قراءة في كتاب

لماذا وقعت في غرام أوغستو باستوس؟

4188 ابن الانساناليوم الجمعة كان يوما حافلا.. حضرت حفل توقيع كتاب الصديق والفنان القدير علي المندلاوي "في مرايا المندلاوي" والذي اقيم في بيت المدى للثقافة والفنون، وتربطني بالعزيز علي المندلاوي صداقة عمر تمتد لاكثر من اربعة عقود، كان له الفضل في طباعة كتابي الاول " سامي عبد الحميد " الذي نشر عام 1980، وقد قام الصديق المندلاوي بتصميم الكتاب ورسم صورة الغلاف. بعد انتهاء فعالية بيت المدى ذهبت باتجاه مكتبة الحكمة لاحصل على نسخة من كتاب الصديق الشاعر خالد مطلك " مدينة كاووش " وخالد مطلك واحدا من ابرز الكتاب العراقيين، عندما اقرأ له على قلة كتاباته اتذكر قصة لابراهيم اصلان يقول فيها: " هناك طيلة الوقت كتاب.. وهناك كتبة.. وهناك مستكتبون. والكل يكتب. اسباب الكتابة معروفة في بعض الاحيان. وغير معروفة في اغلبها. إلا ان هناك. في هذه الدنيا، قلة منذورة للكتابة " وفي رايي المتواضع ان خالد مطلك من هذه القلة برغم تقاعسه.. وايضا ينطبق هذا الوصف على الصديق ستار كاووش فهو من القلة المنذورة للفن.. وبالتاكيد ساكتب بالتفصيل عن كتاب خالد مطلك، او بالاحرى ساكتب عن خالد وكاووش معا.

المفاجاة الابرز في جمعة المتنبي كانت اللقاء بالمترجم الكبير بسام البزاز الذي يعد واحدا من افضل المترجمين العرب عن الاسبانية.. الدكتور البزاز يعيش حاليا في الجزائر وكان يعمل استاذا في جامعة الجزائر لكن عقده انتهى بعد ان بلغ الـ " 70 " وحاليا كما اخبرني ينتظر عملا جديدا. تخيل جنابك مترجم واكاديمي قدير لا تسعى جامعاتنا للاستفادة من خبراته، قبل ان التقي بالدكتور البزاز كنت سألت دار المدى عن آخر روايات الكوبي ليوناردو پادورا، وعنوانها "كغبارٍ في الريح "، فاخبروني انها بالمطبعة وبترجمة بسام البزاز الذي كان له الفضل الاول بتعريف القارئ العربي على هذا الكاتب المثير، بعد ان ترجم له روايات " الرجل الذي يحب الكلاب " و" رواية حياتي " و " وداعاهمنغوي "

 قبل اسابيع من لقائي بالاستاذ بسام البزاز كنت قد قرأت ترجمته الرائعة البزاز لرواية " ابن الانسان " للكاتب الباراغويي أوغستو روا باستوس والذي للاسف لا يزال اسماً مجهولاً عند الكثير من القراء العرب، وقد حدثني الاستاذ بسام انه انتهى من ترجمة رواية باستوس الشهيرة "أنا الأعلى" والتي تعد واحدة من افضل الروايات التي كتبت عن الدكتاتورية نشرت عام 1974، قبل عام من نشر غابريل غارسيا ماركيز روايته " خريف البطريرك ".. ولأدباء امريكا اللاتينية ملاحم رائعة في كشف الطغاة منذ ان نشر الكاتب الغواتيمالي ميغيل انخيل أستورياس روايته " السيد الرئيس " عام 1946 والتي يعتبرها النقاد الرواية التي ساهمت بانتقال رواية امريكا اللاتينية الى مرحلة جديدة التي سميت الواقعية السحرية.يكتب الروائي كارلوس فونتيس:" يواجه أستورياس نفس العالم القدري والمستغلق للرواية التقليدية، ولكنه بدلا من ان يتوقف عند التوثيق المعتم يجد الشفافية في الاسطورة وفي اللغة. وتتمثل طريقة تشخيصه للافراد المجهولين في غواتيمالا في ردهم الى اساطيرهم والى لغتهم السحرية، لغة قريبة في تكوينها من لغة السيريالية "

عندما نتطلع الى غلاف رواية لكاتب غير معروف بالنسبة لنا. نطرح ببساطة السؤال: هل تستحق هذه الرواية ان نخصص لها وقتا ممكن ان نقضيه مع كتاب مفيد او مع رواية لكاتب مشهور ؟ هذا السؤال كان يطرح عليّ اثناء فترة عملي في احدى المكتبات الاهلية، وكنت آنذاك وبدافع " الغرور " انصح القراء بالسعي لقراءة روايات الكتاب المشهورين، لماذا ؟ حتى هذه اللحظة لا اعرف، ربما لانني كنت اريد ان استعرض " عضلاتي " امام الزبائن واتحدث عن روايات اعرفها.

قبل مدة وفي زاوية صباح الكتب نشرت مقتطفا من رواية " ابن الانسان " للروائي أوغستو روا باستوس، فكتب لي احد اصدقاء الصفحة يسأل: هل تستحق هذه الرواية ان اشتريها، وماذا تقترح هل هي افضل ام رواية ايزابيل الليندي الجديدة " فيوليتا " ؟ طبعا الجواب في مثل هذه الامور يبدو صعبا، فانت لا تستطيع أن تفرض ذائقتك في القراءة على قارئ يطلب منك النصيحة. ثم ان ايزابيل الليندي مغرية، تملك قدرة على اخضاع القارئ لها. لكني تعلمت منذ ان بدأت افهم مغزى القراءة ان كل عمل ادبي سواء كان رواية او شعر او مسرحية يفتح لنا ابواب عالم جديد لا يمكننا الوصول اليه إلا بقراءة ذلك العمل، فالقراءة عملية ينبغي علينا ان نكرس عقلنا وقلبنا ومشاعرنا وخيالنا بدون أي تحفظات لإعادة خلق العالم داخل نفوسنا، معتمدين على الكلمات. فالعمل الادبي كما يقول الناقد هيليس ميلر:" يصير حيا وكانه مسرح داخلي يبدو مستقلا عن الكلمات الموجودة على الصفحات الموجودة " –عن الادب ترجمة سمر طلبة.. وما عبر عنه هيليس في كتابه حصل معي عندما قرأت للمرة الاولى رواية كافكا " القصر – او القلعة في بعض الترجمات " حيث وجدت ان عالم داخلي يتولد لديَّ، وبدت لي رواية كافكا مرجعية فكرية عن ازمة الانسان لا تضاهيها اية مرجعية فلسفية.. وتعلمت ايضا خلال تجربتي مع الكتب ان القراءة كالحب، فهي ليست فعلا سلبيا، وتتطلب من القارئ قدرا من الطاقة العقلية والوجدانية. إنها تتطلب منا ان نستخدم كل قدراتنا وملكاتنا لإعادة خلق عالم العمل الادبي الخيالي. يكتب اميل زولا في كتابه الممتع " فن الرواية " – ترجمة حسين عجة -:" كي تقرأ رواية بالطريقة الصحيحة عليك ان ترتد طفلا صغيرا ".

ولإعد الآن لرواية " إبن الانسان " للروائي المجهول لدينا للاسف أوغستو روا باستوس الذي توفي عام 2005، فاعلت الاوروغواي الحداد العام لمدة ثلاثة ايام، صدرت الرواية عن دار ممدوح عدوان.

 في كتابه ذاكرة النار – ترجمة اسامة اسبر - يكتب ادواردو غاليانو وصفا لرواية " إبن الانسان " قائلا "" إن جزءاً من عنف وقسوة هذه الرواية يظهر من خلال وصف مؤلفها المدهش للجنود السائرين مهزومين ضائعين من الذين لم يبق لديهم في أجسادهم قطرة ماء يمكن أن تتحول الى دمعة ". يعتبر النقاد ان ظهور " إبن الانسان " عام 1960 كان ايذانا بظهور الروايات الكبرى التي تتناول تاريخ بلدان امريكا اللاتينية. في مقدمة روايته والتي هي القسم الاول من ثلاثية روائية، يخبرنا أوغستو روا باستوس انه استوحى احداث الرواية من تاريخ ومجتمع باراغواي. حيث تبدا الاحداث عام 1865 والباراغواي تخوض حربا ضد عدد من الدول المجاورة لها استمرت خمس سنوات، ونعرف من خلال احداث الرواية ان سبب هذه الحرب هو مزاج حاكم الباراغواي آنذاك سولانو لوبيث وكان ديكتاتورا دمويا، يشعر بالعظمة فيقرر ان يعلن الحرب على ثلاثة بلدان هي البرازيل والارجنتين والاورغواي.. ورغم ان الروائي لا يحدثنا بشكل مباشر عن هذه الحرب الدامية، لكن الاحداث نشاهدها من خلال حكايات اهالي احدى قرى الباراغواي وهم يستعيدون كوارث هذه الحرب والناس الابرياء الذين ذهبوا ضحايا غرور الديكاتاتور.. لكن هؤلاء الناس وهم يستعيدون حكايات الحرب يتوهمون ان الحرب لن تطرق ابوابهم ثانية، إلى ان تحدث انتفاضة عام 1912، حيث نجد انفسنا بمواجهم مجموعة من المتمردين يقررون التوجه الى العاصمة، لكن في الطريق تنفجر عليهم حافلة محملة بالقنابل كانت الحكومة قد ارسلتها للقضاء على التمرد.. ونجد بعض الناجين من هذه المجزرة يقررون الهرب من قريتهم، حيث يعمل احد المتمردين كاسيو جارا، وزوجته لدى شركة زراعية، يحاولان نسيان الماضي وتأسيس عائلة برغم الفقر والديون التي تحاصرهم، متوهمين ان الحرب قد تجاوزتهما، إلا ان ابنهما كريستوبال، سيشارك متطوعا في حرب جديدة هي حرب التشاكو التي اندلعت عام 1932 والتي كانت حداً فاصلاً بين مرحلتين في حياة الاوراغواي، حيث تبدأ سيطرة العسكر على مقاليد البلاد. هذه هي الحرب من جديد وجراحها العميقة، والتي يقول عنها بطل الرواية انها ليست نزهة انها جحيم وقبل كل هذا انها خديعة:" كل حرب هي خديعة.. لكننا عميان لا نبصر نؤخذ بالعبارات والشعارات الرنانة ".

حكاية الحروب والدكتاتورية يصورها لنا روا باستوس في ثلاثية " إبن الانسان " و " الرقيب " وانا الأعلى " التي يصور فيها عنف السلطة المطلقة، ومسيرة الدكتاتور خوسيه غاسبار رودريغز دي فرانسيا، لكنه في المقابل يؤكد ان هذه السلطة لا يمكنها ان تعيش الى الابد.. فنجد الدكتاتور في نهاية رواية " انا الاأعلى " يجري حوارا مع كلبه، وكانه يحدث نفسه. حيث يرى ان اجله قد اقترب، فهو غير حزين لفقد السلطة بقدر حزنه لفقدانه فعل الاملاء، لا يفكر في مسالة الاطاحة به بقدر ما يفكر في فقدان القدرة على النطق.

عندما سأل أوغستو روا باستوس عن حياته وكيف عاشها قال " إن حياته حكاية يستحيل وصفها أبدا " ويعترف في واحدة من حواراته بانه صانع حكايات تقليدي، يصف السنوات الطويلة التي عاش فيها مشردا عن وطنه بانها مدرسة لتعلم الالم،:" " إن البعد عن الوطن لقنني فن الكتابة، حيث كنت اتابع ملامح وجوه أبناء وطني ولمست ثقل آلامهم ".

ولد أوغستو روا باستوس في الثالث عشر من تموز عام 1917، في العاصمة أسونسيون، لكنه قضى فترة صباه في " ايتوري " وهي قرية معروفة بانتاج السكر تقع وسط الاوراغواي حيث كان الده كان مديرا لاحد معامل السكر. عاش طفولة عادية، اكمل دراسته الابتدائية، لكنه توقف لفترة عن اكمال دراسته الثانوية بسبب حرب التشاكو متطوعا وكان في الخامسة عشر من عمره. كتب وهو شاب صغير عملا مسرحيا بالاشتراك مع والدته التي كانت تهوى المسرح، عرض في العديد من القرى ومدن الأرياف.كرس حياته للعمل الصحفي واصدر اول دواوينه الشعرية عام 1942 بعنوان " عندليب الفجر " نال عنه الجائزة الوطنية للشعر. في الاربعينيات سافر الى الى انكلترا ثم الى فرنسا في رحلات صحفية بعد ان تولى رئاسة تحرير صحيفة "الباييس" اليومية، بعد عودته الى بلاده تمكن من عرض ثلاثة اعمال مسرحية له قبل ان يقوده تأيده للحركة الثورية عام 1947 ضد حكومة مورينيغو الى المنفى، خلال سنوات الهجرة كان يقوم بزيارات سرية وقصيرة لبلدته، حتى عام 1982 حيث تم سحب جوازه وطرده نهائيا لمعارضته لحكومة الديكتاتور سترويستر.

وعلى مدى سنوات الغربة كرس روا باستوس حياته للصحافة والنقد وكتابة السيناريوهات السينمائية في الارجنتين ثم في فرنسا التي عمل فيها استاذا بجامعة تولوز قام بتدريس الادب الاسباني.نشرت مجموعته القصصية الاولى "الأرض البور" 1966،

بعد الإطاحة بالديكتاتور ستروسنر، عام 1989 عاد في زيارة قصيرة لبلدته ثم قرر الاستقرار بفرنسا لبضعة سنوات، اصدر خلال هذه الفترة نسخة ثانية من روايته " إبن الانسان " صدرت الطبعة عام 1982، وقد صرح لبعض النقاد ان الرواية اصبحت عملا جديدا تماما دون ان تفقد شيئا من مضمونها، مرددا مقولة الشاعر الايرلندي ييتس:" عندنا انقح اعمالي فانا إنما انقح نفسي ". نشرت مجموعة من الروايات ابرزها " حرس الأميرال و" وضدّ حياتي " و " مدام سو " اضافة الى ثلاثيته الشهيرة.

عاد في العام 1996 إلى بلده للإقامة فيه حيث تم الاحتفاء به رسميا وشعبيا زار كوبا عام 2003 للقاء صديقه فيديل كاسترو الذي قلّده وسام خوسيه مارتي. توفي في السادس والعشرين من نيسان عام 2005 بعد تعرضه لازمة قلبية.

ازعم انني وقعت في غرام أوغستو روا باستوس، وان هناك اكثر من دافع وراء دعوتي لقراءة هذا الروائي الكبير، والذي يضع اسئلتنا حول الحرب موضع كشف دائم ودقيق.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

 

في المثقف اليوم