قراءة في كتاب

قراءة في "ذكريات في تقاطع الألوان" للكاتبة ناهد زعبي

نجوى غنيمتسعى القراءة إلى التعريف بكتاب ذكريات في تقاطع الألوان، تحديد النوع الأدبيّ، دلالة العنوان، وتبرز أنّ سيرة ناهد الذاتيّة صيغت كلوحات سرديّة استعانت فيها بالألوان، وهي ذكريات تتجلى في أكثر من حيّز.

تُظهر القراءة أنّ للمكان في سيرة الكاتبة خصوصيّة، فهو البطل الأساسيّ رغم تعدّد الأمكنة. يحمل المكان الكثير من المعاني الوطنيّة والرسائل السياسيّة، وسأشير إلى بعض التقنيات الفنيّة والأسلوبيّة التي اتبعتها الكاتبة.

ذكريات في تقاطع الألوان سيرة ذاتيّة:

ينتمي كتاب ذكريات في تقاطع الألوان إلى أدب السيرة الذاتيّة، والسيرة الذاتيّة نثر استعادي يحكي فيه شخص حقيقيّ عن حياته الفعليّة بصورة تستهدف إبراز حياته الفرديّة وتاريخ شخصيته بشكل خاص، ومن مضمرات هذا التعاقد السير ذاتي أنّ الكاتب سيحكي للقارئ ما حدث بشكل خاص في الواقع دون إدخال أي عنصر من عناصر الايهام والتخيل في العملية السرديّة، وأنّ على القارئ أن يصدق كلّ ما يرويه له الكاتب.[1]

رأى Nadel أنّ كتابة السيرة هي حركة تعبّر عن ارتياح، فهي لحظة بذل جهد لتحرير أنفسنا،[2] ويجب ألّا نغفل أنّ كاتب السيرة يتعدى الحديث عن شخصيته بتحدّثه عن الشخصيات المحيطة، الأحداث، البيئة والواقع، وكلّ ما يمكن أن يكون له علاقة بشخصه ثم إنّه لا يكتب السيرة إلّا في سنوات متقدّمة من عمره، بحيث أنّه يحاول تصويرها بشكل استرجاعيّ، أي بعد اكتمال تجاربه ومداركه.[3]

في الكتاب تحيي ناهد الأحداث وتستعيد مجرياتها، والعنوان ذكريات في تقاطع الألوان يبرز مقروئيّة النصّ، إنّه عنوان يضعنا أمام أفقٍ شاسعٍ للتأويلات، يكشف مقاصده المباشرة وغير المباشرة، فلطالما كان العنوان يعدّ عتبة قرائيّة وعنصرًا من العناصر الموازية التي تسهم في تلقي النصوص وفهمها، وتأويلها داخل فعل قرائيّ شموليّ بفعل العلاقات الكائنة والممكنة بينهما، فالعنوان يولّد معظم دلالات النصّ، فإذا كان النصّ هو المولود، فالعنوان هو المولّد الفعليّ لتشابكات النصّ وأبعاده الفكريّة والأيدولوجيّة.[4]

الكتاب باكورة أعمال الكاتبة، يقع في 100 صفحة من القطع المتوسط، حوى إحدى وعشرين لوحة سرديّة، قام بتدقيق الكتاب لغويًّا الأديب فتحي فوراني، وراجعه الدكتور محمد هيبي، وأمّا صورة الغلاف فهي للفنان عبد عابدي، ضمَّنت الكاتبة في كتابها لوحتين جميلتين لوالدتها السيدة عناية زعبي، الأولى في ص 42، وقد رسمت عام 1947 لسفينة شراعيّة ترسو في ميناء يافا، والثانية في ص 70، رُسِمت أيضًا في يافا، ويظهر فيها وردة مجد الصباح رسمت عام 1946، وجاء الإهداء " إلى ذاكرتكم.. ومن وميض ذاكرتي.. ليكتمل المشهد"، تلاه قول لغسان كنفاني، ومقدّمة وضّحت فيها الكاتبة منهجها وإيمانها بأنّ لتوثيق أحداث الماضي أهمية كبيرة في تاريخنا.

لجأت الكاتبة إلى السيرة الذاتيّة بسبب حنينها إلى الماضي، ورغبتها في تخليد ذكرياتها كلوحات سرديّة حتى لا يطويها النسيان، تسجّل تفاصيل الأحداث الخاصة في حياتها وانطباعاتها عن الأشخاص الذين تعاملت معهم، وسيرتها فيها كثير من الصدق والشفافيّة، هي اعترافات وتأملات شخصيّة وذاتيّة، وصفتها بأنّها لوحة تشكيليّة، ألوانها متمردة لا توحّدها منظومة، ومن خلال هذه الألوان تبادل الماضي والحاضر ذكرى وحنين، عالم الكاتبة مليء بالألوان وبحكايات ترفض الرحيل.[5]

انتقت الكاتبة أحداثًا أثّرت فيها، ولم تتبع تسلسلًا زمنيًّا في لوحاتها،[6] وصفت لوحاتها بأنّها حكايات صغيرة جاءت خطوطها وألوانها وموضوعاتها لكي تروي ذكريات "جمعية بصيغة فرد"، مستعينة بإمكانياتها اللغويّة في استحضار الماضي واستطاعت أن تقدّم مذكراتها بشكل إبداعيّ مستخدمة الألوان بداية من العنوان ذكريات في تقاطع الألوان ووصولًا إلى التفاصيل، تلحّ مواقف معينة على ذاكرتها، وهذه الذكريات تتراءى في أكثر من حيّز مكانيّ، فالمكان يضحي باعثًا قويًّا لاستحضار الذكرى واستقطار الحنين، تحتفي الكاتبة بألوانها فنراها تقسّم الأحداث في لوحات سرديّة جاءت كالتالي:

-" برتقاليّ مائل إلى الأصفر": ترصد فيها إحضار والدها شجرة عيد الميلاد إلى البيت وتزيينها. (ص 21-15)

-"رمليّ مائل إلى البنيّ المائل إلى الأحمر" تكتب فيها عن ذهابها إلى الطيبة بعد الحصول على تصريح من الحاكم العسكريّ. (ص 26-23)

- " أزرق مائل إلى الأسود" تسرد تجربة الحرب سنة 1967 وأثرها على الجميع. (ص 29-27)

-" أبيض مائل إلى الأسود" وتحكي فيه عن تأثير وفاة جمال عبد الناصر على أقاربها ومعارفها ومعلمتها. (ص 33-31)

-" أبيض مائل إلى الأزرق" تتحدّث عن احتفالات عيد الاستقلال في مدرستها. (ص 38-35)

- " بني مائل إلى الأسود" تسرد صمود شعب من خلال ذكريات صندوق جدتها الخشبيّ، النزوح وحمل مفاتيح البيوت، وصول الجد والخالة بصعوبة إلى الناصرة. (ص 41-39)

-"أصفر مائل إلى البنيّ" تحصي فيها ذكريات يافا: البيارة، النواعير والسواقي، وسحر الشفق. (ص 45-43)

-" رمادي مائل إلى الأسود" الذهاب إلى غزة بحثًا عن ابنة خال الأم التي انقطعت أخبارها منذ النكبة وتصوير المكان الذي أرهقته الحرب. (ص 50-47)

- " أحمر مائل إلى الرمادي" تسرد قصة بوابة مندلباوم التي توجهت إليها مع عائلتها في شهر رمضان لتراها الجدّة من الجهة المقابلة، تصدم الكاتبة من المنظر، فالمنطقة مخيفة والأسلاك شائكة، ولم تفتح البوابة، ولم يتمكّن الأب من رؤية والدته. (ص 53-51)

- " أزرق مائل إلى الأبيض" تتحدّث عن لم شمل العائلة النصراويّة في اليونان، حيث توقّف الكلام وكان الدمع سيّد الموقف. (ص 61-59)

-" أحمر مائل إلى النبيذيّ" ذكريات الثوب الفلسطينيّ ألوان خيوطه المتباينة الجميلة التي أعدّتها الجدات والخالات والعمات، فيه خصوصيّة الشكل والرموز والزخارف، وفيه جذور، تاريخ ومسيرة. (ص 65-63)

- " أبيض مائل إلى الأحمر والأصفر والبرتقاليّ والأخضر والأزرق والبنفسجيّ والنيليّ" وهي ألوان قوس قزح التي تتذكّرها ناهد بمجرد رؤية وصية والدتها، تحمل ألوانه أمانيها وأحلامها. (ص 68-67)

- " ألوان خارج حدود النصّ" تسوق فيه ناهد كلّ دلالات الألوان، فقد وصلنا الإرث ليكون شاهدًا على ذلك العصر، وأمّا نحن فامتدادهم، وعلى الابداع أن يستمر ويأخذ مسار المقاومة. (ص 72-71)

- " الأبيض أبيض، أمّا الباقي فألوان" تسرد فيه رحيل والدها ووالدتها". (ص 75-73) ولعلّ الكاتبة انتقت في هذه الصفحات اللون الأبيض لارتباطه عند معظم الشعوب بما فيهم العرب بالطهر والنقاء، وقد استخدمه العرب القدماء في تعبيرات تدلّ على ذلك، فقالوا: كلام أبيض، وقالوا: يد بيضاء، واستخدموه للمدح ونقاء العرض من العيوب، ولارتباطه بالضوء وبياض النهار.[7]

-"أبيض مائل إلى الأزرق والأحمر" تسرد فيه اجتياح البلدة بالدبابات على مدخل مطعم أعدّت فيه عيد ميلاد لابنها، وكيف تمّ انقاذ الموقف وأعادت الأولاد إلى بيوتهم. (ص 82-77)

-"أزرق، أبيض وزهريّ" توثّق مجزرة الحرم الإبراهيميّ الشريف، حيث أٌمطر المصلون بوابل من الرصاص. (ص84-83)

-"أبيض مائل إلى الرماديّ" تأخذنا الكاتبة إلى ما وراء الجدار، إلى مخيم لاجئين توجّهت إليه بقصد تقديم واجب العزاء، وهناك لم تستطع المكوث بسبب الغاز المسيل للدموع فاستأذنت، ولكنّها تستدرك نفسها وقوتها وتستعيد شجاعتها عند رؤية أطفال المخيم يمارسون لعبة كرة القدم رغم صعوبة الموقف وهم ملثمون، تفرح لفوزهم بإحراز الهدف، وبتحديهم للجدار والحصار. (ص 86-85)

-"أخضر مائل للأزرق" تتحدّث عن جدار الفصل بين بيت العم وبيت الجد. (ص 88-87)

-" زيتي مائل إلى الأسود" تسرد كيف تمّ إيقافها عند الحاجز، محاولتها لإثبات مكان سكناها، رفض الجندي لطلبها وتهديدها بالسلاح، ومع ازدياد المطر في تلك الليلة واتشاح الليل بالسواد تراجعت ولم تصمد في المواجهة، فالموقف أكبر منها ولم تتمكّن من الوصول إلى بيتها. (93-89)

-"عينان سوداوان وشعر جعديّ" تحدّثت فيه عن أم عبدو: حكاياتها وقصصها الخياليّة، طعامها وشرابها، بيتها السحريّ الذي اجتمعت فيه أسرار الماضي والحاضر. لقد كانت أم عبدو بمثابة جدّتها، شاركتهم الأفراح والأتراح، مهرت في الطب الشعبيّ وعالم الأعشاب، تسرد حكاية نزوحها وانقطاع تواصلها مع إخوتها وأخواتها، مصادرة أراضي والدها، وخروج زوجها من البيت وعدم عودته، ولحاق ابنه عبد الكريم به وعدم عودته أيضًا، وبحثها عنه دون فائدة. (ص 100-95)

و" نصّ بلا لون" أشارت إلى أنّه نصّ لم تنته من كتابته، تسرد فيه سيرة حياة جدّها وجدّتها، سيرة عمها الأكبر، وسرد والدها لحكايات الصمود والمقاومة وتوثيق التاريخ شفويًّا. (ص 58-55).

المكان في ذكريات في تقاطع الألوان:

3592 ذكريات في تقاطع الالوانيسهم المكان في تشكيل وعي الإنسان بوجوده، ويطبع فكره وهويته، والمكان في سيرة ناهد الذاتيّة يقدّم على أنّه عنصر سرديّ يتمتّع بخصوصيّة وأهمية، المكان في نصّ الكاتبة يفرض نفسه بطلًا.

تتعدّد الأمكنة في سيرتها الذاتيّة، فمن هذه الأماكن: الناصرة ومبنى المسكوبية الذي أرادت اختراق أسواره ونوافذه المظلمة (ص 23)، أم الفحم، الطيبة حيث تقطن الخالة الحبيبة (ص 24)، يافا البحر، القدس، بحيرة طبريا، بحر حيفا وعكا يافا (ص 35)، شاطئ يافا، المنشية وحي العجمي (43) غزة هاشم (47) محيم خان يونس للّاجئين، قسطل قرية صفورية المهجرة، بوابة مندلباوم، جبال الناصرة المطلة على سهل البطّوف (67) الحاجز الترابيّ (77) الحرم الابراهيميّ الشريف (83) القدس (87) سمخ، مطار اللد والأغوار (99).

نجد أنّ المكان في السيرة الذاتيّة حاضر بقوة، حيث أنّ هذا الحضور يبدأ من العنوان "ذكريات في تقاطع الألوان" الذي يدلّ على مكان حدوثها، المكان لدى ناهد خريطة دون حدود، تربة يتغيّر لونها بتغير المكان، فتحدث نسيجًا ملونًا، كتاب مفتوح وملامح سافرة، إنّه جذور وأحداث، تاريخ ومسيرة وصورة جميلة.

ترى الكاتبة في الثوب الفلسطينيّ حكاية المكان والزمان ورائحة الذاكرة، فهو موروث ثقافيّ تراثيّ، لبسته فتاة في الجليل، في المثلث، في الساحل، في النقب، في جنين، في نابلس ورام الله وبيت لحم في غزة وفي الخليل (ص 63).

حضور الأماكن في لوحاتها السرديّة، كان له دور هام في استثارة الحنين، ونبش الذاكرة الفلسطينيَّة، واستخدام أسلوب - النوستالجيا – العودة بالذاكرة إلى الوراء، واستعراض الأحداث التاريخيَّة من خلال وصف بعض الأمكنة الموحية لها بالأحداث، الأمكنة التي وصفتها أعطت انطباعًا عن نشوء علاقة متينة ما بين شخصيَّة الكاتبة، وبين الأماكن والأزمنة.

التقنيات الفنيّة والأسلوبيّة التي تتكئ عليها الكاتبة في نسج خيوط نصّها:

استعانت الكاتبة بذاكرتها التي شكّلت مصدرًا كبيرًا وثراء عميقًا، وظّفت ناهد الألوان في العناوين، وقد انعكست دلالات الألوان على موضوعها العام، هذا الانعكاس تفسّره العلاقة القائمة بين النصّ والعنوان، إنّ وجود الألوان داخل السيرة يرتبط منذ البداية بهاجس الكاتبة في محاولة خلق إيهام بالواقعيّة، فتُدرج الأشياء وتقوم بتلوينها لتحفيز ذاكرة القارئ ودفعها للتواصل مع العناصر النصيّة مما أضاف بعدًا جماليًّا.

استخدام اللون في مذكراتها ساهم في ترسيخ أجزاء الصورة، وارتبط بشكل كبير ببيئة وتراث الكاتبة والأحداث السياسيّة التي عاشتها، وألوانها تتغيّر بفعل التجارب الخاصة والأحداث العامة،" فحنين قلبها عند يافا قد رسا في يوم كان الغروب فيه على غير عادته، لا ينتظر شروقًا، والشفق أصفر مائل إلى البنيّ" (ص 45) " ونحلم.. ويعود الغائب على جسر.. ألوانه الأسود والأخضر والأبيض والأحمر.. وللحلم بقية." (ص 82)

كُتبت السيرة بضمير المتكلم، "وأنا أدور في كلّ البيت لأراها من كلّ زاوية" ص 18، وتأتي أهمية استخدام ضمير المتكلم في أنّه يحيل على الذات مباشرة، يقرّب المتلقيّ من العمل السرديّ، استخدامه سمح للكاتبة بأن تصوّر انفعالاتها وتنقل انطباعاتها بطريقة مباشرة، فهي ليست مجرد راوية له، ومن ثمّ فهي أمينة على مصداقيّة الأحداث، فضمير المتكلم هو ضمير له قدرة على التذكر والاسترجاع الذاتيّ للكاتبة؛ فمن خلاله تسرد وهي واقعة في زمن حاضر، ما مرّ بها من تجارب وأحداث وشخصيات في زمن مضى.

برزت الكاتبة في بعض اللوحات من موقع المراقب" دخل على الركع السجد.. أمطرهم بوابل من رصاص حقد أسود" (ص 83)، وفي بعضها ظهرت في موقف المشارك" وما إن رآني الجندي أمامه حتى رفع سلاحه معلنًا أنّه سيطلق النار عليّ إذا لم أتراجع للخلف" (ص 90).

تألّقت الكاتبة في ذكرياتها باستعمال أسلوب سرديّ جاذب، وتمتّعت بمرونة باستخدام اللغة ما بين الفصحى والعاميّة" فطبعًا أنا أصل الموضوع والشجرة لي، آه هاي إلي!"(ص 17) وربما يعود ذلك إلى حرص الكاتبة على مراعاة العناصر الفنيّة في تكوين عملها الأدبيّ، وفي مقدّمتها الصدق الفنيّ والواقعيّة واستغلال اللغة في تجسيد الأفكار والانفعالات وحرصها أيضًا على إيصال المعاني بصورة مؤثرّة إلى أكبر عدد ممكن من القراء، فاللفظة العاميّة عندها تكتسب وجودًا ونبضًا وحياة، كما حافظت على عفويّتها في اختيار الكلمات والعبارات" فنحن نحتاج لرضى أمي أيضًا، لأنّ عدم رضاها قد يغيّر كلّ الموقف" (ص 17).

اتسمت لغة الكاتبة بالبساطة، فذكرياتها كما تقول تأبى أن تجمّل بالتعابير المجازيّة وفن البلاغة وأدوات اللغة تعجيزيّة الفهم،[8] بل إنّها عمل سرديّ مفعم بالمشاعر الصادقة والأحداث الصادمة بلغة سلسة وبلا إنشاء ولا بحث عن مفردات غرائبيّة مفتعلة، تخاطب الكاتبة القارئ، أو تتحدّث عن نفسها، ولوحاتها توشك أن تكون لقطات تذكاريّة، تشكّل بمجموعها لوحة بانوراميّة تجسّد المشهد برمته.

يبرز التناص[9]في بعض لوحاتها السرديّة، فنجد:

- التناص الدينيّ في "نحن سنديانة جذرها في الأرض وفرعها في السماء" (ص 37)، من الآية الكريمة" ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء."[10]

-التناص الأدبيّ " فكان ينادينا ويشدّ على أيادينا" (ص 37)، يتناص مع قصيدة توفيق زياد.[11]

-"توقّف الزمن هناك وتوقّفت لغة الكلام" (ص 60) يتناص مع قصيدة أحمد شوقي.[12]

استدعت الكاتبة المأثور الشعبيِّ والتاريخيِّ فاستخدمت الرموز الميثولوجيّة التي تدعم رؤيتَها وتعبّر عن مشاعرها ومواقفها تجاه ما يدور حولها " اجتمعت آلهة اليونان والاغريق كلّها معًا.. متمثّلة بزيوس وهيرا وبوسيدون وأثينا وهيرميس" و " نجحت آلهة الاغريق بذاك" (ص 59) " وبحفظ ارتميس وأفروديت، وأبيهم زيوس قبلهم، تمّ اللقاء" و " ونبطل قوى الإله كريتوس والإله أريس" (ص 61).

ظاهرة التكرار تُعدّ من الظواهر البارزة في الكتاب، فالكاتبة من خلال التكرار تحاول تأكيد فكرةٍ ما تسيطر على خيالها وشعورها، أو تؤكد قضايا تريد إيصالها إلى القارئ، والتكرار يختلف باختلاف موقعه وحاجة النصّ إليه.

في اللوحات السرديّة تكرار واضح، من ذلك تكرار أنّ الأديب غسان كنفاني كان من تلاميذ جدّها " ومن أشهر من غسان كنفاني!؟ إنّه أحد تلاميذ مدرسة جدي" (ص 25) " كان من تلاميذ جدي غسان كنفاني" (ص 41).

التكرار أيضًا في اسم الإشارة "هنا" " هنا النسيج الدقيق الذي يفصل بين الحرية والاحتلال، هنا القدر، هنا تختفي القوانين والمواثيق الدوليّة "(ص 90)، هذا التكرار يؤدي وظائف دلاليّة معينة ويقوي المعنى، تكرار ضمير المخاطب "أنت "(ص 88) ولّد تكرار الضمير(أنتِ)- إيقاعاً نغميًّا (تناغميًّا) موقظًا للدلالة، وباعثًا لحراكها الجماليّ، تكرار حرف الجزم لم " لم أستطع" (ص 92)، تكرار حرف العطف أم (ص 36) تكرار ما أجمل (ص17). التكرار في هذه المواضع أفاد في تكثيف الشحنة العاطفيّة وتحقيق التماسك النصيّ.

أسعف أسلوب الاستفهام الاستنكاريّ التعجبيّ الكاتبة في إظهار الحزن على مآل حالها والتعجب من تقلبات الدهر والانتظار، فكأنّها في استفهامها التعجبيّ هذا تشرك غيرها في تأملها، إذ الأصل في الاستفهام أنّه استخبار، فكأنّها تخاطب غيرها أي تأملوا " لم تستطع هذه العائلة الانتظار.. فماذا تنتظر والحنين موجع قاس؟! أتنتظر معاهدة سلام؟! أتنتظر اتفاقيات سياسيّة؟! أم نكبة ونكسة؟! أم تنتظر قدرًا كتب في صحف التاريخ.. قدرًا محتومًا لم تسعفه الدعوات والصلوات التقليديّة؟! (ص 59).

أمّا علامات الحذف والنقط المتتاليّة الدالة على حذف منطوق كلاميّ فهي حاضرة بقوة في لوحاتها السرديّة؛ وذلك من أجل تحقيق التكثيف اللغويّ، والغموض الفنيّ المقصود الذي تعمد إليه الكاتبة عن سبق إصرار وترصد، وربما استعملت الكاتبة تقنية الحذف والإضمار من أجل التواصل مع المتلقيّ، قصد دفعه إلى تشغيل مخيلته وعقله، لملء الفراغات البيضاء، وتأويل ما يمكن تأويله، وتستعين ناهد غالبًا بالإيجاز والحذف لدواع سياسيّة واجتماعيّة وفنيّة. كما أنّ ذكر بعض التفاصيل الزائدة، التي يعرفها القارئ، تجعل من العمل الأدبيّ حشوًا وإطنابًا، "وقفنا.. وصمدنا.. وتعلمنا.. أنجزنا.." (ص )37،" إنّها هي.. نفس النسائم ورذاذ ماء الموج نفسه.." (ص 44).

عمدت الكاتبة إلى استرجاعات محدّدة من مسيرة حياتها، وقد ركّزت عليها، مهتمة بعلاقتها بالعام، لا الخاص، والعام هنا هو اهتماماتها بقضايا الأمة وقضايا وطنها فلسطين، إذ يبدو حضور الموروث بارزًا ومحدّدًا، في مقابل هذا الحضور الكثيف توسلت الكاتبة لغة ولت وجهها شطر الحاضر في حيويّته وديناميته، فقدّمت اللوحات بلغة سرديّة أدبيّة رقيقة.

تستمد الكاتبة موضوعات كتابها مما عايشته شخصيًّا، ومما وصلها من والدها من معلومات، ومن أبحاثها في الذاكرة الحيّة، وهذا ما يعطي العمل والأحداث التي تقدّمها مصداقيّة خاصة، ففي لوحاتها تتحدّث عن والدها الذي شكّل مصدرًا هامًا لمعلوماتها، جدّها الذي كان يعمل مفتشًا للمعارف ومؤسسًا لمدرسة، زوج خالتها الطيباوي المشهور بوطنيته.

وتبقى ذكريات الكاتبة شهادة للتاريخ، إنّها ذاكرة تختزن وتبحث بين خبايا الحنين، يوميات واقعيّة عن حياتها وحياة عائلتها ومعاناتهم، تعبّر من خلال بعض اللوحات السرديّة عن سلسلة من الهزائم السياسيّة التي أثمرت بدورها زمن الانكسار والتشظي، لوحات تصدر عن تجربة حقيقيّة صادقة عابقة بعطر الوطن، إذ لا تكاد لوحة من اللوحات تخلو من نكهة فلسطينيّة.

وستبقى الكتابة عن التاريخ الفلسطينيّ سجلًّا مفتوحًا، لأنّ لكلّ حياة قيمتها، ولكلّ حدث أهميته، وكلّ عمل يُكتب في هذا المجال يسهم في استكمال الصورة عن المرحلة التي مرّت من تاريخ فلسطين بكلّ ألوانه.

***

د. نجوى غنيم

.................

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم.

جميل، حمداوي. السيموطيقا والعنونة، عالم الفكر، الكويت، م25، ع3، 1997

ح.افظ، صبري. رقش الذات لا كتابتها، تحولات الاستراتيجيات النصيّة في السيرة الذاتيّة، ضمن لغة الذات: السير الذاتيّة والشهادات، مجلة ألف، العدد 22، 2002، ص 7-8.

زعبي، ناهد، ذكريات في تقاطع الألوان، الناصرة- بيت لحم، ط1، 2021.

زياد، توفيق. أشدّ على أياديكم، مطبعة الاتحاد، حيفا، 1966.

شوقي، أحمد. ديوان الشوقيات، مؤسسة هنداوي، 2020.

عمر، أحمد مختار. اللغة واللون، القاهرة، عالم الكتب، ط2، 1997.

فهمي، ماهر حسن. السيرة تاريخ وفن، القاهرة، مكتبة النهضة المصريّة، 1970.

مفتاح، محمد. تحليل الخطاب الشعريّ (استراتيجية التناص)، المركز الثقافيّ العربيّ، 1986.

المصادر الأجنبيّة:

Roy Pascal, Desire and truth in autobiography, p, 142-178

Ira Bruce Nadel, Biography: fiction, fact and form, Hong Kong, 1984, p.121

هوامش

[1]  صبري حافظ، رقش الذات لا كتابتها، تحوّلات الاستراتيجيات النصيّة في السيرة الذاتيّة، ضمن لغة الذات: السير الذاتيّة والشهادات، مجلة ألف، العدد 22، 2002، ص 7-8.

[2][2] Ira Bruce Nadel, Biography: fiction, fact and form, Hong Kong, 1984, p.121

[3] Roy Pascal, Desire and truth in autobiography, p, 142-178

أنظر، حمداوي، جميل: السيموطيقا والعنونة، عالم الفكر، الكويت، م25، ع3، 1997، ص 106.[4]

[5] ناهد الزعبي، ذكريات في تقاطع الألوان، تدقيق لغوي: الأديب فتحي فوراني، مراجعة: د. محمد هيبي، الناصرة- بيت لحم، ط1، 2021، المقدّمة، ص 13-14

[6] يعتقد ماهر حسن فهمي أنّ السيرة اعتراف لا يضطره إليه أحد، فالكاتب يقدّم حياته بصورة انتقائيّة أو يقدّم مجملًا لأهم تجارب حياته، أنظر، ماهر حسن فهمي، السيرة تاريخ وفن، القاهرة، مكتبة النهضة المصريّة، 1970، ص 312.

[7] أحمد مختار، عمر، اللغة واللون، القاهرة، عالم الكتب، ط2، 1997، ص 69.

[8] المقدّمة، ص 14.

[9] تناول العديد من النقاد العرب المعاصرين التناص بالدراسة نظريًّا وتطبيقيًّا. ويعتبر الناقد محمد مفتاح أكثرهم عملًا على تطوير وإغناء هذا المفهوم، فقد حاول مفتاح في كتابه "تحليل الخطاب الشعري استراتيجيّة التناص" أن يعرض مفهوم التناص اعتمادًا علي طروحات "کريستيفا وبارت"، وفي تعريفه للتناص عرض تعريفات هؤلاء النقاد ثم خلص إلي تعريف جامع للتناص هو تعالق «الدخول في علاقة» مع نصّ حدث بكيفيات مختلفة، أنظر: محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعريّ (استراتيجية التناص)، المركز الثقافيّ العربيّ، 1986، ص 121

[10] سورة إبراهيم- الآية 24

[11] توفيق زياد، أشدّ على أياديكم، مطبعة الاتحاد، حيفا، 1966، ص 22.

[12] أحمد شوقي، ديوان الشوقيات، مؤسسة هنداوي، 2020، ص 524.

في المثقف اليوم