المثقف - قراءات نقدية
قراءة في قصيدة الشاعرة والقاصة السعودية بلقيس الملحم: ليتني لم أكن شاعرة: العراق في دمي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: احمد فاضل
مع أنها سعودية الأصل وتقطنها، لكنها وفي كل ما تكتب تحمل هم العراق وكأنها ابنته التي ولدت من رحمه وتربت وسط ربوعه وبين ناسه، في قصيدتها الأخيرة "ليتني لم أكن شاعرة" المنشورة في صحيفة " المثقف "الإلكترونية، يفوح منها عطر محبتها للعراق الذي لا ينتهي، هذه المحبة التي جعلتها تتمنى لو لم تكتب الشعر لأنه الأقرب في تفسير معاني الألم الكامنة في النفوس فكان اعتذارها له أو كما قالت:
"اعتذار من حبي للعراق
الذي يمزق فؤادي".
هكذا تمضي قصيدتها بتقديمها لأبيات قالها محمود درويش:
" أنا أول القتلى .. وآخر من يموت "
أعرف بأنني أحببتكَ بغتة
فسقيتَ زهرتي الضائعة بقبلة عابرة
وتركتها تنمو على ضفافك
شهقة تلو شهقة
حتى وهن هذا الهواء
فأصبحت بغداد لا تكفي لعبور تنهيدة
ولا لنوم نيزك نسي نفسه بعد السقوط
ولا لدمعة تمرح في القميص
كأنك توشي بالريح للغابة وتوصيها بي خيرا !
هذا البوح الخارج من أعماق الروح لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال أنشودة عابرة أو مسايرة شاعر لمناسبة عاشها بلد كالعراق الذي تناجيه بكل حزنها، إنه الألم الممزوج بحبها له، شعور من يفقد الفرحة بفقدان فرحته، أنظر كيف تأتى لها تصوير كل ذلك الحب وقد وضعت بغداد هذه المدينة الغارقة بالدم في جوف قلبها لتسقيها " كزهرة ضائعة بقبلة عابرة " لتتركها تنمو على الضفاف، هذه الصورة الشعرية تشكلت لديها وكأنها خرزات مسبحة اصطفت بمهارة صانع عرف كيف يصقلها، فهي حينما تقول:
شهقة تلو شهقة
حتى وهن هذا الهواء
فإنها تنتقل بذاك الربط الرشيق لتلك المسبحة دون أي إخلال بالصورة الشعرية لتقول بعدها:
فأصبحت بغداد لا تكفي لعبور تنهيدة
ولا لنوم نيزك نسي نفسه بعد السقوط
ولا لدمعة تمرح في القميص
كأنك توشي بالريح للغابة وتوصيها بي خيرا !
هنا يكون البوح قد خرج عن صورته المألوفة ليدخل دائرة أكبر حينما نتغلغل عميقا مع الشاعرة وهي تدلي بألمها الحاضر بقية القصيدة لتروي فيها حكاية واحدة ممن عرفتهن، " أم كاظم " وابنتها، مثال واحد من عشرات الأمثلة لشعب يعيش محنته مع هذا الإرهاب الصاعد في غيه :
تُطلق على جسدي سهام الرعشة
وتقول للحافلة البطيئة:
أغلقي فمك ولا تقذفي بأكياس الكادحين
ثمة مفقودات ستجمعها " أم كاظم " من المشرحة ثمة مفقودات تنثرها "أخت كاظم" في حوض البكاء تقول للحافلة البطيئة:
توجد حفرة كبيرة يُخطئ كل العشاق فيموتوا فيها !
الملحم اختارت هذه الثيمة المحزنة لتبني عليه المشهد الشعري كواحد من عدة مشاهد تتكرر فيه كلمات الألم حتى نهايته:
حتما سيركض الأطفال بقدم واحدة
وأنا سأجمع أحذيتهم
وأحفظها في ثلاجة ريثما تتذكرهم الحفرة!
سأبحث عن ثوب أبيض نادر
هذه المدينة لا يوجد فيها غير السواد
الأمر ببساطة أن الموت هنا يثرثر
والنخلة خرساء
هنا يتحول النص الشعري لدى الملحم إلى سرد شعري ليتوائم مع الألم الواسع الذي احتضن العراق فتراها تسهب في وصفه:
الموت هنا يُعلق صورته حتى في البيوت المهجورة ودجلة مصاب بالعمى بالكاد لا يزور مرقد النعمان إلاَّ مرة كل عام الموت هنا يلسع السماء بحوافره وجسر الأئمة يخشى لو رفع رذاذ الأذان أن يغرق ماذا جنيتِ عليَّ يا بغداد؟ لأني أحبك هذه الينابيع ليست جديرة بأسناني أنا أقضم حصى المقابر وأبيع وجدي في بازار الأحزان المُجفَّفة لأني أحبك أو أظن ذلك هجمت علي جيوش القصائد فرحت أغمسها في عتمة الليل أردد ما كنت تقوله للحافلة البطيئة وأنا ألوح بيدي لأطفال البرتقال لكني كنت أيضا بطيئة جدا تعثرتُ في أول ضوء ابتسم لي عميقا عميقا ..
فقدت سمعي مع آخر أغنية لداخل حسن
كانت تصدح ببطء أيضا
بعيدا
بعيدا ..
مشيت في جنازة الفراشات
والريح تحشد في رأسي كل هذه الزهور
.
.
ماذا جنيت علي بغداد!
أمصُّ وجعي فتحبل كل هذه الزهور
أموت أو لا أموت
المهم أنني أول القتلى بك
وأول الناجين بصدق النذور ..
القصيدة الألم في نهايتها تعود لتتمثل قول درويش أنها "أول القتلى" قبل أن يسقط كل هؤلاء الأبرياء لتطوي صفحة الشعر بها متمنية أن لا تكون شاعرة .
أحمد فاضل
للاطلاع
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.