قراءة في كتاب

محسن الشيخ راضي في بوحه الثاني.. كنت بعثياً (1-3): درس في المكاشفة الجريئة

لا يجد محسن الشيخ راضي بأساً في كتابة سيرته الذاتية التي يستجلي فيها الأحداث وقد تخطى التسعين من عمره، يستحضر فيها دوره منذ ترديده القَسَم الحزبي في مدينته النجف أمام تحسين معلّة عضو القيادة القطرية لحزب البعث آنذاك عام 1953.

صدرت السيرة في جزئها الثاني عن دار المكتبة العلمية في بغداد 2022، قدّم لها وحررها الدكتور المتخصص في التاريخ الحديث طارق العقيلي، ومن الإنصاف القول أن العقيلي شكّل إضافة جديدة ومتميزة في تقديمه للجزئين الأول والثاني، ومن حسن الصدف أن تجد هذه السيرة من يعيد صياغتها ويحررها بمنهج علمي رصين بتجرد وحيادية غير منحازة لكاتب السيرة، بل تبدو مستفزة لتاريخ الكاتب، تتعارض مع بعض توجهاته، وأحسب أن ما جاء من آراء وأفكار في مقدمته الثانية يعدّ دعوة لقياديي الأحزاب والشخصيات السياسية المؤثرة في تاريخ العراق المعاصر كافة، أن لا تلوذ بالصمت وتحجم عن تدوين مذكراتها، وتجنب كتابة التاريخ (الوردي)، بمنطق التبرير وتبسيط الإخفاقات، والهروب من المسؤولية خوفاً من المكاشفة، على الرغم من كل الظروف المتاحة لهؤلاء في الاعتراف وإماطة اللثام عن الجرائم التي جرى التستر عليها، والخوف من كشف مدبّريها.

قلت في ثلاث حلقات عن (كنت بعثياً) نُشرت في جريدة المدى والمثقف في وقت سابق، ما ملخصه: ان الشيخ راضي أدان نفسه بقسوة، وقدّم اعتذاره للشعب العراقي، ما لم يفعله سياسي عراقي آخر، وفي هذا السياق أشارك الدكتور العقيلي خيبته المريرة كباحث إذ يقف متسائلاً عن معنى صمت الصف الأول من قادة البعثيين العراقيين رفاق الشيخ راضي، الأحياء منهم، أو القيادات البعثية الأدنى التي عاصرت وشاركت على مستوى الأحداث الواردة في المذكرات، على وصف أنها تسجّل تاريخهم السياسي وتاريخهم الحزبي، وهم الذين صنعوا مواقفه ووقائعه، لكي يسهموا في إضافة المزيد من المعلومات التي ما زالت ذاكرتهم تختزن أسرار الأحداث، ولا سيما أحداث انقلاب 8 شباط 1963، لكنهم التزموا الصمت وآثروا السكوت لحد الآن، وأغلب الظن أن هذه الشخصيات ما تزال تعيش كابوس الرعب، وعُقد الخوف من الممارسات التسلطية التي طبعت حياتهم الحزبية الداخلية، كما يشكل الحاضر مصدراً آخر للخوف والقلق من التصفيات الجسدية التي طالت العديد من العناصر الحزبية بعد الاحتلال الأمريكي للعراق 2003، وحالة الانفلات الأمني وغياب القانون في ظل الأوضاع الشاذة التي يمر بها البلد.

كي لا يذهب القارئ الى أنني أخصّ بعقدة الخوف اتجاهاً واحداً، إنما هذه العقدة ما تزال مهيمنة في عقول العديد من الشخصيات السياسية التي تخشى المكاشفة والمراجعة النقدية، كي تبقى الرؤية مضببة غير واضحة، لذلك فان ما أقدم عليه الشيخ راضي نال انتقادات واسعة من رفاق ومعارضي الأمس على حدٍ سواء، واتهامات شتى من جهات سياسية لا تتقبل ثقافة الاعتذار والاعتراف بالخطأ، إلى حد جلد الذات، وكشف انحراف حزبه بجرأة ووضوح.

تضمن الجزء الثاني والأخير من مذكرات محسن الشيخ راضي قدراً من الصراحة المطلقة الشفافة التي تجعل من المذكرات كتاباً مقروءاً من قبل السياسيين، وقادة الأحزاب على حدٍ سواء، إذ يقدّم الشيخ راضي درساً بليغاً في المكاشفة الجريئة والشجاعة، وهو يسعى بلغة واضحة أن يكشف المخبوء لتجربته الشخصية، وارتباطها بحزب سلطة لعهدين، كان في الأول منهما قائداً وفي الثاني معارضاً، وبات أمامنا التطلع إلى قراءة التجربة وسواها من الأفكار والأحداث وما رافقها من عُقد وصراعات، قراءةً هادئةً لصوت عالٍ له مدياته الواسعة في المشهد السياسي العراقي.

فمثل هذه (اليقظة) تدعنا في موقع الانتباه إلى هذا الصوت، وهذا البوح الجريء في أعلى مدياته، لقد تعلّم الشيخ راضي الدرس الأول وقاسَ الأشياء عليه، عرف كيف يقيس مساره واتجاهاته صوب هدف محدد، لقد وضع أمامه الأخطار المرتقبة، ربما بقدر الأخطاء التي كشفها، وأدانها فيما بعد، بإحساس منه بالبراءة والنقاء ومن ثم بالخلاص من (صنمية عفلق ومغادرة حزبه، وصنمية أفكار التيار القومي العربي التقديسية وقوالبها الجامدة) كما يصفها الشيخ راضي ص 16.

يشكل الجزء الثاني من السيرة صفحة جديدة في تاريخ الشيخ راضي السياسي، بعد فصله من حزب البعث عام 1964، مع مجموعة من رفاقه (علي صالح السعدي، ياسين الحافظ، حمدي عبد المجيد)، كانوا النواة الأولى لتأسيس حزب البعث (اليساري) عام 1965، وكان محسن من الداعين الأوائل إلى تغيير اسم الحزب إلى حزب العمال الثوري الاشتراكي العربي، ويشير كاتب السيرة إلى مبررات التحول نحو تأسيس هذا الحزب، بعد تجربة البعث الفاشلة في العراق، وجمود الفكر البعثي (العفلقي)، كما يسميه الشيخ راضي، الذي صار فكراً تقليدياً يمينياً يهتم بالمصالح الشخصية والسلطوية أكثر من اهتمامه بهموم الأمة العربية، كنا نتطلع إلى فكر قومي ثوري وأيديولوجيا اشتراكية عربية، متأثرين بأفكار ياسين الحافظ الأكثر وعياً منا ومعرفة بالفكر الماركسي ص 17 وأفكارصديقه الماركسي الياس مرقص. تكللت تلك الجهود إلى عقد المؤتمر القطري التأسيسي لحزب العمال نهاية عام 1967، وانتخب سعدي محمد صالح (الدكتور المتخصص في الجغرافيا فيما بعد) رئيساً للمؤتمر، كان الحزب قد تبنى فلسفة ماركسية معرّبة ليست شيوعية، وقد أثار هذا النهج جدلاً عميقاً أفضى إلى خلاف بين تيارين، يتبنى الأول منه سعدي محمد صالح الذي اتهم بطروحاته الستالينية، والآخر يمثله الشيخ راضي، الذي حذّر بشدّة من التوجه الخطير كما أسماه في الانسياق نحو الشيوعية مع سبق الاصرار.

تكمن أهمية السيرة في إجابتها عن الكثير من الأسئلة التي ظلت ترافقنا طيلة عقود من الزمن، وما زلنا أسرى لتداعياتها، هذا ما أراد الشيخ راضي الخوض فيه وهو يسجل تجربته السياسية والمهنية كأستاذ في كلية الزراعة، الغنية بالمفاجآت والأسرار، حتى استطاع أن يعيد تأليف المخفي والمستور في تجربته الحزبية، كاشفاً أسرار انقلاب تموز 1968، ومحاولات المخابرات الأمريكية والبريطانية في استدراجه، كما سلّط الضوء على محاولات صدام حسين في ترصده والإيقاع به، فضلاً عن كشفه لإرتباطات العديد من قادة الحزب ببعض السفارات، وتناول القسم الثاني من المذكرات الفترة ما بعد الاحتلال، وهو ما سنتناوله في حلقات قادمة.

***

جمال العتّابي

 

 

 

في المثقف اليوم