قراءة في كتاب

قراءة في كتاب سيد اللعبة - هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط

بنبغي بادى ذي بدء أن نشير بأنه مع اندلاع حرب تشرين الأول (أكتوبر) بين العرب والإسرائيليين في عام 1973، راقب طالب أسترالي الصراع من مزرعة في مستوطنة إسرائيلية بالقرب من غزة بقلق. كل ليلة، كان يستمع إلى إذاعة بي بي سي وإذاعة صوت أمريكا حول الرحلات المكوكية التي كان يقوم بها هنري كيسنجر، كبير الدبلوماسيين الأمريكيين، من موسكو إلى القاهرة والقدس والعودة مرة أخرى في سعيه للتوسط من أجل إيقاف لإطلاق النار (1).

أصبح هذا الشاب الأسترالي، مارتن إنديك، مواطنا أمريكيا وعمل مستشارا للشرق الأوسط لبيل كلينتون، وسفير أمريكا في إسرائيل، ومبعوث باراك أوباما للإسرائيليين والفلسطينيين - مهنة عبثية تركته متشككا في إمكانية فرض الغرباء صفقات كبيرة على الشرق الأوسط، وعلى طول الطريق، بدأ إنديك يميل إلى النهج الأكثر تدرجية - رغم أنه أكثر بهرجة - الذي مارسه كيسنجر في السبعينيات. والنتيجة هي هذه الرواية الرائعة المكونة من 570 صفحة لواحدة من أكثر السجلات الدبلوماسية إثارة في التاريخ الحديث (2).

وعنوان هذه الرائعة التي بين أيدينا "سيّد اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط" Master of the Game: Henry Kissinger and the Art of Middle East Diplomacy (688 صفحة) وهو للمؤلف مارتن إنديك المهاجر اليهودى الأسترالى إلى الولايات المتحدة، والقائد لجماعة الضغط اليهودية فى واشنطن «آيباك»، ثم الدبلوماسى الذى بات سفيرا للولايات المتحدة فى إسرائيل خلال إدارة بيل كلينتون، ومساعد وزير الخارجية فى عهده، ثم مؤسس مركز سابان لدراسات الشرق الأوسط فى مؤسسة بروكينجز، وممثل إدارة أوباما فى دبلوماسية الشرق الأوسط، كما تمثل لنا هذه الرائعة اسردًا رائعًا لكيفية إتقان الدبلوماسية الشخصية أن يحيد عن مهمة الدبلوماسي الحقيقية المتمثلة في إحقاق السلام (3).

كذلك في هذا الكتاب يقص علينا المؤلف مارتن إنديك تاريخًا منسوجًا جيدًا، والكتاب بكل هذا الشمول بين المؤلف والموضوع يستحق القراءة ليس فقط لما ورد فيه من معلومات، وربما الأهم تأملات وتفاسير، وإنما أيضا لما هو غائب عنه؛ والأهم كيف يفيدنا الآن. الكتاب بالضرورة يدور حول الولايات المتحدة وسياستها فى الشرق الأوسط، وبالتحديد إزاء الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال شخصية تقوم بدور البطل أو «السيد» الذى أدار التعامل مع الصراع بمهارة كما لو كان «لعبة» فيها الكثير من الذكاء والحنكة (4).

وبعد صدور الكتاب، قالت تقارير إخبارية أن كيسنجر لم يرض عن أجزاء من الكتاب وصفته بأنه «متلاعب»، خاصة في تعامله مع الدول العربية خلال «دبلوماسيته المكوكية» في أعقاب حرب عام 1973 بين إسرائيل والعرب (5).

لكن عنوان الكتاب «سيد اللعبة» يوضح أن إنديك بذل قصارى جهده لتمجيد كيسنجر، وهذه بعض فصول الكتاب: الاستراتيجية. تحقيق السيطرة. أزمة الأردن. جحيم غولدا مائير. هنري العرب. فك ارتباط سيناء. اختراق. الخطوة التي لم يتم اتخاذها. إعادة التقييم (6).

وقد صار واضحا من عناوين هذه الفصول أن الكتاب سرد سياسات وإنجازات كيسنجر في الشرق الأوسط، والتي يبدو أنها كانت الرائد لسياسات إنديك وإنجازاته عندما لعب دورًا رئيسيًا في سياسات وإنجازات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعد نحو 20 عامًا منذ أن ترك كيسنجر العمل الحكومي (7).

والغريب أن كتاب إنديك ليس دفاعا عن كيسنجر فيما أجراه من دبلوماسية كانت جزءا أساسيا من عالم الحرب الباردة، ولا أكاديميا فى مدى ومعنى تطبيقه لنظريات توازن القوى والردع؛ وإنما يبدو الغرض الأساسي من الكتاب هو الدفاع عن الرجل فى مواجهة المجتمع اليهودى في الولايات المتحدة الذى يرى أن كيسنجر حرم إسرائيل من السلاح، وأنه ضغط عليها للانسحاب من أرض تستحقها، وتوقيع اتفاقيات لا تريد التوقيع عليها، وفوق ذلك فإنه علق سلبا على يهود وردت أسماؤهم في تسجيلات فضيحة ووترجيت (8).

والكتاب الذى اعتمد على السجلات الأمريكية التى وضع فيها كيسنجر كل وثائقه، وعلى ١٢ مقابلة جرت بينما كيسنجر يقترب من عامه ٩٨. وخلاصة الكتاب هى أن كيسنجر لم يكن مهتما بتحقيق السلام في الشرق الأوسط، وإنما الهدف كان إقامة نظام شرق أوسطى مستقر تهيمن عليه الولايات المتحدة، وقائم على قدرة إسرائيل على ردع الدول العربية مع إعطائها الوقت الكافي لكى تتغلب على هشاشة تكوينها (9).

وفي الكتاب، يحدد إنديك الفترة التي سبقت حرب أكتوبر 1973، وردات فعل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ومهمة كيسنجر التي استمرت نحو عامين بين القدس والقاهرة ودمشق. ويؤكد إنديك ما هو معروف على نطاق واسع: في حين لم يمنح كيسنجر مصر صراحة الضوء الأخضر لمهاجمة سيناء التي تحتلها إسرائيل، إلا أنه مسرور بالنتيجة. أتاحت الحرب وعواقبها للولايات المتحدة فرصة لإخراج مصر من المدار السوفياتي، حتى لو كان على إسرائيل أن تدفع الثمن (10).

وقد استخدم الكاتب أسلوباً في كتابة الكتاب يتحدث فيه عن مهمة دبلوماسية لكيسنجر في الشرق الأوسط، تليها حلقة أخيرة في المفاوضات المعاصرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ثم يقارن بين هذين الحدثين في تاريخ العلاقات الخارجية للولايات المتحدة في الصراع العربي الإسرائيلي، مقسماً الكتاب إلى خمسة أقسام ولكل قسم عدة فصول يبلغ مجموعها 17 فصلاً، و672 صفحة، نشر برعاية مجلس العلاقات الخارجية ومقره نيويورك، ودار النشر «ألفريد أ. كنوبف»، في خريف عام 2021 (11).

كذلك في الكتاب، يحاول الكاتب أن يراعي حرب عام 1973 بين العرب وإسرائيل حتى نهايتها، وردات فعل الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ومهمة كيسنجر التي استمرت نحو عامين بين القدس والقاهرة ودمشق. ويؤكد إنديك ما هو معروف على نطاق واسع: في حين لم يمنح كيسنجر مصر صراحة الضوء الأخضر لمهاجمة سيناء التي تحتلها إسرائيل، إلا أنه مسرور بالنتيجة. أتاحت الحرب وعواقبها للولايات المتحدة فرصة لإخراج مصر من المدار السوفياتي، حتى لو كان على إسرائيل أن تدفع الثمن (12).

ثم يستكشف إنديك أيضًا التجاذبات المتنافسة في ما يتعلق بالولاء والدين والعرق. قال الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون للسفير السوفياتي أناتولي دوبرينين إن كيسنجر كان ميالاً إلى "الانغماس في المشاعر القومية الإسرائيلية". من ناحية أخرى، صرخ المتظاهرون الإسرائيليون خارج فندق كيسنجر ذات مرة: "يا صبي يا يهودي عد إلى المنزل". أثار تعديل جاكسون-فانيك، الذي ربط الوضع التجاري المفضل لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية بأدائه في الهجرة، غضب كيسنجر (13).

وهنا يحق للقارئ التساؤل، لماذا هذه «الهالة» التي تحيط بالوزير كيسنجر ولا يزال يتردد صداها إلى يومنا هذا؟ ولماذا لم تنتهِ في حقبة السبعينات من القرن الماضي؟ للإجابة عن هذه «التساؤلات المشروعة»، كتب مارتن إنديك السفير الأميركي السابق في إسرائيل، ومساعد وزير الخارجية للرئيس بيل كلينتون لشؤون الشرق الأدنى، ومبعوث الرئيس باراك أوباما للمفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، كتاباً بعنوان: «سيد اللعبة، هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط»، يسرد في كتابه قصصاً عن مشاركة الدكتور هنري كيسنجر في دبلوماسية السلام في الشرق الأوسط، بصفته مستشاراً للأمن القومي للرئيس ريتشارد نيكسون، ووزيراً للخارجية أيضاً، والذي ظل في منصبه كذلك في عهد الرئيس جيرالد فورد كوزير خارجيته (14).

وسلط الكاتب الضوء على بعض الصعوبات التي واجهها كيسنجر في التعامل مع الرئيس نيكسون، كاشفاً أن حقيقة كون كيسنجر يهودياً أعاقت رغبته رئيس للولايات المتحدة في تحسين علاقات أميركا مع الدول العربية، إذ يشير إنديك أيضاً إلى معاداة نيكسون للسامية وكيف أنه غالباً ما كان يضايق كيسنجر بشأن يهوديته في محادثاتهما الخاصة، ومع ذلك، فقد شارك الاثنان في رغبة قوية في الحفاظ على مواجهة الاتحاد السوفياتي، باعتباره توجهاً أساسياً في العلاقات الخارجية لأميركا (15).

كذلك يروي المؤلف في هذا الكتاب  كيف أن العلاقة بين هنري كيسنجر ورئيس الوزراء الإسرائيلي غولدا مائير لم تكن سهلة أيضاً، أولاً، في ربيع عام 1969 انتزع كيسنجر من مائير تعهداً بعدم الكشف علناً عن مدى تقدم البرنامج النووي الإسرائيلي، ورفض خيار حكومة الولايات المتحدة بعدم إرسال «طائرات فانتوم» العسكرية لإسرائيل، مقابل الاحتفاظ بمعلومات سرية حول أنشطتها النووية. وذلك لأن نيكسون وكيسنجر خشيا من أن السوفيات سيساعدون العرب في الحصول على قدرات نووية، وذلك لو أصدرت إسرائيل مثل هذا الإعلان. ثانياً، كرهت غولدا مائير توصيف كيسنجر لضحايا حرب إسرائيل في عام 1973، على أنه شيء مشابه لخسارة الأميركيين في الأرواح في حرب فيتنام، إذ شعرت أن ذلك كان محبطاً لإسرائيل. وأخيراً، كانت رئيس الوزراء الإسرائيلية قلقة للغاية من رغبة كيسنجر في إطالة أمد الحرب في أكتوبر 1973، لأن هذا قد يعني دخول السوفيات إلى الحرب جنباً إلى جنب مع السوريين والمصريين (16).

وهنا يجادل الكاتب، بأنه في 14 أكتوبر 1973، كتب كيسنجر رسالة إلى الملك فيصل يخبره فيها أن قرار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بإنشاء قناة جوية تزود إسرائيل بالأسلحة، كان رداً على تسليح السوفيات للقوات العسكرية لمصر وسوريا، وقال وزير الداخلية آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز، لكيسنجر إن الملك فيصل بن عبد العزيز لم يعجب من مراسلات كيسنجر، لأنه صوّر السعودية وكأنها تقف مع دعم أميركا لإسرائيل خلال الحرب، على افتراض أن واشنطن والرياض كانا في تحالف مناهض للشيوعية، وبالطبع، لم يكن هذا هو الحال (17).

ونتيجة لذلك يقول الكاتب، بدأت أصعب المواقف الدبلوماسية في حياة المخضرم هنري كيسنجر، وصناعة السلام في الشرق الأوسط مما دفعه إلى البدء في محاولات لإنهاء تكتل «منظمة أوبك»، والسياسة التي اتبعتها في تسعير النفط المرتفع أثناء وبعد اندلاع حرب أكتوبر، وقال إنديك إن الكثير من المراسلات جرت خلال تلك الفترة بين الملك فيصل بن عبد العزيز ووزير النفط السابق الدكتور أحمد زكي يماني من جهة، وهنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي من جهة أخرى (18).

وأفاد الكاتب في كتابه، بأن دائماً ما كان كيسنجر يناشد الاثنين لإنهاء مقاطعة النفط التي تضر بالاقتصاديات الصناعية للولايات المتحدة، والغرب إلى حد كبير، إلا أنه كانت هناك شروط قاسية على كيسنجر، ولم تجدِ محاولاته بحث منظمة أوبك على إنهاء حظرها النفطي، وفي البداية، كان حل وضع القدس أحد المطالب التي قدمتها «أوبك» لإعادة مستوى إنتاجها إلى ما قبل الحرب، كما كانت هناك مطالب بمنح الفلسطينيين حقوقهم وإجبار إسرائيل على منح الأراضي التي احتلتها (19).

ويشير إنديك إلى أن كيسنجر كان مؤمنا بأن الحفاظ على النظام في الشرق الأوسط يتطلب الحفاظ على توازن قوى مستقر، وأن هذه الفكرة جاءت في أطروحته للدكتوراة، والتى نشرت بعد ذلك في كتاب بعنوان «عالم مستعاد»، شرح فيه كيف أنتج الدبلوماسى النمساوى كليمنس فون مترنيخ ورجل الدولة الأنجلو- أيرلندى اللورد كاسلريه مائة عام من الاستقرار النسبى في أوروبا من خلال الاعتناء ببراعة بتوازن القوى، والتلاعب بمهارة بأولئك الذين حاولوا تعطيله، وأن كيسنجر قد استنتج أيضًا أن أفكار الرئيس ويلسون لتحقيق السلام ولإنهاء جميع الحروب بعد الحرب العالمية الأولى، أدت بدلاً من ذلك إلى صعود هتلر ثم غزوه لأوروبا (20).

وقد سعى كيسنجر لتطبيق هذا النهج في الشرق الأوسط، من خلال إنشاء نظام تلتزم فيه مجموعة من الدول بقواعد تستهدف تحقيق الاستقرار والابتعاد عن الفوضى، وليس بالضرورة تحقيق السلام الشامل. وفقا لكيسنجر هذا النظام لا يتطلب إرضاء جميع المظالم، ولكن «مجرد غياب المظالم التي من شأنها أن تحفز على محاولة قلب النظام»، وأن الهدف من النظام ليس القضاء على الصراع، ولكن الحد من نطاقه، أو، كما ذكر كيسنجر لإنديك بعد عقود: «لم أفكر أبدًا أنه يمكن أن تكون هناك لحظة مصالحة شاملة» (21).

والكتاب به معلومات كبيرة وكثيرة لا حصر لها وأكتف هنا بهذا القدر، وفي النهاية أقول أن هذا الكتاب سياحة عقلية لكل المستجدات والأحداث التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط منذ عام 1973 وما بعدها وأهم الأدوار التي لعبها هنري كيسنجر .. عراب السياسة الأمريكية في تلك الفترة.

***

أ. د. محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط.

..........................

المراجع:

1- إدوارد لوس: هنري كيسنجر .. لعبة التوازن المحفوفة بالمخاطر في الشرق الأوسط  الجمعة 10 ديسمبر 2021.

2- المرجع نفسه.

3-عبد المنعم سعيد: ملك لعبة الدبلوماسية: هنرى كيسنجرـ المصري اليوم، الثلاثاء 09-11-2021 01:40

4- المرجع نفسه.

5- معاذ العمري : مارتن إنديك يرصد في كتابه كيف تعامل وزير الخارجية الأميركي السابق مع الصراع في الشرق الأوسط، الأهرامـ، منشور يوم الجمعة - 28 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 03 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15711].

6- أحمد مصطفى جابر: سيد اللعبة أم سيد الحرب؟ هل تآمر هنري كيسنجر على "إسرائيل"، بوابة الهدف، الجمعة 21 يناير 2022 | 09:55 م

7- سمير مرقص: سيد اللعبة، مثال منشور يوم السبت 1 من ربيع الثاني 1443 هــ 6 نوفمبر 2021 السنة 146 العدد 49278

5- محمد كمال : عودة كيسنجر، مقال منشور يوم الاثنين 18-10-2021 01:17

8- إدوارد لوس: هنري كيسنجر .. لعبة التوازن المحفوفة بالمخاطر في الشرق الأوسط  الجمعة 10 ديسمبر 2021.

(9) Martin Sean Indy: Master of the Game: Henry Kissinger and the Art of Middle East Diplomacy, U.S.A, 1988,P.12.

(10) OP,Cit, P.23.

(11) OP,Cit, P.123.

(12) OP,Cit, P.167.

(13) OP,Cit, P232.

(14) OP,Cit, P.324.

(15) OP,Cit, P.398.

(16) OP,Cit, P.433.

(17) OP,Cit, P.553.

(18) OP,Cit, P.576.

(19) OP,Cit, P.598.

(20) OP,Cit, P.601.

(21) OP,Cit, P.644. 

في المثقف اليوم