قراءة في كتاب

المُتمرّدون.. كتاب يبحر بنا الى عقول الافذاذ

شخصيا، لا اؤمن بثقافة النيابة، ففكري، غير فكرك، واستيعابي للأشياء، غير استيعابك، لذلك، توقفت متأملا امام كتاب الصديق والزميل علي حسين، وهو كتاب جميل في طباعته وتصميمة، حمل عنوانا مثيرا هو (المُتمرّدون) بـ 230 صفحة، اهداني اياه كاتبه موشحا بسطور اخوية، سعدتُ بها.. كان سبب تأملي ان الكاتب، سعى الى اخذ قارئه، الى كُتاب مهمين، هم على شهرة شاسعة في عالم الفكر والثقافة والمعرفة على الصعيد العالمي، سابرا غوار كتبهم وافكارهم، في قراءات منهجية، عميقة، استمرت منذ يفاعته حتى الان.. وكأنه يقول في كتابه.. ها كم زبدة قراءاتي، وهي تغنيكم معرفة وتجذرا بأسماء شغلت العالم في عطائها الفكري..  

وربما ما ذكره الكاتب، في صدر كتابه، يؤكد منهجه الذي اتبعه في اصدار كتابه، فهو يقول (أن يكون الواحد منا مستعدا لمشاركة الآخرين بعض قراءاته، عليه ان يتحلى بالشجاعة، فأن تعطي رأيا بكاتب مثل " صمويل بكيت " او "جيمس جويس" او تولستوي" عليك أولا ان تكون قد وقعت في غرام هذا الكاتب، وان تمارس معه متعة القراءة، لا واجب القراءة)

اذاَ نحن امام كتاب، ضم اسماء لكُتاب عشقهم الكاتب، فاراد ان يشركنا في عشقه، من خلال تسليط الاضواء على اسمائهم، وتقديم انطباعات ثرية عنهم، بأسلوب السهل الممتنع، وقد وصل الى مبتغاه..

وقبل ان نسافر، ونتجول بين محطات الكتاب، اشير الى المقدمة الضافية التي كتبها الصديق علي حسين بتسع صفحات، حيث شرح فيها بداياته الثقافية، وولعه المعروف لدينا في قراءاته، معترفا بتأثير الكاتب المصري الكبير كامل زهيري، عليه، منذ ان تعرف على كتبه ومقالاته، وكيف توسع هذا التأثير ليشكل سجادة معرفية مهمة، وقد افرد له صفحات تعريفية ليست قليلة في مقدمة الكتاب التي حملت اسم (لماذا نقرأ الكتب المتمردة).. وبصدد اختيار عنوان الكتاب يقول علي حسن (الغواية الممتعة في صحبة الادباء والشعراء والفلاسفة من خلال كتبهم هي التي جعلتني اقرر ان اكتب كتابا أخصصه للشخصيات التي تمردت على عصرها)..

يبدأ الكتاب بالحديث عن " ديوجين الكلبي " باعتباره اول المتمردين.. وهذا الرجل الذي كل ما نعرف عنه، انه كان يمسك في يده فانوسا، ويخرج به في ضوء النهار، وعندما يسأله المارة، وهم يضحكون:عن اي شيء تبحث؟ كان جوابه: انني ابحث عن انسان !

 ان ديوجين، كما نفهم من الكتاب، من الفلاسفة الذين استطاعوا انتزاع احترام الخصوم قبل الاصدقاء، لأنه طابق بين فلسفته ومعيشته وحياته، بل سخّر هذه الاخيرة من اجل تحرير موقفه من الحضارة الانسانية والطبيعة والدين والاخلاق والمجتمع ومؤسساته، كالدولة والمدرسة والاسرة..

وفي سطور اخرى، نقرأ عن المتمردة، الكاتبة المثيرة للجدل " آريس مردوخ " التي اصدرت 25 رواية وعددا من المسرحيات والكتب الفلسفية وتوفيت عام 1999، بعد حياة امتدت 80 عاما، وبعد معاناة من مرض الزهايمر.. هذه الكاتبة ظلت طوال حياتها تدافع عن " حرية عقلها " والى حرية العيش على طريقتها الخاصة، ولاسيما بعد ان قرأت رواية " الغثيان" لسارتر، حيث قالت لزملائها في الجامعة: اريد ان اكتب رواية طويلة، غامضة، موضوعية عن الصراعات الغريبة التي تتولد داخلي، وعن ما ألاحظه عن الشخصيات الاخرى، واحد تلك الصراعات التي كانت تدور في داخلها الحاجة الى الحب الملائكي والشيطاني في ذات الوقت !

ثم يتوجه الى " يوجين يونسكو" فالتمرد عند هذا الكاتب الكبير، يكمن كما جاء في مسرحية (الدرس) هو اكتشاف ان اثنين زائد اثنين، لن يكونا اربعة، وهو يرى أن الخيال قادر وحده على ضبط إيقاع العالم المضطرب فـ (كل ما هو تخيلي، حقيقي وصادق، ولا شيء صادق مالم يكن تخيلا) ويحاول يونسكو ان يناقش مصير الانسان الذي خرج من حروب مدمرة، لا بد من مواجهة هذا العالم بالتمرد احيانا، وبالعبث أحيانا اخرى.

(إننا منذ وقت نعيش حالة انتكاس.. حالة من التدهور.. مستمر) هذا القول للكتابة المتمردة ايضا " ناتالي ساروت".. ويفرد لها الكتاب صفحات عديدة، ومنها نعرف ان " نتالي " كانت تستيقظ في الرابعة فجرا كل يوم لتقرأ روايات " دستوفيسكي " الذي عشقته حد الجنون، كانت تريد ان تصبح كاتبة مثل عبقري روسيا الذي بدأت شهرته حين كان في الرابعة والعشرين من عمره، بعد ان قدم روايته " الفقراء".

في كتابها " انفعالات " حاولت " نتالي " السير على طريقة الفيلسوف " فيتغنشتاين".. فاللغة وظيفة جديدة تجعلها تتمرد على الواقع، ولهذا نجدها تضع لنصوصها ارقاما بدلا من العناوين، وتمنح الشخصيات ضمائر بدلا من الاسماء، فهناك (هو، هي، وهم، وهن) !

ويعرج الكتاب، الى الكاتب الشهير " فرنسيس فيتزجيرالد " فيقول ان " فرنسيس" ظل يؤكد لنفسه وللمقربين له، انه كاتب فاشل، ويرجح النقاد اعتقاده هذا إلى انه كان متخصصا في الكتابة عن حياة الاغنياء، في الوقت الذي كان فيه الادباء والمفكرون يكتبون عن البؤس والفقر، لكنه كان يقول دائما إنه أراد ان يعري مجتمع الاغنياء هذا، رغم انه كان مبهورا بعوالمه وخفاياه..

لقد عاش " فرنسيس " حياته بحب المتع، وكان مسرفا، وبسبب اسرافه الشديد، ظل يعاني من مصاعب مالية، جعلته يتوجع في سنواته الاخيرة، فلم يستطع إكمال آخر رواياته " آخر ملوك المال " التي حّولت الى قلم من بطولة " روبرت دي نيرو".. كتب عنه " كولن ولسون " قائلا ان حياة " فيتز جيرالد" هي مأساة "اللامنتمي في حضارة ميكانيكية.

ويتوسع الكتاب، فيسلط الضوء على " سلفادور دالي، فريدريك نيتشه،، أنريه بروتون، برنادشو، صموئيل بكيت، غونتر غراس، جان بول سارتر، فرانسوارساغان، وآرنر رامبو وغيرهم.. سأمر عليهم في مقال آخر..

بسطور قصيرة اقول ان الكتاب يعرض آراء مهمة لشخوص أثروا حياتنا الثقافية، وهي آراء تشير الى نظرتهم المرتكزة على التأمل والتفكير والتواصل في ميادين المعرفة الشاملة حيث يبحرون  في بحار الحكمة والفلسفة،

وقد تلمستُ الميزة الأساسية التي وجدتها في كتاب الصديق علي حسن هي استيعابه وتمثّله لما قرأ لكتاب وفلاسفة كبار، وادراكه للعقل العلمي للمثقف، وهي تلخص رؤاهم على الادراك الفلسفي العميق، حول الحياة والمجتمع، من وجهة نظر عميقة الاثر، وحسنا فعل في اصداره لهذا الكتاب، الذي وفر بيئة ثقافية لقراءة مكثفة لأبداع عالمي، وفهم في استيعاب المعرفة، انطلاقا، من حقيقة ثابتة تؤكد ان المثقف هو أداة الوعي، العارف، المطّلع، والمتعلم، الخبير، الوصي على مجتمعه، والممثّل المعارض له والمتمرد عليه!.

***

زيد الحلي 

في المثقف اليوم