قراءة في كتاب

علي القاسمي: قراءة في كتاب: النحو العربي وعلاقته بالمنطق .. للأستاذ الدكتور محمود محمد علي (4-5)

علي القاسمي4) هل مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة مدرستان أم مدرسة واحدة؟

4. مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة في النحو:

تعني المدرسة، هنا، مجموعة من الباحثين يجمعهم فكرٌ مشتركٌ واحد أو خصائص مشتركة متعلّقة بمجالٍ واحدٍ أو أكثر من مجالات المعرفة، وتتجلّى هذه الخصائص المشتركة في الأساس النظري لأبحاثهم، ومنهجيته، وتوجُّهاته العامّة.

يقلّل الدكتور محمود محمد علي من الفروق أو الاختلافات بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، لإنَّهما متفقتان في الأصول العامَّة للنحو، ولأنَّ أئمة النحو الكوفي درسوا على نحاة البصرة. فالكسائي، مؤسّس مدرسة الكوفة في النحو، قد تتلمذ على الخليل بن أحمد البصري. وأبو زكريا الفراء (ت 207 هـ) من أئمة مدرسة الكوفة أو رئيسها الثاني بعد الكسائي، رحل إلى البصرة وتتلمذ على يونس بن حبيب (ت 208 هـ) الذي جلس في موضع الخليل بعد وفاته للتدريس. وكان الفراء "يقرأ كتاب سيبويه خلسة، ووجدوا "الكتاب" تحت وسادته بعد وفاته"، كما يقول الدكتور محمود. ومن ناحية أخرى، فإنَّ مدرسة الكوفة استخدمت في الأغلب مصطلحات مدرسة البصرة في النحو. ومعروف أنَّ " المصطلحات هي مفاتيح العلوم" وأنَّ "فهم المصطلحات نصف العلم"، لأنَّ المصطلحات تعبّر عن مفاهيم ذهنية مترابطة، وهذه المفاهيم المترابطة تشكِّل المنظومة المعرفية لكلِّ علم. وعلاوة على ذلك فإنَّ المدرستين البصرية والكوفية تتمسك بنظرية العامل التي هي من ابتكار الخليل بن أحمد البصري، رأس مدرسة البصرة. ويضيف المؤلِّف الفاضل:

" ومن يرجع إلى كتاب " الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين" لابن الأنباري، يجد أنَّ عامَّة المسائل التي خالف فيها الكوفيون البصريين، لا يمكن أن تجعل من الكوفيين نحاةً من نمط جديد، أو تجعل آراءهم التي جاءوا بها تؤلِّف مدرسة نحوية متميزة، وبهذا يصبح كلُّ ما قيل في عصرنا هذا من كلامٍ ومن صيغ في الثناء على الكوفيين لتميُّزهم في العمل النحوي أمراً مبالغاً فيه."[84]

وإذا كانت مدرسةُ الكوفة قد نالت شهرةً في ذلك العصر بوصفها مدرسةً مستقلةً عن مدرسة البصرة، فإنَّ الدكتور محمود يُرجع السبب إلى أنَّ الخلفاء العباسيين (نسبة إلى جدّهم عباس بن عبد المطلب، عمّ النبي(ص))، قرّبوا أعلام الكوفة في اللغة والأدب، بفضل المعرفة والعلاقة الودية بين أولئك الخلفاء وأعلام مدرسة الكوفة. فأوَّل خلفائهم، أبو العباس السفّاح، كان يسكن الكوفة حينما تولى الخلافة سنة 132هـ ومعه أخوه وليُّ عهده أبو جعفر المنصور الذي تولى الخلافة بعد زهاء أربع سنوات، والذي بنى مدينة بغداد (بين سنتي 145ـ150 هـ) واتخذها عاصمة له[85]. فهما وكبار العباسيين يعرفون الكوفة وعلماءَها وتربطهم بهم علاقات ودية؛ إضافة إلى أنَّ الكوفة أقرب من البصرة إلى بغداد، فالمسافة بين بغداد والكوفة 172 كيلومتراً، أما المسافة بين بغداد والبصرة فهي قرابة 530 كيلومتراً.

ولهذا نرى أنَّ الخليفة أبا جعفر المنصور يجعل عالمَ اللغة الأديب الراوية المُفَضَّل الضَّبّي (ت 168؟ هـ) مؤدباً لولده المهدي. وكان الضبّي شيخ الكسائي والفرّاء في الكوفة. ويضمُّ الخليفة المهديُّ الكسائيَّ (ت 189هـ)، رئيسَ مدرسة الكوفة في النحو وأحد القراء السبعة، إلى حاشية ولده هارون الرشيد. وعندما يتولى هارون الرشيد الخلافة، يكلِّف الكسائي بتعليم ولديه الأمين والمأمون. وعندما مرض الكسائي، اختار تلميذه أبا الحسن الأحمر (ت 194هـ) ليخلفه في تلك المهمة. أمّا الخليفة المأمون ابن هارون الرشيد، فقد اختار أبا زكريا الفراء (ت 207 هـ) لتأديب ولديه.[86]

وهكذا كان لأعلامِ مدرسةِ الكوفة في اللغة والأدب حظوة لدى الخلفاء العباسيّين، فارتفعت حظوظهم وعلا اسمهم وأُشير إليهم بوصفهم أعلامَ مدرسةٍ متميزةٍ عن مدرسةِ البصرة.

وهكذا يكون الدكتور محمود محمد علي قد خالف جمهور مؤرِّخي النحو العربي من مستشرقين وعرب. وهو لم يخالفهم لمجرد التفرُّد، فهو لا يأبه بالشهرة بقدر ما يُعنى بالحقيقة العلمية.

وعلى الرغم من وجاهة الأسباب التي جعلت المؤلِّف الفاضل يقلِّل من الفروق بين مدرستي البصرة والكوفة في النحو، فإني أذهب إلى وجود فروقٍ جوهريةٍ، نظرية وتطبيقية، بين المدرستيْن للأسباب التالية:

أولاً، إن مفهوم " مدرسة " قد لا يقتصر على مجال فكري واحد بل قد يضمُّ عدَّةَ مجالات فكرية متقاربة أو متباعدة. فمدرسة فيننا (أو حلقة فيينا) التي تأسست في مطلع القرن العشرين، مثلاً، كان يتمتَّع بعضويتها علماءُ من تخصُّصاتٍ مختلفةٍ مثل الفلسفة والمنطق والفيزياء والاقتصاد والرياضيات وعلم النفس وعلم الاجتماع. ولكنَّهم جميعاً يشتركون في التصوُّر العلمي للعالم، ويتَّفقون على ضرورة قيام المعرفة على معطياتٍ حسّيةٍ وأفكارٍ تستند إلى ظواهرَ تجريبيةٍ أو استقرائية.

وبالمثل، فإنَّ مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة لم تكونا مقتصرتيْن على النحو فحسب، بل شملتا كذلك مجموعة من العلوم الأخرى المتَّصلة مثل التفسير، والقراءات، والحديث، وأصول الفقه، وعلم الكلام، وغيرها. ومجالات المعرفة مترابطة مثل أغصانِ شجرةٍ معمّرة وجذورها في باطن التربة تبحث عن الماء أو الحقيقة.

ثانياً، إنَّ الاختلاف بين المدرستين لم يقتصر على القضايا الشكلية، بل هو قائم على الأساس النظري الذي يؤدي إلى منهجية كلٍّ منهما. فمثلاً نجد أنَّ البصريّين لا يعتمدون صياغة القاعدة النحوية ما لم تتوافر لديهم مدوَّنة كبيرة تشتمل على أقوال كثيرة، سمعوها من الناطقين بالعربية في مختلف أصقاع جزيرة العرب، من أجل صياغة القواعد النحوية في ضوئها وعلى أساسها. أمّا الكوفيّون فيكتفون بأقوالٍ قليلة يقيسون عليها ويضعون القاعدة النحوية، تماما كما كانوا يفعلون في أصول الفقه. فقد كان الفقيه أبو حنيفة النعمان الكوفي (80ـ150هـ) لا يأخذ بالأحاديث مهما كثرت، لا لشكِّه في أنَّ بعض الأحاديث موضوعة فحسب، بل لأنَّه كان كذلك يكتفي بآيةٍ قرآنيةٍ واضحة ويقيس عليها ليستنبط الاحكام الشرعية منها[87]. أمّا منهج الحسن البصري (20ـ110) في تفسير الآيات القرآنية أو تأويلها، فهو تفسير القرآن بالقرآن، وبالسنة، وبأقوال الصحابة، وبعمل أهل المدينة، وبالاستحسان، وبالإجماع وغير ذلك. وكذلك في القراءات، فإن البصريين لا يأخذون بقراءة لا تتفق مع القاعدة النحوية، وهكذا.

وهذا الاختلاف بين مدرستي البصرة والكوفة النحويتيْن يذكِّرني بالاختلاف بين المدرستين البنيوية والتوليدية في اللسانيات الأمريكية في القرن الميلادي العشرين. فالبنيويون يضعون قواعدهم النحوية بناء على مدونة كبيرة تشتمل على أمثلة كثيرة تُستنبَط منها القاعدة. أمّا التحويليون ـ التوليديون فتكفيهم أمثلة جيّدة قليلة، يولِّدون منها القاعدة النحوية، كما أوضح تشومسكي الذي يرى بأن النحو بنية معرفية يتحكَّم به مستخدمو اللغة، وأنَّ أغلب هذه المعرفة فطرية يسميها بالنحو الكلي، ولهذا فإنَّ الأطفال يكتسبون لغتهم الأم بنجاح في وقت قصير جدّا، وأنَّ عالمِ اللغة لا يحتاج إلّا إلى شواهد جيدة قليلة لصياغة القاعدة النحوية منها، ولتوليد قواعد أخرى منها وبالقياس عليها.

ونظراً لأنَّ البصريِّين يقيمون قاعدتهم النحوية على المسموع الكثير، فإنَّهم أوَّل من وضع أسس المدوَّنة النصِّية في تاريخ اللسانيات، وما اقتضته من الرحلة الى البادية ومشافهة فصحاء الأعراب. أمّا الكوفيون فلم يولوا كبيرَ اهتمام ٍلذلك، فقد كانوا يقيمون قاعدتهم النحوية على القليل الجيّد ويقيسون عليه، كما ذكرنا. وعلى الرغم من أنَّ الكسائي، أوَّلَ شيخ للمدرسة الكوفية، قد قام بالرحلة إلى البادية، بتأثير شيخه البصري الخليل بن أحمد، فإنّه فيما بعد لم يلتزم بمبدأ المدونة الكبيرة لأنَّه مخالفٌ لأُسس مدرسة الكوفة النظرية التي تحتفي بالقياس على القليل. ولهذا كان النحوي البصري ابن درستويهِ (ت 347هـ) يتهمه بقوله:

" كان الكسائي يسمع الشاذَّ الذي لا يجوز إلا في الضرورة، فيجعله أصلاً ويقيس عليه، فأفسد النحو بذلك."[88]

وقال النحوي الكبير أبو حيان الأندلسي (ت 745هـ)[89]، مبالغاً في نقده واتهامه للكوفيّين:

" الكوفيون لو سمعوا بيتاً واحداً فيه جواز شيء مخالف للأصول، جعلوه أصلاً وبوبوا عليه."

وإذا كان ثمة مبالغة في هذا القول، فإنَّه يدلُّ على منهجية الكوفيين للقياس على القليل الجيِّد، في اشتقاق قواعدهم النحوية؛ على حين أنَّ البصريين يصيغون قواعدهم على الأعم الأغلب من الشواهد الموثوق بها الكثيرة الدوران على ألسنة الأعراب.

ثالثاً، لم يتوقَّف الاختلافُ بين المدرستَين البصرية والكوفية في النحو على الفروق الثانوية التي تفضلّ الدكتور محمود بذكرها، بل تعدّاها إلى قضايا أساسية من أهمِّها ما يأتي:

أ ـ اختلف البصريون والكوفيون في أصل الاشتقاق[90]: أهو اسم المصدر (الكتابة، مثلاً) أو الفعل (كتب، يكتب)؟ فرأى البصريون أنَّ اسم المصدر هو أساس الاشتقاق، على حين ذهب الكوفيون إلى أنَّ الفعل هو الأساس. وقدَّم كلُّ فريقٍ حججاً عقلية لتأييد موقفه.

استدل البصريون على أنّ المصدر أصلٌ للفعل، بأنَّ المصدر يدلُّ على زمنٍ مطلق والفعل يدلُّ على زمنٍ مقيَّدٍ، والمطلق أصلُ المقيَّد؛ وبأنَّ الاسم يقوم بنفسه ويستغني عن الفعل على حين أنَّ الفعل يفتقر إلى الاسم؛ وبأنَّ الفعل يدلُّ على شيئَين: الحدث والزمن، أمّا المصدر فيدلُّ على شيءٍ واحد هو الحدث، ولهذا فإن المصدر أصل الفعل، لأنَّ الواحد أصل الاثنين؛ وبأنَّ للمصدر صيغة واحدة (الكتابة) لأنّه الأصل، أمّا الفعل فله صيغ متعدِّدة (كتبَ، كتَّبَ، انكتبَ، استكتب...)، وأن الفعل فرع والمصدر أصل، لأنَّ الفعل يدلُّ عليه المصدر، أمّا المصدر فليس له دلالة الفعل، وذلك لأنَّه لا بدَّ للفرع أن يحمل بعض سمات الأصل، وغيرها من الأدلة العقلية واللغوية.

أمّا الكوفيون فاستدلوا على أنَّ الفعل أصلٌ والمصدر مشتقٌ منه وفرعٌ عليه، بأنَّ المصدر يصحُّ لصحَّة الفعل ويعتلُّ لاعتلاله نحو: قَاوَمَ ـ قِوَاماً، فيصح المصدر فيه، أما قولك: قَامَ ـ قِياماً، فالمصدر يعتل لاعتلال الفعل؛ وبأنَّ الفعل يعمل في المصدر

فنقول: ضَرَبْتُ ضَرْبَاً، فوجب أن يكون فرعاً عليه؛ لأنَّ رتبة العامل قبل رتبةِ المعمول؛

وبأنَّ المصدر يُذكَر توكيداً للفعل، ورتبة المؤكَّد قبل رتبة المؤكِّد ؛ وبأن

ثمَّة أفعال لا مصادر لها مثل: نعم، وبئس، وحبّذا، وهذا مما يجعل استحالة وجود الفرع من دون أصل؛ وبأنَّ المصدر لا يُتَصوَّر معناه ما لم يكُن فعلَ فاعلٍ، والفاعل وضِع له فَعَل- يَفْعَل فينبغي أن يكون الفعل الذي يعرف به المصدر أصلاً؛ وغير ذلك من الأدلة العقلية واللغوية.[91]

ولم يكُن هذا الاختلاف بين النحويّين البصريّين والكوفيّين، مجرَّد حذلقةٍ كلاميةٍ نظريةٍ فقط أو "زوبعة في فنجان"، كما يقولون، من دون أن تكون له تطبيقاتٌ عملية. وأشير إلى نوعَين من هذه التطبيقات:

الأوَّل، كان مؤلِّفو كتب النحو يبدؤون بالاسم في كتبهم وبعد ذلك يتناولون الفعل إذا كانوا من البصريين، أما الكوفيون فيفعلون بالعكس. ومن الأمثلة على ذلك كتاب " المفصَّل في صنعة الإعراب" للعلامة ذي التوجه النحويّ البصري، جار الله الزمخشري (ت 538هـ)[92]. فالكتاب مكوَّن من أربعة أقسام: الاسم، الفعل، الحرف، المشترك بين الاسم والفعل والحرف. فهو يبدأ بالاسم لأنَّه أصل الفعل في نظر البصريِّين.

الثاني، ومن أهمِّ هذه التطبيقات للخلاف بين البصريّين والكوفيّين بشأن أصل الالفاظ: اسم المصدر أو الفعل، هو ترتيب المداخل، الرئيسة والفرعية، في المعجمات العربية. وباستثناء معجم "العين" للعبقري الخليل بن أحمد، والمعاجم التي حذت حذوه، فإنّ المعاجم العربية كانت أمام اختيارين: إما ترتيب مداخلها على أساس اسم المصدر وإمّا على أساس الفعل. ولكنَّ معظم المعجمات التراثية تبدأ مرَّةً بالاسم ومرّة بالفعل. ففي أشهر معجم  تراثي، " لسان العرب"[93]، لابن منظور (ت 711هـ)، نجد أنَّه في مادَّة الجذر (أ ب د)، يبدأ بالاسم، ثمَّ يأتي الفعل :

"ـ الأبدُ: الدهر، والجمع آباد وأبود...

ـ أَبَدَ بالمكان، يأبِدُ أُبوداً: أقام..."

ولاكنَّ المعجم نفسه في مدخل الجذر (أ ب ر)، الذي يلي المدخل السابق مباشرةً، يبدأُ بالفعل وليس بالاسم:

" ـ أَبَرَ النخلَ والزرعَ يأبُرُهُ ويأبِرُهُ أبْراً وإبارةً، وأبَّرَهُ: أصلحه ...

ـ الآبِرُ: العاملُ.

ـ المؤتًبِرُ: ربُّ الزرع.

ـ المأبُور: الزرعُ والنخلُ المُصلَحُ..."

ولعلَّ تلك المعاجم كانت تبدأ بالشائع المعروف من الأُسرة الاشتقاقية للَّفظ، سواء أكان اسماً أم فعلاً، استنادا إلى مبدأٍ تعليميٍّ هو: " التدرج من المعلوم إلى المجهول". ولاكن بمرور الوقت وتراكم المعرفة المعجمية في تعاملها مع لغة اشتقاقية، هي العربية، استقرَّ المعجمُ العربي الحديث على الانطلاق في المدخل الرئيس من الفعل الماضي، ثمَّ أوزانه (أشكاله) المشتقة منه. فللفعل الثلاثي خمسة عشر وزناً الشائع منها عشرة. وتُرتِّب المعاجمُ المستعملَ منها في المداخل الفرعية على الوجه التالي: فَعَلَ، فَعَّلَ، فاعلَ، أفْعَلَ، تَفعَلَ، تفاعلَ، اِنْفَعَلَ، اِفْتَعَلَ، إِفْعَلَّ، اِستفعَلَ؛ وبعد ذلك تُرَتَّب الأسماء ألفبائياً بعد الأفعال.[94]

وبعبارةٍ أخرى، أنَّ المعاجم العربية الحديثة في ترتيبها المداخل المعجمية، انتهت إلى الأخذ بوجهة نظر الكوفيّين القائلة إنَّ الفعل هو الأصلُ، والأسماء مشتقَّة منه، ولم تأخذ بوجهة نظر البصريّين القائلة إنَّ اسم المصدر هو الأصل.

ولهذا نجد في "المعجم العربي الأساسي"[95]:

" ـ أَبَّدَ يُؤَبِّدُ تأبيداً: خلَّده وأبقاه على الدهر.

ـ آبِدةٌ  ج أوابد: الشيء العجيب الغريب..."

وهكذا فالمعاجم الحديثة تبدأُ بالفعل وأوزانه المستعملة، ثمَّ الأسماء بوصفها مشتقة منه.

رابعاً، اختلف البصريّون والكوفيّون في أبنية الكلمة، فقال البصريون إنَّها: ثلاثية ورباعية وخماسية، وما زاد على ذلك، فهو زائد. أما الكوفيون فقالوا ببناء واحد هو البناء الثلاثي للكلمة، وما زاد عن ذلك فهو زائد على أصل البناء.  وهكذا نجد أن شيخ البصريين الخليل قسّم  معجمه (العين) حسب الأبنية: الثلاثية والرباعية والخماسية. فيبدأ بالجذور الثلاثية وتقاليبها، وبعد الانتهاء منها ينتقل الى الرباعية، ثمَّ الخماسية.

خامساً، اختلف البصريّون والكوفيّون في كثير من المصطلحات. وهذا النوع من الاختلاف ليس مجرَّد اختلافٍ لفظي، بل هو مفهومي. فالمصطلح لفظٌ يعبّر عن مفهوم. ولكلِّ علمٍ منظومته المفهومية. ومن الأمثلة على هذه الاختلافات:

أ ـ أقسام الكلام عند البصريّين هي: اسم وفعل وحرف. وعند الكوفيّين هي: اسم وفعل وأداة.

ب ـ أقسام الفعل عند البصريّين هي: ماضي ومضارع وأمر. أمّا عند الكوفيّين فهي: ماضي ومضارع ودائم.

ج ـ ما يصطلح عليه البصريّون بـ " البدل"، يصطلح عليه الكوفيّون بـ " الترجمة ".

د ـ " النعت" لدى البصريّين، هو " الصفة " لدى الكوفيّين.

هـ ـ يقول البصريّون " ظرف مكان"، أمّا الكوفيّون فيقولون " المحل".

و ـ "العطف" عند البصريّين هو " النسق" عند الكوفيّين.[96]

ولم تقتصر الاختلافات بين البصريّين والكوفيّين في النحو على هذه النقاط التي ذكرتُ بل اشتمل كتاب خالويه (ت 370هـ)[97] "إعراب القراءات السبع وعللها" على إحدى وسبعين مسألة اختلفت فيه المدرستان.[98] وأمّا أبو البقاء العكبري (ت 616 هـ)، فقد اشتمل كتابه "التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين"، على خمس وثمانين مسألةً خلافيةً بينهما[99].

وهذه المسائل الخلافية بين المدرستيْن البصرية والكوفية ليست هامشية أو لفظية فقط، بل لمعظمها نتائجُ خطيرةٌ تؤثِّر في القراءات، والقراءات بدورها توثِّر في الحكم الشرعي المستنبط من آيات القرآن الكريم، طبقاً لقواعد أصول الفقه.

أحسب أنَّ أحد الأسباب التي دفعت الدكتور محمود محمد علي إلى التقليل من الفرق بين المدرستين البصرية والكوفية هو اعتماده على كتاب ابن الأنباري (518ـ577هـ) " الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويّين: البصريّين والكوفيّين" الذي أدّى به الى الاستنتاج بأنَّ الكوفيّين لم يأتوا بجديد في مخالفتهم للبصريّين. فابن الأنباري رحمه الله لم يكُن مُنصِفاً في كتابه المعنون بالإنصاف، ولم يكن قاضياً محايداً، وكان عليه التنحي عن نظر تلك القضية الشائكة، لأنّه كان بصري الهوى. كما أثبت بحثٌ جامعيٌّ قدَّمه الباحث نايف إبراهيم الرشيدي، في جامعة مؤتة الأردنية لنيل الماجستير بعنوان (الخلافُ الصرفيُّ في كتاب " الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات الأنباري": دراسة تحليلية تداولية" وتوسَّل فيه بمعطيات علم الصرف الصوتي الحديث، فتوصلَّ في خاتمتها إلى الحكم التالي:

"لـم يوافـق الأنبـاري الكـوفيّين فيمـا ذهبـوا إليـه مـن تعلـيلاتٍ صـرفيةٍ بـأي مسـألة مـن المسائل، وإنَّما كان موقفه مع البصـريّين فـي كـلِّ المسـائل الصـرفية التـي عرضـتُها، و بـالرغم مـن أننـي وجـدت كثيـرا مـن المسـائل تقتـرب بالدراسـة الصـوتية إلـى رأي  الكوفيّين لا إلى رأي البصريّين، ولكن الأنبـاري رأى أن يكـون إلـى جانـب البصـريّين في كافة المسائل كما رأينا ." [100]

وتدعم هذا الرأي باحثة جامعية أخرى هي إسراء ياسين حسن في بحثها بعنوان (الإنصاف في تقويم الآراء البصرية والكوفية في كتاب " الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويّين: البصريّين والكوفيّين" لأبي البركات الأنباري)[101]

ويؤيد هذا الحكم باحثٌ نحويٌّ من طراز رفيع هو الدكتور كريم مرزة الأسدي إذ قال عن ابن الأنباري ما يأتي:

" وبالرغم من أنّه تبرَّع أن يفرض على نفسه ميثاق العدل والإنصاف للحكم بين المدرستيْن قائلاً: " واعتمدت في النصرة على ما أذهب إليه من مذهب أهل الكوفة أو البصرة على سبيل الإنصاف، لا التعصب والإسراف "، ولكنًّه لم يكُن منصفاً، ولم يستطع إمساك نفسه من نصرة أصحابه أهل البصرة، فقد تعصَّب وأسرف تحت لذة التفلسف وسيطرة أهواء المنطق ..."[102]

ولقد درستُ بنفسي كتاب ابن الأنباري، فوجدتُه كثيراً ما يعرض المسألة كما يراها الكوفيّون مع حججهم، ثمَّ يعرضها كما يراها البصريّون مع حججهم، ولا يكتفي بعرض وجهتي نظر المدرستين في المسألة بل يختمها بتفنيد كلام الكوفيين بحججه هو، ولم يفنِّد كلام البصريّين ولا مرَّة واحدة. وأعرض منهجية أحكامه في ثلاث مسائل، مثلاً لِما قلتُ:

" أمّا الكوفيون فاحتجّوا بأن قالوا...وأما البصريّون فاحتجّوا بأن قالوا... وأما الجواب عن كلمات الكوفيين بقولهم ...، قلنا هذا فاسد ..."[103]

ويعطي حكمه بفساد قول الكوفيّين متبوعاً بحججه الشخصية. ولم يتَّفق مع الكوفيّين إلا في أربع مسائل.

القاضي المنصف لا يسند أحد الخصمين بحجج من عنده، وإذا كان أحد الخصمين من أقربائه أو أصدقائه الحميمين أو من مدرسته الفكرية، فإنَّه يتنحّى من تلقاء نفسه عن نظر القضية.[104]

حقيقة مدرسة بغداد النحوية:

نعلم أنَّ علماء اللغة الكوفيّين ذهبوا إلى بغداد لخدمة الخلفاء العباسيين، ثمَّ لحق بهم علماء اللغة البصريّون. وفي العصر العباسي الثالث، اشتدت المنافسة في بغداد بين زميلين في الدراسة ثم أصبحا زعيمي المدرستيْن الكوفية والبصرية، وأعنى بهما أبا العباس ثعْلب[105]، إمام الكوفيّين، وأبي العباس المُبرِّد[106]، إمام البصريّين. ويرى بعضهم أنَّه نتيجة لهذه المنافسة، " والمناظرات التي جرت بين هذه الزعيميْن، ظهرت مدرسةٌ نحوية جديدة أُطلق عليها اسم " نحاة بغداد " أو " البغداديون" أو " المذهب البغدادي"، أو، في العصر الحديث:" مدرسة بغداد"، أو " المدرسة البغدادية ".

ومن أوائل القائلين بوجود هذه المدرسة الثالثة في النحو بعض المستشرقين مثل غوستاف فلوجل (1802ـ 1870م) الذي نشر كتاب " الفهرست" لابن النديم. فقد كتبَ هذا المستشرقُ بحثاً عن المدارس النحوية سنة 1862، زعم فيه وجودَ مدرسةٍ نحويةٍ ثالثة هي المدرسة البغدادية، وكذلك العلامة بروكلمن، الذي عزا نشوءَ هذه المدرسة الى المنافسة بين ثعلب والمبرِّد.

بيدَ أنَّ الأغلبية الساحقة من مؤرِّخي علمِ اللغة العربية في العصر الحديث مثل سعيد الأفغاني وأحمد أمين وشوقي ضيف ومحمد مهدي المخزومي وغيرهم لا يرون وجود مدرسة ذات أسس ومنهجية مختلفة عن مدرستي البصرة والكوفة.  ويقف الدكتور محمود محمد علي في كتابه هذا إلى جانبهم فيقول:

" اتَّبع نحاة القرن الرابع الهجري نهجاً جديداً في دراساتهم ومصنفاتهم النحوية، يقوم على الانتخاب من آراء المدرستين البصرية والكوفية جميعاً ...

"وهكذا تمثلت تلك النزعة في نحاة هذا الجيل، إذ كانوا يتمسَّكون بالرأي الذي يستريحون له، ويغلب على ظنهم صحّته، سواء أكان موافقاً لرأي البصريّين أم الكوفيّين؛ فلا تعصّب لأحد الفريقين على الآخر، وأحياناً نرى لهم آراء جديدة وصلوا إليها باجتهادهم، وهذه سمات المذهب البغدادي، وقد  ظهرت بشكل أوضح في القرن الرابع الهجري، فما كاد فجر هذا القرن يبزغ حتى تهيأت الأسباب لتثبيت هذا المذهب، وتوطيد دعائمه فكانت حرية البحث مكفولة لدى العلماء، لأن بغداد قد استقرت الروح العلمية فيها، وقد ازدهرت تلك الحياة بصورة واضحة بعد هجرة علماء البصرة والكوفة إليها."[107]

والملاحظ أنَّ المصطلحات النحوية التي نستعملها اليوم هي على الأغلب مصطلحات بصرية، وأّنَّ نظرتنا الى الاشتقاق هي نظرة كوفية.  ويمكن تفسير هذا التذبذب في وقتنا الحاضر بين معطيات المدرسة البصرية والمدرسة الكوفية، بظهور ذالك التوجُّه في بغداد، الذي راح يوفِّق بين مدرستي البصرة والكوفة، ويختار منهما الملائم في ضوءِ المتطلَّبات العملية والتطوُّر الفكري. وسواء خلعنا على هذا التوجّه اسم " مدرسة نحوية" أو لم نعتبره كذلك، فهو واقع تاريخي، ترك بصماته على النحو العربي المعاصر، شأنه شأْنَ كلِّ واقعٍ تاريخيٍّ يمكن أن ندرس تأثيراته اللاحقة بغض النظر عن التوصيف الذي نصفه به أو الاسم الذي نخلعه عليه.

 

بقلم: الدكتور علي القاسمي

 

في المثقف اليوم