قراءة في كتاب

محمود محمد علي: غواص في كتاب علم المصطلح لعلي القاسمي (1)

محمود محمد علي1- تقديم: هناك سيل من الكتب قذفت بها المطابع إلى السوق، بعضها ولد ميتاً من دون أي انتباه، وبعضها قُرئ كالطعام البائت، وبعضها الآخر عاش قليلا من الوقت ثم اختفى، وبعضها أثار المعارك وظل عالقاً في مفاصل الثقافة جيلاً بعد جيل، وبعضها لا يزال يلاحقنا حتى اليوم. وبعضها مر بسلام إلى القارئ، وبعضها أدخل صاحبها التاريخ بجدارة.

من الكتب التي دخلت التاريخ من أوسع الأبواب كتاب علم المصطلح لأستاذنا أبا حيدر الأستاذ الدكتور علي القاسمي الذي يعد رائدا من رواد الدرس المصطلحي في العصر الحديث، حيث طرق سيادته موضوع المصطلح التراثي العربي من جهتي الإهمال والإعمال ؛ وأجاب عن السؤال الذي طرحه الخوارزمي منذ قرون بعيدة، لماذا يعد علم المصطلح هو مفاتيح العلوم، فجاء علي القاسمي (مع حفظ الألقاب) ليعلمنا أن فهم المصطلحات نصف العلم، لأن المصطلح هو لفظ يعبر عن مفهوم، والمعرفة مجموعة من المفاهيم التي يرتبط بعضها ببعض في شكل منظومة، وعلم المصطلح هو العلم الذي يبحث في العلاقة بين المفاهيم العلمية والألفاظ اللغوية التي تعبر عنها وصناعة المصطلح التي تدور حول نشر المعاجم المتخصصة الورقية منها والالكترونية، والبحث المصطلحي هو المؤرخ لعلم المصطلح والمدارس وتوثيق المصطلحات والمؤسسات المصطلحية.

ونظرا لأهمية موضوع المصطلحية العربية ومختلف قضاياها، فقد جاء علي القاسمي بكتابه هذا ليوضح لنا منهجه ونظرته إلي أهمية المصطلح وتعاظم دوره في المجتمع المعاصر موضحا منهجه ونظرته إلى الموضوع من زاويتي الأصالة والمعاصرة موضحا سبيل النهوض بالمصطلحية العربية ومدي استثمارها لمعطيات الدرس اللساني الحديث، ثم معرفة الخصائص المميزة للمصطلح العربي، ومحاولة التقرب من صناعة المصطلح العربي وطرق تقييسه وتوحيده عند المحدثين .

قصدت أن أقدم هذه المقدمة عن " المصطلحية العربية " لأمهد للحديث عن تحليلي للكتاب الشيق الذي بين يدي، وهو كتاب بعنوان " علم المصطلح أسسه النظرية وتطبيقاته العملية " للدكتور علي القاسمي، ويقع الكتاب في 849 صفحة من الحجم الكبير، عن (مكتبة لبنان ناشرون)، بيروت – لبنان- في طبعته الأولي في عام 2008، ثم في طبعته الثانية في عام 2019،  ويشتمل على سبعة أبواب تضم اثنين وثلاثين فصلاً، ويُختَم الكتاب بـ"مصطلحات علم المصطلح" وتعريفاتها التي وضعتها المنظَّمة العالمية للتقييس بجنيف. وفي الكتاب إحالات على مئات المراجع والمصادر العربية والإنجليزية والفرنسية. ويمتاز الكتاب بأسلوب سهل واضح مدعم بالأشكال والجداول البيانية المختلفة، إضافة إلى اشتمال نصوصه على الشكل (الحركات) الضروري لتيسير القراءة.

وفي رأيي أن هناك نمطان من الأساتذة الجامعيين، نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش، والحرص علي أن يكون النقل أميناً، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل، وكلما قل فيما يقولون فإن ذلك هو الصواب عينه، ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش .

ولا شك في أن أستاذنا الدكتور "علي القاسمي" من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني، فهو صاحب موقف نقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول أو في قضايا معاصرة  بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل.

علاوة علي أن "علي القاسمي" (مع حفظ الألقاب) يعد واحداً من أساتذة اللغة الذين يعملون في صمت وتواضع ودون ضجيج، أو تعالٍ لخدمة تخصصهم الدقيق فهو من كبار المعجميين العراقيين في العالم العربي الذين نجحوا في خلق لغة خاصة به للتعبير عن دقائق أفكارهم، ومنعرجات مسائلهم، ومساقات حلولهم بعبارات شفافة رقاقة، لا تشويش فيها، إلا ما كان من بعض التشقيقات الاصلاحية التي يصعب علي المرء مجاراتها ببادئ الرأي ؛ وهو والله بحق من كبار المعجميين الذين نذروا حياتهم للبحث عن الحكمة متذرعاً بمبادئ الحق والخير والجمال، وهو إنساناً في تفلسفه، وفيلسوفاً في إنسانيته، وبين الإنسان والفيلسوف تتجلي المشاغبة الفلسفية لهذا الرجل المتعدد الأوجه سواء كمترجم، أو معجمي، أو محقق، أو ناقد، أو سياسي، أو أكاديمي، أو أديب .. الخ؛ فهو غزير الإنتاج، موسوعي المعرفة، لديه دأب علي البحث والتنقيب، وشهوة لا تقاوم لتعلم كل ما هو جديد ومبتكر، وهو رجل منضبط في فكره ومفرداته، ويتمتع بروح دعابة، وخفة دم، ونظرة ساخرة للحياة والكون. وهو في كل هذا يستهدي بشرع قيمي منسق، تتدفق في عروقه حيوية الصحة والسلامة السوية، وينطلق من عقل صاف مدرب علي توليد الأفكار الناضجة الناقدة الملتهبة حماسة وفتوة.

2- أهمية الكتاب:

يعد علي القاسمي من أوائل الذين وضعوا أسس علم المصطلح في العالم العربي وسعي إلى تأسيس نظرية مصطلحية حديثة، محددة المفاهيم، وقد كانت الكُتب المختصّة في علم المصطلح باللغتين الإنجليزية والفرنسية لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، وليس هنالك كتاب واحد منها يتناول جوانب الموضوع جميعها.

إلي أن جاء علي القاسمي بكتابه هذا ليعلن لنا علي جميع موجات الدنيا بأن هناك صعوبة كبيرة في الكتابة عن علم المصطلح، حيث تعود صعوبة التأليف فيه إلى كونه علماً مشتركاً بين سبعة علوم هي: علم المفهوم، وعلم اللغة، وعلم العلامات (السيميائيات)، وعلم الترجمة، وعلم الحاسوب، وعلم التوثيق، وصناعة المعجم. فعلم المصطلح يُعرَّف بأنّه "الدراسة العلمية للمفاهيم وللمصطلحات التي تعبّر عنها." وغرضه إنتاج معاجم مختصّة، وهدفه توفير المصطلحات العلمية والتقنية الدقيقة التي تيسًّر تبادل المعلومات، وغايته نشر المعرفة العلمية لإيجاد مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشرية (1).

وعلى الرغم من أنَّ علم المصطلح قديم في غايته وموضوعه، فإنه حديث في مناهجه ووسائله. وقد أُرسيت أسس علم المصطلح المعاصر في السبعينيّات من القرن العشرين خلال مؤتمرات تأسيسية متلاحقة عقدها عدد من المصطلحيين العالميين في النمسا وروسيا وإنجلترا وكندا وسويسرا والولايات المتحدة الأمريكية، وكان الدكتور القاسمي، عضو مجمعَي اللغة العربية في القاهرة ودمشق، واحداً من أولئك المصطلحيين وشارك في معظم المؤتمرات المذكورة: وهذا ما ساعده على إعداد الكتاب، إضافة إلى أنه درس جوانب من علم المصطلح في أرقى الجامعات البريطانية والفرنسية والأمريكية، وأنه عمل خبيراً في مكتب تنسيق التعريب بالرباط المسؤول عن تنسيق المصطلحات العلمية والتقنية العربية وتوحيدها، وأنه باحث متعدًّد الاهتمامات تربو مؤلَّفاته على ثلاثين كتاباً في اللسانيات وصناعة المعجم والتربية والتعليم العالي والتنمية وحقوق الإنسان والتاريخ والفلسفة والأدب: حتى إنَّ الناقد الدكتور صلاح فضل وصفه بأنه "ملتقى الأضداد" حين قال: " تلتقي الأضداد بتآلفْ عجيبْ في شخصيّة صديقي الدكتور علي القاسمي وكتابته، إذ ترى فيه عرامة العراقي وعنفه الفطريّ معجونة بدماثة المغربي ورقة حاشيته، وأمانة العالم اللغوي المستقصي متناغمة مع خيال القصّاص الوثّاب، وغيرة العربي المتعصًّب لتراثه مع تفتّح عقله ووجدانه على علوم الغرب وأجمل إبداعاته. فتجد نفسكَ حيال نموذج مدهش لعقلْ علميّْ جبّار وحسّْ فنيّْ خلاق. ويكفي أن تعرف أنه يبدو لك شاباً يافعاً وقد أمضى عمره في الجامعات العربية والغربية، وتمرَّس بالعمل الطويل في المؤسسات القومية والدولية، وأنتج ما ينيف على ثلاثين كتابا منها خمس مجموعات قصصية وست ترجمات سردية وعشرون كتاباً في الفكر اللغوي والنقدي والتربوي، فكأنه موسوعة مجسًّدة للمعرفة والإبداع، تردّ لك الثقة في كفاءة الإنسان العربي وجبروت الشخصية العراقية القادرة على إعادة بناء الذات والعالم من حولها "(2).

وفي هذا الكتاب الذي بين أيدينا استطاع الدكتور القاسمي أن يبين لنا أن دراسة المصطلحات فهي من اختصاصات علم اللغة إذ يتطلَّب توليد المصطلحات معرفةً بطرائق المجاز والاشتقاق والنحت والتركيب. أما نقل المصطلحات من لغة أُخرى فيقع في مجال علم الترجمة والتعريب. ولما كان كثير من المصطلحات العلمية والتقنية على شكل رموز ومختصرات ومختزلات، فإنه لا بدّ للباحث في علم المصطلح من التعمُّق في السيميائيات (علم العلامات). ونظراً لأن عدد المصطلحات يبلغ الملايين في كل فرع من فروع المعرفة، أصبح من الضروري استخدام الحاسوب في إنشاء المدوّنات الحاسوبية التي تُستخلَص منها المصطلحات، وفي إقامة بنوك المصطلحات لخزنها ومعالجتها واسترجاعها وتبادلها مع المؤسَّسات المصطلحية الأخرى. وهذا يتطلَّب إلماماً بعلم الحاسوب وبلسانيات المدونة الحاسوبية وبنوك المصطلحات وعلم التوثيق والتصنيف. وأخيراً، فإن هذه المصطلحات ومقابلاتها وتعريفاتها تُوضع في شكل معاجم مختصة، ورقيّة أو إلكترونية، أحادية اللغة أو ثنائية اللغة أو متعدًّدة اللغة. ومن هنا أصبحت صناعة المعجم من أدوات المصطلحي (3).

ثم يبين الدكتور القاسمي أن لكلمتي (مصطلح) و(اصطلاح) مهما كان الاختلاف بين الدراسين والباحثين، فإن الكلمتين مترادفتين في اللغة العربية، وهما مشتقان من (اصطلح) وجذره (صلح)، بمعني اتفق ولم يتوسع في مفهومه اللغوي لأنه اهتم بالمصطلح من الناحية المفهومية، أما إذا بحثنا عن المعني اللغوي فنجد كل المعاني تدل على الصلح والاتفاق بالمعاجم العربية القديمة (4).

ومما يلفت النظر في هذا الكتاب اشتمال فصوله على ملاحق تطبيقية، جمعها القاسمي أو كتبها أو ترجمها أو حقَّقها. فمثلاً هنالك جميع مقررات المجامع اللغوية والعلمية العربية بخصوص وضع المصطلحات وترجمتها وتعريبها. وهنالك مخطوطة في علم المصطلح من القرن العاشر الهجري وضعها الفقيه المصري بدر الدين القرافي وحقّقها القاسمي، وهنالك دراسة أعدّها القاسمي عن تطبيقات النظرية الخاصة لعلم المصطلح في مهنة المحاماة، وهنالك ترجمة للتصنيف المصطلحي الذي وضعه مركز المعلومات الدولي للمصطلحية في فيينا (الانفوترم) أنجزها القاسمي بطلب من المركز نفسه، وهنالك الرموز العلمية التي وضعها اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية في الرياضيات والفيزياء والكيمياء.

وخلاصة القول إنّ هذا الكتاب سدَّ فراغاً ملحوظاً في المكتبة العربية، وهو مرجع أساسي لا تستغني عنه مكتباتنا العامة والجامعية، وذلك لكونه نجح في هذا الكتاب بأن يخلق لغة خاصة به للتعبير عن دقائق أفكاره، ومنعرجات مسائله، ومساقاته حلوله بعبارات شفافة رقاقة، لا تشويش فيها، إلا ما كان من بعض التشقيقات الاصلاحية التي يصعب علي المرء مجاراتها ببادئ الرأي.

نعم لقد استطاع الدكتور القاسمي في هذا الكتاب الذي بين أيدينا بأن يكتبه بلغة فلسفية متصالحة مع ذاتها ومع واقعها التاريخي ؛ لغة منسجمة رقراقة قوية مبتكرة بعيدة عن الانغلاق، ولكنها لا تفرط في مقتضيات الصناعة الفلسفية، تخلت كتابته عن الطابع الدعوي، وسلكت مسلك الاستنباط السلس والجدل السيال .. وللحديث بقية..

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ فلسفة المنطق واللغة بكلية الآداب - جامعة أسيوط.

......................

الهوامش:

1- البشير النظيفي: "علم المصطلح" كتاب معجمي جديد للأديب العراقي علي القاسمي، تم نشره في السبت 9 آب / أغسطس 2008. 03:00 مـساءً.

2- المرجع نفسه.

3- المرجع نفسه.

4- الدكتور علي القاسمي، علم المصطلح .. أسسه النظرية وتطبيقاته العملية، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، لبنان، ط1، 2008، ص 110.

 

في المثقف اليوم