قراءة في كتاب

حاتم حميد محسن: دين سبينوزا.. قراءة جديدة للأخلاق

3393 دين سبينوزاعادة اعتُبر سبينوزا خصما للدين. لكن الكاتبة كلير كارلايل بدلا من ذلك، تعرضهُ في كتابها متحديا للتصورات الشائعة عن الدين ومقدّما دينه الخاص. ولكي نضع الكتاب في السياق، وبالعودة الى بدايات الـ 2000، اصبح التسفيه وتقريع الدين هو النغمة السائدة في الانترنيت. عدد قليل من الكتاب البارزين حاولوا القيام بشيء جديد في جمع المعلومات عن أعمال أصلية لنصوص علمانية: كريستوفر هيتشنز كتب الملحد المحمول (2007)، بينما انتوني غرايلنج انتج الكتاب الجيد (2011). كلا الكتابين تضمنا كلمات سبينوزا.

صورة سبينوزا كشخصية غير متدينة او معارضا للدين، ليست نتاجا للجهل. لا احد يعرف عن سبينوزا اكثر من ستيفن نادلر، الذي يفتتح كتاب جديد عنه يصف فيه الدين كوباء لـ اللاعقلانية: "كل يوم بلايين الناس يخصصون وقتا طويلا لعبادة كائن خيالي"(نادلر، 2020). هو يستمر بعرض افكار سبينوزا كعلاج. بالطبع، اعتقد سبينوزا بنوع من الاله، ولكن، كما سنناقش ادناه، يجادل نادلر انه لم يكن ملحدا بأي معنى.

ولكن ماذا يجب ان نتعلّم من سبينوزا؟ كتاب سبينوزا الفلسفي النادر سُمي الأخلاق Ethics، لذا من الطبيعي لاولئك الذين يقرأونه كغير متدين ان يجدوا فيه مرشداً للاخلاق الالحادية. نادلر ينهي بخلاصة لـ "الطريقة الصحيحة للعيش" كما يتصورها سبينوزا . هذه تبدو "حياة نشطة من الاستقلالية، الفضيلة، والقوة"لـ "الرغبة المسترشدة بالعقل والمعرفة وليس بالعواطف اللاعقلانية" نحو عمل ما هو أفضل لك وللاخرين، وليس فقط لأجل ما يبدو كخير او كمصدر طارئ للمتعة" (نادلر، 2020، ص202). هذا يبدو معقولا جدا. ولكن معقول ايضا ان يثير القلق: هل نحتاج لقراءة سبينوزا لأجل هذا؟ هذه القراءة لسبينوزا تبدو كأنها تقلّص تأثيره فقط في إبلاغ العلمانيين الطبيعيين والمعتدلين المعقولين - وهم الاغلبية ضمن الفلسفة الاكاديمية – ما يعرفونه سلفا في النظرية ان لم تكن في التطبيق.

مع ذلك، هناك طرق اخرى لقراءة سبينوزا، يتحدّانا فيها كثيرا . كتاب الكاتبة يقع في هذا الصنف. بالنسبة لها يبقى سبينوزا راديكاليا الى الابد كتحدّي للدوغما العلمانية المعاصرة وكذلك للديانة الحديثة المبكرة. سبينوزا لديه شيء يقوله لنا لا يُحتمل ان نعرفه سلفا.

معظم الباحثين الذين يرفضون قراءة سبينوزا كعدو بسيط للدين لا يرفضون كثيرا مواصفات فكر سبينوزا كتأطير ثنائي لما يتضمنه من سؤال : الدين – لأجل وضد؟ الآن، مع كتاب كلير كارلايل لدينا موقف طُرح بالكامل ضد هذا التأطير. هي تبدأ: "باروخ سبينوزا لم يمتلك دينا – على الاقل بالمعنى المألوف للكلمة". وفي ضوء هذا، هي تعترف ان، "عنوان هذا الكتاب يحتوي على مفارقة، وربما بعض الاثارة". عنوان كتابها يكشف اطروحتها بان سبينوزا فعلا يمتلك دينا، لكنه دين خارج المعنى المألوف للكلمة. واكثر من هذا، فكره يبيّن ما هو خاطئ في ذلك المعنى المألوف: "دين سبينوزا يجبرنا لإعادة التفكير في مفهوم الدين ذاته". معظم التعارضات الثنائية في ما نفكر فيه من دين اليوم – الدين مقابل العلم، مقابل العلمانية، مقابل الحداثة، مقابل العقلانية، هي نتاج لنوع من الحداثة السائدة اثناء حياة سبينوزا. سبينوزا يقدّم لنا ليس فقط مفهوما مختلفا للدين وانما "حداثة بديلة".

الادّعاء الرئيسي للكاتبة هو انه، بدلا من محو الافكار الدينية التقليدية – الخلق الالهي، خلود الروح وغيرها، من الصورة العلمية الحديثة، فان سبينوزا يعيد تفسيرها بطريقة لاتناسب أي من الاصناف الدينية او العلمانية. ما يؤسسه في (الاخلاق) هو ثيولوجيا فلسفية بالمعنى الواسع. افكاره محكومة بمبدأ ثيولوجي اساسي بانه "مهما يكن الكائن، فهو في الله"(الاخلاق، 1، ص15). الكتاب بمجمله هو كشف لمعنى هذا المبدأ وارتباطه بافكار اخرى لسبينوزا. العديد من هذه الافكار مثل السعادة التامة او الغبطة beatitude، الحياة الخالدة، حب الله، كانت بوضوح ذات اهمية مركزية لدى سبينوزا. مع ذلك، في الدراسات الاكاديمية الحديثة هي كانت عادة اما متجاهلة او اختُزلت الى مبادئ اكثر انسجاما مع الطبيعية العلمانية.

مشروع الكاتبة ايضا يستلزم استكشاف لعلاقات سبينوزا مع المسيحية، تعرض فيه حججا "لوضع الاخلاق ضمن الاصل اللاتيني للفكر المسيحي". من الغريب ان لا نرى هناك اهتمام كبير بين الاكاديميين في التأثيرات المسيحية على سبينوزا، الذي هو يشير دائما ليسوع ليس بالاسم وانما كـ المسيح. هذا لا يعني القول ان سبينوزا كان مسيحيا، ولا يقلل من أهمية التقاليد اليهودية التي نشأ بها – وهو العامل الذي حظي بدراسة تامة . لابد من ملاحظة ان كتاباته تحتوي على الكثير من الافكار والموضوعات المسيحية، والكاتبة من بين القلائل من الباحثين غير الراغبين بتجاهل تلك الموضوعات او التقليل من أهميتها.

الفصل الاول، حول موضوع عبادة سبينوزا، يبدأ بمواصفات ببيير بايل لسبينوزا. فمن جهة، بايل رفض اسبينوزا كملحد. ومن جهة اخرى، هو وجد في كتاباته "صدى لتعاليم دينية مختلفة: فارسية "صوفية" وكابلية، وبعض المعتقدات الهندية القديمة، والممارسات التأملية للطائفة الصينية التي تسمى foe kiao، التي وُجدت في نفس الوقت الذي ظهرت فيه المسيحية ". بايل يركز على هذه الطائفة الأخيرة، التي سعت كما يظن نحو مثال "الهدوء والسلام"، حيث يؤمن افرادها : انه بعد وصول الانسان لحالة الهدوء، هو ربما يتّبع ظاهريا المسار العادي للحياة، بينما يعلّم الآخرين العقيدة المقبولة. انه فقط داخليا وبخصوصية تامة يجب ان يمارس التمرين التأملي للسعادة التامة.

ورغم ان الكاتبة لم تذكر عقيدة الـ، "فوي كايا" لكن هذه العقيدة هي تحوير للكلمة الصينية للبوذية، التي "وجدت في نفس وقت المسيحية" وتعكس العقيدة الشائعة عن وصول البوذية الى الصين (مينارد، 2011). ان كلمة غبطة التي يستعملها بايل لوصف "التمرين التأملي" للبوذية والتي استُعملت من جانب سبينوزا في الجزء الأخير من الاخلاق ليعرّف خيره النهائي: "الحب الفكري لله" (5 ص 26)، هي ايضا وُصفت كحالة من "اخضاع الروح". بايل، يصف وبشكل فعال سبينوزا كنوع من الانسان البوذي، والكاتبة تستمر في هذا الفصل لتستكشف الطرق التي يمكن بها رؤية مشروعه الفلسفي كنوع من الممارسة الروحية، الساعية نحو سلام داخلي في ضوء الحقيقة.

الفصل الثاني يبدأ بتحليل صارم لكتاب سبينوزا الاخلاق، محددة شكله ذو الطابع الهيكلي، المعماري: انه يشبه الكريستال المنحوت بشكل رائع قُطع من الداخل كما في الخارج، يفضي الى غرف ودهاليز هائلة مترابطة وعدد ضخم من الاسطح غير الملونة بُنيت بدقة وجرى تلميعها ببراعة. هي تجد في قلب البناء مجموعة من "افتراضات عليا" super propositions: تلك الافتراضات التي استشهد بها سبينوزا اكثر من عشر مرات في اثبات افتراضات اخرى. احدى تلك الافتراضات هو المبدأ المركزي المذكور اعلاه في فصل 1 ص15: "مهما يكن الكائن، الكائن هو الله، ولا شيء يمكن تصوره بدون الله".

الفصل الثالث يوضح كيف ان " الوجود في الله" هو المبدأ الاساسي في فكر سبينوزا" (ص56) لاسيما ان الاطروحة الكلية للكاتبة هي حول دين سبينوزا. هذا هو الفصل الأصعب في الكتاب. فكرة "الوجود في الله" هو موضوع هائل لفصل قصير، وتعاملْ الكاتبة معه، مع انه رائع لكنه مضغوط جدا. الكاتبة وفي اكثر مما في الفصول الاخرى، تدخل احيانا في لغة ثيولوجية يصارع الفلاسفة في شق طريقهم فيها. من الواضح انه مثير جدا . الكاتبة تقترح ان سبينوزا يطور "الوجود في الله" كهدف معياري normative goal – شيء ما يجب ان نكافح بجد نحوه – وايضا كحقيقة ايجابية "الحقيقة الاساسية والمباشرة حول اي شيء والتي تعني ان أي شيء هو في الله(56).

الهدف المعياري تُرك للفصلين الرابع والخامس. لكن لنبقى في الفصل الثالث، لنرى ما معنى "في" في الادّعاء بان كل شيء هو في الله؟ كلمة "في" هنا لا تعني كجزء، طالما ان سبينوزا واضحا بان الله ليس له أجزاء (في الملاحظات الهامشية عن "الافتراضات العليا" في الاخلاق ص 15). الكاتبة تكرر عدة مرات الادّعاء الملفت باننا" يجب ان نكون مستعدين لفهم "الوجود في" لنعبّر عن كل من الاختلاف والهوية"(ص59-64). لهذا وكما وُجد ايضا لدى الاكويني – سبينوزا يقترح بان كل الاشياء مشابهة لله، مع انها ايضا مختلفة عنه. هذا يعني ان قراءة الكاتبة تجعل سبينوزا يرفض عدم التمييز بين المتشابهات – وهو الشيء الذي وُجد في مكان اخر في كتاباته طبقا لجون موريسون (موريسون 2017).

الكاتبة تذهب بالضد من غالبية مفسري سبينوزا في رفض قراءة عبارته الشهيرة "الله هو الطبيعة"Deus sive Nature باعتبارها تتضمن هوية صارمة بين الله والطبيعة. هي تلاحظ كيف ان هذه الهوية المقترحة حرّضت بعض القراء مثل نادلر على اختزال موقف سبينوزا الى طبيعية ملحدة متنكرة: هناك فقط العالم الطبيعي، سمي بسوء فهم بـ "Deus". الكاتبة تبني موقفا نصيا مبررا ضد هذا. ادون كيرلي اوضح بان استخدام سبينوزا لـ "sive" اكثر تعقيدا مما يُفترض عادة (سبينوزا 2016، 2، ص610-612). بالنسبة لها، العلاقة بين الله والعالم الطبيعي، المعبّرعنها في عبارة سبينوزا الشهيرة، هي ليست تعبير عن هوية صارمة وانما هجين متناقض من الهوية واختلاف عبّر عنه بـ "الوجود في". العديد من القراء الذين يرون سبينوزا كعقلاني كبير لا يؤمنون بفكرة ان مثل هذه المفاهيم المتناقضة قد تظهر في تفكيره، لكنهم ربما يعتبرون ان افكارهم عن "العقلاني" هي ربما بحاجة الى توسيع.

الفصول الثلاثة الاخرى للكاتبة تنظر الى الوجود في الله كهدف معياري. مع ان الوجود في الله كلي الوجود، لكنه يمكن ان يأتي في درجات. نحن علينا ان نكافح بجد في الوجود في الله بأكبر قدر ممكن. الفصل الرابع يبدأ باقتباس من اوغسطين : "قلوبنا هي في حالة اضطراب حتى تستقر في "الله"(79). نفس المشاعر ينقلها سبينوزا، الذي يرى ان الروح تذهب باتجاه مغاير عبر الاضطرابات الذهنية والتقلبات – موجات في البحر مندفعة برياح معاكسة، كما هو يصفها في مكان من (الاخلاق 3 ص59) – حتى تجد "مكانا للاستقرار تشكّل بفعل الوجود في الله"(79). ما يمنعنا من ايجاد هذا السلام الباطني هو متابعة أهداف خارجية لأنفسنا. لكي نجد الراحة عبر الوجود في الله هو ان نحقق درجة من الذات التامة المتعة من جانب الله: لكي نجد ذلك"هدفنا لايكمن خارج نشاطنا، حياتنا، وجودنا، وانما ضمنه"(88). مثل fung yulan (fung 1997، فصل10)، يمكن ان نرى هنا ارتباطا بين "الإذعان" السبينوزي والمفهوم الدايوستي عن فعل تلقائي لأجله هو وليس لأجل متابعة اهداف خارجية. الفصلان السابع والثامن ينشغلان بالكثير من الافكار الدينية لدى سبينوزا. حب الله والحياة الأبدية. مرة اخرى. الكاتبة يبدو تنصح بنوع من الممارسة الروحية نحو هدف غير مألوف مقارنة بمحاولة ان نكون معقولين في رغباتنا ونعمل ما هو فعلا يحقق أفضل مصلحة لنا.

الفصل التاسع يعود لسؤال دين سبينوزا و"الحداثة البديلة" التي يقدمها لنا. الكاتبة تقترح بان مفهوم سبينوزا للدين، خلافا لما ورثناه من الحداثة، هو "لا مذهب ولا عقيدة، لا طائفة ولا كنيسة"(183). وانما "هو الفضيلة" – فضيلة ان تكون موجّه نحو الوجود في الله. وبهذا، انها يمكن ان تستوعب "التنوع الديني الذي يطبع الان المدن الحديثة، المدارس والجامعات" بينما ايضا يقاوم "امراض الحداثة: الثنائية، العدمية، التطوعية، المادية الاختزالية، الذاتية"(183). بكلمة اخرى، انها تستطيع ان تقدم للعلمانيين بعض مما يريدون وكذلك اولئك الساعين لأجل التقاليد الدينية . نبقى بحاجة لنرى ما اذا كان ذلك كافيا لأي منهم.

في ختام الكتاب، تلخص الكاتبة ببراعة مساهمتها للدراسة السبينوزية: "تصوّر سبينوزا لله كأرضية انطولوجية لا يضمن فقط فهم الوجود، وانما ايضا يوفر مكان راحة للرغبة"(188). دارسو سبينوزاكانوا يصارعون بمشقة لإيجاد معنى لتبنّي سبينوزا للمفهوم الاول – فهم الوجود. ميخائيل ديلا روس طور تفسيرا هاما لسبينوزا بموجبه يكون الوجود مفهوما (ديلا روس 2008). لكن المفهوم الثاني – مكان الراحة للرغبة او الحالة النهائية للغبطة التي كان سبينوزا يواجه صعوبة لكشفها كامكانية للباحثين الروحانيين – هذا نال القليل من الاهتمام. ربما هذا بسبب انه يهدد الصورة المهيمنة لسبينوزا. كلمة غبطة لها ميراث محدد جدا في ما تسميه الكاتبة "الأصل اللاتيني للفكر المسيحي": الاكويني مثلا اعطى حجة قوية ضد تحقق تلك الغبطة في الحياة الفانية (الاكويني، 1894). الحجة هي انه طالما الغبطة تعني مكان الراحة النهائي للرغبة، فهي لايمكنها ترك اي شيء مرغوب، لكن الخير الذي سيزول يوما ما يترك شيء ما ليُرغب. سبينوزا تجنب هذا بعرض رؤية عن الحقيقة النهائية فيها لاتزول الاشياء ابدا . وكما تطرح الكاتبة: "كل الاشياء في هذا العالم لها حصة في خلود الله"(188). هذا بسبب ان كل الاشياء هي الله بمعنى ما - المعنى المعبّر عنه في "الوجود في الله".

لكن هذا يأخذنا بعيدا عن صورة سبينوزا كبطل للطبيعية العلمانية. العديد سوف يعارضون، لكن بالتأكيد هناك الكثير منْ يشعرون بالإثارة لاستكشاف العالم الجديد للتفسير الذي فتحته الكاتبة بالتعامل الجاد مع دين سبينوزا.

 

حاتم حميد محسن

...........................

* كتاب دين سبينوزا: قراءة جديدة في الاخلاق، صدر عن مطبوعات جامعة برينستون، عام 2021 في 288 صفحة.

 

في المثقف اليوم