قراءة في كتاب

أخلاق "نحن" مقابل أخلاق "انا": قراءة في كتاب جديد

حاتم حميد محسنمع مأزق الديمقراطية الليبرالية، والتشويه المتزايد في الخطاب العام، وانهيار حياة العائلة، واتساع استعمال المخدرات وانتشار الكآبة، اصبح العديد من الناس يخشون مما يخبئه المستقبل. في كتاب (الأخلاق: استعادة الصالح العام في أوقات الانقسام) يتعقب الكاتب أسباب أزمات اليوم الى خسارتنا لدليل أخلاقي قوي وعام والى إهتمامنا المفرط في المصلحة الذاتية بدلا من الصالح العام. لقد مارسنا الأخلاق في السوق وفي الدولة، لكن لا أحد منهما كان قادرا على ان يبيّن لنا كيف نعيش. الكاتب يقود القارئ من اليونان القديمة الى التنوير وحتى وقتنا الحالي ليبيّن ان لا وجود لحرية بدون أخلاق ولا حرية بدون مسؤولية، مؤكدا اننا جميعا يجب نشارك في إعادة بناء الأساس الأخلاقي العام.

الكاتب أهدى كتابه هذا الى أحفاده التسعة، لكن مرضه المأساوي جعل هذا الكتاب آخر رسالة لجميع المواطنين القلقين على مستقبل الديمقراطية الليبرالية. كتاب "الاخلاق" نُشر في بريطانيا في شهر ابريل 2020. وفي 7 نوفمبر من نفس السنة توفي الكاتب في لندن عن عمر 72 عاما.

طرح الكاتب فكرته المركزية في مقدمة الكتاب " الحرية المجتمعية لايمكن المحافظة عليها عبر اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية وحدهما. انها تحتاج الى عنصر ثالث وهو: الأخلاق، الإهتمام برفاهية الآخرين، والتزام فعّال بالعدالة وبالتعاطف والرغبة في السؤال ليس فقط عما هو جيد لي وانما عن ما هو جيد لجميع الناس. انها حول "نحن" وليس "انا".

ان قسوة السوق شديدة جدا، وسياسة الديمقراطية الليبرالية تهتم كثيرا بالتطبيق الضيق للسلطة بما يجعل أي منهما غير قادر على معالجة الأنانية والوحدة والكآبة التي أصابت الدول الغربية. هذا كان له تأثير عميق على المجتمع وعلى الطريقة التي يتفاعل بها الافراد مع بعضهم. القيم التقليدية لم تعد تعمل. في هذه البيئة نحن نرى الأشياء تنهار امامنا بطريقة غير متوقعة. الخطاب العام السام جعل من المستحيل تحقيق التقدم المجتمعي الحقيقي، كما ان المجتمع المنقسم وما رافقه من  سياسات الهوية والتطرف، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي المتغلغلة في كل مكان وانهيار العائلة كل ذلك هو نتيجة واحدة لخسارة رأس المال الاجتماعي. هو يحذر من اننا "نواجه تغييرا ثقافيا مساويا للتغيرات المناخية" ونخشى اننا في مرحلة ما، سيكون الضرر لنظامنا الاجتماعي أشبه بتدمير كوكبنا – بحيث يصعب وقفه.

وبينما هو يعترف بأن مختلف المجتمعات لها مختلف القواعد الأخلاقية، لكن الكاتب يضع ايمانه في الأخلاق الانجيلية في الحب – حب الله والجيران والغرباء ويطلب من القارئ بناء روابط الثقة من خلال التعاطف والتضحية.

"لكي نبدأ بعمل الاختلاف، كل ما نحتاج له هو ان نغيّر أنفسنا ونتصرف أخلاقيا ونهتم برفاهية الآخرين. ان نكون محل ثقة الآخرين، نعطي، نتبرع، نستمع، نبتسم، نكون ذوي إحساس وكرماء".

3834 الاخلاقرسالة المؤلف الصارمة لاولئك الذين يمارسون "فردية الليبرالية المتطرفة" انها سوف لن تكون ملائمة: "نحن ليس لنا الحق في الحرية اذا كانت ممارسة ذلك الحق يؤذي حرية الآخرين. حرية الديمقراطية الليبرالية هي جماعية وتعتمد على إعتدال وضبط الذات. المجتمع الذي يتمتع به كل فرد بالحرية في عمل ما يريد هو ليس مجتمعا حرا. انه ليس مجتمع ابدا. انه الفوضى".

في ص 11 من الكتاب يذكر المؤلف ان جميع الدول والثقافات لها ثلاث مؤسسات رئيسية: "الاقتصاد"،الذي هو حول خلق وتوزيع الثروات، وهناك "الدولة" وهي الجهة الخاصة بتشريع وتوزيع السلطة، وهناك "النظام الاخلاقي" الذي هو صوت المجتمع ضمن الذات، او الـ "نحن" ضمن الـ "الانا".

الحاخام جوناثان ساكس حذر من زيادة الأنانية . اهتمامه الطويل في الفلسفة والاقتصاد ونظرية السياسة قاد الى كتاب كان صدى لمؤلفين آخرين مثل كتاب (الدعامة الثالثة) لـ Raghuram Rajan وكتاب (الجمهورية الممزقة) لـ Yuval Levin. يكتب المؤلف:

"ما حدث في نصف القرن الماضي كان بالضبط ما خشي منه دي توكفيل. انه اخذ وقتا طويلا ليظهر، ذلك بسبب قوة المؤسسات التي قامت على اساسها الديمقراطية الامريكية وهي: الدين، الجالية، العائلة، والاحساس بالدولة كجماعة أخلاقية. ومع تأكل هذه المؤسسات منذ الستينات فصاعدا، تُركت الفردية كنظام لوقتنا الحالي .. الـ "انا" طغت على "نحن". نحن لدينا السوق والدولة ، ميدانان للمنافسة، واحد للثروة، الاخر للسلطة، ولكن لا شيء اخر،لا ميدان للتعاون يمكنه ردم الهوة بين الاثرياء والاقوياء من جهة والفقراء وعديمي القوة من جهة اخرى (ص262). الكاتب يرى ان زيادة الحرية الفردية جلبت معها تكاليف وليس فقط الفوائد. 

"نحن أحرار اكثر من أي وقت مضى في ان نرغب ونعيش كما نختار .. نحن نستطيع عمل أي شيء لم يحلم به أسلافنا، ولكن ما وجده اسلافنا بسيطا نحن نجده صعبا جدا. الحصول على الزواج، البقاء متزوجا، ان تكون جزءاً من الجماعة، الاحساس القوي بالهوية، الشعور بالاستمرارية في الماضي قبل ان نولد وبالمستقبل بعد ان لم نعد موجودين. الكثير منا يعيشون لوحدهم، الوحدة تعني زيادة مخاطر الأمراض المزمنة، الخرف،وارتفاع نسبة الوفيات (ص32-33)."

الكاتب يربط زيادة الوحدة هذه بزيادة الاعتماد على كل من السوق والدولة. هو يبدو تقدميا عندما ينتقد الشركات لتركيزها الوحيد على الربح ويهاجم السوق لإنتاجه الكثير من اللامساواة في الثروة. ومن جهة اخرى،هو يبدو يشبه الليبراليين الكلاسيك عندما يتحدث عن حرية الكلام.

"ولكن قاوم أي محاولة لإستبدال السلطة بالحقيقة، وإبق بعيدا عن الناس والحركات والأحزاب التي تشيطن خصومها (ص194)". هو يرى ان الانسان لديه حاجات أعلى من مجرد حاجات مادية. مقارنا التفكير باسلوب تجريبي مع التفكير باسلوب القصة.

"الاول هو جدال منطقي، اما الثاني هو سرد قصصي. كلمة "عندئذ" تعني شيئا ما مختلفا في الحالتين. "اذا X عندئذ Y" هي ليست نفس الارتباط الحاصل مثل "الملك مات عندئذ الملكة ماتت" الاول هو افتراض بلا زمن بينما الثاني هو تحدّد ضمنيا في الوقت ..."

"السرد هو كيف نبني معنى من تدفّق الأحداث،ونضع الحقيقة التي لا تمتلك معيارا بسيطا للاثبات او الدحض،السرد القصصي هو جوهرنا كحيوانات باحثة عن المعنى (ص246)".

ومع اننا لدينا معيار لتقييم البيانات العلمية الجيدة، لكن الكاتب لا يعالج بشكل مباشر قضية كيفية قول قصة جيدة بدلا من اخرى سيئة. اليوم،القليل من الناس في الغرب منجذبون لقصص الاديان التقليدية. لكن بعض هذه القصص هي سيئة جدا. في فصل بعنوان "أي أخلاق؟" يطرح الكاتب السؤال لكنه يتجنب الإجابة عليه.

"لكي نصبح أخلاقيين، علينا ان نلتزم ببعض أخلاق الجماعة وقواعد السلوك. علينا ان نتخلى عن بعض الخيارات، نختار القيود الصحيحة. وكوننا سقطنا في حب مع بعض المبادئ الأخلاقية، علينا ان نبني هيكلا من السلوك حولها حين يأتي وقت يتعثر فيه ذلك الحب(ص274)".

استنتاج

من بين العديد من الأخلاقيات المتوفرة، هناك اخلاق واحدة لنا،ونحن غير مجبرين للتقليل من قيمة الأخلاقيات الاخريات كي نجعل تلك الأخلاق مُلك لنا (ص275).

الكاتب يحثنا للرجوع من "انا" الى "نحن". هو يقول ان هذا يعني الذهاب الى ماوراء العقود الى العهود. نحن نوقع عقودا انطلاقا من المصلحة الذاتية. العقد صفقة اما العهد هو علاقة مبنية على التعاون.

العهود تخلق نوعا مختلفا من العلاقات كليا. يجب ان نتذكر ان ما يجعل العهود مختلفة هي انه في العهود، هناك فردان او اكثر كل واحد منهما يحترم كرامة الآخرـ يدخلان مع بعضهما في رباط من الحب والثقة، لتقاسم المصلحة، احيانا يتقاسمان حتى حياتهما،عبر التعهد بالولاء للآخر، والعمل مجتمعين وبما لا يمكن لأحدهما القيام به لوحده (ص313).

البعض يرى، ان طروحات الكاتب تعاني من عدم القدرة على التمييز بين عالم الجماعة الصغيرة و عالم المجتمع الكبير، الكاتب احيانا يبدو انه يريد من المجتمع الكبير ان تكون له خصائص الجماعة الصغيرة. ان وحدات المجتمع الصغيرة بما فيها العوائل وجماعات العمل الصغيرة ربما تعمل بشكل افضل اذا كانت لارسمية. انت لاتحتاج لإستخدام اسعار السوق لتدير شؤون عائلتك. لا تحتاج لكتابة قوانين رسمية لتدير جماعة عمل صغيرة. العلاقات الشخصية و الفهم الضمني تشكل اساسا جيدا للشركات الصغيرة الحجم . وعندما يزداد حجم الشركات، خاصة لتصبح اكثر من 150 فردا،هنا يجب ان تسمح اللارسمية بقواعد مكتوبة،وأدوار معرّفة جيدا ومسؤوليات ومنافسة في السوق.

ما يركز عليه الكاتب بـ "نحن" ربما يبدو أكثر ملائمة للوحدات الاجتماعية الصغيرة الحجم. ومن جهة اخرى، نحن يجب ان نكون حذرين من تشجيع "نحن" على نطاق واسع. في أغلب الأحيان، اولئك الذين يتحدثون عن "نحن" في سياق المجتمعات الكبيرة ينتهون بتضخم سلطة الحكومة بينما نادرا ما يحققون الغايات التي أعلنوا عنها. اذا كانت هناك عدة قواعد أخلاقية ،كما يرى الكاتب، عندئذ فان الدولة تحتاج للوقوف جانبا وترك الجماعات الصغيرة تختار لنفسها. ان مشاكل الوحدة وفقدان المعنى التي يشخصها الكاتب هي ربما بسبب انهيار العهود على المستوى الصغير. حبذا لو كانت العوائل اكبر واقوى. والجيران لهم استمرارية اكثر. حبذا لو كانت بيئة مدارس الاطفال لارسمية بدلا من  ان تكون بيروقراطية،  والصداقات طويلة الأمد. ولكن على المستوى الكلي macro level، سنكون أفضل في مجتمع العقود بدلا مما في مجتمع العهود.

كتاب الأخلاق: إستعادة الصالح العام في أوقات الانقسام، للكاتب جوناثان ساكس، صدر عن دار باسك بوكس في ابريل 2020 في 366 صفحة.

***

حاتم حميد محسن

 

 

في المثقف اليوم