قراءة في كتاب

مبادئ فلسفة الحق لهيغل.. تعلم من الأفكار التي لا تعجبك

علي حسينقد يبدو الحديث عن كيركغارد او كانط او حتى شوبنهاور في هذا الوقت غريبا الى حد ما.. فما بالك وانت تريد ان تتحدث عن فيلسوف لا يزال البعض يعتبره لغزا من الغاز الفلسفة واعني به هيغل.

في مقدمة كتابي "في صحبة الكتب" وضعت قائمة لكتب اصابتني بالحيرة في بداية قراءاتي الفلسفية، ومن بين هذه الكتب، النسبية لاينشتاين "، الكينونة والعدم لسارت، والوجود والزمان لهايدغر، راس المال ماركس، نظرية المعرفة لينين، ثلاثية كانط عن العقل، وكتاب ظاهريات الروح لهيغل.. وكان عليّ لكي اتجاوز هذه الحيرة ان ابدأ بقراءة الكثير من الكتب عن السادة " المحيرون " هؤلاء. قبل ان اقترب من هيغل كنت اتصور نفسي القارئ " الخطير " الذي لايشق له غبار، وان باستطاعتي ان اهتك اسرار أي كتاب يقع بيدي، وان بامكاني ان اقرأ نصوص الكتب قراءة جيدة، إلا ان قررت يوما ان اجرب حظي مع كتاب " مبادئ فلسفة الحق " للفيلسوف الالماني هيغل، وكان الكتاب من اصدارات وزارة الثقافة السورية لعام 1973 ترجمة تيسير شيخ الارض.- صدرت بعد ذلك ترجمة اخرى للكتاب بعنوان اصول فلسفة الحق قام بها امام عبد الفتاح امام اشهر من قدم هيغل الى العربية -. ما الذي استهواني بالكتاب حتى دفعت مبلغ وقدرة " ثلثمائة فلس عراقي " عدا ونقدا للمرحوم بناي جار الله لشراءه. كان الفضول الدافع الاول، والدافع الثاني حديث بعض الاصدقاء من ان ماركس كان متأثرا بهيغل، والدافع الاهم انني اردت ان اعرف ماذا يريد ان يقول هذا الفيلسوف الذي شاهدته صورته الملونة في مجلة المعرفة ويبدو متضايقا من العالم. بعد ذلك كانت العبارة المكتوبة على الغلاف الأخير للكتاب حافزا لكي اخرج النقود من جيبي واسلمها لصاحب مكتبة التحرير، فقد كتب المترجم ان هذا الكتاب من اوآخر كتب هيغل، وانه يحوي على مجمل فكره، وان الموضوعات التي يطرحها تتعلق بالانسان.. في البيت هيأت نفسي لقراءة ممتعة، لكن ما ان وقعت عيني على السطور الاولى من التقديم والتي تقول: " ما من احد ينكر الصعوبة الناجمة عن تفسير الفلسفة الهيغيلية "، حتى تيقنت انني وضعت نفسي في ورطة، وان الكتاب سيأخذ بخناقي ويضعني في قائمة القراء " الغشمة "، اذ لم اكن قد تحولت بملء ارادتي الى قارئ غشيم.. وتخيلت نفسي وانا اصارع كتاب " مبادئ فلسفة الحق " مثل سيزيف الذي قرأت عنه في كتابات البير كامو، ادفع بكتاب هيغل الذي تحول الى صخرة الى قمة جبل من الغموض، ثم اتابع هذه الصخرة وهي تسقط في حضني من جديد. وضعت صخرة سيزيف – مبادئ فلسفة الحق – في مكان داخل مكتبتي البيتية التي بدأت تنمو، على امل ان اجد يوما من يساعدني على حمل مثل هذه الصخور.

لماذا تذكرت هيغل هذا اليوم بالذات، والناس مشغولة البال بما يجري في بلاد النهرين، ومتى تغلق باب الازمات ؟. كنت اليوم كعادتي في كل جمعة اجلس في بيت المدى في شارع المتنبي عندما اقترب مني شاب، يحمل نسخة من كتابي " غواية القراءة " وطلب مني ان اوقعه له. كان يحمل معه مجموعة من الكتب دفعني الفضول ان اسأله عن عناوينها، نظرت الى الاغلفة وكانت اكثرها كتب فلسفية. واحد بعنوان نصوص من الفلسفة الحديثة، وكتاب يبدو غلافه قديما بعنوان في الفلسفة المعاصرة. وكتاب مفكرون عظماء.. قال لي الشاب انه يهوى قراءة الكتب الفلسفية لكنه يجد صعوبة في فهم البعض منها، ثم طلب مني مشورة حول كتب هيغل، واي العناوين يمكن ان يبدأ به.. تحدث الشاب كثيرا عن الفلسفة، وكنت انظر اليه واتذكر حماسي ايام الشباب، وكيف كنت اريد ان اقرأ كل شيء.. اخبرته بمحنتي القديمة مع هيغل وقدمت له النصيحة التي قدمها لي ذات يوم الراحل يوسف عبد المسيح ثروت، وتتلخص في البحث عن الكتب التي كتبت عن هيغل، لكي تكون جواز مرور للدخول الى فلسفة هذا العقل المثير للجدل.

في كتابه " تاريخ الفلسفة الغربية " يصف برتراند راسل، هيغل بأنه " الفيلسوف الأصعب "، فيما اعترف هو بأنه: " من السهل أن تكون غير مفهوم بدرجة عالية، من أن تكون مفهوماً بطريقة بسيطة ". ويصف بعض كتاب سيرته بان كتاباته بالنسبة للفلسفة مثل قمة إيفرست لمتسلق الجبال.. ورغم مكانة هذا الفيلسوف الكبيرة في الفكر العالمي، إلا ان الوجودي كيركغارد كان يرى في هيغل وفلسفته بانهما " يشكلان مقالا في الكوميديا ". وعندما قرأت مقال كيركغارد الذي ترجمه مجاهد عبد المنعم مجاهد ونشر في كتابه " رحلة في اعماق العقل الجدلي، قلت مع نفسي ان هذه الكوميديا التي يسخر منها كيركغارد، لا تزال تشكل بالنسبة لي احدى قمم الجبال التي لا يمكن الصعود اليها بدون ان نتسلح بكل ادوات التسلق.

عندما اكتب في صفحتي على موقع التواصل الاجتماعي " فيسبوك " عن هيغل او كانط او سبينوزا تكون خشيتي من ان بعض الموضوعات ربما تكون جافة وصعبة ولا تتحملها اجواء الفيسبوك التي تتطلب مقالات سريعة وقصيرة، وايضا خوفي من ان يقول البعض يارجل مالنا ومال فلاسفة أكل الدهر عليهم وشرب. فيما يتساءل البعض لماذا نولي اهتمام لفلاسفة مثل هيغل ونحن نعيش عصر السرعة والتغريدة القصيرة وهيمنة ال" التك توك ".ويكون جوابي دائما ان هؤلاء الفلاسفة استطاعوا ان يناقشوا معظم المسائل التي تحيرنا في الوقت الحاضر ووجدوا اجابات مهمة لا نريد للاسف ان نتعمق فيها.

دائما ما يطرح سؤال: ما مصدر تلك المكانة التي يتمتع بها هيغل، يقول البعض ان ذلك نابع من اهتمامات هيجل نفسه وخصوصا بمسائل الدولة ومناقشة معضلات المجتمع، ان عبارته الشهيرة " الدولة هي ارفع اشكال الروح الموضوعية " لا تزال تمثل التراث السياسي لمعظم الامم في العصر الحديث.. وكان من حسن الحظ ان فلسفة هيغل لم تكن فلسفة مغلقة تبحث فقط في المعاني الفلسفية التي تهم المختصين بالفلسفة، وانما كانت فلسفة مفتوحة تبحث ايضا في القضايا التي تهم الناس، فإلى جانب كتبه " ظاهريات الروح " و" المنطق "، كتب هيجل في فلسفة التاريخ وعلم الجمال وفلسفة القانون.. وقد كان هيغل تجسيدا حياً للفلسفة من حيث هي عمل يشتغل به الانسان، ولم يكن يخجل من أن يوصف بانه فيلسوف محترف، اذ ان الفلسفة عنده حرفة، لها قواعدها ولغاتها واحوالها، وتقتضي مرانا وتدريبا عقليا خالصا، ومن العجيب ان الآراء لا تزال تختلف الآراء حول فلسفته، فالبعض ينظر اليه كما ينظر الى ارسطو على انه هو الفيلسوف الذي اتى بمذهب رحب يضم في داخله كل الفلسفات السابقة، والبعض الآخر يعده الخطأ الأكبر في الفكر البشري، وليس في هيغل الانسان اي جانب طريف، اذ يبدو ان الهدف الوحيد لحياته كان القيام بدور كاتم سر "الفكر"، لقد وصف هيغل فلسفته بانها: "محاولة لجعل الفلسفة تنطق بالالمانية"،

هل نحتاج ان نتحدث عن حياة هيغل. يصفه احد تلامذته بهذا الوصف المثير " " القامة خمسة اقدام وبوصتان (اي حوالي 167 سنتيمترا) الشعر والحواجب غامقة والعيون رمادية والانف والفم متوسطتان والذقن مستديرة والجبهة عادية والوجه بيضاوي باستطالة ". وشهد غالبية طلبته بانه لم يكن ذا جاذبية. وكان وجهه على حد قولهم شاحبا كما كان مترهلا. اعتاد ان يهمل ملابسه وهو جالس على كرسي الفلاسفة لألقاء محاضراته، بدأ دائما كانه متعب. وكان يطرق براسه وهو يتكلم في تردد متصل، فضلا عن انه كثيرا ما كان يسعل وسط الكلام.

ولد جورج فيلهلم هيغل في مدينة ستيغارت الألمانية عام 1770، لعائلة فقيرة، فقد أمه التي كان يحبها كثيرا في الحادية عشرة. وقتل أخوه في الحرب، وجنّت أخته التي كان متعلقاً بها كثيرا، كان الوالد موظف بسيط، والأم ربة بيت لا تعرف القراءة والكتابة، ولم يبلغ عامه التاسع عشر حتى اندلعت الثورة الفرنسية التي اطلق هو عليها فيما بعد "الفجر الجديد". عاش هيغل في العصر الذهبي للأدب الألماني، وبالرغم من كونه اصغر من غوته بعشرين عاما، ومن شيلر بعشرة اعوام، فقد استطاع ان يتقرب من حلقتهم الضيقة ويصبح احد مريدي غوته، وهناك يرتبط بعلاقة صداقة مع شاعر المانيا الكبير هولدرلين.

كان هيغل اكبر إخوانه حظوة عند أبيه وذلك لأنه كان يرى فيه الذكاء المفرط، وقد ارد الوالد ان يجعل من ابنه كاهناً، فسجله في الفصل الأكاديمي بجامعة "توينجن" لدراسة اللاهوت، وهناك تعرف على شيلينغ الذي سيصبح اقرب اصدقائه وكان يصغره بخمسة أعوام، إلا أن دراسة اللاهوت لم تستهوه فقرر الانصراف لقراءة مؤلفات افلاطون وسنيكا ومونتسكيو، ثم وجه اهتمامه الى جان جاك روسو وكان كتاب "العقد الاجتماعي" بمثابة كلمة السر التي تراءت لهيغل الشاب من اجل قيام فلسفة ثقافية حديثة الأسلوب، وقد دفعته آراء روسو الى ان يشكل نادياً للسياسة كانت تناقش فيه الثورة الفرنسية، الأمر الذي دفع السلطات الألمانية الى مطاردة اعضاء النادي، فقرر هيغل الهرب الى مدينة برن، وهناك استطاع ان يجد وظيفة في احد بيوت الأثرياء، بعد ان توسط هولدرلين في تعيينه، وفي تلك الفترة عكف على دراسة مؤلفات هيوم وميكافيللي و لايبنتز وسبينوزا، كما قام بدراسة مؤلفات كانط. في تلك الفترة نلاحظ اتجاه هيغل نحو فصل الدين عن الدولة، وفي رسالة الى هولدرلين عام 1795 يكتب: " لاسيبل الى هز صرح الكنيسة الارثوذكسية، طالما ان مهامها ترتبط بمصالح دنيوية، وتتداخل في بناء الدولة، وطالما ان الكنيسة مصرّة على ان تجعلنا نضع ايدينا في جحورنا ونتكاسل في انتظار ان تاتي مملكة الله، العقل والحرية سيظلان كلمة السر التي بيننا ونقطة اتحادنا، هي الكنيسة غير المرئية."3991 مبادئ فلسفة الحق

شعر هيغل بسعادة غامرة في عمله الجديد، وقد عدّه خطوة نحو الأمام: "سوف اعود، كي اصبح مساويا للعالم اكثر بعض الشيء مما كنت". كانت هذه رسالة بعث بها الى شقيقته، وفي تلك الفترة يكتب مقالات يُعلق فيها على خطب البرلمانيين التي كانت تناقش الضرائب على الفقراء واصلاح قانون الأراضي. بعد وفاة والده عام 1799 يتخلى هيغل عن وظيفة المعلم الخاص، ليلتحق بصديقه شيلينغ في جامعة ينا، وكان شيلر وفيخته هناك ايضا، الآن شيلنغ حقق شهرة ومكانة سمحتا له بالتوسط لتعيين صديقه هيغل مدرساً في الجامعة براتب متواضع، وفي تلك الفترة يؤسس مع شيلنغ مجلة للفلسفة ينشر فيها الفصول الاولى من كتابه "علم ظهور العقل "، في تلك الفترة احتل الفرنسيون مدينة ينا فأغلقت الجامعة ما اضطر هيغل، لأن يعمل صحفياً بالقطعة، ثم قبل وظيفة مدير مدرسة ثانوية.

في عام 1801 يقدم رسالته للدكتوراه وفيها يخالف آراء نيوتن، ويعود للجامعة ليصبح عام 1805 استاذاً فوق العادة، إلا أن الحرب التي لم تنته بددت آماله بحياة مستقرة، فسُرق منزله، ولم ينجح سوى في انقاذ واحد من ممتلكاته وهو الأكثر قيمة لديه: مخطوط فينو مينو لوجيا الروح "ظاهريات الروح" الذي كان يحتفظ به في جيب معطفه اثناء حريق المدينة واضطر لطلب مساعدة غوته. عام 1806 استطاع ان يقنع احد الناشرين بطبع كتابه الذي لم يجد اقبالاً من القراء حيث وجدوا صعوبه في حل ألغازة،، لكن رغم المصاعب إلا أن هيغل كان يرى ان العالم يتحضر لمعركة كبيرة سينتصر فيها الانسان، انسان الأزمنة الحديثة الذي شاهده يسير فوق حصانه، لقد حمل نابليون او روح العالم الى المانيا بعض المكتسبات السياسية والاجتماعية للثورة الفرنسية: "شاهدت القيصر، تلك النفس العالية، ممتطيا جواده، انه لفي الواقع احساس رائع ذلك الذي يغمر المرء حين يرى هذا الفرد مركزاً في نقطة جالساً على جواد."

بلغ هيغل الأربعين من عمره ولم يتزوج، ونراه عام 1811 يكتب الى احد اصدقاءه يزف اليه نبأ خطوبته: "اعلم انك تود لي السعادة من كل قلبك.. اسمها ماري فون توخر "، كانت ماري اصغر منه باثنين وعشرين عاما، وقد أراحه الزواج وساعده على زياده انتاجه الفلسفي، فقدم بعد عام كتابه الأشهر "علم المنطق"، وقد تميز هذا الكتاب عن سائر انتاج هيغل حتى ان مؤلفه دعاه "افكار الله قبل الخلق"، كان هيغل آنذاك قد صار علماً في سماء الفلسفة عندما طلبت اليه جامعة هايدلبرغ ان يقبل فيها منصب الأستاذية، حيث امضى في هذه الجامعة عامين قبل ان يقدم له وزير التربية البروسي منصب استاذ الفلسفة في برلين، كان يتمنى منذ زمن طويل الاستقرار في مركز الحياة الثقافية والسياسية في المانيا، وقد وفرت له جامعة برلين حقلاً واسعاً للكشف والدراسة، واستطاع امام جمهور مختار من الطلبة ان يقدم محاضراته الشهيرة حول فلسفة الدين والجماليات وفلسفة التاريخ ونشر عام 1821 كتابه "مبادئ فلسفة الحق."

غير انه أثار منذ وصوله برلين، حفيظة الأوساط المحافظة التي اتهمته بانه يغلف أفكاره السياسية الإصلاحية بتعابير فلسفية غامضة، وقد اغضب السلطات بمحاضراته واعماله، مما ادى الى ان تتم مراقبته من قبل الشرطة، ولم يقتصر خصومه على اتهامه بوحدة الوجود وانكار خلود النفس، وانما كانوا يهزأون من كل تفكيره الديني، وقد كانت شهرته سبباً في تكاثر أعدائه وتزايد الحملات عليه، وكان شوبنهاور في مقدمة الذين سخروا من فلسفة هيغل واعتبرها مضيعة للوقت، لكنه لم يهتم وواصل عمله، إلا ان أصابته بمرض الكوليرا لم تمهله طويلا، فمات في الرابع عشر من تشرين الثاني عام 1831 ولم يكن احد ينتظر لم مثل هذه الميته.

كتاب " مبادئ فلسفة الحق " هو اخر كتاب كتبه هيغل، وكان ولا يزال من اكثر الكتب التي اثارة الجدل والهجوم في نفس الوقت حيث اتهم هيغل بانه الف كتابه لخدمة سيده فريدريك فيلهام ملك بروسيا. في مبادئ فلسفة الحق " يبرر هيغل قيام الدولة انطلاقا من الوجهة التشريعية والاخلاقية. فالقانون عنده هو التعبير عن الارادة العقلانية التي تحقق ذاتها كحرية بشكل يسير قدما ومن ثم كان لتطوره طابع منطقي وتاريخي في نفس الوقت. لقد رفض هيغل النظرة العقلانية للقانون كشيء مطلق خارج التاريخ مستمد من المبادئ الخالدة والصادقة بشكل مطلق والتي تنطبق على جميع المجتمعات وتحكم التطور التاريخي جميعه، وانتقد هيغل العقلانية على عنايتها بالفرد في الانسان لا عنايتها بالعنصر الاجتماعي، وعلى جعل القانون ثانويا بالنسبة لاشباع رغبات الافراد واحتياجاتهم بدون العناية بالضرورات الاعلى للمجتمع والدولة.

وقد وجه هيغل نقدا الى الرومانسية الاجتماعية، واكد على ان القانون يجب ان يرتبط مع الواقع الاجتماعي والتطور التاريخي وان الفرد يجب ان يتلائم مع النزعة الجمعية ويخضع لهذه النزعة.ويعد الخضوع الكامل للفرد للسلطة المطلقة للدولة المبدأ الرئيسي في كتابه " مبادئ فلسفة الحق "

عند هيغل يحدث اندماج المجتمع في الجماعة في دولة مثالية تكون مرآة واداة للمجتمع. لم يتصور هيغل الحرية نفسها من جانبها الذاتي باعتبارها تعبيرا عن الارادة الحرة، بل نظر اليها على انها الخضوع للقانع بحرية من جانب الفرد للمبادئ العامة للاخلاقيات الموضوعية التي تكون الدولة خير تعبير عنها: " “إذا خلطنا بين الدولة والمجتمع المدني، وجعلنا الغاية الخاصة من الدولة الأمن وحماية الملكية الخاصة والحرية الشخصية- لكانت مصلحة الأفراد بما هم كذلك الغاية النهائية التي اجتمعوا من أجلها، وينتج عن ذلك أن تكون عضوية الدولة مسألة اختيارية. غير أن علاقة الدولة بالفرد شيء مختلف عن ذلك أتم الاختلاف.. إن الفرد لن تكون له موضوعية ولا فردية أصيلة ولا حياة أخلاقية إلا بوصفه عضوا من أعضائها. إن الاتحاد الخالص والبسيط هو المضمون الحقيقي والهدف الصحيح للفرد، ومصير الفرد هو أن يعيش حياة كلية جماعية" – مبادئ فلسفة الحق -

يصر هيجل على أن تكون الدولة غاية لا مجرد وسيلة ويرفض التفكير فيها باعتبارها وسيلة لتحقيق أي مصلحة شخصية.

ذهب هيغل إلى أن التعامل مع الدولة باعتبارها آلية للحصول على غايات خارجية ومادية، تعمل على إشباع حاجات الناس، يخرجها عن طابعها الأخلاقي ويؤدي في النهاية إلى الفساد السياسي والانهيار الاجتماعي، ويؤدي كذلك إلى انهيار الدولة ذاتها.

ويرى هيغل أن بذور الانهيار هي في اعلاء النـزعة الفردية والتعامل مع الدولة باعتبارها وسيلة لتحقيق غايات اقتصادية جزئية،. لكن ما الحل الذي يقدمه هيجل لهذه الأزمة، تلك التي يسميها تناقضات المجتمع المدني؟ يتمثل الحل في مفهومه عن الدولة، فهي في نظره القادرة على علاج هذه التناقضات.

إن تكوين نظام سياسي وعقلاني ومرض عند هيغل يتطلب إرادة جماعية كلية لا إرادة فردية جزئية.

يبين الكسندر كوجيف في كتابه " مدخل لقراءه هيغل " – ترجمة عبد العزيز بومسهولي - ان نظرية الدولة عند هيغل كلها ترتكز على مفهومي الرضى والاعتراف. فالدولة توجد عندما يجد كل مواطن، في قلب الجماعة، تلبية للمصالح التي يقر بأنها معقولة، وكل واحد يعترف بالدولة عندما يتعرف على ارادته الشخصية المعقولة في الارادة العامة التب تعبر عنها اجهزة الدولة.

في عام 1843 كتب شاب الماني اسمه كارل ماركس كتابا عنوانه " نقد فلسفة الحق عند هيغل "، في محاولة لتحديد طبيعة الدولة وعلاقتها بالمجتمع المدني اي بمجموع المصالح الاقتصادة والاجتماعية. وانتهى ماركس الى ان نظام هيغل بقضي الى التوفيق مع العالم كما هو وتكريس عقلاني للوضع البرجوازي. ففي كتاب هيغل رفعت الدولة الى نظام عقلي، هو تجسيد وارتقاء للمنطق وتيرير للملكية ونظمها. فالدولة عنده هي منظمة وخالقة للمجتمع. هي دولة معقولة. بكل انظمتها ووسائلها.

ورغم النقد الذي يوجهه ماركس في بداياته الى هيغل إلا انه سيعترف فيما بعد بافضال هيغل عليه وسيكتب: " حين كنت اكتب الجزء الاول من راس المال، كان ابناء الجيل الجديد، اولئك الادعياء المتهورون، يباهون بانهم ينظرون الى هيغل نظرتهم الى (كلب ميت).. لذا بادرت واعلنت صراحة انني لست إلا تلميذ لهذا المفكر العملاق ". وفي الدفاتر الفلسفية يكتب لينين " يستحيل استحالة قاطعة ان نفهم راس المال لكارل ماركس، ما لم ندرس منطق هيغل ونفهمه باكمله ".

قبل عامين وبمناسبة الاحتفال بمرور 250 على ولادة هيغل كتبت الفيلسوفة الامريكية جوديث بتلر مقالا بعنوان "اهمية هيغل لزماننا " قالت فيه ان التفكير في هيغل هذه الايام سيدو امرا غريبا، فما ذا بامكان فيلسوف ولد قبل 250 عاما ان يفعل في حياتنا، وما الذي سيقوله عن ثورة الاتصالات والكواكب.. وتضيف بتلريرينا هيغل في كتابه " ظاهريات الروح " أننا لسنا مخلوقات متوحدة ببساطة، منفصلين عن بعضنا البعض، ففي منظوره، الأفراد الواعين لذاتهم ليسوا متوحدين تماما البتة لأنه وفي جزء يعتمدون على بعضهم ولا يمكنهم الاستغناء عن الآخرين. وهو يقدم لنا حسب تعبير بتلر تأمل ذاتي يتلخص في ان فرصتنا كافراد تكمن وعينا بذاتنا: " متى ما وصلنا إلى معرفة ذاتنا، قبضنا على السبيل الذي نغدو به مرتبطين جوهريا بالآخرين.

تقول بتلر في مقالها: " في قراءتي لهيغل، هذا الاكتشاف بأني مربوط بالآخر وأن الآخر مربوط بي وأن كلانا مربوط بعالم حي، ينير وضعنا كمخلوقات حية وعلاقتنا التبادلية المتجسدة وحسا من الالتزام الأخلاقي المتبادل والذي هو التزام أيضا للمحافظة على عالم يجعل حياتنا ممكنة وجديرة بالعيش" – اهمية هيغل لزماننا ترجمة فاطمة الشملان.

في زماننا هذا نقول اننا بحاجة الى قراءة كتب هيغل، فهو يقدم لنا افكارا اكثر دقة، وهي بذلك اكثر قابلية للاستهمال، عن انفسنا، وعن صعوباتنا، وعن مكاننا في التاريخ.

في كتاب بعنوان " بعنوان " هيغل في دماغ لاسلكي " للفيلسوف السلوفيني " سلافوي جيجيك " يقول أنه من الضروري ألا نعود إلى هيغل فحسب، بل نكرر انتصاراته ونتجاوزها، ونتغلب على حدوده بأن نكون أكثر هيغلية من السيد هيغل نفسه،ويتساءل جيجيك: لماذا لا يكون القرن الحادي والعشرين، قرن هيغل بامتياز ؟

***

علي حسين – العراق

رئيس تحرير صحيفة المدى

 

في المثقف اليوم