قراءة في كتاب

محمد مهدي التسخيري: جهود د.علي المؤمن في التأسيس لعلم الاجتماع الديني الشيعي

قال الحكيم في كتابه الكريم: (يُؤْتِي اَلْحِكْمَةَ مَنْ يَشٰاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ).

لقد كان لي تواصل كثير مع كتاب ومؤلفين في بقاع الأرض كافة، ومنه ما جمعني مراراً وتكراراً بالمفكر والأديب والكاتب اللبناني الراحل الأستاذ جورج جرداق. وفي مرة منها قال لي هذا العملاق، بلغة العتب على أحوال مجتمعه: (لو كنت في الغرب لابتاع المجتمع الغربي كل كلمة من صفحات كتبي بالذهب، تقديرا لكلماتي).

ذكرت هذه المقولة في مقام التأكيد فقط على واجبنا في احترام هذه النخب الفكرية والقامات العلمية، وليس ذلك لحاجة النخب لهذا التكريم، وهم في غنى عن ذلك، بل تكريماً للمجتمع الذي يثمن ويقدر رواده في مسيرته الحضارية المعاصرة، وإثراءً للأجيال القادمة في مجتمعات أُريد لها أن تفقد القيم وتنسى القامات، وتركز على العبث كقيمة حياتية اجتماعية.

عندما يتصفح الإنسان مؤلفات الدكتور الفاضل السيد علي المؤمن، حتى الكتب التي كتبها في عنفوان شبابه، وهو اليوم شيخ الشباب؛ يجد فيها روح الدقة والتمحيص والتحقيق. وعندما يتطرق المؤلف الى موضوع دون أن يطنب، ويحاول استقصاء كل جوانبه في أبعاده الثمانية، ويكشف اللثام عن حقيقة اللغة والمصطلح والظاهرة؛ ذلك لكي يبعد القاريء عن ما يقع فيه من شبهات تنعكس على بحوث يتناولها آخرون في كتاباتهم، حال كونهم يكشفون أمراً ما، وتغيب عنهم أشياء كثيرة.

سأتطرق هنا الى  ثلاث نقاط، رعاية للاختصار؛ مع أني مؤمن بأني غير قادر على أداء إلّا الجزء اليسير من الواجب في حق المؤلِّف والمؤلَّف.

أولا: إن كتابات المؤلف، نظراً لشخصيته الاجتماعية والفكرية العملانية؛ هي كتابات تطبيقية مقارنة وعملية، بعيدة عن الترف الفكري، بل جاءت استجابة لمتطلب اجتماعي وجواب على أسئلة تختلج في أذهان المجتمع العراقي أو الإسلامي أو الإنساني، وكان اختيار مواضيع الكتب يحتاج الى حكمة وجرأة كي يخرج المؤلف بسلام وأمان، عبر أداء واجبه الإنساني للرد على التساؤلات المخزونة في ذاكرة المجتمع.

وهذا ما نلاحظه في عموم مؤلفات المفكر الدكتور المؤمن ودراساته المنشورة، من "سنوات الجمر" والتطرق الى مسيرة الحركة الإسلامية في العراق خلال ثلاثة عقود صعبة ومحاطة بمؤامرات مكوكية ضد المجتمعات الإسلامية وحركاته وقياداته الرائدة خاصة في العراق، قبل سقوط الطاغية صدام، الى "النظام العالمي الجديد" وكيفية تشكّله والرؤية المستقبلية وكيفية التعامل مع ما يحدث بايجابية واتقان، وتصحيح المسار، دون الهروب من الواقع المفروض والمخير، ومن ثم "الإسلام والتجديد" وكشف الرؤى  المختلفة في الفكر الإسلامي المعاصر، وقوة تراثنا الإسلامي ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في تقديم ما يتطلبه المجتمع وتحتاجه الاجيال في مسيرتهم وفقا للمباديء والقيم الإنسانية والاسلامية، وسائر الکتب الأخری في التاريخ والسياسية والقانون والفقه والرواية، وحتى كتابه الذي نخصه بالحديث "الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع"؛ فإنها تتطرق الى قضايا عملية يتعطش المجتمع وخاصة جيل الشباب من المفكرين الى معرفتها ومناقشتها.

ثانياً: إن كتاب "الاجتماع الديني الشيعي" كتاب فريد في حد ذاته، يتطرق في فصوله التسعة الى مواضيع، قلما تم التطرق لها بهذا السلوب وهذه المنهجية التي قاربها المؤلف في هذا الكتاب. وبإمكاننا أن ندّعي أنه فريد من نوعه في مجال التأسيس لعلم الاجتماع الديني الشيعي. وقد بذل المؤلف جل اهتمامه للكشف عن ظاهرة الاجتماع الشيعي، الذي احتار الغريب والقريب في كيفية التعامل معها، تارةً لجهلهم بتراثه وحوادثه التاريخية وآرائه، وأخرى لتصورهم الخاطيء بمعرفة هذا المجتمع مستندین الی آراء شاذة وغريبة في تقييمه؛ فكانت ردود الفعل للتعامل مع هذا المجتمع بعيدة عن الواقع المراد.

لقد كشف المؤلف، لمن يريد التعامل مع هذا المجتمع بإنصاف وحكمة، كثيراً من الحقائق عندما‌ تطرق الى الأصول التي يرتكز عليها المجتمع الشيعي، ليس أصوله العقدية وقواعده الفقهية؛  وإنما نوعیة المجتمع الإنساني الذي يؤسَّس على فكر مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ومساراته التاريخية، كاشفاً عن هوية المجتمع ومكوناته، وقواعده النظرية، وتراكماته التاريخية التي يستند اليها النظام الاجتماعي الديني الشيعي.

إن تبيين هيكلية النظام الاجتماعي الديني الشيعي ومساره التاريخي وكيفية تأسيس النظام الاجتماعي الديني الشيعي خلال العصور التي أشار اليها؛ يعتبر الإنجاز العصري الرائد، والذي يتطلب منا مطالعة الكتاب بدقة، وتثمين جهد المؤلف.

وبمراجعة فصول هذا الكتاب؛ يكتشف الإنسان سر بقاء هذا النظام الاجتماعي، مع كل ما عاناه من اضطهاد وطرد ومحاصرة، في مختلف المجالات الفكرية والاقتصادية والسياسية، والاجتماعية بمعناها العام، من قبل نظام السلطة على مختلف العصور، وذلك لتمسكه بأسس وضوابط عقلانية وحكيمة، لا يمكن لليد الغيبية أن لا تكون دخيلة في تأسيسها واستمرارها.

ثالثاً: إن الهدف المهم المبتغى من هذه المؤتمرات والاجتماعات والندوات الافتراضية وغيرها، هو النتائج التي تتوصل اليها، ومحاولة استثمار هذه النتائج على مستوى التطبيق، في الواقع الذي نعيشه.

لذلك؛ أرى أن كتاب "الاجتماع الديني الشيعي" لایجوز حصره باحتفالية تکریمیة أو بالدعوة الى مطالعته أو التصفيق لمؤلفه، بل ينبغي أن يكون هذه منهجاً دراسية، يدرس في أكاديمياتنا العربية والإسلامية، وكذلك دعوة نخب الثقافات الأخرى لدراسة هذا النتاج الفكري بإمعان، من أجل الوصول الى مجتمع إنساني، يكمل بعضه بعضاً، والى تحقيق أمنية تحلم بها البشرية على مدى التاريخ، ودعت اليها رسالات السماء، وكذا المصلحون على الدوام، ألى وهو نشر العدل والسلام والأمن في المجتمع الإنساني، والابتعاد عن الحروب الفتاكة التي تذهب ضحيتها البشر، ويُهجرون، وتهدم مدنهم، وتهدر أموالهم.

أعتقد أن بإمكان كتاب "الاجتماع الديني الشيعي" أن يرسم خارطة طريق للمجتمعات الأخرى أيضاً، ولأصحاب الفكر والمصلحين من الثقافات المتنوعة، والتي لها كثافة سكانية وتأثير في عالمنا المعاصر، فتقوم هذه النخب الفكرية بتقديم دراسات موضوعية عن مجتمعاتها، للكشف عن صورة متكاملة عنها، والأسس الفكرية والتاريخية والثقافية القائمة عليها، ومن ثم تقوم مراكز الدراسات الفكرية والأكاديمية، بالكشف عن المشتركات فيما بين هذه المجتمعات، وقراءة الحلول المقترحة، لرفع الخلل في التعامل مع كل مجتمع، من أجل وضع الواقع الاجتماعي العام في مساره الطبيعي كما فعل الدكتور المؤمن في كتابه "الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التاسيس ومتغيرات الواقع".

دون شك؛ ستكون نتائج هذه الدراسات مناراً‌ لإضاءة طريق البشرية، من أجل التمهيد لعصر يسوده العدل والأمان، بعد محاولات سلطوية عنيفة فرقت المجتمعات البشرية على مدى العصور السالفة.

ختاماً؛ أرجو أن يستمر المفكر الدكتور علي المؤمن، بالقوة والعمق نفسيهما، برفد المكتبة الحضارية في مجتمعنا الانساني بأفكاره الإنسانية البناءة.

***

د. الشيخ محمد مهدي التسخيري

(نائب رئیس جامعة الأديان والمذاهب، ج. إ. إيران) 

في المثقف اليوم