قراءة في كتاب

علاء اللامي: هل من علاقة بين الإيزيديين والسومريين؟ (1-3)

علاء اللاميكتاب جديد صدر حديثا للباحث العراقي صباح كنجي، يحمل عنوان "الإيزيدية: محاولة البحث عن الجذور.. رحلة في أعماق التاريخ". يقع الكتاب في 400 صفحة، توزعت على تسعة فصول وعدد من الملاحق إضافة إلى المقدمة. وقبل أن أبدأ بقراءتي النقدية لهذا الكتاب، أود أن أسجل شكري وامتناني للأستاذ المؤلف الذي أرسل لي نسخة ورقية من كتابه على كرمه وانفتاحه على التواصل والتفاعل بين أبناء الوطن الواحد من كتاب وباحثين ومواطنين بعامة؛ كما وأغتنم الفرصة للتعبير عن تعاطفي وتضامني العميق مع الطائفة الإيزيدية الكريمة في كل ما تعرضت له من مظالم ومذابح وأفعال دموية وحشية يندى لها جبين الإنسان الحق. لقد تركت تلك الجرائم الشنيعة وخصوصا التي ارتكبتها العصابات التكفيرية الداعشية الظلامية جرحا غائرا في ذاكرة الوطنية العراقية خصوصا والإنسانية عموما؛ فلكل ضحايا تلك العصابات وفي مقدمتهم أهلنا في سنجار ومقترباتها وسهل نينوى والعراق كله كل المحبة والتضامن والوفاء والتعاطف الإنساني الصادق.

* يمكن تصنيف هذا الكتاب ضمن كتب الأبحاث التأريخية والإناسية "الأنثروبولوجية" المدعوم بعلوم أخرى مقاربة أو متفرعة كالآثاريات "الأركيولوجيا" وعلوم اللغة والديانات القديمة. ولعل أول ما يلفت النظر في هذا البحث الشامل أسلوبه التوثيقي، وطريقته التحليلية المبسطة والسلسة وجِدة المعطيات ذات العلاقة بعناوينه التي يطرحها.

يقدم الكتاب أفكارا مختلفة وبعضها جديد لتعريف الإيزيدية كطائفة وديانة وقراءة سرديتها التأريخية ضمن سياقهما الرافداني الممتد - كما يرى المؤلف - إلى العصر السومري والعصور التالية له، على اعتبارٍ مفاده أن أتباع هذه الديانة "لم يكونوا محددين بقوم أو جماعة قبلية معينة واحدة، فهو دين مفتوح يعتمد على تأليه الشمس كتجلي للإله الأكبر أو العظم، وهو الإله الذي جرت عبادته من قبل شعوب العالم كافة تقريبا... ص369". ومعلوم أن هذه المعلومة أو الاستنتاج يتناقض مع ما هو معروف عن الإيزيدية على اعتبارها من الطوائف المغلقة، أي التي لا تقبل مهتدين جدد إليها من خارجها، ولكن المؤلف ربما لا يقصد الإيزدية كما هي اليوم بل في بداياتها القديمة.

* يذهب المؤلف أبعد من ذلك فيطبق فرضيته هذه على طائفة وديانة عراقية أخرى هي الكاكائية "اليارسانية" -التي يعتبرها البعض فرعا من الإيزيدية- والتي يقطن مجتمعُها في الجغرافيا نفسها التي يقطن فيها الإيزيديون، ويعتبرهم امتدادا للعمق الانثروبولوجي الرافداني السومري ويأتي بأدلة على ذلك من السردية المثيولوجية الكاكائية المعاصرة ومنها؛ اتفاق الكاكائية مع السومريين والإيزديين في اسم "باتيسي/ باتيشاه/ بادشاه" أي الملك الكاهن جامع السلطتين الزمنية والدينية، وهي الصفة التي أطلقت مثلا على كوديا حاكم لكش 2600 ق.م، وهو كما يعتقد "شيء مهم يربط هذه الأطراف الثلاثة رغم البعد الجغرافي والزمني ويعكس أصالة انتماء لتاريخ سحيق يغوص عميقا في التربة العراقية، ويثبت أننا نسير في الاتجاه والطريق الصحيح للبحث/ ص183".

الإيزيدية والسومريون وغيرهم:

3308 alizidiaaaإن فكرة إرجاع الديانة الإيزيدية إلى جذور رافدانية سومرية وأكدية وآشورية، كما نفهم من صفحات هذا الكتاب، كان قد طرحها الباحث العراقي الراحل جورج حبيب - الذي يهدي المؤلف كتابه إليه بكلمات مؤثرة - وإلى درجة ما الباحث حسو أمريكو، وقد لخَّصها حبيب - كما يقتبس كنجي - بالكلمات التالية "إن الدين اليزيدي منحدر من جذور بعيدة جدا، تبلغ العهود السومرية، على أن هذا الدين لم يُعرف بهذا الاسم إلا في فترة متأخرة نسبيا، فهو قد نال معتنقوه من الاضطهاد والعنف ما جعلهم يلقون من جراء تمسكهم به شرَّ صنوف الاضطهاد فيهاجرون من وطنهم، وبخاصة منذ أن وقعت بلاد الرافدين تحت الحكم الساساني/ ص32". ثم يحاول الباحث أن يقيم الدليل التأريخي واللغوي والمادي الأركيولوجي على صحة هذه الفكرة فيحشد خلاصات وافرة من المكتشفات والمعلومات التاريخية المفيدة والمعززة بالصور ذات العلاقة بما يخدم سياق البحث.

ورغم أن المؤلف ينفي الأصل العربي لهذه المجموعة السكانية الدينية مثلما ينفي أية علاقة لها بالأمويين العرب ويزيد بن معاوية أو يزيد بن أنيسة الخارجي على جهة التخصيص، مع أنه يرجح في مواضع أخرى من كتابه وجود علاقة دينية تعبدية قوية للأموي أبي سفيان صخر بن حرب وابنه معاوية وحفيده يزيد بالطاووس ملك الذي يقدسه الإيزيديين، قبل الإسلام وبعد قيام الدولة الأموية في الشام، ويؤكد أن الإيزيديين يتكلمون اليوم إحدى اللهجات الكردية "الكرمانجية البهدينانية" و "لا توجد لهم لغة أخرى لهم باستثناء ما سميناه بلغة بعشيقة وبحزاني والتي هي خليط من الكردية الغالبة والعربية وعدة لغات قديمة وحديثة... ص189". والحقيقة أن القول بعروبة اليزيديين أو الإيزيديين، وأنهم يتكملون اللغة الكردية كلهجة مكتسبة اعتادوا عليها بحكم الواقع التاريخي والجغرافي، هي وجهة نظر بين وجهات نظر أخرى لم يقل بها باحثون من خارج هذه الطائفة فقط، بل قال بها أحد أمرائها وهو أنور معاوية الأموي في كتاب له بعنوان "اليزيدية: تاريخ عقيدة مجتمع"، ولكن الحكم الأخير في أمور كهذه يبقى للعلم والأدلة الملموسة والمقروءة بمنهجية علمية وللمزيد من البحث المنهجي. وكنت قد كتبت قراءة نقدية لمحتويات كتاب أنور الأموي في يومية "الأخبار - عدد 20 آب 2008"، ولكن كتاب الباحث كنجي الجديد قد صحح وقوم وتناقضَ مع العديد من المعلومات التي وردت في الكتاب الآخر حول أصول وجذور اليزيدية ديانة ومجتمعا بالأدلة التأريخية والآثارية واللغوية التي قدمها، وهذا أمر طبيعي في مجالات البحث المنهجي العلمي.

إن إشكالية لغة الإيزيديين، حتى إذا اتفقنا مع ما يذهب إليه كنجي من أنها الكرمانجية الكردية المختلطة بلغات أخرى في عصرنا، تبقى دون حسم نهائي؛ فلا نعرف بالدليل الأركيولوجي الموَّثق والذي قد يبرز ذات يوم، هل كان للإيزيديين لغة أخرى قبل الكردية، أم أن الكردية هي لغتهم الأصلية التي اختلطت بلغات أخرى؟ وستترتب على الإجابة على هذا السؤال بالإجاب أو السلب أسئلة وتساؤلات أخرى. وهناك إشكالية أخرى لم يتطرق إليها المؤلف، فهو لم يفسر لنا سبب وجود أسماء من قبيل معاوية ويزيد وحتى لقب الأموي بين صفوف هذه الطائفة في عصرنا، صحيح أنه قدم حججا مدعومة بالأركيولوجيا والفيلولوجيا لتأكيد الارتباط الجذوري بين الإيزدية والديانات والحضارات الرافدانية القديمة بدءاً من السومرية، ومنها وجود عدة معابد أيزيد/ أيزيدا" في جنوب بلاد الرافدين، وأيضا في منطقة سنجار التي تقطنها الإيزيديين شمالا منذ عدة قرون، ولكنه لم يفسر لنا ظاهرة وجود الأسماء الأموية بين الإيزيديين المعاصرين، ربما باستثناء اسم عدي الذي يقول أنه آتٍ من مفردة "آدي" ذات العلاقة بتصور خلق الإنسان الأول آدم في المثيولوجيا الرافدانية القديمة، الذي دخل جذره ليشكل مع الزمن آدي، أو هدد أو أدد نيراري وما بعدها بعد تحولات "..." وهذا هو الحال مع آدي الذي أصبح عادي ومن ثم عدي بالرغم من عدم وجود حرف العين في اللغة الكردية/ ص189".

إن انعدام وجود حرف العين في اللغة الكردية / الإيزيدية، ووجوده في كلمات مهمة في السردية الإيزيدية وكون لغة الإيزيديين خليط من لغات إحداها العربية، كما يقول الباحث يخالف ما أراد إثباته كما نعتقد ويثير التحفظ. فكاحتمال بين احتمالات، كوجود هذه الأسماء العربية ذات الشخصيات التأريخية "الحقيقية"، أليس من الممكن أن يكون بعض الأفراد والأمراء من الأسرة الأموية بعد سقوط دولتها في بلاد الشام المجاورة، وتحت ضغط المجازر المرعبة التي ارتكبها العباسيون بحقهم ولم تُستَثْنَ منها حتى قبور موتاهم، نجحوا في الفرار إلى مناطق سنجار الجبلية في شمالي العراق واستقروا واندمجوا بالإيزيديين الأصليين أو ذوي الجذور الحضارية الأقدم والأعمق مثلما نجح عبد الرحمن الداخل في النجاة والهروب غربا وتأسيس دولة اموية في الأندلس بدعم أخواله من قبائل البربر؟

جذور الإيزيدية:

* معروف أن نظريات وفرضيات كثيرة أطلقت في العقود الأخيرة وماتزال تطلق حول أصول الشعوب الرافدانية القديمة وقد راجت مؤخرا كتابات صحافية حول أصل السومريين الكردي، أو أنها تجعل بلاد الرافدين كلها بدولها المركزية الإمبراطورية المتعاقبة ولغاتها ملحقا وتابعا لبلد أو دولة أخرى مجاورة كسوريا المشتق اسمها من إحدى الدول الرافدانية "آشوريا"، أو تعتبر السومريين من سكان الفضاء الخارجي والكواكب البعيدة، في تكرار كاريكاتوري لآراء وحيثيات وردت في كتاب أو أكثر صدر في الغرب لأشخاص باحثين عن الشهرة عبر "الصرعة الإعلامية" وليسوا من ذوي التخصص أو ممن لا يقيمون اعتبارا للمنهجية العلمية في الكتابة التحليلية المدعومة بالأدلة الملموسة الأركيولوجية واللغوية ...وغيرها. ولكن الكتاب الذي بين أيدينا للسيد صباح كنجي يختلف عن هذه النماذج في أنه يصدر عن شخص عاش البيئة الاجتماعية وموضوع البحث لأنه من أفراد هذه الطائفة العراقية الكريمة، وثانيا لأنه يعتمد الأساليب والطرائق العلمية غالبا في الفحص والتحري والتحليل وجمع الأدلة، ويحفل كتابه بالعديد من المعطيات الجديدة والتي قد تفاجئ القارئ، لعل من أبرزها:

* ما ورد في الفصل الأول بخصوص اسم " الإيزيدية والإيزيديين" حيث يعيدنا المؤلف إلى جذور الاسم القديمة، بعد أن يستعرض تلك التفسيرات التقليدية في كتب التراث من باب العلم بها أو تخطئتها وقراءتها من جديد بطريقة مختلفة، ثم يتوغل عميقا في تاريخ بلاد الرافدين "بيث نهرين" بالآرامية، في الفصل الثاني من كتابه، ليربط الاسم التراث الرافداني القديم وخصوصا السومري والأكدي، كما سجله الباحث العراقي الراحل جورج حبيب في كتابه "الإيزيدية بقايا دين قديم"، حيث يعود هذا الأخير بالاسم معتمدا على ما قدمه علم الآثار من أدلة ومعطيات ليؤكد إلى أن "الدين اليزيدي منحدر من جذور بعيدة جدا تبلغ العهود السومرية/ص 9-10" وهذا الدين أو الاعتقاد القديم كان قد اتخذ من "معبد إيزيد أو إزيدا" الذي اكتشف في بورسيبا جنوبي العراق - 17 كم جنوب بابل - كما اكتشفت ثماني معابد أخرى بالتسمية ذاتها، خمسة منها في محافظة نينوى العراقية التي تتبع لها مناطق الإيزيديين اليوم. مضاف إلى ذلك يسجل المؤلف علاقة هذا الدين بعبادة الإله نابو البابلي، وهو في المثيولوجيا العراقية القديمة ابن كبير الآلهة السومرية مردوخ، إله الكتابة والحكمة، وعدَّه البابليون حفيد إله إيا. فيقتبس المؤلف نصا مترجما لدعاء طلب الغفران عن "لوح شوربو ص 145" ينتهي بعبارة "ليغفر نابو ونانايا في الإيزيد".

* يذكر الباحث إشارات وأدلة علائقية مهمة أخرى بين الديانة الإيزيدية وجذورها السومرية الرافدانية منها تقديس يوم الأربعاء الذي هو يوم الإله نابو البابلي، ورمز هذا الإله على شكل شاب يركب طاووسا، وبيمنه حية والطاووس، والحية من رموز "طاووس ملك" في الديانة الإيزيدية، ورمز الحية التي نجدها على مدخل المعبد الإيزيدي في لالش في عصرنا. وهناك أيضا التشابه القوي في تفاصيل عيد أكيتو السومري ثم البابلي للاحتفال برأس السنة البابلية مع بدء الاعتدال الربيعي في الأول من شهر نيسان وهو التاريخ نفسه الذي يحتفل فيه الإيزيديون برأس السنة في ديانتهم ويجرون المسيرة الاحتفالية المعهودة فيه والتي يعتبرها المؤلف امتدادا لمسيرة العيد السنوي في شارع الموكب ببابل العاصمة القديمة! إضافة إلى التشابهات المضمونية الملفتة بين أسطورة كلكامش الشهيرة ورواية مير مح الشعبية الإيزيدية/ص257.

في الجزء الثاني من هذه الدراسة سنناقش توثيق الكتاب موضوعها، وبعض وجهات نظر الكاتب حول علاقة العرب بالشعوب الشرقية ومن أين جاءوا ودخوله في مطبات الجدالات السياسية بين القوميين العرب ومناوئيهم من القوميين والليبراليين الجدد "المحافظين جوهرا". يتبع.

 

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

 

في المثقف اليوم