قراءة في كتاب

قضايا التعليم في العراق

4135 قضايا التعليم في العراقصدر حديثاً كتاب د. محمد الربيعي " قضايا التعليم في العراق" عن مؤسسة لندن للطباعة والنشر، غطى ثلاثة محاور أساسية الصعوبات والتحديات والحلول، موزعة على ثلاثين فصلاً، مقالات منشورة في الصحف والمجلات العراقية مسبوكة بطريقة نقدية تحليلية مؤثرة مخصصة لتشخيص الإشكاليات والعلل التي يعاني منها التعليم في العراق تحديداً، موضحاً جلّ التحديات التي تقف بوجه عجلة تطور مسار العملية التربوية والتعليمية، مقرونة بالحلول الموضوعية التي لو تم الأخذ بها من أصحاب القرار لأعطت حظاً وافراً لتقدم مسيرة التعليم بالإتجاه السليم بما يخدم بناء أجيال المستقبل.

تبرز أهمية أي بلد في العالم من خلال اهتمامه بالتعليم بكل أبعاده  لما له من أهمية فائقة في تعزيز الوعي الجمعي واستيعاب المفاهيم الوطنية التي تصب في بناء وتطور المجتمع من خلال رسم  البرامج والخطط التنموية البشرية والإقتصادية المستدامة التي تغذي كل مرافق الدولة وتسهم في خلق أجيال تمتلك مفاتيح التطور والتقدم في مجالات الحياة المستقبلية. تنطلق رؤية المؤسسات التعليمية الدولية التي تهتم بالشأن العراقي بضرورة إعطاء الأولوية للاستثمار في التعليم وتوسيع دائرة الاهتمام بالميزانية المخصصة للتعليم بهدف إصلاح التعليم والنهوض بدور المؤسسات التعليمية وتحسين أداءها المهني وتجاوز إشكالية ضعف جودة التعليم.

تتجسد فكرة د. الربيعي  بأن التعليم  يُعد الأداة الأهم في عملية البناء لأي مجتمع طموح يريد أن يشق طريقه في عالم التنمية الوطنية والبشرية والمجتمعية وفي كل مجالات التطور التقني. فالتعليم هو الأساس في تقدم الأمم وتحقيق الرفاه الاجتماعي والاقتصادي الذي من خلاله تسود قيم المساواة في الحقوق والواجبات. من الحقائق التي لا جدال حولها بأن الدول التي طورت نظامها التعليمي بطريقة علمية فعالة وسليمة إرتقت في المجالات السياسية والإجتماعية والثقافية والاقتصادية. وبنظرة سريعة إلى النتاج الفكري للدول المتطورة ندرك إلى أي مدى اتجه العالم نحو الإهتمام بالمستقبل واستشراف آفاق التطور في المجالات التعليمية بكل أبعادها. لقد خصص د. الربيعي فصلاً لتجربة سنغافورة وفصلاً لنظام التعليم الفنلندي مبيناً التحولات الكبيرة التي جعلتهما في أعلى المراتب الدولية في مجالات التعليم كافة.

يعيش العراق في دوامة أزمات مركبة ومتشابكة ليس لها حلول آنية بسبب آفة الفساد السياسي والمالي المتفاقم في كل مفاصل الدولة، بحيث أصبح العراق يحتل قائمة البلدان المتأخرة. والإجراءات الترقيعية الفاشلة التي قامت بها الحكومات المتعاقبة لم تجد لها صدى عملي في إيجاد الحلول الجذرية، لأن الإشكالية بنيوية وعميقة تستلزم حلولاً علمية وعملية تسهم في نهوض المؤسسات التعليمية، وتتطلب مشاركة أصحاب الإختصاص من الداخل والخارج في تشخيص العلل.

أوضح د. الربيعي علل النظام التعليمي وبما أنتجه من أجيال لا تهتم بالأساليب التعليمية العصرية بل إهتمت بالتلقين والحفظ والغش وتبوءت قمة الهرم التعليمي، وبالمقابل هناك بخس لأصحاب الكفاءات والمواهب من المتعلمين. فأصبح الذكاء ليس إلا مقياس لدرجة حفظ وترديد المعارف وتسجيلها وتسميتها واستذكارها.

تشكو الأكثرية من سوء التعليم ومن فساد النظام التعليمي وضعف الإلتزام بالتربية الأخلاقية في معظم المؤسسات التعليمية. فلم تعد الحلول والإجراءات الشكلية قادرة على رسم الخطط والرؤى العلمية لرفع مستوى التعليم في العراق، لكثرة التحديات وإنعدام الثقة في المؤسسات التعليمية والثقافية بسبب الاضطراب السياسي السائد في كل جوانب الحياة. شخص د. الربيعي أحد العلل التي اسهمت في تخلفنا العلمي والتكنولوجي التي تكمن بدرجة كبيرة بمدى تخلفنا في اللغات العالمية، لأنها الوسيلة الأساسية في اقتباس المعلومات وكسب العلوم ونقل التكنولوجيا، وبها ايضاً ننقل علومنا وابتكاراتنا واكتشافاتنا وكل ما يمكن أن نساهم به لتطوير الحضارة الإنسانية إلى العالم.

يرى د. الربيعي بأن التعليم يجب أن يكون متاحاً للجميع، والتطوير الشامل جزءاً من المنهج، أي تطوير النظام التعليمي بحيث لا يُجبر الأطفال بأن يكونوا نماذج ببغائية، بل تشجيعهم على حب توسيع المشاركة وطرح الأسئلة وتناول الموضوعات التي تمس حياتهم اليومية باستخدام مختلف التقنيات الحديثة التي تسهم في زيادة فاعليتهم ومهاراتهم، وضرورة إعتماد السياسات التعليمية الرصينة بطرق ووسائل مبنية على التخطيط المبرمج وتنمية التفكير النقدي العلمي الإبداعي القادر على التحليل الموضوعي بمهنية عالية وبوضوح وعقلانية. وتبني الأساليب الاستكشافية التي تعزز المهارات وتقوي الذات العاقلة التي تركز على الفهم والتطبيق بدلاً من متاهات الشرح والتفسير والحفظ والاجترار.

وأكد د. الربيعي  من خلال زياراته المتكررة للمؤسسات التعليمية وخبرته المهنية على مسألة الإنتماء والإلتزام الأخلاقي، مشيراً إلى وجود أزمة في المعارف والقيم والأخلاق المتعلقة بالسلوك الإنساني، وبعدم قدرة المناهج التدريسية المتبعة على تنمية شخصية العراقي كفرد يفتخر بالإنتماء لمؤسسته سواء أكانت مدرسة، جامعة، دائرة حكومية، أو مصنع، وكعضو صالح  ومنتج في مجتمع ديمقراطي حر، وكمواطن ملتزم بالقوانين. فقد ذكر الردود التي وصلته من المهتمين بالشأن التعليمي في العراق التي أثارت عنده الاستغراب لبعض الممارسات اللاحضارية واللا أخلاقية واللا انسانية.

ولذلك ركز د. الربيعي على أهمية تدريس التربية الوطنية وتطوير المناهج الرصينة بما تنسجم ومتطلبات روح العصر، لأنه لا يكفي تغيير الفلسفة التربوية بدون ترجمتها إلى الواقع العملي، مؤكداً بأن التحسن النوعي للتعليم يكمن في توفير فرص التدريب باعتبارها الأساس في إصلاح التعليم وتجاوز ضعف التكوين المعرفي لأداء الجودة والإرتقاء بكفاءة الكادر التعليمي الذي يمتلك التأثير المباشر في العملية التعليمية، مع ضرورة معالجة نظام الامتحانات بالإعتماد على التقنيات النوعية الحديثة  ذات المعايير الموثوقة، مدعومة برؤية مستقبلية وطنية للتغيير الشامل تعزز تطوير البنى التحتية الحديثة التي توفر البيئة الصحية للعملية التعليمية.

لم تعد مسألة التعليم في العراق ذات طابع تقني، فهي ليست مجرد مسألة اصلاح الأدوات والبرامج والأنظمة  الإدارية، بل هي مسألة سياسية تحتاج إلى معالجات عقلانية متطورة تقف على مسببات الأزمة وتتجاوزها برؤية تسهم برفع المستوى التعليمي والإرتقاء به إلى المستويات العالمية، وبضرورة الاستفادة من تجارب الشعوب المشابهة لواقعنا التي تمكنت من توفير التعليم بما يتناغم واحتياجات القرن الحادي والعشرين بصورة أبعد من مجرد القراءة والكتابة ألا وهو القدرة على حل المشاكل والاتصال والمحادثة بما يؤهل الأجيال للتعليم الذاتي النوعي مدى الحياة على أسس سليمة قابلة للتنفيذ بحيث يمكنها تجاوز الأزمات المعرفية التي تعيق عملية التطور وتحقق مزايا التعليم والثقافة المجتمعية الواعية التي تؤهل الطالب بأن يتفهم تطورات السوق وحاجاته لمواجهة تحديات الحياة العملية.

يرى  د. الربيعي بأننا محاطون بالتطورات التكنولوجية ومنتجات العلم في كل مجالات الحياة، وأمامنا تحديات لا حدود لها تتطلب من صناع القرار القناعة بضرورة مواكبة عملية التحديث، وتوفير البيئة التفاعلية من خلال الاستعمال الواسع للتقنيات الإلكترونية والأجهزة الحديثة التي تصب في إزدهار العراق وتحقيق المساواة الاجتماعية والصحية في المجالات العلمية كافة وأن تستفيد من محتويات هذا الكتاب الذي تضمن الكثير من المقترحات العملية ليكون المرشد والدليل لإستحضار المستقبل لكي ننهض بالواقع التعليمي بكل مستوياته. وكذلك تقع على أجيال المستقبل ضرورة إبتكار الأساليب التي تساعد في كيفية التفكير والتعلم واتخاذ القرارات الصائبة التي تحفزهم على التفكير النقدي المرتبط بالمهارات العملية لفهم فن إدارة مهام الحياة وتطوير مسيرة العملية التربوية والتعليمية.

***

د. عبدالحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

في المثقف اليوم