قراءة في كتاب

رسالة إلى صديقٍ قديمٌ

محمد صفاءبقلم: ريونوسكي أكوتاغاوا

ترجمة: محمد صفاء

***

لم يكتب أحد إلى الآن بصدق عن الحالة العقلية لشخص على عتبة الانتحار. قد يكون بسبب كبرياء المنتحر، أو ربما بسبب قلة اهتمامه النفساني في حالته العقلية. رسالتي الأخيرة إليك: سأسعى جاهداً لتوضيح حالتي العقلية. لكن حتى لو أنني سأفشل في إيصال دوافعي إليك إيصالاً دقيقاً، فسأظل راضياً عن هذه المحاولة. يصور هنري رينيه في إحدى قصصه القصيرة، رجلاً ينتحر، ولكن هو نفسه لا يدري ما السبب. بإمكانك إيجاد العديد من الدوافع للانتحار في الصحف في الفقرات المُتعلقة بأقسام الشرطة، بدءاً من الضائقة المالية، أو اعتلال الصحة، إلى الألم النفسي. من خلال تجاربي فأن تلك الدوافع لا تمثل الدوافع جُلها، ولكنها تدلنا إلى الرحلة نحو السبب الصحيح. أولئك الذين ينتحرون هم معظمهم، مثل ذلك الرجل الذي صوره رينيه، غير واعي بالدافع الحقيقي. ينطوي الانتحار، مثله مثل باقي أفعالنا، تحت الكثير من الدوافع المتشعبة. في حالتي، فأنا مدفوع، على الأقل، بإحساسٍ حُوشِيٍّ بالقلق: حس ضبابي بالقلق اتجاه مستقبلي. من المحتمل أنك لن تكون قادراً على تصديق كلامي. علمتني عشر سنوات من الخبرة بأن أولئك الذين ليسوا من معارفي المقربين والأوفياء، تتبحثر كلماتي فيهم كأغنية في الهواء. لذلك لن ألومك.

تفكرت بالموت طوال السنتين الماضيتين. وكان ذلك خلال تلك المدة التي قرأت فيها لماينلاندر، فترسخت أعماله رسوخاً عميقاً في روحي. وأنا متأكد أن ماينلاندر يصور الرحلة إلى الموت تصويراً مبدعاً تماماً، مُعبراً عنه بكلماتٍ مُجردةٍ. أريد أن أصور نفس الشيء في شكلٍ ملموسٍ أكثر. ليس لدي رغبة أجل من هذه، ولا حتى شفقة تجاه عائلتي. قد يبدو هذا لك لا شيء سوى «لا إنسانية»، ولكن إذا كنت تعدني لا إنساني. فأعلم أني مجرد إشارة عابرة.

أنني ملزم بتدوين كل هذا تدويناً صادقاً (أنا أشعر أني بدلت كل ما بوسعي من جهد لأتفحص حسي الحُوشِيّ عن القلق اتجاه مستقبلي في كتابي «حياة أبله». ففي هذا الكتاب، قررت بتعمد ألا أكتب عن عاملٍ اجتماعيٍ معينٍ يخيمُ بظلالهِ علي – العصر الإقطاعي-. هذا لأننا نحن البشر نحيا حتى اليوم في ظلاله إلى حدٍ ما. حاولت أن أكتب فقط عن المناظر، والأضواء، والممثلين – في معظم الأحيان تمثيلي الخاص بي – التي ظهرت في مراحل أخرى غير هذه. يخامرني الشك بنفسي ما إذا كنت أستطيع تفهم هذه الحالة عندما أعيش في غمرتها. كان قلقي الأساسي يكمن في كيفية الموت بطريقة أقل معاناة. الشنق، بالطبع، أنسب طريقة لهذه الغاية. ولكن عندما تصورت جسدي وهو متدلدل، تملكني شعوراً غزيراً باشمئزازٍ جماليٍ (أتذكر مرة عندما وقعت في غرام امرأةٍ ما، ولكني فقدت مشاعري تجاهها عندما اكتشفت أنها كاتبة رديئة)، ولا يمكن للغرق أن يحقق مَبْلَغي أيضاً، وذلك لأني قادر على السباحة. وحتى لو أنني نجحت فرضاً، فسأتألم أكبر من الشنق. أثارت في نفسي فكرة قذف نفسي تحت القطار من دون بقية الأفكار إحساساً بالاشمئزاز الجمالي. ستفشل احتمالية الموت بواسطة مسدساً أو سكيناً لارتعاش يداي. وسيكون القفز من أعلى المبنى مقززاً بلا شك. وبناءً على هذه الاعتبارات، قررت أن أقتل نفسي باستخدام العقاقير. ربما من الممكن أن يكون الموت باستخدام العقاقير أشد إيلاماً من الشنق. وفضلاً عن حقيقة أنني أجدها أقل اشمئزازاً من الشنق، ولكن لا يمكنهم إنقاذي. بقيت فقط مسألة ابتياع مثل هكذا عَقّار، ولا أحتاج أن أقول، إنها لم تكن مهمةً يسيرةً بالنسبة لي. أني قد حملت نفسي على الانتحار، وصممت على استغلال كل الوسائل التي في متناول يدي لأحوز هذا العقار. وفي الوقت نفسه، حاولت أن أكتسب أي معرفة استطيع اكتسابها عن علم السموم.

تحول تفكيري لاحقاً عن أين سأنتحر؟ سيجب على عائلتي الاستناد على إرثي بعد وفاتي: وهي أرض ضئيلة تعادل مساحتها مئة تسوبو فقط،(1) ومنزلي، وحقوق أعمالي، وادخارات بقيمة مئتا ألف ين. كنت قلقاً حيال عدم صلاحية منزلي للبيع بسبب انتحاري، ورأيت بناءً على ذلك إحساس بالحسد تجاه البرجوازي الذي لديه على الأقل منزلاً ريفياً واحداً. قد تجدني أقول أشياء سخيفة جداً. ولكن عندما تفكر في تلك المسائل، فالإنسان في الواقع يشعر بإحساسٍ غائِرٍ بالحماقةِ، حماقة حتمية. أردت فعل كل ما بوسعي من جهداً لأقتل نفسي بطريقة بحيث لا يرى أي أحد من خارج عائلتي جثتي.

حتى بعد أن استقريت على الوسيلة، إلا أني وجدت نفسي ما زلت ملتصقاً بالحياةِ بطريقةٍ محدودةٍ إلى حدٍ ما. وبسبب هذا، احتجت إلى مقفزٍ ليقذفني إلى الموت (لا أعتقد بما يعتقده الغربيين بأن الانتحار خطيئة. ففي الكتب البوذية، يشدد بوذا على أن الانتحار في أحد تعاليمه. يحرف البعض الحقيقة لإرضاء مشاعر العامة، وقد يقولون أن هذا الإقرار ينطبق فقط في الحالات اللاتي يكون فيها الأمر «حتمياً». ولكن بالنظر إلى المسألة من زاوية أخرى، فالحالات «الحتمية» تلك، لسن الحالات القصوى الوحيدة اللاتي يموت المرء فيها موتاً أكثر بؤساً ولا مفر منه. فأي شخص يختار أن ينتحر يفعل ذلك بسبب الحالات، اللاتي يعدها بالنسبةِ له، «حتمية». أولئك الذين ينتحرون قبل هذه المرحلة، يلزمهم كثيراً أن يتشجعوا. وبعد التفكير في الحقائق المتوفرة، وتقييم جميع الجوانب المُتعلقة، فمن العادة أن تتولى امرأةً ملء دور المَقفز. قبل أن ينتحر هاينرش كلايست، استجدى أصدقائه ليكونوا رِفاقه. حاول جان راسين أن يرمي نفسه في نهر السين مع موليير، وبيبر كورني. لسوء الحظ ليس لدي أصدقاء مثل أولئك، ولذلك مجرد حاولت أن أقنع امرأة والتي كنت ملماً بموتها بجانبي. إلا إن هذا انقلب ليكون مقترحاً لم تستطع الإقدام عليه من أجلي، وسرعان ما أصبحتُ واثقاً بقدرتي على الانتحار بدون مَقفز. هذا لم يأتي من قنوط بعدم رغبة أي أحد بالموت معي؛ بل كنت أضحى عاطفياً بصورة متزايدة، وحتى لو كانت زوجتي ستفجع بموتي، فأردت أن أكون حذراً تجاهها. في نفس الوقت، عَلِمْتُ أن قتل نفسي بدون شريكاً متواطئاً سيكون أسهل. فضلاً عن الراحة الناجمة عن قدرتي على الانتحار في الوقت الذي أختاره.

كان تجهيزي الأخير أن أنهي حياتي بطريقة لن تلاحظها عائلتي قبل أن انتحر. بعد عدة شهور من التجهيز، ظفرت بثقة معينة بأني سأكون قادراً على فعلها. (لا أستطيع كتابة تلك التفاصيل هنا لمصلحة أولئك الناس الذين يهتمون بي. ولكن حتى لو كتبتها هنا، من المؤكد أن تهمة سخيفة مثل «المساعدة والتحريض على الانتحار» لن تُشرع بمقتضى القانون، وإذا طبق هذا القانون، كيف سيزداد عدد المجرمين! حتى لو أدعت الصيدليات، ومتاجر الأسلحة، وبائعي شفرات الحلاقة، بأنهم لم يعلموا، فطالما ما تخون كلماتنا وتعبيراتنا نوايانا الحقيقية، فسيظلون يجنون بعض الاشتباه. فضلاً عن أن المجتمع والقانون وما إلى ذلك، قد استوجب المساعدة والتحريض على الانتحار. ففي النهاية، أي قلوب بصدور أولئك المجرمين!) قد جهزت كل الإجراءات بهدوء، والآن سأؤنِس نفسي بفكرة الموت فحسب. كان جوٌّي في معظمه مثلما كتب ماينلاندر.

نحن حيوانات بشرية ولهذا نخشى الموت مثلما تخشاه الحيوانات. ما يسمى بـ «إرادة العيش» هو لا شيء سوى اسم مختلف للغريزة الحيوانية. لستُ سوى واحداً من تلك الحيوانات، وعندما ألاحظ فقدان اهتمامي بالطعام والنساء، فأدرك أنني قد فقدت الغريزة الحيوانية تدريجياً. والآن أنا أمكث في عالم ذو أعصاب سقيمة، واضحاً كوضوح الشمس.(2) حاورتُ في الليلة الماضية عاهرةً عن أجورها (!) وشعرت شعوراً عميقاً بمعاناة الإنسان الذي «يحيا لأجل أن يحيا». إذا كان بإمكاننا إرسال أنفسنا إلى رُقاد أبدي، نستطيع بلا شك أن نحوز السلام، إن لم تكن السعادة، ولكن لدي شكوك عن متى سأكون شجاعاً بما فيه الكفاية لأنتحر. في هذه الحالة، أصبحت الطبيعة بالنسبة لي أجمل من أي وقت مضى، فأنت تحب جمال الطبيعة، وبلا شك أنك ستهزأ من تناقُضاتي. ولكن الطبيعة جميلة حرفياً لأنها تنهال على العينان اللتان لن تقدرانها لوقتاً طويلاً. قد أبصرتُ، وأحببتُ، وفهمتُ أكثر من الآخرين. هذا لوحده يمنحني بعض الأقساط من السلوان وسط الأسى الكؤود. رجاءً لا تعرض هذه الرسالة على الجمهور لعدة لسنوات بعد موتي. من الممكن أنني قد أنتحر بطريقة تبدو موتاً طبيعياً.

ملاحظة: بقراءتي لحياة أمبادوقليس، أدركت أن يا لها من رغبة عتيقة لتجعل النفس إلهاً، بقدر ما أستطيع أن أقول، أن هذه الرسالة لا تسعى لذلك. لا، أنا موجود بوصفي إنساناً بسيطاً فقط. قد تستحضر قبل عشرين عاماً عندما ناقشنا «أمبادوقليس على إتنا»(3) تحت إشجار الزيزفون. في ذلك الوقت، كنت ذلك الشخص الذي تخيل نفسه إلهاً.

***

...................

(1) أن وحدة القياس الشائعة لمساحات العقارات في اليابان هي تاتامي، والتسوبو ضعف التاتامي. تختلف مساحات التاتامي باختلاف المنطقة، ولكن غالباً ما يكون المعيار القياسي على منطقة ناغويا، إذ تبلغ مساحة التاتامي فيها 1.653 م2، والتسوبو ضعف التاتامي، أي 3.306م2. وفي حالة هذه الرسالة، فإن مئة تسوبو تساوي 330م2، ويعد المتر المربع القياس الشائع الاستخدام لقياس مساحة الأراضي في المنطقة العربية.

(2) أن الترجمة الحرفية للعبارة الإنجليزية، معناها شفاف كالجليد، والمقصود نقي وواضح، وتُرجمت إلى "واضحاً كوضوح الشمس" كونه التعبير المعروف والشائع لدى العرب والناطقين بالعربية.

(3) وفقاً لتلك الأسطورة، كان إمبادوقليس يعد نفسه إلهاً، ومنتحلاً لصفة الإلوهية، وجلب الموت إلى نفسه، من خلال قذف نفسه في فوهة البركان، على جبل إتنا، في الساحل الشرقي من جزيرة صقلية، ليقنع اتباعه بإلوهيته.

في المثقف اليوم