قراءة في كتاب

الظاهراتية والمسرح

في البدء، أودُّ أن أُشير بأنني لا أدّعي أن أكتب هنا مراجعة، أوعرضا نقديا للكتاب القيم "الظاهراتية والمسرح" للكاتب المسرحي، والمفكّر الأستاذ الدكتور سامح مهران، وإنما "قراءة حرة" لهذا الكتاب الهام الذي إستحثني ان اكتب عنه - وإن سريعاً – هذا التعقيب، وان أُضيف ما يمكن ان يدعّم موضوعتي الكتاب الهامتين "الظاهراتية" وتأثيرها في  "المسرح". ومن البدء أيضاً، أودُّ ان أشدّد على القيمة الفكرية والفنية الهامّة لهذا الكتاب الريادي في تناوله لهذا الموضوع الشائك. وهو ريادي، بلا شك، وبشكل خاص، نظراً الى قلة او ندرة البحوث التي تربط الظاهراتية في المسرح، ليس فقط في المنطقة العربية، وإنما في مجمل البحوث التي تناولت الظاهراتية في الدول الغربية عموماً. حيث اعتاد الباحثون الغربيون ربط الظاهراتية، بصورة خاصة، بالكوريوجراف، والأوبرا، والرقص خاصةً في دراساتهم للفراغ او الفضاء العام كحالة ظاهراتية.

أستعرض الدكتور مهران في الجزء الأول من الكتاب وبلمحات سريعة، ولكن فاعلة، ومؤثرة، وممتعة، تطور الفكر الإنساني في الفلسفة، تاريخيا وصولاً الى الفلاسفة اللذين لهم تأثير مباشر بعلم المعرفة الراهن والفكر الفلسفي المعاصر. وفي إستعراضه لتطور المنهج الظاهراتي يركز، الدكتور مهران، بشكل خاص، على فلاسفة الظاهراتية، سيما جورج فيلهلم فريدريش هيجل وأدموند هوسرل، من بين مجموعة كبيرة من الفلاسفة المحدّثين. أما في الجزء الثاني فهو يستعرض مختلف التطبيقات الغربية للظاهراتية في مجال الفنون عامة وفي المسرح خاصة، ولكن من خلال النص الدرامي والتأليف المسرحي، ومن خلال  التيارات الفنية والفكرية في الإخراج المسرحي والدلالات الظاهراتية لهم، الى أن ينتهي الكتاب بأربع توصيات هامة (وسأضيف توصية خامسة بنهاية هذه المقالة) الى المسرحيين العرب للاختيار من بينها، وتبنّي مايناسبهم، في أعمالهم القادمة. وهنا أودّ أن أؤكّد، على عجالة، الي أن الكتاب ليس سهل التناول للقارئ الذي لم يعتد علي النصوص الفلسفية، وبهذا أعتقد، مع شديد التواضع، أن قلة قليلة من المعنيين يمكنهم فعليا إدراك الدلالات الفكرية الأساسية، وربما أقل من ذلك، في البحث في ربطها بتطبيقات مسرحية من خلال أعمالهم القادمة.

الظاهراتية وتأثيرها في المسرح

لنبدأ من حيث الإشكالية الفكرية الأولى، ماذا تعني الظاهراتية  "الفينومينولوجيا" ؟ هي  تيّار فلسفي يسعى لاكتشاف الجوهر المطلق للكائنات، والبنى الفوقية للوعي. وهي ايضا نظرية في المعرفة لدراسة وفهم الانسان، أي لجوهره، وهي بهذا، بحث في الشيئ، لذاته، أي لجوهر الشيئ، من خلال اللغة، والترميز، والعلامات الدلالية، وبإستخدام المخيلة والوهم والفنتازيا. والظاهراتية فلسفة مُكتَشفها الأساسي هو "قصدية الوعي". لذلك فإن "الفينومينولوجيا" بالنسبة لهيجل، مثلاً، هي التي تحدّد العقل ومراحله المتعاقبة، التي يرتفع بها العقل من الأحاسيس الفردية الى العقل الشامل او العالمي. غير أن الفلسفة الحديثة تُدين الى هوسرل وتراثه في الفينومينولوجيا حيث أن منهجه يتألف من تحليل "تجارب الوعي" بقصدية تحديد جوهر مايختبره المرء. أدّى إرث هوسرل (ضمن الإرث الفلسفي التاريخي الإنساني) الى فتح مجالات جديدة في الفلسفة، وتوجيه أفضل فلاسفة الفينومينولوجيا المعروفين، لمفاهيم فكرية ودلالية متشعبة، على سبيل المثال، مفاهيم مثل "الوقت" أو الزمن كما تبلور عند هايدجر، ومفهوم "الحرية" عند سارتر، و "الغيرية" عند ليفيناس، و "الجسد" عند ميرلوبونتي، و "السلطة" عند أرندت، و "الإرادة" عند ريكور، و"العلامة والدلالات" عند دريدا. كل هذه المفاهيم تشكّل الاطار الفكري والدلالي للفينومينولوجيا اليوم، هذا الإطار الذي ينشغل بدراسة المكونات النهائية لأي تجربة ممكنة.

في أبحاث هوسرل الأولية حول "التشيؤ" المبنية على مضامين "الخوف والتخوّف" ، يلاحظ هوسرل بإن "الإدراك" لايُعارض "الخيال"، لعدم وجود أشياء في الخيال يُمكن للإدراك معارضتها. كما أن الوعي بإستكشاف "الزمن" للخبرات الإنسانية المتراكمة، عمّق من الوعي "بالوقت" أي "بالزمن"، وبهذا تمكّن الإدراك من أن يُثري مفهوم "الخبرة" كتركيب مستمر للتصورات، والخبرة سواء كانت متفردة أم مجتمعة ومتراكمة تشكّل "التجربة الإنسانية".  يعتبر هوسرل أن استيفاء معيار "التجربة" المجردة، مضافاً اليها التجربة الإدراكية البحتة أو الأصيله، يشي بوجود "شبه تجربة" في "الخيال" أو "المخيال"و.   ومن تأثيرات هذه النتائج، إمكانية وصف تجربة المتفرج في المسرح على أنها تخوف مزدوج، "إدراكي وخيالي". فالمشاهد المفتون باللعبة المسرحية يعيش في الوهم الإدراكي،  "يَختبر- أي يمرّ بالتجربة - دون أن يكون في موقف التجربة". ولكن على الجانب الآخر من التجربة المسرحية، تطرح تجربة الممثل مشاكل محددة للظاهراتية، من وجهة نظر استخدام الخيال وأنماط الوعي المرتبطه به. فمثلاً، يعتاد الممثل، خلال التمرينات لأداء الدور المسرحي، على وجود "وعي مزدوج". وأعني بذلك وعي الانسان، الذي يقوم بتمثيل الدور المسرحي، ووعي الشخصية التي يقوم بتشخيصها، ويتعمّق هذا الوعي مع تكرار التمرينات المسرحية التي تسبق العرض النهائي للجمهور، مما يقوي هذه الازدواجية، على الرغم من أن تجربة الممثل هنا ثنائية وإدراكية وخيالية، إلا أنها في ذات الوقت مندمجة وموحدة في محتوى التجربة "المسرحية" الكلية. حيث يكون الممثل جزءاً أساسياً من هذه التجربة المتكاملة، والمتماسكة، والمستمرة.

أما في البحوث المتأخرة لهوسرل، نجد أن هناك تعارض واضح بين الوهم والإدراك. فليس من البديهي أن يتعاونا في تكوين "موضوعية" واضحة ومتماسكة من نفس النوع ومن نفس النظم. ولكن هذا التعارض يمكنه التعايش في مكان واحد هو "المسرح". حيث أن الوهم والإدراك يمكن ان يتواجدا معاً، في آن واحد، على خشبة المسرح، بل إن الحالة الإدراكية والوهمية التي يمرّ بها الجمهور، خلال عرض مسرحي مصاغ بهذه المواصفات، يدلّ على هذا التعاون. إضافة الي أن التسلسل الذي يسود بين التصورات ومدركاتها يؤدي الى نشوء وحدة موضوعية، يحدث ذلك على أساس الأحاسيس المدمجة مع بعضها البعض. الاّ إن نشوء وحدة من التسلسل الإدراكي، ثم الإستمرارية في المظهر الإدراكي للشخصية لا يتوافق وظهور الوهم أو الفنتازيا، لأن الصفات الجوهرية " للوهم الخيالي" غير ثابتة، ومتقطعة، وسريعة الزوال، وبلا تسلسل واضح أوتماسك فيما بين عناصره. إن بين التسلسل الإدراكي وأفعال الفانتازيا أوالوهم الخيالي هناك فجوة عنيفة، فالإدراك "يتبدد" بفعل الفنتازيا، ولذلك فهناك تعارض بين الحقل الكامل للفنتازيا والمجال الإدراكي، فالخيال غامض، ومتقلّب ومختلف من حيث الجوهرعن الكائنات المدركة. ولذلك فإن إستظهار ماهو خيالي وإدراكي  في ذات الوقت، على المسرح، يستدعي وجود "قصدية تخيلية وإدراكية" في آن واحد.

لعل من أهم ما تتميز به "الفينومينولوجيا"، والتي لها تأثير مباشر على المسرح و"اللعبة المسرحية" بما في ذلك "الجمهور"، هو مفهوم "الفنتازيا الإدراكية" ، التي يشار إليها أيضاً باسم "التخيلات الإدراكية البحتة" ، والتي تتضمن وفرة لا نهاية لها من المخيلة والوهم "أي الفنتازيا". هذه، في الحقيقة، هي تعبير غير متعارض بين الحقل الإدراكي والحقل التخيلي. هذه الطريقة بالذات، يمكن بسهولة تطبيقها في المسرح، لبلورة عمل "الممثل"، وخاصة لتعميق إزدواجية الوعي والإدراك بين الممثل والشخصية التي يُجسدها. أي بتعبير آخر لإدراك تام لوعي الممثل الآني، وكذلك لإدراك تام للوعي الذي تتمتع به الشخصية التي يُجسدها.   كما يمكن تطبيقها في "الرؤيا الاخراجية" خاصة للاعمال الكلاسيكية التي تحتمل تغيير الرؤى، أو لعرض رؤيا موازية لما هو مكتوب في النص، أو ربما، متعارضة. يذكر جان بول سارتر بأن "الوعي حرّ دائماً، وهناك إمكانية ملموسة، في كل لحظة، لإنتاج ماهو غير واقعي أي خيالي". هذه الطريقة تتبنّى المفهوم الفينومينولوجي لهوسرل في فهم المتفرج في المسرح الذي سيكون عائماً بين المجال الإدراكي والمجال التخيلي لما يدور على خشبة المسرح. فالإدراك والفنتازيا يختلفان باختلاف طريقة ظهور "الكائن" على المسرح.  وهنا يتم وصف الإدراك بأنه فعل يظهر فيه الكائن في شخصه ، على أنه حاضر بنفسه. أي أن الهدف المتصور، على المسرح، هو هدف حقيقي وفعّال. أما في الفانتازيا ، فيتم تقديم الكائن فقط ، كما لو كان موجودًا ، يظهر في الصورة أو ما يُشكّل الوهم على المسرح. إنما حين ينتبه الجمهور ويعي  "بعدمية" وجود الكائن أو الشيئ، فهذا يعني إنه من غير الممكن أن يظهرعلى خشبة المسرح، فهو إذن غير موجود بشكل مادي على المسرح، أي أن غياب وجوده لا ينتمي الى الخيال، ولا يمكن أن يُوصف بالوهم إو بالفنتازيا، لأنه غير موجود بالفعل وبالواقع.   

الفينومينولوجيا هنا توّظف الوهم وما هو "خيالي" من جهة ، والوعي "بالصورة" كما هي، من جهة أخرى، بطريقة تبتعد عن الهذيان الصوري أو الوهمي. ولإنّ الخيال (الفانتازيا ووعي الصورة) لا يتوافق بشكل دائم مع الإدراك بحكم طبيعته "غير الحسيّة". أما الإدراك فإنه  يجعل من "الواقع المفتعل" - على خشبة المسرح- يبدو حاضرًا ومقنعاً ، بل إن الإندماج أو التماهي الذي يحصل بين الجمهور وخشبة المسرح  يجعل هذا "الواقع" حقيقي ولا جدال فيه. مع أن الخيال يخلو، بطبيعته، من أثر الواقع ، فالعنصر الرئيسي للخيال هو التخيّل، والتخيّل يتعلق بالإغراء بالوهم الخيالي والفنتازيا ولا يحتوي على عناصر من وعي الواقع الفعلي. لذلك يشدّد شوبنهاور بأن "الحياة والأحلام هما عبارة عن أوراق من نفس الكتاب. غير أن قراءة أوراق هذا الكتاب بشكل متسلسل ومنتظم سيفضي الى الحياة، أي الى العيش ، إنما حين يتم تصفح أوراق هذا الكتاب بشكل عشوائي فسيفضي ذلك الى الحلم". أي الى الفنتازيا.

وختاماً، فإن نقطة الإلتقاء بين الأرض والسماء هي الخط الذي يخلقه "السراب" عن بعد. ومع ذلك فإن السراب بذاته لا يمت بصلة الي السماء ولا الى الارض. فالسراب هنا هو حالة من الواقع، وفي ذات الوقت إنه حالة شديدة الوضوح من الوهم. هذه الإشكالية بين المُدرك والوهم هي المسرح. وهي كذلك العلاقة المتبنّاة بين الفينومينولوجيا كمنهج فكري وفلسفي  وبين المسرح بأبعاد واقعه المختلفة والمتنوعة بين السحر والسحر الآخر.

***

علي ماجد شبو

في المثقف اليوم