قراءة في كتاب

محمود محمد علي: قراءة تحليلية في كتاب التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين لمارك كورتيس (1)

محمود محمد علي1- تقديم: إن الدول الكبرى التي تسعى لبسط هيمنتها على أجزاء كبيرة من العالم عادةً ما تلجأ إلى تدعيم علاقاتها ببعض الجماعات المحلية التي تساعدها في تنفيذ سياساتها في هذه المنطقة، فقد فعلتها فرنسا وبريطانيا بتدعيم صلتها ببعض الجماعات الإثنية في مستعمراتهما الخارجية في آسيا وأفريقيا وذلك رغبة منهما في إيجاد نخبة معينة تساعدهما لتحقيق مصالحهما في هذا الإقليم أو ذاك، وفي القرن العشرين برزت هذه الظاهرة بوضوح؛ ففي الحرب العالمية الثانية حاول الألمان استخدام المسلمين في الاتحاد السوفييتي وآسيا الوسطى وتكوين طابور خامس لمواجهة السوفييت.

وبعد ذلك أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي برز هذا الاستخدام السياسي للعديد من الجماعات المناوئة لأيديولوجية الآخر، فنجد دعم المعسكر الغربي للإسلاميين في المنطقة العربية لضرب المشروع الناصري القومي، ونجد دعم السوفييت للأحزاب الإشتراكية والشيوعية والعسكريين لضرب المشروع الرأسمالي في العديد من الدول،  وإن علاقة بريطانيا بالجماعات الأصولية بدأت في هذا السياق، وهي بإيجاد حليف استراتيجي لها في بعض المناطق لتنفيذ سياساتها التوسعية، وهي علاقات ممتدة ووثيقة الصلة منذ بدأت بريطانيا مشروعها الاستعماري لتصبح بريطانيا العظمى "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، وإن الحديث عن هذه العلاقات ليس كلامًا مرسلًا، وإنما هناك من الأدلة والوثائق التي تؤكد على استخدام بريطانيا للجماعات والحركات الأصولية الإسلامية، سواء لمواجهة نفوذ روسيا القيصرية في آسيا الوسطى في القرن التاسع عشر، أو لتفتيت السلطنة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولي (1).

ومنذ التأسيس، ظلت جماعة الإخوان المسلمين محل جدلٍ كبير، بدايةً باللحظة التي ظهرت فيها إلى العلن وحتى اليوم، وهي تملك تنظيماً دولياً، يستمد وجوده من ولائه لقيادات الجماعة أينما حل، ويعمل بسريّة تحت الأرض أحياناً، بينما يحاول صقل صورته الخارجية، عن طريق مؤسساتٍ وجمعياتٍ ذات طابع ديني في المجتمع؛ ويكثر الحديث، عن الجماعة وعلاقتها ببريطانيا تحديداً، التي كانت ذات يومٍ إمبراطوريةً لا تغيب عنها الشمس، من مصلحتها عقد التحالفاتِ مع الدول والجماعات آنذاك، من أجل الحفاظ على مصالحها الاستعمارية، من باب أنّ الوحش الذي تخلقه، أفضل من الذي يأتي من حيث لا تدري  (2)

يقول د. عمار علي حسن:" انتظر كثيرون طويلًا حتى يتمَ الإفراج عن وثائق رسمية بريطانية سرية كي يقفوا على طبيعة العلاقة بين لندن وجماعات وتنظيمات إسلامية متطرفة في ربوع العالم الإسلامي، الذي وقع تحت احتلال الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس، بدءًا من نيجيريا غربًا وحتى الهند شرقا"(3).

وفي الوقتِ الذي كانت فيه جماعة “الإخوان المسلمين” تقترب من الوصول إلى سدّة الحكم في مصر، صدر كتاب مارك كورتيس، حيث رأى النور عام 2010، ثم تُرجم في مصر، ونُشر بعد أسابيع قليلة من بدء حكم الإخواني محمد مرسي؛ وإذا عرفنا شيئًا عن كورتيس والطريقة التي ألف بها كتابه، سنقف على مدى مصداقية ما ورد فيه من معلومات وتحليلات أيضًا. فالمؤلف صحفي وكاتب، عمل باحثًا في المعهد الملكي للشؤون الدولية، ومديرًا لحركة التنمية الدولية، ورئيسًا لقسم السياسة في مؤسسة المعونة المسيحية (4).

يذكر التاريخ ارتباط بريطانيا بتنظيم حسن البنا، الأمر الذي لا يمكن أن ينكره شخص ولد بعد ظهور العلاقة السرية بين التنظيم والاستخبارات البريطانية، منذ أن أسس حسن البنا التنظيم في مصر في مارس (آذار) عام 1928 في الإسماعيلية بتمويل بريطاني بلغ 500 جنيه، وحينها كان الجنيه يساوي 7.5 غرام ذهب، مما يعني أن المبلغ يساوي قرابة مليوني جنيه، بل ومشاركة في التأسيس والدعم باعتراف البنا نفسه؛ وقد تشابك العلاقة بين حسن البنا مؤسس تنظيم الإخوان والسفير البريطاني في القاهرة لم تكن خفية، وتلقيه المال منه كان معلوماً، كما كشفت الوثائق في كتاب "العلاقات السرية" للكاتب مارك كيرتس، حيث أشار إلى وجود صلات قوية بين الإنجليز والجماعة منذ النصف الأول من القرن الماضي؛  ومارك كورتيس من مواليد يوم 1 يناير 1959 فى ميلواكى, ويسكنسن، وقد درس فى جامعة ماركيت وجامعة فلوريدا و Saint Mary's College of California.

والكتاب من خلال هذا الكتاب كشفت عن وثائق سرية تثبت  أن بريطانيا استغلت شعبية وتأثير جماعة الإخوان المسلمين لشن حروب نفسية ودعائية سرية على أعدائها، من أمثال، الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، خلال العقد السابع من القرن الماضي؛ وحسب الوثائق كما يري المؤلف، فقد روجت بريطانيا منشورات تحمل زورا اسم الجماعة تهاجم فيها بقسوة سلوك الجيش المصري خلال وجوده في اليمن، الذي كان ساحة للصراع بين نظام عبد الناصر الجمهوري الجديد من جانب، والسعودية وبريطانيا الاستعمارية من جانب آخر، وقد اطلع المؤلف من خلال هذا الكتاب على الوثائق، التي صُنف بعضها على أنه "بالغ السرية"، بعد استجابة الخارجية البريطانية، لطلب الإفراج عنها وفق قانون حرية المعلومات.

2- عرض موضوعات الكتاب:

التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين (بالإنجليزية: Secret Affairs Britain's Collusion with Radical Islam)‏ هو كتاب من تأليف الكاتب الصحفي والمؤرخ البريطاني مارك كورتيس، صدر باللغة الإنجليزية عام 2010م، وصدرت ترجمته للمرة الأولى عام 2012م عن المركز القومي للترجمة وقام بنقله إلى العربية كمال السيد.

وقبل أن أتطرق للحديث عن أقسام الكتاب، أود أن مارك كورتيس:  لماذا اختار لكتابه عنوان " التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين" "، ولم يختار له اسم " وثائق سرية تتعلق بعلاقة بريطانيا بالإسلاميين"، أو " علاقة بريطانيا العظمي بجماعة الإخوان المسلمين"، أو " مدخل تاريخي للصلات التاريخية بين بريطانيا وجماعة حسن البنا" ...الخ.

وهنا يجيبنا مارك كورتيس ضمن ملاحظة سجلها في المقدمة، فقال:" فالقصة الأكثر أهمية التي يسعي الكتاب إلى روايتها، هي أن الحكومات البريطانية، من العمال والمحافظين على حد سواء في سعيها لتحقيق ما يسمي " المصلحة الوطنية " في الخارج، تواطأت عقودا طويلة مع القوى الإسلامية المتطرفة، بما في ذلك التنظيمات الإرهابية، فقد تسترت عليها، وعملت إلى جانبها أحيانا، وأحيانا دربتها ومولتها، بغية الترويج لأهداف محددة للسياسة الخارجية . وغالبا ما فعلت الحكومات ذلك في محاولات يائسة للحفاظ على قوة بريطانيا العالمية التي عانت من أوجه ضعف متزايدة في مناطق أساسية من العالم، نظرا لعجزها عن أن تفرض إرادتها من جانب واحد وافتقارها لحلفاء آخرين . ومن فالقصة ترتبط في الصميم بقصة انهيار الإمبراطورية البريطانية ومحاولة الإبقاء على نفوذها في العالم (5) .

وعلى هذا فالكتاب ليس رواية من نسيج الخيال، ولا سرد لأحداث تاريخية عن العلاقات الظاهرية بين الإنجليز والإسلاميين، بقدر ما هي مكاشفات نقدية من قبل المؤلف في الجوانب الخفية من العلاقات بين الغرب البريطاني وجماعة الإخوان المسلمين، وكذلك يعد الكتاب مراجعة لمئات المصادر والمراجع.

يقع الكتاب في 578 صفحة من الحجم الكبير،  وقد جاء الكتاب كما يقول المؤلف في سياق منهج البحث التاريخي، والذي يعول كما يقول المؤلف علي أن الكتاب يستند للوثائق الرسمية التي رفعت عنها سرية خاصة وثائق الخارجية والمخابرات، ليفصح تآمر الحكومة البريطانية مع المتطرفين والإرهابيين، دولاً وجماعات وأفراداً، في أفغانستان، وإيران، والعراق، وليبيا، والبلقان، وسوريا، وإندونسيا، ومصر، وبلدان رابطة الدول المستقلة حديثا، بل حتى في نيجيريا التي تآمرت بريطانيا على خلافة سوكوتو فيها في أوائل القرن العشرين مع متأسلمين هناك، وذلك لتحقيق مصالحها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية (6).

والكتاب يعد ثمرة لبحوث استمرت شهورًا كثيرة تم خلالها التنقيب في المحفوظات الوطنية بلندن، وفحص الملفات البريطانية التي رفعت عنها السرية، والخاصة بجهاز المخابرات، ووزارة الخارجية، تجاه العالم الإسلامي. أما الدافع الرئيسي لقدومه على البحث في هذا الاتجاه، ووضع نتائج بحثه بين دفتي كتاب، فينبع من الخوف الذي انتابه بعد تفجير قنابل بلندن في شهر يوليو من عام 2005، مما أدى إلى قتل اثنين وخمسين، وجرح ما يربو على سبعمائة شخص، وهو الحدث الذي أثار صدمة البريطانيين وهم يسمعون من يقول لهم: "من أعمالكم سلط عليكم” أو ينصتون إلى حديث شخصيات عسكرية بريطانية بارزة عن “تهديد التطرف الإسلامي"، و"حرب الثلاثين عامًا الخاصة بنا"(7).

 

د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

........................

الهوامش

1- حامد المسلمي: علاقة بريطانيا بالإخوان.. تاريخ من المصالح المشبوهة والدعم المريب، نشر بتاريخ  الإثنين 13/أغسطس/2018 -  06:17 م.

2-  عاطف الخالدي: إخوان بريطانيا: إمبراطورية الظل، حفريات، نشر بتاريخ 10/04/2018.

3-  د. عمار علي حسن: “لندنستان”.. قراءة في وثائق رسمية بريطانية سرية حولل خفايا علاقة بريطانيا بالتطرف الإسلامي، نشر بتاريخ 8 أبريل 2020.

4- المرجع نفسه.

5-  مارك كورتيس: التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين، ترجمة كمال السيد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2012، ص 21.

6-  المصدر نفسه، ص 9.

7-  المصدر نفسه، ص 12- 13.

 

في المثقف اليوم