قراءة في كتاب

المحاورات لكونفوشيوس.. اختر إيمانك

علي حسينعلى رقعة صغيرة من الارض في منطقة تحيطها الجبال في شرق الصين ذي الطبيعة الهادئة، وفي ولاية صغيرة اسمها "لو" سيولد طفل تحاط حياته بالاساطير طوال قرون حتى صار من الصعب أن نميز بين الواقع والخيال. فمن ناحية نجد المؤمنين به يضعون تاريخا له يرجع الى اباطرة الصين..من ناحية اخرى حاول الذين كانت تعاليمه تهدد مصالحهم على تحريف سيرة حياته.

رجل يشبه عادة ما نسمعه في القصص الخيالية. بطل يسير منتصب القامة يواجه تحديات الشر الكبيرة. يصف لنا حياته بأنها سلسلة من التجارب: " كنت وانا ابن خمس عشرة سنة اتوق إلى العلم، فلما بلغت الثلاثين ادركت الحلم، فوعيت الاصول وقواعد السلوك، ثم ادركت الاربعين، فخبرت من امور الدنيا ما ثبت به قدمي، وفي الخمسين بصرت الحياة وفهمت معنى الوجود والقدر، ثم كنت وأنا في الستين، أعاين مقاصد الرجل وخبايا نفسه من كلمة يقولها، فما بلغت السبعين حتى اطلق لنفسي العنان، تجوب أنّى شاءت، وتأتي ما بدالها، فما تجاوزت قدراً، ولا بلغت حد غلوائها " – محاورات كونفوشيوس ترجمة محسن فرجاني -.

قبل الميلاد بحوالي 500 عاما قرر رجل ان يتفلسف على طريقته الخاصة، ان يتعلم من خلال الحكمة كيف يصير بشرا، كيف يظفر بانسانيته، ويؤدي ادواره ويتحمل مسؤوليته. وكانت الخطوة الاولى ان يترك وظيفته مشرفا على احدى الحدائق، ويبدأ رحلة بين الولايات لمعرفة احوال الناس، بعدها قرر ان ينشئ مدرسة لتعليم الشباب فن الحكمة واعلن ان المعرفة تعني " ان تعرف جميع الناس " كان كونفوشيوس ذكيا لامعا الى حد آسر. وكان صاحب ذهن حاد قادر على اشاعة الطمئنينة في نفوس مستمعيه. وكانت كلماته الماثورة تنساب من فمه انسيابا يسيرا. يقول بطريقته العفوية: " على المرء ان يقول: انا لا اكترث لعدم وجود مكان لي، لكنني مهتم بكيفية ان اجعل نفسي ملائما لمكان ما. انا لا اكترث بكوني لا اعرف لكي استحق ان اكون عارفا ".

فها هو رجل يدافع عن تمكين الفرد، وعن فهم جذري للمسؤولية الشخصية. انه رجل مؤمن بأن قدرات الفرد اهم من اي شيء آخر، وبأن كل انسان يستحق ان يكون قادرا على بلوغ اقصى امكانياته، وبأن من واجبه أن يمارس ذلك الحق ويدافع عنه: " على المرء ان يكون مثابرا، مخلصا للمبادئ حتى آخر رمق، والذكي من يشمر ذراعه، ويطلق العنان لمواهبه ".

هل كان كونفوشيس فيلسوفا ؟ يقول لاحد تلامذته: " لم اولد فيلسوفا حكيما، وإنما كان تعلقي باخبار الاقدمين هو الذي دفعني عبر سنين من دأب البحث والفكر والمطالعة إلى تحصيل المعارف والشغف بها " – المحاورات ترجمة محسن فرجاني –

يمكن القول ان كونفوشيوس يعد من اعظم الفلاسفة اثراً في التاريخ، حيث تأثر بافكاره مئات الملايين من البشر. وكان اول من ادار مدرسة لتعليم الفلسفة قبل ان ينشئ افلاطون اكاديميته. وكانت دروسه عن الفضيله والنظام والسياسة والمجتمع محاولة لخلق " مجتمع منسجم "، كما ان دعوته لاشاعة الخير لا تزال واحدة من اهم الدروس الفلسفية التي اشاعت مبدا التبادلية والاحترام والتفكير المستمر بما يضمن الخير للجميع. يقول كونفوشيوس: " هناك نوع من الناس يدعي العلم مكابرة وتكلفا، فاولئك هم شر الجهلة، ولقد كان مسلكي دائما هو مناقشة الامور من كل جانب، مع الاستبصار بوجهات النظر المتباينة ثم اختيار اصوب الجوانب واختبارها بمعيار التطبيق العملي واستخلاص الصحيح الثابت فيها مع استبقائه في الوعي الحاضر، ولئن كان مثل هذا المنهج لا يرقى إلى مستوى المعرفة الباطنية المولود بها الانسان، إلا انه يظل منهاجا لمعرفة موثوق بها الى حد بعيد ".

يعترف كونفوشيوس بانه عندما كان في السابعة عشر من عمره، كان " لا شأن له ولا مكانة، يعيش في ظل ظروف ذليلة ".لكنه حاول ان يعمل في مهن عديدة، في الوقت نفسه وجد في القراءة ملاذا يحميه من قسوة الحياة: " كنت اكد واثابر في عملي، حتى انسى غذاء بطني، وامرح واضحك، فلا اعرف للحياة هموما، واعيش ايامي بطولها وعرضها، غير عابئ بزمن شبيبة ماض، او بيوم شبيبة آت ".

غالبا ما ينظر الى كونفوشيوس على انه علم الناس طريقا جديدا للحياة، إلا ان كونفوشيوس لم يدع ان كتاباته تحمل اي ابتكار. فقد كان يعتبر نفسه " كجهاز ارسال " يؤشر للناس الطريق الى الفضيلة والقناعة. لقد كان يبشر عامة الناس بمبدأ يمكن ان يدرك دون الرجوع الى الحيل والخطب الفلسفية: " لو ان المرء في تكريسه نفسه، في جدية، لواجبات الناس، وفي احترامه للكائنات الروحية، حرص على الابتعاد عنها، لكانت هذه هي الحكمة ". اكد كونفوشيوس فضيلة التضامن الاسري. لقد راى في الاسرة " الوحدة الطبيعية لكل النظام والاستمرار " إذ فيها تصبح الفضيلة ثابة ويصبح الواجب حقيقة ".4096 محاورات كونفوشيس

 لو فتحنا اليوم اي كتاب من كتب فلسفة الاخلاق، لوجدنا انها تتحدث عن مفاهيم وقيم لا تختلف كثيرا عن الافكار التي طرحتها الفلسفة الصينية القديمة. نقرأ سبينوزا وهو يبشر بنوع من الاخلاق العالمية، ونطالع ايمانويل كانط وهو يطالبنا بان " نعمل حتى يصير المثل الاعلى لسلوكنا قانونا عالميا " فاننا نتذكر حتما ان كونفوشيوش قد علق قبل اكثر من 2500 عام تعليقا مماثلا لتعليق كانط إذ قال: " يتصرف الانسان الاسمى لكي يجعل سلوكه في كل الاجيال قانونا عالميا ". ولهذا لم يكن غريبا ان نجد كانط يتفرغ في السنوات الاخيرة من حياته في دراسة اعمال الفكر الصيني القديم.

تذكر كتب تاريخ الصين ان كونفوشيوس ولد عام 551 قبل الميلاد ببلدة تدعى " لو " بولاية شانتونغ. وتقول بعض المصادر ان اجداده ينتسبون الى البيت الملكي، وكان كونفوشيوس يسخر من الذين يتباهون باصولهم قائلا: الشريف بما كانت اخلاقه، والدنيء بما اغترف من المال وبهجة العيش ". كان والده " ليانغ هي " قد انجب سبعة بنات من زوجته الاولى، وظل حريصا على ان ينجب ولدا، لذلك تزوج من امراة اخرى انجبت له ولدا معاقا، فقرر ان يتزوج للمرة الثالثة وكان يقترب من السبعين من عمره وقد انجبت له زوجته الثالثة " يان تشنغزاي "، والتي كانت تبلغ من العمر ثمانية عشر عاما ابنا اطلق عليه اسم اسم " كونج فو تسي " وهو ما يقابل " كونفوشيوس "، والذي معناه " السيد الحكيم ". مات والده وهو في الثالثة من عمره، كان الاب يعمل في الجيش، فقامت والدته بتربيته، وفي واحدة من الحكايات الصينية نقرأ ان مجيئه الى العالم " قد اعلنته ارواح السماء التي طيبت شذى الهواء حول مهده " –اعلام الفلاسفة هنري توماس ترجمة متري امين –. ولعل اكثر الاوصاف صدقا هو انه كانت له جبهة ضخمة، كانت تنشئة الطفل صعبة للغاية في سنواته الأولى، حيث قال: "أنا أيضا شاب وضيع، لذا فأنا أكثر قدرة على الاحتقار".، تكفل عمه بتربيته لكنه ايضا توفي بعد سنوات قليلة، تكفلت الام بتربية ابنها حيث عاشت وابنها حياة صعبة للغاية سيذكرها فيما بعد قائلا: " عشت حياة مرهقة، لكنها لا تدعو الى الاحتقار ".

لم يدخل مدرسة وتكفل احد اقاربه بتعليمه القراءة والكتابة، لكنه كان حريصا على التعلم ولهذا نجده يوصي تلامذته: " كن سباقا في تحصيل العلم، ولا تدع الزمن يتجاوزك، واجعل من عقلك وعاء نشيطا لمكنون الذاكرة، فالعلم بغير ذاكرة واعية، جهل مطبق " – محاورات كونفوشيوس -. عمل في عدة مهن، توفيت والدته عندما كان يبلغ من العمر 17 عاما، فقرر ان يرحل عن بلدته حيث ادار شؤون مزرعة احد النبلاء. ويصف كونفوشيوس نفسه، بانه عندما كان شابا، كان بلا منزلة اجتماعية يعيش في ظل ظروف صعبة. فكان عليه ان يعمل في مهن مختلفة، إلا انه حرص على تثقيف نفسه، الى جانب اهتمامه بممارسة الالعاب الرياضية، والولع بالموسيقى وكان يردد: " ما ظننت قبل الآن ان للموسيقى مثل هذا التاثير على النفس "

 تزوج في التاسعة عشر من عمره وانجبت له زوجته ابنا وحيدا " كونج لي "، لم يستمر زواجه طويلا، فقد وجد ان حياته لا تستقيم مع مهنة المفكر الجوال، ولم يتزوج بعد ذلك. في موسوعته: " قصة الحضارة " يكتب ديورانت ان كونفوشيوس كان يبدو احيانا رجلا غريبا للآخرين وهو يقف في الطريق العام يطرح على الناس اسئلة عن التاريخ والحكمة والشعر. وقد وصفه احد تلامذته بانه كان: " طويل القامة، وجه ينم عن الجد والرهبة، لكن روحه تنطوي على رقة واحساس ملاهف بالجمال، وهو يسلك سبيل التواضع والمجاملة، وما من موضع إلا وسمع به، قوي الذاكرة لا ينسى ما يسمع، ذو علم بالاشياء لا يكاد ينفذ " – قصة الحضارة الجزء الرابع ترجمة محمد بدران -. وفي واحدة من الحكايات التي تروى عنه انه حدث مرة ان ضل الطريق الى اجتماع مع بعض تلامذته. فكان ان تمكنوا بالعثور عليه بمعونة رجل قال انه رأى " رجلا فارعا شاذ الخلقة مظهره كالكلب الضال ". فلما وصل هذا الوصف الى اسماع كونفوشيوس، صاح قائلاً: " عظيم. لم يكن في استطاعة أي مصور ان يرسم صورة ادق وافضل من هذا الوصف ".

في الثانية والعشرين من عمره يتفرغ لمهنة التعليم، يينشئ مدرسة، كان مقرها بيته الذي اعلن انه مفتوح لكل من يريد العلم، وكانت اجور الدراسة تتبع قدرة التلميذ على الدفع. وقد حدد الدروس التي سيمنحها للطلبة، وهي الشعر والتاريخ ومبادئ السلوك العام. ولما كان يعتقد ان المجتمع يعاني من اهمال الحكمة، فقد قرر ان يلقن تلامذته دروسا في الشعائر القديمة والاناشيد الرسمية، وتعليم الموسيقى حيث كان يؤمن بفاعلية وتاثير الموسيقى في صقل شخصية الانسان. وكان نظرته للموسيقى بانها ترمز الى الوئام الذي، لو وهب للحكام لعم الخير الدولة باسرها.. ومع مرور السنين حظيت مدرسته بشهرة كبيرة واصبح من تلامذته بعضا من ابناء النبلاء والامراء. في هذه الفترة يقوم برحلة الى عاصمة ولاية " لو يانج " ليلتقي بالفيلسوف الصيني الشهير لاوتسي صاحب الكتاب الشهير " الطريق او كتاب التاو " – ترجمه الى العربية هادي العلوي وهناك اكثر من ترجمة ابرزها ترجمة عبد الغفار مكاوي وترجمة فراس السواح – كان لاتوتسي آنذاك في السابعة والثمانين بينما لم يتجاوز كونفوشيوس الثلاثين، دار بين الرجلين حوار اجاب فيه لاوتسي عن سؤال كونفوشيوس عن قدماء رجال الحكمة، إذ قال له: " إن من تسأل عنهم قد تعفنوا مع عظامهم في التراب، وعندما تحين ساعة الرجل العظيم ينهض للزعامة، ولكن قبل ان يحين اوانه توضع العراقيل امام كل محاولاته. لقد سمعتُ ان التاجر الناجح يخفي ثروته بحرص ويعمل كما لو كان لا يملك شيئا، وان الرجل العظيم برغم وفرة انجازاته، بسيط في سلوكه وفي مظهره. تخل عن كبريائك ومطامحك العديدة، وعن تظاهرك وعن اهدافك العريضة. إن سجيتك لن تكسب شيئا من كل هذه الاشياء. هذه نصيحتي لك " – توملين..فلاسفة الشرق ترجمة عبد الحميد سليم -. ويبدو ان كونفوشيوس ادرك اهمية ما اقاله له لاوتسي، فعاد الى مدرسته حيث نقل لطلبته انطباعه عن الفيلسوف العجوز: " لقد رايت لاوتسي واستطيع ان اقارنه بالتنين ".

عام 501 قبل الميلاد اصبح كونفوشيوس صاحب منزلة كبيرة باعتباره معلما للسلوك القيم والفضائل، مما دفع حاكم ولاية " لو " الى تعينه بمنصب رفيع لاداره بعض شؤون الولاية وقد علق كونفوشيوس على قرار تعينه قائلا: " لا يهمني كيف يمكنني ان اكون، بل يهمني كيف يمكنني ان اكون صالحا ". وبعد عام يصبح رئيسا للقضاة، بعدها يتم تعينه وزيرا للاشغال العمومية، فاتخذ قرارات باجراء مسح للاراضي وتحسين الزراعة. بعدها اخذت المسؤوليات تزداد عليه حيث عين رئيسا للوزراء، عندها بدأ حياشية القصر تتذمر من هذا الشخص الذي حصل على شهرة كبيرة ومحبة جميع الناس، الامر الذي دفع البعض الى الوشاية به عند الحاكم، فقرر كونفوشيوس الاستقالة والعودة الى حياة الترحال بين ولايات الصين المتعددة ينشر تعاليمه.. بعد سنوات يعود الى منزله وكان يقترب من السبعين، يعيد افتتاح مدرسته واستقبال تلاميذ جدد، يتوفى عام 479 وكان قد بلغ من العمر " 72 " عاما ".

نشر كتاب "المحاورات" بعد وفاة كونفوشيوس باعوام وهو مجموعة من المقتطفات والاقوال والحكايات جمعها تلاميذه واعتبروها تسجيلا وتوثيقا لافكار معلمهم. تنقسم مؤلفات كونفوشيوس الى قسمين، الاول يسمى " الكتب الخمسة "وهي الكتب التي كتبها كونفوشيوس بنفسه وتحوي موضوعات في السياسة والاجتماع والفلسفة والدين والموسيقى ونشرت تحت العاوين التالية (كتاب الاغاني او الشعر.. كتاب التاريخ.. كتاب التغيرات.. كتاب الربيع ةالخريف.. كتاب الطقوس والتقاليد).

وهناك الكتب التي جمعها تلامذته ومنها كتاب فصول في الاخلاق والسياسة وكتاب الانسجام، وكتاب المحاورات وكتاب منسيوس وهو كتاب يناقش اسس فلسفة وتعاليم كونفوشيوس – ترجم محسن فرجاني اربعة من هذه الكتب تحت عنوان الكتب الاربعة المقدسة – القارئ لكتاب "محاورات كونفوشيوس " لن يجد الكتاب مجرد تجميع لاقوال المعلم، بل ان الكتاب يقدم صورة رسمها التلاميذ لمعلمهم اثناء حوارتهم معه حيث نرىصورة الرجل المتسامح والمبجل في نفس الوقت، ففي المحاورة الاولى التي ينقلها لنا احد تلاميذ الفيلسوف واسمه " سنغ زي " يقول: " كان المعلم متسامحا ودمثا ومع ذلك كان جليلا. كان مبجلا ومع ذلك لم يكن عنيفا. كان محترما ومع ذلك كان بسيطا "، فيما يؤكد تلميذ آخر اسمه " تسيكون" قائلا: " اربع كان المعلم متحررا تماما منها،: لم يكن لديه استنتاجات يقينية. ولا قرارات مسبقة تعشفية، ولم يكن عنيفا ولا انانيا ".

في المحاورات يخبرنا كونفوشيوس انه " ناقل وليس مبدعا" ويحدث تلامذته قائلا: " لان يعرفني الناس ناقلا ومفسرا لكتب التراث القديم، افضل عندي من ان يعدوني مؤلفا او مبدعا فوضويا، ولقد كان شغفي واخلاصي للثقافة القديمة هو الذي يعطيني الحق في ان اضع نفسي في مرتبة موازية للاوتسي وبنغ زو " – المحاورات ترجمة محسن فرجاني –

في المحاورات يطلب التلاميذ من استاذهم الحكمة، لكنه كان يجيبهم: " انا أُفضل ألا اتحدث " وعندما يقول له التلميذ: اذا كنت لا تريد ان تتحدث ايها المعلم، فما الذي علينا ان نسجله نحن التلاميذ " وعندئذ يجيب كونفوشيوس: " هل تتحدث السماء ؟ تتعاقب الفصول الاربعة في اوقاتها، ويعاد إنتاج كل شيء باستمرار، لكن هل تنطق السماء أية كلمة ". يعطي كونفوشيوس في كناب " المحاورات " اهمية لصفة الصدق ويبدي كراهية للفراغ العقلي وفي هذا يقول: " يجب ان تكون حياة الانسان قويمة وعليه ان يتجنب خداع نفسه او خداع الآخرين، وان يهيئ تعبيرا ظاهرا لما يرضى عنه عقله او يعرض عنه. وتفد الاستقامة من باطن المرء، فهي تعبير مباشر عن قلبه ". وهو يربط الاستقامة بالمعرفة: " حب الاستقامة من غير حب المعرفة يقود الى حجب الاستقامة بستار ضار ".ويُعرف كونفوشيوس الانسان غير الفاضل بانه الذي يفتقر الى طبيعة اصيلة والتي يعني بها " الاخلاص البشري "، وتتضمن هذه الصفة ان يحب المرء للناس ما يحبه لنفسه او كما جاء في المحاورات: " لا ترتكب في حق الاخرين ما لاتحب ان يرتكبه الاخرين في حقك ".

ولعل اهم ما في فلسفة كونفوشيوس هي ايمانه بالديمقراطية الثقافية، فقد كان يصر على ان يسير الناس على هدى تفكيرهم الذاتي، وابدى استعداده لمعاونتهم في تثقيف انفسهم وارشادهم الى طرائق التفكير السليم، بشرط ان يعثروا بانفسهم على حلول للمشكلات التي تجابههم، وكان يقول لتلامذته انه لم يعرف الحقيقة، لكنه اهتدى اليها عن طريق البحث عنها.

اثناء عمله مستشار للحاكم كانت نظرته تتلخص في خلق سياسات تقود الناس الى ان الفضيلة خير من فرض عقوبات على شخص ينتهك القانون: " إن ارشد القانون الناس، وتم السعي لتوحيدهم من خلال العقوبات، فسوف يحاولون ان يتجنبوا العقوبة، دون ان يكون لديهم اي احساس بالخجل. لكن إن ارشدتهم الفضيلة، وتم السعي لتوحيدهم عبر قواعد اللياقة، فسيكون لديهم احساس بالخجل، والاكثر من ذلك انهم سيصبحون جيدين ".. ولهذا كان يرى ان على الحاكم ان يعطي الاولوية للاستقامة ولا يشجع الاعوجاج، وعندئذ سيتبعه الناس بشكل طبيعي. لأنهم يستطيعون ان يروا العدل في التصرف. وإن حدث العكس وتم تشجيع الاعوجاج، فسيصبح الناس مُداهنين للنظام. وقد وضع قواعد للحكم الرشيد تقتضي ان يكون الحاكم مهيبا دون ان يكون شرسا: " غالبا ما يكون صدر الرجل الماجد رحبا كريما،اما الدنيء فهو دائما ضيق الصدر،مهموم البال " مسالة علاقة كونفوشيوس بالدين تبدو مسالة معقدة نوعا ما، فهو لم يعتبر نفسه رسولا دينيا او معلما دينيا. وقد ذكر احد تلامذته انه لم يناقش " طريق السماء " مثلما كان يصر على مناقشة طريق الارض، وقد تساءل احد طلبته كيف يستطيع المرء أن يخدم الارواح، فقال له كونفوشيوس: " اذا كنت عاجزا عن خدمة الناس فكيف تستطيع خدمة الارواح " وسأل طالب آخر عن الموت فقل له: "اذا كنت لم تفهم الحياة بعد، فكيف تستطيع ان تفهم الموت ".. عمل كونفوشيوس بان بان يرفض ان تكون لديه الحقيقة النهائية، اذ كان يلتمس الحقيقة عن طريق المشاهدة والتحليل.كتب ماكس فيبر: " فيما يفهم غياب كافة الميتافيزيقيات وكل بقايا الملاذ الديني تقريبا. كانت الكونفوشيوسية نزعة عقلية الى حد بعيد حتى انها تقف عند الحد الاقصى لما يمكن ان يدعوه الفرد الاخلاق الدينية. والكونفوشيوسية في نفس الوقت اكثر امعانا في النزعة العقلية واكثر اتزانا فيما يتصل بعدم وجود ورفض كافة مستويات المقاييس اللانفعية " – ماكس فيبر الجماعات الدينية ترجمة جورج كتورة -.

قال كونفوشيوس: " اعلم ان احسن الطرق هو طريق الحق، وان ارسخ اساس، ما بني على مكارم الاخلاق، وان خير المبادئ جميعا هو ما قام على التراحم والانسانية " – المحاورات -.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم