قراءة في كتاب

عبد الملك مرتاض وكتابه: في نظـريّة النّقد

تتركز فعالية الناقد الدكتور عبد الملك مرتاض على محاور متعددة، وهذا ما يدل على مدى عمق وثراء ثقافته ومعرفته، وتنظيراته النقدية، فالدكتور عبد الملك مرتاض يتميز بالموسوعية في الإنتاج والنأي عن التخصص الدقيق، وقد لعب دوراً حاسماً في تألق الأدب والفكر الجزائري، وازدهار المعرفة الأدبية، ولذلك فهو  يشكل امتداداً لجيل من الرواد الكبار من بُناة النهضة الفكرية، والأدبية، والثقافية، وكما يرى الأديب كمال الرياحي فعبد الملك مرتاض من الأسماء القليلة التي يمكن أن نسمّيها بـ«الكائنات الأوركستراليّة» والتي تعزف على أوتار مختلفة، فهو الناقد والروائي والباحث في الإسلاميات وفي التراث.

والمتابع لمنجزات وجهود العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض في المرحلة الأخيرة، يُلاحظ أنه يسعى إلى التنظير لمجموعة من القضايا الأدبية والفكرية، فهو يكشف عبر كتاباته المتنوعة عن رغبته الدائمة في التنظير إلى الكثير من القضايا الأدبية والمعرفية التي شغلت اهتمامه، حيث أصدر مؤخراً مجموعة من الأبحاث والمؤلفات التي قدم من خلالها مجموعة من الرؤى والأفكار الجادة والعميقة، نذكر من بينها:«في نظرية الرواية»،  ، و«نظرية القراءة»، و«نظرية النص الأدبي»، و«قضايا الشعريات»، و«نظرية البلاغة»، و« الكتابة من موقع العدم»، و«قراءة النّص: بين محدوديّة الاِستعمال ولا نهائيّة التأويل».

ويندرج كتابه الموسوم ب:«في نظريّة النّقد»في هذا الإطار، فقد قدم من خلاله متابعة شاملة لأهم المدارس النقدية المعاصرة، وتوقف مع نظرياتها بالتحليل والنقاش والمساءلة العلمية الجادة.

قسم الدكتور عبد الملك مرتاض كتابه إلى ثمانية فصول، بعد مقدمة مطولة ناقش فيها جملة من المفاهيم التي تتصل بالقراءة والكتابة والنقد، ورسم من خلالها صورة واضحة لمجموعة من الإشكاليات المعرفية الشائكة، حيث ذكر أن الكتابة واجب، وإن كانت حرية كما يقول رولان بارث فهي أيضاً واجب محتوم على الكاتب أن يؤديه للمجتمع ولا يستطيع الإفلات من فعله، إذ لا يسعه إلا أن يكتب، وأن يقول شيئاً.

وقد أشار الدكتور مرتاض إلى منظور جان بول سارتر الذي قدمه في كتابه:«ما الأدب؟»، ورأى أنه على الرّغم من الأسئلة الكثيرة التي طرحها  عن الكتابة، أو عليها، قُبَيل منتصف القرن العشرين، واجتهد في أن يجيب عن بعضها في كتابه «ما الأدب؟»؛ إلاّ أنّه لم يُجِب عنها، في الحقيقة، إلاّ بطريقته الخاصّة، وإلاّ حسَب مذهبه الوجوديّ في التّفكير، ووفق رؤيته إلى الحياة؛ ممّا قد يجعل من حقّ كلّ كاتب مفكّر أن يثير الأسئلة الخالصة له؛ ثم يجتهد في الإجابة عنها بطريقته الخاصّة.

انصب الفصل الأول من الكتاب، والمعنون ب« النّقد والنّقّاد: الماهيّة والمفهوم» على رصد مفاهيم ومدلولات النقد في الثقافتين العربية والغربية، ففي الثقافة الغربية كان مفهوم النقد يقترب من مفهوم نظرية الأدب وربما كان مفهومُ النّقد يلتبس بمفهوم نظريّة الأدب حيث كانوا يَصرِفونه، في وظيفته، إلى تعريف الشّعر، ووصْف الأدب، ويذكر الدكتور عبد الملك مرتاض أن  لفظ النّقد في الغرب نشأ زُهاءَ عام ثمانين وخمسِمائةٍ وألْفٍ للميلاد. ويبدو أنّ أوّل من اصطنع مصطلح «النّاقد» (Le Criti¬que) هناك، في صيغة المذكّر، صارفاً إيّاه بذلك إلى من يمارس ثقافة النّقد، أو «النقد» (La critique)، في صيغة المؤنّث، كان سكالينيي (Scaligner). وقد كان يصرف معناه إلى نحو ما يعني في التّأْثيل الإغريقيّ «فنّ الحُكْم»، وانطلاقاً من هذا المفهوم التّأثيليّ، فإنّ النّقد قام على وظيفة تُشبه الوظيفة القضائيّة لدى القاضي بحيث لا مناصَ لصاحبه من إصدار الأحكام، ومحاولة التّدقيق في الأوصاف لدى إصدار هذه الأحكام، وقد تطور النقد الأدبي مع تطور الثقافة النقدية في الغرب ، ولاسيما مع ظهور نظريّات الشّكلانيّة الرّوسيّة إبّان الحرب العالميّة الأولى (التي تولّد عنها في فرنسا ما يمكن أن نطلق عليه «الشّكلانيّة الجديدة» بعد منتصف القرن العشرين)، حيث أشاروا إلى مفاهيم أدبية الأدب لأنّ موضوعه هو دراسة الأدب؛ واغتدى أدبيّاً أيضاً لأنّ خطابه في حدّ ذاته جزءٌ من الأدب»، وقد تأثر الكثير من النقاد الفرنسيين بهذا المذهب.

افتتح الدكتور عبد الملك مرتاض الفصل الثاني من الكتاب الذي عنونه ب «النّقد: والماهيّة المستحيلة» بالتساؤل ما النقد؟ وقد أثار في هذا الفصل جملة من القضايا الفكرية المتميزة التي ترتبط بفلسفة النقد، وتوقف في إجابته على هذا السؤال مع الفرق بين النقد النظري والنقد التطبيقي، فذكر في إجابته أن  النّقد النّظريّ ضروريّ لازدهار الحقل المعرفيّ لهذا الموضوع من حيث هو ذو طبيعة تأسيسيّةٍ وتأْصيليّة معاً. ولعلّه ببعض ذلك يشبه العلوم التّأسيسيّة (Sciences fon¬damentales) بالقياس إلى العلوم التّطبيقيّة (Sciences appliquées) في تجاوُر حقليْهما من وجهة، وفي تشابُه طبيعة هذين الحقلين الاِثنين من وجهة ثانية، وفي تظاهُرهما على تطوير كلّ منهما لحقل صِنوه من وجهة أخرى. إذ لولا التّأسيسُ لما كان التّطبيق. ولو لم يكن إجراء التّطبيق في العلوم بعامّة لَمَا أفضت نظريّات العلماء المجرّدة إلاّ إلى نتائجَ محدودة. فهذه الحضارة الإنسانيّة العظيمة التي ننعَم اليوم برخائها وازدهارها ليست إلاّ ثمرة من ثمرات تضافر العلوم التّأسيسيّة مع العلوم التّطبيقيّة، فهو يبحث في أصول النّظريّات، وفي جذور المعرفيّات، وفي الخلفيّات الفلسفيّة لكلّ نظريّة وكيف نشأت وتطوّرت حتّى خبَتْ جذوتُها، ثمّ كيف ازدهرت وأفَلَتْ حتّى هان شأنها؛ ويقارِن فيما بينها، ويناقش تيّاراتها المختلفة، عبر العصور المتباعدة المتلاحقة معاً، أو عبر عصر واحد من العصور. وسواء علينا أ دُرِسَتْ مثلُ هذه المسائلِ تحت عنوان «نظريّة الأدب»، أم «نظريّة الأجناس»، أم «الأدب المقارن»، أم تحت أيّ عنوان آخر مثل «نظريّة الكتابة»: فإنّ الإطار الحقيقيَّ كأنّه يظلّ هو النّقدَ العامَّ.

في حين أنّ النّقد التّطبيقيّ إنّما يكون ثمرةً من ثمرات النّقد النّظريّ الذي يمدّه بالأصول والمعايير والإجراءات والأدوات، ويؤسّس له الأسُس المنهجيّة، ويبيّن له الخلفيّات الفلسفيّة، التي يمكن أن يتّخذ منها سبيلاً يسلُكها لدى التّأسيس لقضيّة نقديّة، أو لدى دراسة نصّ أدبيّ، أو تشريحه، أو التّعليق عليه، أو تأويله، معاً، و غاية النّقد في الحاليْن  تظلّ هي السّعيَ إلى اِهتداءِ السّبيلِ إلى حقيقة النّصّ.

في الفصل الثالث من الكتاب تابع الدكتور عبد الملك مرتاض مناقشته لمختلف قضايا النقد الأدبي، وتحدث عن« النقد والخلفيات الفلسفية»، ومن أبرز الأسئلة التي طرحها في هذا الفصل: هل للفلسفة من «الكفاءة الأدبيّة»  ما يرقَى بها إلى تحليل الظّاهرة الأدبيّة تحليلاً «أدبيّاً» حقيقيّاً بعيداً عن تمحّلات الفلسفة؟

وعالج  في الفصل الرابع من الكتاب موضوع:«النقد الاجتماعي في ضوء النزعة الماركسية»، وتطرق إلى المبادئ الرئيسة التي بُني عليها النقد الاجتماعي، حيث يرى تين أن النقد يقوم على المؤثرات الثلاثة:العرق والزمان والبيئة، أما الماركسية فهي تقيم النقد على ضرورة ذوبان الفرد في المجتمع ، فالماركسيّةَ لا ترى أنّ حياة الكاتب في حدّ ذاتها هي التي تستطيع إفادتَنا بشيء،

ضم الفصل الخامس من الكتاب دراسة موسعة عن:«النقد والتحليل النفسي»، وقد اشتملت دراسة الدكتور مرتاض على مجموعة من التحاليل الدقيقة والرؤى المتميزة، ومن أبرز القضايا التي ناقشها المؤلف في هذا الفصل علاقة التحليل النفسي بالنقد الجديد.

وفي الفصل السادس من الكتاب ركز المؤلف على«علاقة النقد باللغة واللسانيات»، و ناقش  إشكالية الكتابة الأدبيّة بين اللّغة واللّسان، وأكد في مناقشته لهذه القضية الشائكة على أن كلّ أدب محكوم عليه بأن ينضويَ تحت لواء لغة ما. فاللّغة (من حيث هي نظامٌ صوتيّ ذو إشارات وعلامات مصطلَحٌ عليها فيما بين مجموعة من النّاس في زمان معيّن، وحيز معين) هي التي، وذلك بحكم طبيعتها الأداتيّة التّبليغيّة،  تحتوي على ما يمكن أن نصطلح عليه في اللّغة العربيّة مقابلاً للمفهوم الغربيّ (Langage littéraire) «اللّغة الأدبيّة».

وبقي أن نقول في الختام إن الجهود التي بذلها أستاذنا العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض في تأليفه لهذا الكتاب جديرة بالاحترام والتقدير، فقد تضمن الكتاب مجموعة من الرؤى والأفكار والتحاليل العميقة التي تتصل بالمدارس النقدية ونظرياتها، وقد اعتمد على مجموعة كبيرة من المصادر والمراجع الثمينة، وقدم من خلاله جهداً كبيراً أسلوباً ولغة ومعرفة، فهو يشتمل على مسح شامل للمدارس النقدية المعاصرة، ويركز بشكل دقيق وعميق على تحليل توجهات نظرياتها، ويمكن أن نصف هذا الكتاب بأنه تحفة نظرية وعملية وموسوعة شاملة رصدت أهم المدارس النقدية، وناقشت نظرياتها، ولا يمكن أن يستغني عنه كل مهتم بنظرية النقد.

***

بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بوفـلاقــــة

كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنابة، الجزائر

 

 

 

 

في المثقف اليوم