قراءة في كتاب

جون ميلتون وفردوسه المفقود

الخير والشر اللذان تعرفهما في مجال هذا العالم ينموان معاً من دون انفصام تقريباً.

 جون ملتون من "الفردوس المفقود"

في العام 1644 وجد جون ميلتون في احدى المكتبات كتاب ديكارت " التاملات " واكتشف باعجاب الفكر الديكارتي، يكتب في يومياته:" كانت لدي رغبة شديدة في تعلم كيفية التمييز بين ما هو حقيقي وما هو زائف، وقد جعلني هذا الكتاب اضع قدمي في هذه الحياة بثقة وطمأنينة ". كان ديكارت يحاول ان يرسي اسس الفكر الحديث، واطلق دعوته الشهيرة بعدم جدوى الدخول مع الكنيسة حول ما جاء في الانجيل حرفيا حقيقي ام لا، فبدلا من ذلك ينبغي وضع المعرفة العلمية وفي متناول الناس. كتب ديكارت:" الفلسفة هي التي ترشدك بصورة اضحة إلى طريق الحقيقة بالنسبة لكل شيء، وهي ايضا التي يمكن ان تؤثر حتى في الاغبياء من الناس ". وكان رأي ديكارت أن المفكر الحر هو ما يعتقد بامكان معرفة كل شيء، ولا يتخلى عن الشك قط إلا في حالة وجود البرهان. كان ميلتون في السادسة والثلاثين من عمره عندما ارسل خطابا شديد اللهجة الى البرلمان الانكليزي حول حرية الفكر.. وحرية نشر الكتب، وانتقد بشدة اجراءات الحكومة التي كانت قد اتخذتها بخصوص الرقابة على المطبوعات منبها ان العالم يدخل عصرا جديدا يجب ان تضاء به انوار المعرفة، ويكتب جون راندال في " تكوين العقل الحديث " ان خطاب ميلتون يعد اهم وثيقة قدمت مساعدة كبيرة في الحملة التي شنت ضد افكار القرون الوسطى، في خطاب ميلتون الذي طبع فيما بعد في كتيب صغير نجد للمرة الأولى حديثاً صريحاً عن قضية حرية التعبير، وكان ميلتون في الكتاب يسعى لفضح الأساقفة ومعهم القائمون على إدارة الكنيسة باعتبارهم نموذجاً سلبياً يريد قمع حرية الفكر.. كان ميلتون قد سافر عام 1638 الى إيطاليا لياتقي غاليلو العجوز، سجين محكمة التفتيش.. وطالب آنذاك بالغاء محاكم التفتيش واتهم الرهبان" الشرهين والجهلة " بأنهم يقفون في وجه تقدم أوروبا.. ويذهب ميلتون في محاججته، بعيداً حين يقول إنه ليس من المناسب، حتى، منع طباعة ونشر الكتب التي قد تبدو احياناً، مضادة لمصلحة الدولة أو الكنيسة، لأن الرقابة قد ترتكب الخطأ، إذ تجازف مثلاً، بأن تجد نفسها في مواجهة أفكار تكون من القوة والجدة والرفعة، بحيث قد تبدو في نظر الرقابة مناهضة للمبادئ الأخلاقية أو الدينية، ثم يتبيّن العكس. ويعطي ميلتون مثالاً عن محاكمة غاليليو،" هذه المحاكمة ندّدت بالعالِم وأجبرته على التراجع عن أفكاره، لكن ها هو اليوم بعد سنوات قليلة يعتبر أحد كبار العلماء الذين أنجبتهم البشرية، وها هي أفكاره تعتبر صحيحة وثابتة علمياً "، ويذكر ميلتون كيف أن محاكم التفتيش لم تحاكم فكر غاليليو بقدر ما حاكمت جرأته وتطلّعه الى المستقبل، وقوته الثورية.ورغم أن ميلتون خسر معركته في ذلك الوقت وصدر قرار بمنع الكتيب الخاص بحرية الطباعة، إلا أن الأفكار التي طرحها وجدت صداها في باريس حيث ترجم ميرابو خطيب الثورة الفرنسية كتاب ميلتون ونشره عشية الثورة الفرنسية، واستخدمته كتائب المقاومة الايطالية ضد الفاشية في فضح نظام موسوليني، بعد ان ترجم الكتاب الى الايطالية ووزعت منه عشرات آلاف النسخ.4216 الفردوس المفقود

طوال حياته التي استمرت ستة وستين عاماً - ولد في التاسع من كانون الثاني 1608 وتوفي في الثامن من تشرين الثاني عام 1674 - ظل جون ميلتون مقاتلاً شرساً في الخطوط الأمامية من معركة التنوير، فقد كرس، حياته لنشر الافكار الحديثة، وجرب أن يجعل من الشعر وسيلة من أجل الدعوة للحق.. كان الالن الثالث لأحد رجال القانون، عاش طفولة مرفهة، أُرسِل الى مدرسة دينية، لكنه اكتشف منذ الصغر ميلاً الى الأدب وقراءة النصوص الكلاسيكية، يكتب في يومياته:" كنت منذ سنواتي الأولى بفضل عناية أبي، دائم الاطلاع على اللغات وبعض العلوم التي تسمح بها، لقد وجهني ابي منذ حداثة صباي الباكرة لدراسة الآداب الإنسانية التي كنت أستوعبها بلهفة عظيمة”.. في سن السادسة عشرة من عمره التحق بجامعة كيمبردج ومن هناك يعلن لأساتذته انه يرفض" المعلومات التافهة الحمقاء " التي يحاول الأساتذة حشرها في عقول الطلبة والتي تسبب "جوعاً في الروح"، في تلك السنوات بدأت تجاربه الأولى في الشعر، ورغم أن أبوه أراد له أن يصبح قساً، إلا أن ميلتون رفض الامر لانه يريد " التحليق في سماء الاحلام، وإشباع رغبته في أن يسمع نفسه وهو يفكر ويتأمل”، وكان يطمح أن يكتب ملحمة شبيهة بملحمة دانتي"الكوميديا الإلهية "، فسافر الى إيطاليا وهناك يُغرق نفسه في شعر دانتي وبترارك،، لكنه ما أن يسمع أنباء التوتر السياسي في بلده حتى يسرع بالعودة الى لندن، وكان النزاع بين الملك ارثر والبرلمان قد اشتد، حيث طالب معظم النواب بإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية، ووجد ميلتون نفسه ينضم الى معسكر الاصلاحيين الذي تغلب وقضى على الملكية باعدام الملك شارل الأول عام 1649، وخلال فترة حكم كروميل راح ميلتون يكتب مقالات تدعو الى الإصلاح الديني والسياسي وتطالب بحرية الفكر، وفي تلك المقالات أكد ميلتون إن القوة تكمن دائماً في الشعب.ويضيف إن الشعب يودع ثقته إلى حاكم يختاره وفي حالة انحراف الحاكم فان الشعب مخول أن يسحب ثقته من ذلك الحاكم، وفي عام 1651 كان ميلتون يشرف على أهم جريدة حكومية وأصدر كتاباً بعنوان " دفاع عن الشعب الانكليزي ". وفيه يوجه هجومه ضد" الصرافيين الذين يدنسون معبد الدين، رجال فرض عليهم أن يكونوا رعاة القطيع، فأباحوا لأنفسهم أن يصبحوا ذئابه، وبدلاً من أن يطعموا شعبهم، غدوا يعيشون على دماء هذا الشعب"، وقد حظيّ الكتاب باهتمام من القراء حيث طبع خمس عشرة طبعة خلال عام واحد.. في تلك السنوات بدا بصره يضعف بسبب انهماكه في القراءة والكتابة.. وبعد وفاة كروميل تم القضاء على الحكم الجمهوري وسرعان ما تولى شارل الثاني العرش، وألقي القبض على ميلتون حيث أودع السجن وحكم عليه بالاعدام ثم خفف الحكم، بعدها استطاع أحد الشعراء من انصار الملكية أن يتوسط ليطلق سراحه، يذهب الى بيته يعيش في عزلة مطلقة، فقد رأى وطنه ينهار من جديد.. وفي هذه السنوات تفرغ لإكمال ملحمته الفردوس المفقود وهو في الخمسين من عمره، ففي هذه السنوات فقد بصره وبعدها زوجته وابنه الوحيد. وبسبب هذه المآسي توقف ليسأل نفسه لماذا أصيب بكل هذه الكوارث وهو الإنسان الملتزم المؤمن بقضية شعبه، ولهذا يذهب العديد من الباحثين إلى القول أن ميلتون كتب"الفردوس المفقود" في محاولة للرد على شكوكه لحظة في إنسانيته، والتعبير عن قدرة الإنسان الكبيرة على صنع الخير.

والفردوس المفقود اذا نحن عدنا ليوميات جون ميلتون نفسه، سنجده يقول عنه انه محاولة في الملاحم " لاجل تبرير وسائل الله امام الانسان " لكنه خرج بنتيجة اخرى لأن هذا الهدف لا يمكن ان يصمد امام شاعر كافح في سبيل قضية الانسان، فما فعله في " الفردوس المفقود " هو تبرير اعمال الانسان امام الله، نسمع الى آدم وهو يقول:" اقف الآن والشك يملأ جوانحي، حائرا عما اذا كان ينبغي لي الندم على خطيئتي التي اجترحتها، وعما اذا كان لي من السرور، لان كثيرا من الخير انبثق من هذه الخطيئة "، فخير الانسان أن يفقد الفردوس ويستعيده، من عدم الشعور بحزن الفقدان، ثم ما يعقب ذلك من لذة الاستعادة، فبغير الألم يجد الانسان معنى للشفقة الانسانية:" نظرا الى الخلف، الى الجانب الشرقي، فشاهدا الفردوس، الذي كان مأواهم السعيد، فرأيا شعلة متلظية وقد تماوجت، ثم كانت عيون مرعبة محتشدة قرب البوابة، سالت بعض الدموع من مآقيها، فمسحتها سراعا. ان العالم باجمعه امامهم، فلهما الخيار في انتقاء مكان راحتهم، ذلك بأن العناية الربانية تقودهما، ثم تشابكت اكفهما، وسارا بخطى متخذين طريقهما المنعزل المنفرد ".

كان مليتون يرثي في " الفردوس المفقود " فردوسه الارضي بريطانيا التي اجهضت الثورة فيها، استغرق سنوات في كتابة " الفردوس المفقود " ولم يحصل مقابل طبعته الاولى سوى على عشر باونات، كان المرض قد سيطر على جسده، وتركته بناته فعاش وحيدا يتعرض الى سخرية رجال السلطة، في تلك السنوات كتب مأساة " شمشون " التي يعدها النقاد من ابرز قصائده، وفي هذه المأساة يحاول ان يقدم صورة للشعب البريطاني الذي كان محطم النفس، فاقدا القدرة على مواجهة السلطة، عاش ميلتون سنواته الاخيرة رجلا اعمى يسخر منه الناس، فشل في تحقيق مثله العليا، ولم يبق له سوى روحه وعزيمته التي لم يستطع احد قهرهما.

يكتب هارولد بلوم ان ميلتون الذي كان اعظم شاعر في اللغة الانكليزية بعد شكسبير، قد حاول في " الفردوس المفقود" ان يقدم لنا تراجيديا شبيهة بتراجيديات شكسبير:" في ظني ان ميلتون قد واجه الظلال الغريبة لابطال الشر لدى شكسبير، ملتون يحتاج الى التامل،، فهو عالم لماح اصيل وقد ساعده العمة شانه شان جيميس جويس وبورخيس على اثارة كل من الثراء اللفظي ووضوح الرؤية ".

كان لكتابات ميلتون مكانة عظيمة في السنوات المئة بعد وفاته، فقد انتشرت على نطاق واسع بين المفكرين الاحرار، وقد كتب الفيلسوف التجريبي ديفيد هيوم عام 1742 من ان الفردوس المفقود كان اشبه بالدليل في الليالي الحالكة التي مر بها الفكر البشري، وامتلأت مراسلات توماس جيفرسون وهو يضع اعلان الاستقلال الاميركي باقتباسات من مؤلفات ميلتون، وفي فرنسا حاز صاحب " الفردوس المفقود " على اعجاب فولتير وميرابو، فيما يكتب مونتسكيو ان كتب ميلتون الهمته لوضع كتابه " روح الشرائع "، كما عزا توماس بين الذي لعب دورا في الثورتين الاميركية والفرنسية، نزعته المناهضة للكنيسة الى قراءته لكتابات ميلتون ان الشاعر الكفيف الذي خاطب في عام 1667 نور العقل قائلا: " ولسوف يقوم العقل بكل ما أوتي من قوة

بالسطوع، وتظهر البصيرة وينقشع الضباب

ويتبدد، فلعلي ارى وأُفصح

عن اشياء محجوبة عن ابصار الناس ".

يكتب ديدرو في موسوعته:" كان ميلتون نقطة البدء الفريدة التي يؤول اليها كل عصر الانوار "

كتب الناقد الانكليزي الشهير ريتشاردز في مديح جون ميلتون:"لكي تكون شاعراً عظيماً، ينبغي أن تكون رجلاً عظيماً".. وطوال حياته التي استمرت ستة وستين عاماً ظل جون ميلتون مقاتلاً شرساً في الخطوط الأمامية من معركة الحرية الانسانية.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

 

في المثقف اليوم