قراءة في كتاب

حاتم السروي: "أوبئة وأزمات" مساهمة جديدة في التاريخ الاجتماعي

شاع في الآونة الأخيرة القول بأن الدولة العثمانية كانت قوية منيعة بل ومتحضرة! ولأن المؤرخ – كما هو مفترض- يتكلم بالوثائق وليس من منظور أيديولوجي، لذا حاول الباحث المصري الدكتور ناصرأحمد إبراهيم أن يقدم قراءة مختلفة لعصر قال البعض أنه عصر العزة وقال آخرون أنه عصر الهزيمة، فما الحقيقة إذن؟.
في الكتاب الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وبالتحديد ضمن سلسلة " تاريخ المصريين" وعنوانه " الأوبئة والازمات الاجتماعية في مصر القرن السابع عشر " يحاول المؤلف أن يضع بين أيدينا عدة حقائق تاريخية لعلها تجيب على هذا السؤال؟.
وفي تقديمه للكتاب قال المؤرخ الراحل " رءوف عباس " أستاذ التاريخ الحديث بكلية الآداب جامعة القاهرة: "إن التاريخ الاجتماعي هو أحدث ميادين البحث التاريخي عمرًا؛ إذ بدأ الاهتمام به في الغرب منذ عشرينيات القرن الماضي، واستقرت مناهجه مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وتشعبت مناحي الدراسة فيه باختلاف المدارس الفكرية ذات الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي".
وأضاف عباس أن اهتمام المؤرخين المصريين بالتاريخ الاجتماعي تأخر حتى بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، وما لبثوا أن اهتموا به في الستينيات اهتمامًا خاصًا تمثل في عددٍ من الأطروحات الاجتماعية والكتب التي وضعت التاريخ الاجتماعي على خريطة البحث التاريخي في مصر والعالم العربي.
3423 الأوبئةوالأزماتوأكد على أن الوباء والجوع كانا وجهين لعملةٍ رديئةٍ واحدة عانت منها مصر بين الحين والآخر على مر تاريخها الطويل، ولكنها كانت أكثر شيوعًا عند عجز السلطة عن مواجهة الأزمات لضعفٍ فيها، أو صراعٍ داخلها، أو لسقوط هيبتها، وقلة حيلتها. وكان مثار الأزمات دائمًا حدوث ندرة مفاجئة في الموارد، تؤثر على الغذاء الضروري المتاح بالأسواق، وتحدث هذه الندرة عادةً لعوامل طبيعية أو بشرية، وغالبًا ما كانت تحل المجاعة حتى تجر في أذيالها الوباء، أو يحل الوباء حتى يعصف بقوة العمل فيشح الغذاء وتقع المجاعة. فإذا قُدِّرَ للبلاد أن يتولى زمام أمورها حاكمٌ هُمام، كان بالإمكان احتواء الأزمة ومعالجة آثارها، أما إذا كانت الإدارة عاجزة عن إدارة الأزمة، فالهلاك والخراب وتدهور الأحوال نتيجة اتساع دائرة الأزمة زمانًا ومكانًا واقعٌ لا محالة.
وأوضح عباس أن دراسة التاريخ الاجتماعي والتاريخ عمومًا ليست ترفًا علميًا، ولكنها وسيلة لمعرفة الحاضر من خلال الماضي؛ ولهذا قرر أن يلتمس جذور مصر الحديثة في الحقبة العثمانية من تاريخها، وقال إن دراسة الأزمة الاجتماعية تكشف عن بنيان المجتمع؛ من حيث مواطن القوة ومواطن الضعف، وما يرتبط بهذا البنيان من أسس اجتماعية وثقافية واقتصادية، فالمجتمع كائن عضوي تكشف حالة مرضه عن مدى كفاءة أعضاء بدنه، وتشخيص المرض يحتاج إلى باحث جاد يمتلك وعيًا علميًا يميز به بين الصحة والمرض، ويضع به يده على موضع الداء، ويحدد أسبابه بدقة، ويستفيد من الماضي في الوقاية من تكرار حدوث المرض في الحاضر.
ويوضح لنا الكتاب أن الغالب على حكام الفترة المتأخرة من تاريخ مصر (العصر العثماني) عدم الاهتمام بالخدمات العامة للجمهور، ما عدا حفظ الأمن، وكانت السلطة تهتم فقط بتنظيم الري ورعاية النيل؛ لارتباط موارد الخزانة بما يجري به النهر من خير، وللعلاقة الوثيقة بين التحكم في نظام الري وإحكام القبضة على الناس، ولذلك كان الحكام يهتمون بإحصاء الموارد، وتأمين المنتجين على أموالهم وحياتهم، وإقامةالعدل بينهم، وما عدا ذلك لم تكن السلطة تهتم بالرعاية الصحية والتعليم، وكان الاهتمام بمراقبة الأسواق في المدن فقط، أما الريف فقد سقط من حساب السلطات في تلك الفترة.
ويشير المؤلف إلى أن المؤسسة الدينية كانت هي التي تقدم الخدمات للناس وفق ما يتيسر لها، وكان بعض الأغنياء يقدمون أعمالاً خيرية، على أن الخدمات الاجتماعية عمومًا كانت محدودة داخل أسوار المدن، ولا تصل إلى الريف وأهله غالبًا.
ويوضح المؤلف أنه لكي نفهم طبيعة الأزمات الاقتصادية في القرن السابع عشر، علينا أن نحدد مفهوم المصطلحات التي تداولها كُتَّاب الأخبار على صفحات أعمالهم وهم بصدد رصد تلك الأزمات؛ حيث يُلاحَظ وجود تداخل بين مصطلحيْ "الغلاء" و"المجاعة" فعلى سبيل المثال: في أزمة 1641-1643م التي توالى خلالها انخفاض منسوب النيل والشراقي لثلاث سنوات، وتضاعفت الأسعار غير مرة، حتى لقد حدث في الناس "الضعف والقهر" كما أوضح "ابن عبد الغني" في كتابه "أوضح الإشارات فيمن تولى مصر القاهرة من الوزراء والباشات" الذي طبعته مكتبة الخانجي عام 1978م، وفيه: أن الأسِتَانة (عاصمة الدولة العثمانية) أرسلت بعض الإمدادات الغذائية، وانتهت المأساة بوقوع أشد جائحة طاعونية في النصف الأول من القرن السابع عشر، ومع ذلك لا نجد المصادر تطلق عليها سوى "الغلاء الشديد" أو "الغلاء والقحط".
ويتابع المؤلف قائلاً: وفي أزمة 1694-1695م نجد المواصفات والتفاصيل التي طرحتها المصادر تنبئ عن وقوع مجاعةٍ ضارية وقاسية إلى الحد الذي نتصور معه أن بعض أحداثها غير حقيقية، ورغم ذلك يطلق كُتاب الأخبار عليها "الغلاء العظيم" كما ذكر "محمد بن أبي السرور البكري" في كتابه "الروضة الزَّهِيَّة في ذكر ولاة مصر والقاهرة المُعِزِّيَّة" ولهذا يتسائل المؤلف: هل يعني ذلك أن سنوات الأزمات التي أصابت مصر في القرن السابع عشر وأُطْلِقَ عليها مصطلح "الغلاء الشديد" تعكس لنا درجة من درجات المجاعة الشاملة أو الأزمات الغذائية الشديدة، والتي تعني نقص المواد الغذائية بالأسواق بصفةٍ عامة، أم أنها لم تتجاوز نطاق الأسعار المرتفعة فحسب؟ ويجيب المؤلف على هذا التساؤل بقوله: في الحقيقة لم يكن الاستناد إلى منسوب الفيضان السنوي كافيًا لوضع خطوط واضحة بين مستويات الغلاء والقحط والمجاعة، برغم أن الفيضان كان من أهم الأسباب الرئيسية في حدوثها؛ ذلك أن أسبابًا أخرى كانت تسهم في بعض الأحيان بالشكل الذي يحول الأزمة من مجرد حالة "غلاء" إلى "مجاعةٍ شديدة".
ويقدم الكتاب بعض النماذج التي تؤكد ذلك: فعلى الرغم من أن مناسيب الفيضان خلال أزمات (1629)، (1650) و(1694) كانت متماثلة؛ فإن درجات الأزمة كانت متفاوتة تمامًا، ففي أزمة 1629/30 بلغ إردب القمح 136 بارة، ولكن تصدي الوزير للمتسببين في تفاقم الأزمة جعل الأهالي لا يشعرون بوطأتها فتجاوزتها البلاد سريعًا. وبينما لم تكن أزمة 1650م سوى حالة من ارتفاع الأسعار الشديد؛ حيث أمكن ري ثلث الصعيد، نجد أن أزمة 1694م كانت تمثل مجاعةً ضارية حتى لقد صاحبها حركة خروج من الأرياف، ودخل الفلاحون القاهرة فنهبوا ما وقعت عليه أعينهم من خبزٍ وطعام، وأكل الناس الجيفة والرِّمَم وبعض البشر! على حين تطالعنا المصادر بأن عام 1618 شهد فيضانًا مُغرِقًا أدى إلى وقوع القحط بسبب فوات موسم الزراعة، غير أن مكافحة الوزير للمحتكرين وإغراقه الأسواق بالغلال أنهى الأزمة تمامًا. وربما كان الأكثر دلالةً من ذلك ما نسمعه من وقوع "غلاءٍ شديد" في عام 1678 رغم أن فيضان النيل كان موافيًا حد الكمال.
ويخلص الباحث مما سبق إلى أن فيضان النيل يصعب التعويل عليه كمؤشر لتحديد "المجاعة" خاصةً ونحن نجهل مناسيب النيل في معظم سنوات القرن السابع عشر، لكن الذي يحدد "المجاعة" هو ما تطالعنا به المصادر من سلوكيات الأهالي، ففي الأزمة التي أكل الناس فيها موتاهم بعد إخراجهم من القبور، كما أكلوا الكلاب والحمير والقطط عام 1694/95 يصح إطلاق وصف المجاعة بلا شك.
ويشير إلى أن غلاء أسعار الغذاء الذي أدى إلى سوء التغذية هو الذي أكسب الناس قصورًا في المناعة وبالتالي انتشرت الأمراض والأوبئة، وهذا ما يؤكده مؤرخو تلك الفترة مثل: البكري والملواني والإسحاقي، وما يؤكده أيضًا الأطباء القدامى الذين عاشوا تلك الفترة او قريبًا منها؛ حيث حذروا من الجوع قبيل انتشار الوباء. ولعل مما يؤكد ذلك أن بعض المصادر التاريخية دائمًا تقرن الغلاء بالوباء في عباراتٍ مألوفة مثل: "وقع الغلاء والوباء" أو قولهم: "وقع الغلا وأعقبه الفنا". ومما يؤكد العلاقة الجدلية بين "أزمات الغلاء" و"الطواعين" أن أغلب طواعين القرن السابع عشر قد سبقها أزمات غلاء ومجاعات؛ فمن بين 18 حالة طاعونية أصابت مصر نجد 14 حالة سبقها وقوع الغلاء والمجاعة؛ حيث أدى عامل الندرة الغذائية إلى ضعف البنية عند المصريين، في وقتٍ كانت فيه المؤسسات – إن جاز التعبير- ضعيفة وأقل كفاءة من أن تتصدى للعدوى، ويؤخذ في الاعتبار طول فترة الغلاء، وكذلك تعاقبه على فتراتٍ قصيرة.
ثم يعود الباحث فيؤكد أن ما سبق لا يعني أن الطاعون تسبقه حتمًا أزمة اقتصادية، فقد يأتي بسبب عدوى وافدة. ويتحدث المؤلف عن ماهية الأوبئة ويوضح أن "كل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعون" وكان الأطباء في العصر العثماني ليس لديهم وعيًا كافيًا بماهية الأمراض الوبائية، وبعض تلك الأمراض كان يمكن علاجها لو كان الطب متقدمًا في ذلك الوقت، بل إن طاعون 1619 رغم أمه عمَّ كل أقاليم مصر حيث كان قوي الانتشار إلا أنه أمكن العلاج منه بثمار "النارنج" كما قيل، ولكن نظرًا للتدهور الطبي بشكلٍ عام وقصور فهم الأطباء لحقائق الأمراض واعتقاد الناس أن هذا الفهم يحتاج إلى تأييد قٌدسي! كما ذكر ذلك "البدليسي" في كتابه "الإباء عن مواقع الوباء" لم يعرف المؤرخون وقتها الفرق بين الأوبئة وأنواع الطواعين، ويضاف إلى ذلك ابتعاد المؤرخين عن مواطن انتشار العدوى، أو تلقي بعضهم لأخبارها بالسماع.
ويخبرنا الكاتب أن الغالب في الطواعين المنتشرة حينها ثلاثة أنواع، وهي: "الطاعون الغُدَدِي"وكان الأكثر انتشارًا ويُحدِث بثورًا وأورامًا في المواضع الرخوة وغير الظاهرة من البدن مثل: "تحت الإبط" و"خلف الأذن" و"أرنبة الأنف" وهناك "الطاعون الرئوي" و"الطاعون التسممي".
وهناك أوبئة غير الطاعون ولا تقل عنه خطورة، مثل: الديسونتاريا، السُّعار الجنوني، الحُمَّى الثلاثية، والوبائية، الجُذَام، وجذام الفيل، والجُدَرِي الوبائي الذي دائمًا ما يصيب الأطفال بصفةٍ خاصة، إلى جانب الفتاق والسل الرئوي ورمد العيون.
ويرى البعض مما سبق أن العصر العثماني كان بحق "عصر الظلام والتأخر" وليس كما يشاع أنه كان "عصر القوة الذي تم ظلمه" فالصحيح أنه عصر تراجع الحضارة الإسلامية، ومع الحملة الفرنسية وتخلي العثمانيين عن الدفاع عن مصر إلا قليلًا شعر المصريون بهويتهم واختلافهم عن الأتراك وأنهم مصريون و"أولاد العرب" وهو إحساس كانت له بوادره قبل ذلك، وحين بدأت مصر نهضتها الحديثة في القرن التاسع عشر تأكد هذا الإحساس الوطني بالهوية.
***
حاتم السروي

 

في المثقف اليوم