قراءة في كتاب

الكتب حين تكون متمردة

انا الذي ولدت في وسط يعشق الكتب، ولا يجد لذة اجمل من لذة القراءة، ولا أملك من الوقت إلا ما اكرسه لهذا العشق. ما اكثر ما وجدت نفسي اقف مواقف محرجة وانا اتطلع الى كتب حذرني منها بعض زبائن المكتبة التي كنت اعمل فيها. وباعتباري عاملا في مكتبة، كنت دائم البحث عن كتب لم أقرأها.. وايضا لم يكن بامكاني ان اتجنب التعليق على كتب لم افتتحها، وكان يكفي ان يسأل احد زبائن المكتبة عن كتاب حتى اتحين الفرصة لتقديم معلومات ربما تكون مضللة، ولكنها كانت ترضي غروري في سنوات المراهقة.. وعندما كبرت ونضجت وقررت ان أؤلف كتبي وان اكتب مقالات عن الكتب التي رافقتي اثناء مسيرة حياتي، وجدت ان الأمر ليس بالهين، فاذا كنت اعطي رأيي من قبل شفاهة ولاناس لم يقرأوا هذه الكتب، فما اكتبه سوف يترك اثرا، ويمكن ان يوقعني في مطبات كثيرة.. وبسبب هذه المواقف التي رافقتني في حياتي، تولد في نفسي شعور بأنني يمكن ان اكون مؤهلا ان اشرك خبرتي في القراءة والعمل بائع كتب وفتح النقاش حول الكتب التي قرأناها، والتي لم نتمكن من أن نقرأها.

ان يكون الواحد منا مستعدا لمشاركة الآخرين بعض قراءاته ، عليه أن يتحلى بالشجاعة، فان تعطي رأيا بكاتب مثل صمويل بيكت او جيمس جويس او تولستوي او سبينوزا، عليك اولا أن تكون قد وقعت في غرام هذا الكاتب، وان تمارس متعة القراءة لا واجب القراءة، وان تقرأ قراءة كاملة، لان ظاهرة قراءة الكتب بسرعة او تصفحها، ناهيك عن استعدادنا الحديث عنها علنا. فالبعض يرى ان بامكانه الحديث عن كتاب لم ينتهي من قراءته، وان من الممكن جدا ان تخوض نقاشا محتدما عن كتاب لم تقرأه، وسيزداد الامر سخرية لو كان محاورك ايضا لم يقرأ الكتاب هو ايضا. ولعل بين كتاب قرأناه قراءة ممتعة وكتاب تَطلعنا اليه وتصفحنا بعض صفحاته، ثمة درجات عديدة ينبغي الانتباه اليها.وخصوصا فيما يتعلق ببعض الكتب التي لم نقرأها في بداية الأمر ومع هذا مارست علينا تاثيرا ليس بالهين من خلال ما وصلنا عنها من اصداء. قال البير كامو لم انس ابدا قراءتي لاول كتاب في حياتي بعد أن انتهيت منه بدأت أخطو متقدماً في أرض مجهولة، مزوداً بحرية غريبة وجديدة. إذا علمت حينها أن الكتب لاتقدم فقط المعارف والمتعة. نوبات سعادتي تلك بدأت يوم وقفت أمام واجهة إحدى المكتبات".

يعتقد فرويد أن القراءة فعل من أفعال التعويض. أو كما يقول كامو ممكن للقراءة أن تنقذنا من العبث.الروائي ستندال كان يقول لرفاقه إن القراءة هي التي تجعله يحب الحياة.  وصف سارتر هذه الحالة في يومياته"الكلمات":"كان يبدو لنا طبيعياً أن تنمو الكتب كما تنمو الأشجار في حديقة، لقد وجدنا في أنفسنا، منذ الصغر، هواية القراءة، وأغرِمنا جداً براسين وفلوبير".

كان مارسيل بروست يعاني من الامراض، فمنذ ان كان في التاسعة من عمره اصيب بالربو، وراح المرض يزداد خطورة مع مرور السنين حتى انه كتب في احدى رسائله انني " محكوم بلعنة  تسيطر على ايام حياتي" ، ولهذا قرر ان يواجه هذه اللعنة ويتغلب عليها بالقراءة، وان يرسم حياته من خلال الورق، ويصف بعض الذين زاروه في غرفته ان سريره كان يئن من ثقل الكتب والاوراق، والطاولة التي على يساره مليئة ايضا باكوام من الكتب، حبث كان يؤمن ان القراءة يجب ان تكون من اجل هدف معين :" لا لكي نمضي الوقت، او بدافع الفضول، او بسبب رغبة متثاقلة لمعرفة ما أحس به المؤلف " ولهذا يصر بروست على ان قراءة كتب الآخرين تجعلنا  نعرف ما نحس به، وما ينبغي ان ننميه في عقولنا. بعد اكثر من خمسين عاما على وفاة بروست ييكتب رولان بارت ان قراءة بروست نبهتني الى أن :" القراءة كعملية مبدعة وكسيروة حية هي ابعد ما تكون عن كونها مضيعة للوقت " – فانسان جوف الادب عند رولان بارت ترجمة عبد الرحمن بو علي –.

في ذكرياتي مع القراءة هناك الكثير من الكتب التي لعبت دورا في حياتي، ومنها اتذكر كتاب صغير الحجم بعنوان " " الغاضبون " في مكتبة " ابو طه " في شارع السعدون، وكانت اشهر مكتبات شارع السعدون في منتصف السبعينيات.. فتحت الكتاب فوقعت عيني على صورة مرسومة بالحبر الأسود لرجل تبدو ملامحه تائهة وإلى جواره كُتبت العبارة التالية :" " أية ثورة تتخلى عن الشرف..تتخلى عن مبادئها.. لأن الثورة قبل كل شيء، هي الشرف " وتحت العبارة اسم البير كامو، وهو من الاسماء التي كنت مغرما بها الى جانب سارتر.

كان مؤلف " الغاضبون " صحفي مصري شهير اسمه " كامل زهيري " تعودت ان اتابع ما يكتبه في مجلة الهلال من مقالات عن طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم، وينشر في مجلة روز اليوسف مقالات بعنوان " مذاهب غريبة ".

المقهى في تلك الايام كان  المكان المناسب الذي اتصفح فيه الكتب التي اشتريها من مكتبات شارع السعدون، فالفضول يحاصرني ولاطيق صبرا حتى اصل البيت، في المقهى تاخذ  يداي بملاعبة الورق ، قرأت مقدمة " الغاضبون " والتي يقول فيها كامل زهيري ان صفحات هذا الكتاب تقدم للقارئ ادب الاحتجاج او الادب الغاضب او المغضوب عليه فهو ادب :" متململ، قلق، متفجر متطاير الشظايا "، وفي الفصل الاول ياخذنا كامل زهيري في جولة مشيا على الاقدام نتفحص شوارع باريس الضاجة بالحركة ونتطلع الى المقاهي التي كان سارتر يقضي فيها اكثر يومه ونذهب باتجاه السوربون التي خَّرجت معظم عباقرة فرنسا،  هناك حيث كان ميرلو بونتي يلقي دروسه، وفي مكان آخر كان ميشيل فوكو يستمع الى توجيهات استاذه التوسير.. وفي ساحات باريس سيردد الطلبة اسم كاتب الماني اشعل شرارة انتفاضة 1968 انه هربرت ماركيوز صاحب الكتاب الشهير" الانسان ذو البعد الواحد "، الذي اعلن ان الانسان غريب في مجتمع التكنلوجيا والتقدم الالي، وان الآلات تأكل ابنائها المساكين، وكان يرى ان " الديمقراطية الراسمالية تستطيع بالتكتلوجيا ان تشدد قبضتها اقوى من قبضة الحكم المطلق".وسياخذني " الغاضبون " في رحلة ممتعة، تعرفت فيها للمرة الاولى على السيريالية في فصل بعنوان " السريالزم "، وقرأت عن حركة اسمها الفوضوية كان يتزعمها رجل روسي اسمه باكونين، عاش هاربا ناقما على المجتمع البرجوازي، ساخرا من كارل ماركس الذي التقاه في لندن، حيث قامت حينها اكبر معركة بين الاشتراكية والفوضوية، وتتدخل في المعركة الافكار والمبادئ، لكن سرعان يلتقي ماركس وباكونين ويبدي كل منهما اعجابه بالآخر،  فيكتب باكونين عن ماركس بعد اللقاء :" كتاباته رصينة، وعميقة كأي شيء يكتبه ماركس ولا يتصل بشخصه.. عاد الينا الصفاء "، فيما يصف كارل ماركس في رساله الى صديقه انجلز لقاءه مع باكونين:" رايته امس مساء مرة ثانية لاول مرة بعد ستة عشر عاما، ويجب ان اقول لك انني احببته كثيرا.. وجدته شخصية نادرة، يتطور ويتقدم ".

ينحدر " ميخائيل ألكسندروفيتش باكونين " المولود في الثلاثين من آيار عام 1814 من اسرة روسية ارستقراطية، كان جده مستشار دولة ونائب رئيس المجمع العلمي في عهد الامبراطورة كاترين الثانية. درس والده الفلسفة في ايطاليا، وتولى مناصب في السلك الدبلوماسي لكنه استقال ليتولى إدارة اراضي الاسرة، تزوج وانجب احد عشر طفلا كان ميخائيل ثالثهم. الام كانت تعمل "مصممة أزياء" يصفها بانها صارمة شبه مستبدة، لكنها اهتمت باولادها بأن وجهتهم لقراءة الادبوالاستماع للموسيقى.. عندما انهى دراسته الاعدادية دخل مدرسة المدفعية ليتخرج ضابطا، لكنه سرعان مايقدم استقالته من الوظيفة ليتفرغ لدراسة الفلسفة، سافر الى المانيا عام 1840 لاستكمال دراسته لفلسفة هيغل وفيتشه، هناك يتعرف على حركة الهيغيليين الشباب، وتحت تاثير هذه الحركة صاغ باكونين تصوراته الفلسفية حول تغييرالعالم، وقد رأى باكونين في هيغل نقطة انطلاق نحو تعميق نزعته التمردية، يكتب في جريدة الهيغيليين مقالات تحت اسماء مستعارة وفي واحدة منها يعلن :" ان عاطفة التخريب والهدم عاطفة خلاقة ". طلبت الحكومة الروسية منه العودة الى البلاد، لكنه يقررالسفر الى باريس حيث اتصل ببرودون وماركس، يبدأ من باريس صوغ نظريته الفوضويه، إلا ان السلطات الفرنسية تقرر طرده فيسافر الى براغ ثم الى مدينة درسدن الالمانية حيث يشارك في ثورة المتاريس عام 1848، تعتقله السلطات الالمانية وتسلمه الى حكومة بلاده، يدخل السجن حتى عام 1857 وفي السجن يكتب " اعترافاته " التي لم تنشر إلا بعد وفاته، بعد خروجه من السجن يهاجر الى لندن التي لم يمكث فيها طويلا حيث يستقر في ايطاليا ليؤسس فيها عام 1868 " التحالف للديمقراطية الاشتركية " الذي جاء في بيانه الاول " يعلن الحلف انه ملحد، ويهدف الى الغاء الطبقات والمساواة السياسية، والتسوية الاجتماعية بين الرجال والنساء، ويرغب في ان تكون الارض ووسائل العمل وانواع راس المال الاخرى، ملكا مشتركا للمجتمع "،  في العام نفسه ينتمي الى " الرابطة الدولية للشغيلة "، لكن سرعان ما سيختلف مع ماركس حول مفهوم الاممية، عام 1872 يُفصل من الرابطة،، يستقر في مدينة برمن السويسرية التي يتوفى فيها في الاول من تموز عام 1876. اصدر باكونين عددا من الكتب ابرزها الثورة الاجتماعية او الدكتاتورية العسكرية "، " الفيدرالية والاشتراكية "، " السلطة والحرية حول الماركسية والفوضوية " و " الاله والدولة " وهو اشهر كتبه حيث تصدى من خلاله الى تحليل المجتمع والدولة، فقد كان يرى ان الدولة يخلقها الدين في قلب المجتمع الطبيعي، ولهذا فهي تقف في جذر كل اشكال العبودية، وان جوهر الدولة هو صورة سلبية للحرية..كان باكونين يرى ان الانسان يمر بثلاث مراحل إذ تطور من الحيوان الى المفكر، ثم يصعد بعد ذلك الى مرحلة الثائر.

يصف لنا كامل زهيري في واحدة من مقالاته التي نشرها في روز اليوسف بقايا الحركة الفوضوية في فرنسا قائلا :" في باريس شارع ملتو طويل ملتو منحدر قذر فقير اسمه شارع مفتار.. كان منذ اكثر من ستين عاما مركزا لجريدة " الثورة " الفوضوية " ويصف مقر هذه الجريدة فيقول انه :" صعد الى بيت قديم به اربعة ادوار، وعندما وصل الى الدور الرابع وجد دورا آخر يؤدي الى سلم خشبي ضيق.. هناك وجد باب الجريدة مغلقا وقد كتب عليه : ادفع الباب.. لا يوجد جرس ".

والفوضوية تيار فلسفي قديم، تعود جذوره الى العصر الاغريقي، يوصف ديوجين بانه اول فوضوي تمرد على تقاليد المجتمع.. وتجمع آراء الباحثين ان الفوضوية فكرة اجتماعية تستند على

وانا اتجول في كتاب كامل زهيري  طالعتني صورة سلفادور دالي بشاربه الذي طالما شكّل علامة تجارية لهذا الفنان الغامض، وستضم قائمة " الغاضبون " الروسي ايليا اهرنبورغ الذي كانت دار اليقظة العربية السورية قد اصدرت له ثلاثة روايات  " سقوط باريس " و" العاصفة "، " الموجة الصاخبة " وسيدلني  زهيري الى رواية صغيرة لاهرنبورغ اسمها " ذوبان الثلوج "، ساقرأها فيما بعد بترجمة سعد زهران، وهي رواية تقدم مراجعة نقدية للفترة الستالينية،حيث يحيلنا عنوانها الى الفترة التي أعقبت وفاة ستالين وما تميزت به من قدر لا بأس به من حرية التعبير..  صدرت الرواية عام 1954 وهو في العام التالي مباشرة لوفاة ستالين، وستصبح  العمل الادبي الأشهر بين أعمال اهرنبورغ، بل مرجعاً يستند إليه كل المنشقين في دفاعهم عن حرية الأدب والفن والتعبير عموماً، حيث فتحت " ذوبان الثلوج "، عصراً جديداً من الأدب السوفياتي وفضحت الفترة السابقة، ثم أعارت اسمها لكل العملية النقدية والنقضية التي نسفت الستالينية من أساسها. ولم تمنع  ملاحظات اهرنبورغ على النظام السياسي من الوقوف بوجه النازية عندما غزت بلاده روسيا حتى انه كتب اعظم اعماله عن صمود الاتحاد السوفيتي ضد البربرية النازية.

كان كامل زهيري المولود في السابع والعشرين من ايار عام 1927، قد وصل الصحافة بعد رحلة بدأت بدراسة القانون تلبية لرغبة والده الذي كان يتمنى ان يرى ابنه قاضيا او وزيرا، إلا ان كامل الشاب كانت القراءة قد اخذته الى عالم آخر، يتذكر عندما عثر على كتاب طه حسين الايام "، والمرة الاولى التي شاهد فيها طه حسين عام 1946 عندما ذهب الى مجلة " الكاتب المصري " ليحضر ندوة اقامها طه حسين تكريما للكاتب الفرنسي اندريه جيد الذي كان يزور مصر آنذاك، وسيحاول كامل زهيري تتبع خطوات طه حسين في باريس التي ذهب اليها لدراسة القانون، لكن عشقه لعميد الادب العربي يغلبه، فلم يتمكن من اكمال دراسة القانون، ويبدأ بدراسة الادب في جامعة السوربون.. في باريس يجد نفسه مغرما بالحي اللاتيني :" فرنسا عندي هي باريس، وباريس هي الحي اللاتيني، وباريس هي شباب فرنسا، والحي اللاتيني هو هذا الشباب ". وعندما عاد من باريس يجد نفسه منجذبا الى تجمعات السيرياليين المصريين ويسهم في تاسيس جماعة ثقافية باسم " التطور "، يترك المحاماة ليعمل مذيعا في القسم العربي في اذاعة الهند، ومن هناك يصبح مراسلا لجريدة الاهرام حيث يقدم للقراء حكايات عن الهند وتاريخها واسرارها وتنوع حضارتها، ومن الاهرام يجد نفسا محررا في مجلة روز اليوسف التي شهدت انطلاقته الحقيقية في عالم الصحافة، ويعترف في اكثر من مقال ان اكتشافه كصحفي يعود الفضل فيه الى أحسان عبد القدوس : " علمني احسان كيفية توصيل أي فكرة لأي أحد دون احراج .. وعلمني كيف اجرح بدون اسالة دماء …وأن الأعلى صوتا ليس غالبا هو الأقوى حجة ".

عام 1958 يصدر اول كتبه "  مذاهب غريبة "  وتطالعنا صورة الغلاف وقد رسمت عليها وجوه ثلاث شخصيات وهي " تولستوي وشوبنهاور ونيتشه " ، في مقدمة الكتاب يخبرنا انه يقدم هذه المذاهب الغريبة لانها تحمل داخلها جرأة كبيرة علينا ان نتعود عليها لان المعرفة الحقيقية هي وليدة افكار عدة :" ليست هناك فكرة واحدة ثابتة، تستطيع أن تزعم لنفسها الدوام، بل الأفكار عديدة، تتصارع في سبيل البقاء، وتحاول التشبث بالأرض والنفاذ بجذورها إلى أعماقها، وقد تنجح أو تموت ".

تتنوع رحلة كامل زهيري مع الصحافة، لكنها تظل علاقة مرتبطة بالكتاب منذ ان وجد نفسه يفدم عروضا للكتب في مجلة " الكاتب المصري "، وقد نقل هذا الشغف معه عندما تولى رئاسة تحرير مجلة الهلال فكان يشرف على تحرير زاوية بعنوان " موسوعة الهلال الاشتراكية " والتي صدرت فيما بعد بكتاب كبير الحجم، واشرف على اصدار اعداد خاصة عن   " طه حسين| و" توفيق الحكيم"  و" العقاد"و" أحمد شوقي " واختتمها بـ " نجيب محفوظ "

ولقد ظللت حريصاً على متابعة ما يكتبه كامل زهيري وخصوصا في مجلة الهلال وساعثر ذات يوم على عدد من مجلة الهلال تتصدره صورة لرجل يبتسم مع عنوان " ايفتشنكو في القاهرة.. حياته.. اعترافاته.. اشعاره ".. وكنت قد قرأت من قبل ايفتشنكو مقالا قصيرا نشرته مجلة الاداب تحدثت فيه عن الشاعر السوفيتي الذي احدث ضجة عالمية عندما كتب قصائد تنتقد  العهد الستاليني وتوجه سهام السخرية للنظام السوفيتي، وكانت مجلة المصور المصرية قد نشرت حوارا اجرته الصحفية والكاتبة صافيناز كاظم مع يفتشنكو وكان تحت عنوان :" حديث خاص مع الشاعر الروسي ايفتشنكو، الشاعر المشدود بين مدينة لا ومدينة نعم، ". كان اللقاء يحتوي صور كثيرة للشاعر وهو يلقي قصائده  مع بعض المختارات من قصائدة.في تلك السنوات كانت اشعار ايفتوشينكو الغاضبة تستحوذ على اعجاب الآلاف من القراء، اضافة الى الشباب الذين كانوا يطاردونه وهو يلقي فصائده  في الساحات العامة والملاعب الرياضية وقاعات المحاضرات، حيث مثلت مشاعر الامل والخوف والغضب التي كانت تنتاب الجيل الذي ينتمي اليه للشباب يفتوشينكو والذي كان يكافح من اجل اسدال الستار على مرحلة ستالين، و قصيدته"ورثة ستالين"، التي نشرت في عام 1962، فقد أثارت أيضاً الروس، فقد ظهرت في وقت كان يخشى  من عودة  القمع الستاليني مرة أخرى إلى البلاد. ولم تنشر إلا بعد أن قام نيكيتا. خروتشوف، زعيم الحزب الشيوعي السوفيتي الذي دخل في صراع على السلطة مع المحافظين، بالتدخل أثناء ما عرف بسياسة"ذوبان الجليد"الثقافي. وكان قد  أدان ستالين من قبل ووصفه بانه كان طاغية مجنوناً. وظهرت القصيدة في البرافدا، الصحيفة الرسمية للحزب الشيوعي، وسببت ضجة كبيرة.

في مقدمته التي كتبها كامل زهيري للعدد الخاص الذي اصدرته الهلال عن الشاعر ايفتوشنكو يخبرنا ان " صحبة الشعراء تعلم الغواية. وقد علمني ايفجني الكسندروفيتش ايفتوشنكو الغواية الممتعة ".

هذه الغواية الممتعة في صحبة الادباء والشعراء والفلاسفة من خلال كتبهم هي التي جعلتني اقرر ان اكتب كتابا اخصصه للشخصيات التي تمردت على عصرها، رغم ايماني ان معظم الكتاب تمردوا على واقعهم.. فمعطم الادب المعاصر وخصوصا الادب بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية هو ادب تمرد ونضال وبطولة.. فالاعوام القاسية التي عاني منها جيل الحروب تركت اثرا لايمحى في نفوسهم واحدثت انقلابا شاملا في تفكيرهم وفي نظرتهم الى الحياة.

يكتب البرتو مانغويل :" هناك كتب نتصفحها بمتعة ناسين الصفحة التي قرأناها ما أن ننتقل الى الصفحة التالية. وكتب نقرأها بخشوع دون أن نجرؤ على الموافقة أو الإعتراض على فحواها. وأخرى لا تعطي سوى معلومات ولا تقبل التعليق. وهناك كتب نحبها بشغف ولوقت طويل، لهذا نردد كل كلمة فيها لأننا نعرفها عن ظهر قلب ".

في هذا الكتاب احاول استعادة كتب احببتها بشغف ولاتزال تشكل جزءً من يومياتي في القراءة.. كتب عشت معها.. ثم فكرت في ان انقل شغفي بها الى القراء، وكما يقول هنري ميلر في كتابه " الكتب في حياتي وهو يختصر للقراء شغفه باتلكتب والكتاب قائلا " لقد كانوا لحياء، وكانوا يتحدثون معي " واتمنى ان يجد القارئ في " المتمردون " كتابا حيا عن كتب لا تزال تعيش معنا.. كتب عظيمة اتمنى ان تعيد قراءتها بعد ان تنتهي من هذا الكتاب. وساشعر بالامتنان لو انك وضعت خريطة لقراءة الكتب المتمردة، فربما اشعر بانني نجحت الى حد ما في اثارة روح التمرد لديك.

***

علي حسين – كاتب

............................

* مقدمة كتاب "المتمردون" الصادر حديثا عن دار المدى

 

في المثقف اليوم