المثقف - قراءات نقدية
قراءة سريعة في نص "عنوسة مضجع" لعمر مصلح فارس
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. إنعام الهاشمي
من أجل تفعيل النقد وللرقي بالأدب المنشور في فيسبوك قامت إحدى المجموعات `ذات نفحة حماس مفاجئة بفتح فعالية تحت مسمى "نص ورأي" المفترض فيها ان تنتقل بالتعليقات من المجاملات الروتينية الى الجدية في التعليق ومن ثم إبداء الرأي في النص بجدية ورصانة. وفي هذا الحقل جاء نص الأديب الفنان عمر مصلح فارس "عنوسة مضجع" كمرشح لأقلام الأعضاء لإبداء الرأي فيه، وكان ان أدليت بدلوي في هذا المجال بقراءة سريعة هي اقل بقليل مما يستحقه النص وما تستحقه كتابات عمر مصلح عموماً .
عمر مصلح حين يكتب النص فهو لا يشبه إلا عمر مصلح .. ولا أظنه ينظر لنص الآخر ليشابهه بل ليعجب به وحسب وإن اختلف عما يكتبه هو. عمر مصلح يكتب النص بمخيلة الفنان التشكيلي المبدع والمسرحي المتفتح على آفاق غير معهودة. وهو حين يقدم قراءة وانطباع عن عمل أدبي فإنه يمسرحه ليجعل من قراءته عملاً أدبياً له خاصية الابتكار والخلق وليس فقط الوصف والتحليل ووضع اليد على مرتكزات القوة والضعف في النص موضوع القراءة. حين أقرأ له انطباعاً عن رواية او قصيدة فإنني أنسى الرواية أو القصيدة وأنشغل بالاستمتاع بالنص الأدبي الذي رسمت أحرفه وكلماته ومعانيه ولفتاته بضربات ريشة الفنان عنر مصلح فأجد الألوان الزاهية والداكنة تمتزج بمهارة فيه لتأخذني بدهشة السائح الذي يخشى أن يفوته منظرٌ او أثرٌ دون تسجيله وتوثيقه في ذاكرته. قلت مرة عنه "عمر مصلح ليس ناقداً" ويخالفني، بل ويعارضني في ذلك أكثر من متمرس في فن النقد، ولكن قولي يضمرُ أكثر مما يظهر، وما عنيته بقولي ذاك أن عمر مصلح رسامٌ باهرٌ في التعبير عن انطباعه، وهو يمارس الرسم بالحرف لا النقد، لأن ما يكتبه أجمل بكثير مما يكتب عنه من نصوص.
بعد هذه المقدمة عن عمر مصلح وحرفه الفني أضع قراءتي السريعة التي كتبتها آنذاك تحت مصنف "نص ورأي" والذي لم يعد له ولا للمجموعة وجود في فيسبوك...
فيسبوك لم يخلق للنقد وإنما للتواصل ومن الصعب الجمع بين التواصل والرأي المتجرد من العاطفة إلا فيما ندر... ولكن المحاولة تفسح المجال وتمهد الطريق للجدوى.
نص ورأي
النص: "عنوسة مضجع" لعمر مصلح فارس
الرأي: أ. د. إنعام الهاشمي (حرير و ذهب)
ابتداء بالعنوان "عنوسة مضجع".....
ارتبط مفهوم العنوسة بالأنوثة .. ورغم أن مفهوم العنوسة يعني تقدم العمر دون زواج لكل من الذكر والأنثى ولكننا لا نسمع تعبير "رجل عانس" مهما تقدم به العمر ... كما لا يقال "رجل أشمط" مثلما يقال "امرأة شمطاء" رغم ان المفهوم يعني اختلاط البياض بالسواد في شعر الرأس للمرأة او الرجل! .. هنا وقد أنسن الشاعر المضجع، هل اعتبره مؤنثاً أم مذكرا؟ أم هل أبعد مفهوم العنوسة عن مفهوم التزاوج وتعداه ليعني الاقتران؟
أجد في هذا جواب تساؤلي، أن الشاعر قد حوّل معنى العنوسة ليعني التقدم بالعمر دون الاقتران بالقرين الطبيعي بغض النظر عن الانوثة والذكورة أي نفي الزواج والتزاوج بين ذكر وأنثى .. وهنا أعطى الشاعر مفهوماً جديداً للعنوسة يتجاوز المفهوم التقليدي، وفي هذا أرى تطويراً للغة العربية.
ويأتي السؤال الثاني: ترى من القرين الذي طال انتظار المضجع له والذي يتحرق شوقاً لرؤياه والاقتران به؟
يذكرني هذا التحرَّق والانتظار بقول ديك الجن:
(قولي لطيفك ينثني عن مضجعي وقت المنام .. كي استريح وتنطفي نارٌ تأجَّجُ في العظام )
إذاً القرين الطبيعي هو النوم والراحة .. المضجع يقترن بالنوم ..
والعنوسة هنا هي الأرق...
أليس في هذا المعنى الجديد تطويرٌ للغة؟ ترى هل ستعترض "جندرمة اللغة" وتقدم الشاعر للمحاكمة بتهمة التلاعب والتآمر على تدمير اللغة؟
والسؤال الثالث: ترى من الذي عنَّس مضجع الشاعر؟
ربما نجد الجواب فيما بعد؛ الصحو أجده هنا من علائم عنوسة المضجع .. وليس مرادفاً تماما لها إلا إذا اقترن بالتمادي في دفع النعاس وإبعاده عن المضجع .. النعاس سلاح الشاعر الذي يشهره في وجه الصحو ليقرب القرين "النوم" للمضجع بقوله:
(قتلتُ الصحو .. رمياً بالنعاس)
وبحضور القرين (ذات نوم) .. يعود الشاعر لأنسنة القرين والقرين .. بإدخال مفردات الضفائر والرقاب .. ضفائر العروس وجيدها وغزل العرس! ثم الحلم .. ودفء نار الشتاء وصاحب الحلم يؤجج رؤيا هذا العرس بالحلم
ولكن:
(ألليل مازال غضاً
سماواتي مثخنة بالنجوم
فتسرب أنينها مرتجفا ...
من خصاص نوافذه)
ترى هل أنين السماوات يمثل احتجاجاً على اقتران النوم بالمضجع وهي الساهرة و "المثخنة بالنجوم" ؟ كما لو أنها تقول:
"إن يكن قلبُكَ لا يسمعُ لحني .. فلمن يا فتنةَ الروحِ أغني؟"
ومن الناحية الأخرى أرى هذا التعبير السماوات "مثخنة بالنجوم" هو المدخل لجزء آخر في النص حيث الأوجاع والألم ..
الفرِح يرى السماء "مطرزة بالنجوم" ويحتفي بالحب في هذا الجو الجميل و"الليل" غض، ومن أثقلت قلبه الهموم يراها "مثخنة بالنجوم" وكأنه يقول قلبي "مثخن بالجراح" فهو يأخذ صورة المفروض فيها أن تكون مبهجة ليحولها بمنظار المتحدث المعتم إلى العكس تماماً .
عند هذا يتوقف لديّ الاسترسال مع النص و بقوله :
(فكرهتُ .. كره الفحم للمدفأة)
اشعر أن هناك نقصاً في هذا القول وكأن شطراً قد حذف ؛.
كرهت ماذا؟ اين المفعول به؟ هل المفعول به كره الفحم للمدفأة؟ لا أظن ذلك ، إنما هو يشبّه كرهه لشيء ما بكره الفحم للمدفأة لأن فيها احتراقه ... ترى ما الذي فيه احتراق
المتحدث؟ ذلك الشيء الذي كرهه؟
الجواب في قلب الشاعر!
والسؤال الذي تبادر لذهني في البداية: "من الذي عنَّسَ المضجع ؟" أجده في الأشطر الأخيرة...
الفجيعة .. الذكريات .. المخدع الذي أثلجه الحرمان ...
وما الخلاص؟
الضباب الذي يلف الذكريات، والمواجع التي حين تفوق الاحتمال يحل محلها الخدر .. والنفوس يطهرها الألم فتهجع .. وتخبو نار الحدقات .. ويتم الاقتران ...
النص يحتوي على رمزية وغموض محبب باسلوب حداثي ... فهو لا يغرق في الرمزية لحد الهذيان ولا هو في المباشرة التي تشبه الأحاديث اليومية والمواعظ بل انه يترك الكثير للمتلقي كي ينسج حوله من فكره وتفسيراته؛ ورغم قصر النص إلا أنه يحوي الكثير من الصورالمتخيلة تم التعبير عنها بلغة واضحة رغم رمزيتها..
تحياتي للشاعر عمر مصلح فارس، وتمنياتي لحرفه بالازدهار ودوام الألق.
حرير و ذهب (إنعام)
الولايات المتحدة
عنوسة مضجع
عمر مصلح فارس
قتلتُ الصحوَ .. رمياً بالنعاس
وذات نوم ...
أحكمت إسدال الضفائر ..
أحكمت إسدال الضفائر ..
لأرى كيف يتم الكشف عن تلك الرقاب .
فالحلم .. مفتاح من أعسره الضيق
والنار فاكهة الشتاء
وأنا عود ثقاب
والليل مازال غضاً ..
وسماواتي مثخنة بالنجوم
فتسرب انينهن مرتجفاً ..
من بين الخصاص
فكرهت .. كره الفحم للمدفأة
ولفَّ ضباب الذكريات فجيعتي ..
واستبدَّ البرد بمخدع الحرمان
.
فطهرت الرغبة بالمواجع .
وخبت نار الحدقات
فما جدواي اذاً ؟!!.
عمر مصلح
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.