِ المِياهُ عَنِ الأَرْضِ رُجُوعًا مُتَوالِيًا. وبَعْدَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ يَوْمًا نَقَصَتِ المِياهُ، واسْتَقَرَّ الفُلْكُ في الشَّهْرِ السَّابعِ، في اليَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، عَلَى جِبالِ أَراراطَ. وكانَتِ المِياهُ تَنْقُصُ نَقْصًا مُتَوالِيًا... وفي العاشِرِ في أَوَّلِ الشَّهْرِ، ظَهَرَتْ رُؤُوسُ الجِبالِ. وحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَنَّ نُوحًا فَتَحَ طاقَةَ الفُلْكِ الَّتِي كانَ قَدْ عَمِلَها وأَرْسَلَ الغُرابَ، فَخَرَجَ مُتَرَدِّدًا حَتَّى نَشِفَتِ المِياهُ عَنِ الأَرْضِ. ثُمَّ أَرْسَلَ الحَمامَةَ مِنْ عِنْدِهِ لِيَرَى هَلْ قَلَّتِ المِياهُ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، فَلَمْ تَجِدِ الحَمامَةُ مَقَرًّا لِرِجْلِها، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ إِلَى الفُلْكِ... فَلَبِثَ أَيْضًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ وعادَ فَأَرْسَلَ الحَمامَةَ مِنَ الفُلْكِ، فَأَتَتْ إِلَيْهِ الحَمامَةُ عِنْدَ المَساءِ، وإِذا وَرَقَةُ زَيْتُونٍ خَضْراءُ في فَمِها. فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ المِياهَ قَدْ قَلَّتْ عَنِ الأَرْضِ... وكَلَّمَ اللهُ نُوحًا قائِلًا: "اخْرُجْ مِنَ الفُلْكِ... وبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ... وقالَ الرَّبُّ في قَلْبِهِ: "لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ الأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الإِنْسانِ... "وها أَنا مُقِيمٌ مِيثاقِي مَعَكُمْ... هذِهِ عَلاَمَةُ المِيثاقِ الَّذِي أَنا واضِعُهُ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ... وضَعْتُ قَوْسِي في السَّحابِ فَتَكُونُ عَلاَمَةَ مِيثاقٍ بَيْنِي وبَيْنَ الأَرْضِ... وكانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الفُلْكِ سامًا وحامًا ويافَثَ. وحامٌ هُوَ أَبُو كَنْعانَ. هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ بَنُو نُوحٍ. ومِنْ هؤُلاَءِ تَشَعَّبَتْ كُلُّ الأَرْضِ. وابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلَّاحًا وغَرَسَ كَرْمًا. وشَرِبَ مِنَ الخَمْرِ فَسَكِرَ وتَعَرَّى داخِلَ خِبائِهِ. فَأَبْصَرَ حامٌ أَبُو كَنْعانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خارِجًا. فَأَخَذَ سامٌ ويافَثُ الرِّداءَ ووَضَعاهُ عَلَى أَكْتافِهِما ومَشَيا إِلَى الوَراءِ، وسَتَرا عَوْرَةَ أَبِيهِما ووَجْهاهُما إِلَى الوَراءِ. فَلَمْ يُبْصِرا عَوْرَةَ أَبِيهِما. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ ما فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ، فَقالَ: "مَلْعُونٌ كَنْعانُ! عَبْدَ العَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ". وقالَ: "مُبارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سامٍ. ولْيَكُنْ كَنْعانُ عَبْدًا لَهُمْ. لِيَفْتَحِ اللهُ لِيافَثَ فَيَسْكُنَ في مَساكِنِ سامٍ، ولْيَكُنْ كَنْعانُ عَبْدًا لَهُمْ". وعاشَ نُوحٌ بَعْدَ الطُّوفانِ ثَلاَثَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً. فَكانَتْ كُلُّ أَيَّامِ نُوحٍ تِسْعَ مِئَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةً، وماتَ."

   وهذه قصَّة لا تخلو تفاصيلها من الخيالات الأُسطورية والعنصريَّة.  وقد امتدَّ هذا الخطاب العنصري إلى "العهد الجديد".

- من هنا، إذن، تدفَّق علينا منبع (الساميَّة المقدَّسة)، التي تحوَّلت إلى شعارٍ إرهابيٍّ عالمي؟

- نعم، حتى لا تكاد تفتح فمك بانتقاد، حتى يَهِرَّ الغرب في وجهك: "أنت ضد الساميَّة!"، وإنْ كنتَ أنت السامِّي والمقول فيه خزري!

- وكذا منبع العنصريَّة القديمة ضدَّ (الكنعانيِّين/ الفلسطينيِّين).  لكن كيف امتدَّ ذلك الخطاب ليصبَّ في "العهد الجديد"؟

- إجابة كيف هذه في المساق التالي، إن شاء الله!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1)  (د.ت)، آثار البلاد وأخبار العِباد، (بيروت: دار صادر)، 498.  وقارن: 576.

(2)  يُنظَر: تفسير العهد الجديد، (جمعية الكراريس البريطانية، 2004)، 235.

(3)  الإصحاح 6- 9.

 

(كنت ألاحق الأفكار التي تتزاحم في مخيلتي، بدون خطة أو غاية، وكأنَّني طفل يلاحق فراشة نادرة تطير في المراعي، من دون أن ينظر إلى موطئ قدميه)... هاروكي موراكامي

***

في الفناء الكئيب لمستشفى مزدحم، محاط بجدران تعكس آلام سكانه، وقع نظري على منارة مُرهقة، غير مبالية بويلات المرضى والمحتاجين، ولكنها تطل على الامتداد الهادئ للسماء اللازوردية، مترفعة عن الاكتطاظ البشري والأزدحام المروري في الأسفل، وهنا وسط هذا التجاور بين المعاناة والصفاء، عاد ذهني إلى كلمات جان جاك روسو، ولا سيما كتابه "هواجس المتنزه المنفرد بنفسه" كان لهذا الكتاب بتصويره المثير للتشاؤم، صدى عميق في ذهني، حيث سجل روسو أفكاره وهواجسه وخيبة أمله وسط عالم مليء بالنفاق والخداع من خلال رحلته مع ذاته في عدة نزهات أطلق العنان فيها لأفكاره، حاولت لوهلة أن أخضع ذهني لهذا التمرين وأتسلق بأفكاري (مقلدة روسو) بعيداً من خلال شجرة وحيدة لكن أرتطمت بواقع مُقحل، بأعتبار المساحات الخضراء في مجتمعنا مساحات غير مهمة وغير موجودة في مشاريع الحكومة الرشيدة .

وبالعودة الى صاحب العقد الأجتماعي الذي اتسمت حياته بالصراع من أجل الاعتراف، ولم تكن جهوده وروحه الحساسة موضع تقدير من قبل المحيطين به كان يكتب مستلقيًا، محاطًا بالعزلة التي تعكس اضطرابه الداخلي، وكان يبحث عن العزاء في الطبيعة وعالم النبات، وسط التأمل والعزلة، وجد روسو الرفقة في النباتات، ونأى بنفسه عن نشاز النفاق والخيانة الذي أحاط به، ما يميز تأملات روسو هو طبيعتها الحميمة، التي تم كتابتها كتأملات شخصية، وظلت مخفية حتى بعد وفاته، وهي تقدم لمحة واضحة عن روحه، ومن خلال الاعترافات والتأمل، قام روسو بتفكيك الواجهة التي كانت تحميه، وكشف نقاط ضعفه ليراها الجميع، وعلى الرغم من أنه مؤلم، إلا أن صدقه يتردد صداه في قلب الروح الحرة، النزهات التي كان يقوم بها "حالماً" كانت تستثير عنده مشاعر عميقة ملأى بـ "الهواجس"، كان يتلذذ بالنزهات لأنها توافق كسله الجسدي من حيث الابتعاد عن كل عمل مصمّم، وتتناغم مع غزارة مخيلته وتدفق رعشاته.3331 منارة مسجد

ولايفوتنا أن نذكر أن هناك علاقة وطيدة بين المشي والتفكر، وكما يذكر هاروكي موراكماي في كتابه (ما أتحدث عنه حين أتحدث عن الجري) نمشي و نمشي دون وجهة محددة، نجري دائماً إلى الأمام، و كأن المشي عندنا طقسا دينياً يراد له أن يشفي أرواحنا الجريحة.

بالعودة إلى المتنزه نواجه روسو منغمسًا في مساعيه، مما يسمح لروحه بالصعود إلى عالم الأفكار، متحررًا من قيود المجتمع البشري، وسط المساحات الخضراء نجد ملاذًا حيث يمكن للأفكار أن تتجول بحرية، إنه تناقض صارخ مع الواقع الذي نواجهه في العراق، حيث يؤدي تراجع المساحات الخضراء ومحدودية الوصول إلى الحدائق والمناطق العامة إلى تقييد التعبير عن الفكر الفردي .

عندما أتأمل نقد روسو للمجتمع والحضارة، أستحضر واقعاً محفوفاً بالأزمات في مجتمع حيث يتم التنازل عن الحقوق عن طيب خاطر لحكومة مقيدة بعقد لا جدوى منه، وسط الأزمات المتصاعدة، إن كلمات روسو المؤثرة تلخص جوهر الوجود الإنساني، الذي يتجاوز الزمان والمكان، كما يعلن:

" لقد انتهى كل شئ بالنسبة لي في هذه الدنيا ..

و لن يستطيع احد بعد ان يفعل بي خيراً او شراً ..

لم يعد امامي ما آمل فيه او ما أخشاه في هذه الدنيا

وها أنا ذا مستكين في قرار الهاوية بشراً فانياً منكودا ولكن صامد كالإله نفسه"

وكما قال روسو: «يولد الإنسان حرًا، وفي كل مكان يكون مقيدًا بالأغلال» ويتردد صدى هذا الشعور بعمق لدى الفرد العراقي، الذي غالبًا ما يشعر صوته بالاختناق بسبب القيود المجتمعية والاضطرابات السياسية، في بيئة خالية من المساحات المفتوحة، تصبح فرصة التعبير الحقيقي عن الذات نادرة بشكل متزايد.

ومع ذلك، وفي خضم هذه التحديات، لا يزال هناك بصيص من الأمل إن بحث روسو الخالد عن الأصالة هو بمثابة ضوء إرشادي يلهمنا للمثابرة على الرغم من تجارب الحياة، وعلى حد تعبير روسو: "ما هي الحكمة التي تجدها أعظم من اللطف؟" ومن خلال اللطف والتفاهم يمكننا أن ننشئ مجتمعا يمكن أن تزدهر فيه الروح الإنسانية، غير مثقلة بأغلال القمع، وأن نصنع من الخيال فضاءات واسعة نحلق بها بعيداً عن الواقع المقفر....

***

د. فاطمة الثابت – استاذة علم الاجتماع في بابل

........................

* المنارة المطلة على أحد المستشفيات

 

التغيير في ترجمة العنوان أمر وارد، وخصوصاً في بعض الأعمال الأدبية والسينمائية لدواع تجارية أو اجتماعية بشرط أن يُذكر العنوان الأصلي في الصفحة الداخلية للكتاب باللغتين الأصلية والمترجَم إليها. ولكن هذا التغيير يكون غالباً ضمن إطار معنى العنوان الأصلي ولا يخرج من فضائه! لنلقِ نظرة على هذا المثال لنرى إنْ كان من النوع المسموح به أم أنَّ فيه تجاوزاً وخروجاً على المعنى الأصلي وتحميل العنوان الجديد بحمولات أيديولوجية "قومية عروبية على قومية سورية" خاصة بالمترجم؟

* ألَّفَ الباحث الآثاري الفرنسي جان كلود مارغورون في ستينات القرن الماضي كتابه (les mesopotamiens). وتعني هذه الكلمة سكان بلاد ما بين النهرين أو كما دأبتُ على تسميتهم في كتاباتي "الرافدانيون"، وقد وضحتُ مبرراتي في أكثر من نص. وبعد ربع قرن تقريباً على صدور كتاب مارغورون ترجمه سالم سليمان العيسى إلى العربية سنة 1999. ولكن تحت عنوان جديد طويل هو "السكان القدماء لبلاد ما بين النهرين وسوريا الشمالية". ثم، وكأن المترجم لم يكتف بزجِّ اسم سوريا الشمالية في العنوان فزاد وكتب عنواناً ثانياً تحت العنوان الرئيسي في الصفحة الأولى من الكتاب هو "التراث والكنز الثمين الذي أبهر الأجانب - مفخرة سوريا"!

يخبرنا المؤلف الفرنسي منذ البداية بجوهر فكرة كتابه وموضوعه وهو محاولة اقتراح هوية جغراحضارية لسكان هذا الإقليم متعدد القوميات. وهو يعترف منذ مقدمة كتابه بأن الكتاب سيهتم بسكان بلاد الرافدين أو ما بين النهرين دون غيرهم (ذاكراً حدود هذا الإقليم الواقع بين نهري دجلة شرقاً والفرات غرباً، وقلب الأناضول شمالاً والدلتا السومرية شمال الخليج العربي - ويسميه الفارسي - جنوبا/ ص20)، مؤكدا أنَّ هذا الاسم "الميزوبوتاميين" أي الرافدانيين لم يكن موجوداً في تلك العصور القديمة، ولم يكن الناس في هذه المنطقة يسمون أنفسهم به ذاكراً مبرراته لإطلاق هذه التسمية. ثم يسمي بعض شعوب بلاد الرافدين ومنهم السومريون والكاديون - والمقصود الأكاديون - والآشوريون والحوريون والسوريون. ومن غير الدقيق علمياً وكرونولوجياً خصوصاً إيراد ذكر الآشوريين والسوريين معاً، فالثابت تأريخياً أن أسم سوريا وبالتالي "السوريون"، اشتق لاحقاً - في عهد الاحتلال السلوقي (بين 312 ق.م حتى سنة 63 ق.م- من اسم آشور والآشوريين، وبعد سقوط الدولة الآشورية واندماج شعبها بشعوب المنطقة. على هذا، ينبغي الفصل بين التسميتين وعدم الجمع بينهما في حقبة تأريخية واحدة. أما هل وردت العبارة بهذه الصيغة في الكتاب باللغة الفرنسية وفيها كلمة "السوريون"، أم أنها أضيفت سهواً أو قصداً من قبل المترجم العربي، فلا يمكنني الإجابة على هذا السؤال قبل الاطلاع على النسخة الفرنسية منه.

لقد تجاوز المترجم على عنوان المؤلف الأصلي ووضع له اسما يتجاوب مع دوافعه الأيديولوجية، ولم يكتف بذلك، بل كتب مقدمة خاصة به كمترجم راح يلوي أعناق الحقائق والوقائع فيها ليروج فكره القومي العروبي المتداخل مع فكر الهوية السورية فيكتب معرفا الرافدانيين بقوله: "إنهم السكان السومريون - الحوريون - الأكاديون - السوريون الذين تواجدوا في بلاد الدجلة والفرات، إنهم جميعا من الأصل السامي مصدر قوميتنا العربية، وهذه حقيقة تاريخية ثابتة...  ص5"، وكأن الأفكار والمعلومات تتحول إلى حقائق تأريخية ثابتة حين يقرر المترجم أو الكاتب ذلك بجرة قلم! وحتى إذا غضضنا النظر عن هفوة المترجم في استخدام الفعل "تواجدوا" والذي يعني "أظهروا الوجد الصوفي" وليس الوجود الانطولوجي وفعله "وُجِدوا"، لم يكتف العيسى بدوره كمترجم بل تدخل كباحث وجعل الحوريين ساميين، وحذف الآشوريين بعد أن جعلهم سوريين! وقد وضحنا وجه الخلط بين الآشوريين بالسوريين، أما بالنسبة للحورين فهم كما هو معروف بحثياً لا علاقة لهم بالساميين، لا أصلاً أثنولوجياً ولا لغة. فأصلهم العرقي ما يزال غامضا، ولكن لغتهم "الحورية فرع من اللغات الحورو- أورارتية، وهي لا تنتمي إلى اللغات السامية ولا إلى اللغات الهندية الأوروبية، ويرجعها بعض الباحثين الى مجموعة اللغات القفقاسية الجورجية. وتذهب بعض النظريات إلى أن بعض ملوكهم كانوا من أصول هندو آرية، وقد ظهروا في العصر البرونزي وشيَّدوا المملكة الميتانية ثم ذابوا في شعوب المنطقة بعد انهيار مملكتهم.

كانت هذه وقفة سريعة عند مثال من تجاوزات الترجمة إلى العربية وستكون لنا وقفة أطول عند هذا الكتاب في مناسبة أخرى ضمن مشروع دراسة لفحص العلاقات التأريخية والحضارية القديمة بين بلاد الرافدين وما يسمى من قبل البعض سوريا الكبرى "أو الهلال السوري الخصيب" التي يريدون أن تكون بلاد الرافدين كما شخَّصَ حدودها جغرافياً وحضارياً جان كلود مارغورون وغيره جزءا منها!

***

علاء اللامي

يبدو أن هناك شعورًا منتشرًا بشكل مهول يطارد مجتمعاتنا – إنه القلق. لقد أصبح مصطلح "عصر القلق" شعارًا شائعًا، وغالبًا ما يتم الاستشهاد به للتعبير عن جوهر وجودنا المعاصر. ولكن هل نعيش حقا في عصر يهيمن عليه الشعور بالقلق، أم أن هذا التصور هو مظهر من مظاهر التغييرات المجتمعية الأوسع ووجهات النظر المتطورة بشأن واقعنا ومزاجنا اليومي ؟.

لقد شهد القرن العشرين تحولات مجتمعية وتكنولوجية مهولة وغير مسبوقة، تسببت في توليد مخاوف ذات ضغوطات مختلفة . لقد زرعت الحروب العالمية والكساد الاقتصادي والحرب الباردة مخاوف جماعية من الإبادة. وأدى التقدم التكنولوجي المتسارع، وخاصة العصر النووي، إلى ظهور التهديدات الوجودية في المقدمة. في الوقت نفسه، قدمت الثورة الرقمية في أواخر القرن العشرين وظهور الإنترنت حزمة جديدة من الشكوك والمخاوف المتعلقة بالخصوصية، والاستهلاك المفرط للمعلومات، وتآكل الملامح الشخصية:

أحد العوامل المهمة التي يُشار إليها غالبًا على أنها تساهم في إدراك سن القلق هو التقدم السريع للتكنولوجيا وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي حيث يُعتقد أن الوابل المستمر من المعلومات، والضغط للحفاظ على شخصية متوازنة في عوالم الإنترنت، والخوف من تفويت الأشياء  الخاصة هي عوامل محفزة لزيادة مستويات ضغط القلق.

إحدى الآليات الأساسية التي تؤثر من خلالها العوامل الاقتصادية على الصحة العقلية هو الشعور السائد بعدم الاستقرار الذي يصاحب عدم اليقين الدخل الآمن . وسواء كان ذلك بسبب الانكماش الاقتصادي العالمي أو الصراعات المالية الشخصية، فإن عدم اليقين بشأن المستقبل المالي يمكن أن يكون بمثابة أرض خصبة لهذا القلق المرعب .

إن الخوف من فقدان الوظيفة، وعدم استقرار السكن، وعدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية يمكن أن يساهم في انتشار الشعور بالعجز والضعف.

ونحن نبحر في تعقيدات ومطبات العصر الحديث، من الضروري إجراء افتحاص نقدي لمفهوم عصر القلق. ومن خلال تشريح الأبعاد التاريخية والتكنولوجية والاقتصادية والثقافية والفردية للقلق، يمكننا الحصول على فهم دقيق للعوامل التي تساهم في إدراكنا الجماعي لمستويات القلق المتزايدة. ومن خلال القيام بذلك، قد نكتشف أن عصر القلق ليس حقيقة متجانسة، بل هو تفاعل معقد بين القوى المختلفة التي تشكل المشهد العقلي لدينا.

***

عبده حقي

 

في المثقف اليوم