قراءة في كتاب

الشيخ الماشطة ورواد التنوير في العراق

تميز الشيخ عبد الكريم الماشطة (1888- 1959) بسمات منحته موقعه المبرز في الشؤون الثقافية والفكرية والسياسية في مرحلة تاريخية مربكة في العراق، وفي فترات وظروف لها ابعادها وتداعياتها. فهو عالم دين معمم وابن عائلة دينية معروفة في المدينة والمنطقة والبلاد، وهو دارس وكاتب وناشر لمقالات وصحف، شخصيا او مشاركة وتعاونا، وهو متاثر بمفكرين اثاروا بارائهم زوابع ثقافية واطاريح نقدية ورؤى مختلفة عن السائد العام، وهو منفتح على افكار ورؤى ثقافية يسارية الهوية او الهوى، وهو شجاع في الراي والموقف والقناعة بما يؤمن ان يحصل للانسانية ويريد ان يكون له ولعائلته الصغيرة والكبيرة في وطنه والعالم، نصيب من التطور والتقدم والتغيير. او من التنوير واضاءة فترته وعصره. حسم امره في الانتصار للمصالح الوطنية وارادة الشعب وانحاز لبناء السلم والامن في وطنه والعالم، فانتمى لابرز حركة عالمية، نصيرا للسلم مشجعا لافكارها وشعاراتها وبياناتها، وهي حركة السلام العالمية ومنع الحروب وتحريم استخدام الاسلحة النووية وغيرها من اسلحة الدمار  الشامل. فاصبح من رواد التنوير ومن انصار السلام ومن الشخصيات البارزة في المشهد الثقافي والسياسي في زمنه وما تلاه، يشهد له ويستسهد به.

انجز الكاتب والباحث السياسي احمد الناجي كتابا عنه، اهداني طبعته الثانية الصادرة بدعم من وزارة الثقافة العراقية عام 2019، ويقع الكتاب في 230 صفحة من القطع الكبير، ضم في صفحاته تسعة فصول وملاحقا، تناولت سيرة الشيخ الماشطة ودوره ومكانته في التنوير والتقدم في العراق. حمل الكتاب عنوانا يعرف به ويوصفه، (الشيخ عبد الكريم الماشطة احد رواد التنوير في العراق). وكل فصل منه له عنوانه الذي ناقش المؤلف فيه موضوعه وطرح فيه اراء واجتهادات كاجتهدات شخصية الكتاب وبحث فيه ما يليق بسيرة الشيخ الماشطة وتجربته التي عاشها في مرحلته وزمنه. وحاول تقديم قراءة جادة، اقرب الى البحث الاكاديمي،  لمسيرة ونضال الشيخ الماشطة، حافلة بتحليل ومناقشة ما كتب عنه او ما عاشه في الواقع وفي الظروف التي خاض تموجاتها وتداعياتها.

جاء في الفصل الاول، وعنوانه، سيرة ذاتية، هو عبد الكريم بن الحاج عبد الرضا بن الحاج حسين الماشطة، وينسب ايضا الى مدينته الحلة، التي شعت بالعلم والفكر والشعر، واستوعبت كل التنوعات: القومية والدينية والمذهبية والسياسية والثقافية، وسط محيط عائلي مترف ومكانة اجتماعية مرموقة (ص19). وفي الفصل الثاني، الذي حمل عنوان: في الفكر والسياسة، ارهاصات التاثير والتاثر الفكري وتبلور ملامح التكون الفكري والسياسي للشيخ. وكانت البدايات تاثره بموقف والده الداعم لفكرة الدستور/ المشروطية التي كانت موضع جدل وسجال، ومن ثم انضمامه للحوزة الدينية المدافعة عن الدستور، واندفاعه للانضواء في تيار (المشروطية) مع مناصري المجتهد الكبير الملا كاظم الخراساني، الذي لقب ب(ابي الاحرار) لدوره في النضال من اجل ( المشروطية). (ص 25). وتبلورت ملامح التكوين الفكري والسياسي للشيخ الماشطة مع تطورات واجواء الجدل حول الدستور والتي استنطقها الشيخ محمد حسين النائيني (1860- 1936) وهو من كبار تلامذة الملا كاظم الخراساني، وصاغها ىرؤى وافكار في اول كتاب اسلامي في الفقه السياسي، اصدره عام 1909  بعنوان (تنبيه الامة وتنزيه الملة) في وجوب المشروطية  و"عالج فيه بنظرة اسلامية عصرية جديدة مسألة الحكم المعتمد على القانون والدستور والنظام البرلماني وحرية الراي واصدار الصحف وتعليم المرأة" (ص27).

واصل الشيخ الماشطة في تعميق اتجاهاته الثقافية والبحث عن اجابات لتساؤلات العقل المقلقة واجتراح متبنيات فكرية وسياسية ترضي الله وسعادة الانسان، خليفته في الارض، متجاوزا ما هو سائد من مفاهيم، ساعيا تحقيقها بالافادة من الجوانب المضيئة في التراث الاسلامي ومن منجزات الفكر الانساني، مجسدا في الواقع كونه رائدا تنويريا تمكن من فهم جدلية العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، (ص 29).

عمليا تشابك الشيخ الماشطة مع التطورات السياسية والفكرية وهو ما تناوله الباحث في الفصل الثالث، وعنوانه: النشاط السياسي والاجتماعي. مظهرا فيه نشاط الشيخ في دعم حركة الجهاد ومقاومة الاحتلال البريطاني، متصدرا  المجالس والمراسلات، التي ادت الى اعتقاله. وقدمت له هذه الوقائع تركيزا في وعي مهمات المرحلة ومتطلباتها التي ادركها من مواصلة مواقف مراجعه، الخرساني والنائيني، وتطويرها بالكتابة والنشر والتعليم، وخاصة مطالبته بتعليم المراة، والمشاركة في دعم حركة الجهاد من اجل الاستقلال والسيادة الوطنية، ومساندة موقف العلامة الشيخ مهدي الخالصي، الذي قاد المقاطعة الشعبية للانتخابات سنة 1922، خلال فترة العشرينات، وفي الثلاثينات كرس مواقفه في النشر بالضد من ابرام المعاهدة الاستعمارية (ص40) والمساهمة العملية في النشاط السياسي الحزبي والتحضير  له. لا سيما بعد انتصار ثورة تموز/ يوليو 1958  حيث نشر مقالات في الصحف البغدادية داعيا الى صيانة الجمهورية الفتية. و" سعى بالتعاون مع بعض علماء الدين الى تشكيل جماعة علماء الدين الاحرار " (ص68)، كعنوان واضح وصريح لاختياره السياسي وخياره الوطني والديني والثقافي العام، وشاهد على نضج وعيه وجماعته في تلك الظروف ومجابهة تحدياتها.

ناقش الباحث في الفصلين الرابع والخامس ما كتبه الشيخ ونشره واصدره في الصحف والمجلات، وموقفه من الصوفية، وكيفية التعامل مع فلسفتها . وانتقل في الفصول الاخيرة الى اهم ما ميز الشيخ في عصره، الى سمو وعيه والتزاماته، في الفهم والموقف من التقدم والتطور، من حركة انصار السلم ومن العلمانية، وهو الاهم في حياة الشيخ ودوره في المشهد الوطني في العراق. حيث سرد وصول الشيخ الماشطة الى قناعات الانحياز الواسع للانتصار الى السلم والامن وحقوق الانسان والكفاح الشعبي من اجل العدالة والحرية وبناء الانسان. وظهر واضحا من خلال التوقيع على (نداء استكهولم)  الذي عد بمثابة بيان تاسبس لحركة انصار السلام في العراق، والذي نشر في الصحف العراقية اواخر حزيران/ يونيو عام 1950. "وجاءت استجابة الشيخ الماشطة سريعة لذلك النداء لانه وجد فيه انعكاسا  لافكاره وتطابقا مع مفاهيمه وانسانيته في نبذ الحروب، وخفض التسلح، وتحويل ثروات الشعوب نحو البناء، ومعالجة الفقر والجهل والامية، وتوفير الخدمات للمواطن العراقي بصورة خاصة وللانسانية بصورة عامة" (ص 111). وتبناه عمليا وحشد له قاعدة شعبية، ترددت اصداؤها في التظاهرات والانتفاضات، وبناء عليه انتخب الشيخ الماشطة عضوا في رئاسة مجلس السلم العالمي، كما منح الوسام الذهبي لمجلس السلم العالمي في الذكرى العاشرة لتاسيسه، تقديرا لجهود الشيخ المتميزة وخدماته الجليلة في سبيل السلم العالمي (ص148).

برز الشيخ الماشطة في مواقف متواصلة، وعرض المؤلف ذلك في متابعات له كما ناقش الاراء التي قدمت الشيخ سياسيا، والاهم فيها هو استمرار تطور مواقف الشيخ الوطنية التقدمية سياسيا وفكريا، منطلقا من قناعاته في الربط بين التراث الاسلامي والانساني عموما، ولعل ارتباطه بقضية السلام العالمي اكبر تعبير عنها، يشهد له ايضا صموده امام تداعياتها وثباته في مسرحها وفي تلك الظروف، "ان مجرد كون الشيخ عبد الكريم الماشطة من علماء الدين الذين تبنوا التنوير وسلكوا طريق الاستنارة وسعوا للافادة من الجوانب المضيئة لموروثنا العربي والاسلامي، وممن دعوا الى الانفتاح على معطيات الحضارة الانسانية، للتوفيق مع الحداثة، وتجديد الفكر الديني، قد وضع نفسه بين المطرقة والسندان". (ص 156). وهو ما وضع مكانته الشخصية وسط اهتمام رسمي وشعبي، محلي وعالمي، وجعل حياته مغامرة، "في رحلة مضنية سار فيها على جمر التحديات، لا احد ينكر دوره في تعزيز دائرة العقلانية والتنوير في محيطه الاجتماعي، وقد كان  مدركا لاهوال المعاناة، ومستعدا للتضحية في سبيل موقفه التقدمي، ولكنه في الاخير مضى وبقي اسمه رائدا، مثلما بقي عداء الرجعيين له مستعرا، وربما حتى الان"، (ص186).

كتاب الباحث احمد الناجي عن الشيخ عبد الكريم الماشطة كاحد رواد التنوير في العراق، ورجل السلام ونصيره في العراق والعالم، ورجل الدين المتنور والمنفتح على الفكر الانساني من كل النوافذ التقدمية والكاتب والمناضل السياسي والثقافي، اضافة ثقافية مهمة للفكر السياسي التقدمي في العراق. وقد يكون محفزا لاستمرار البحث والكتابة عنه وعن اثاره الثقافية التي لم تطبع في كتب، او مجلدات، او مازالت موزعة في الصحف والمجلات التي كاتبها في حينه. بالتاكيد ستكون ثروة ثقافية وقيمة مادية ومعنوية، تجدد دوره وتعطي دروسا للاجيال التي تلته والتي ما زالت تحيي ذكراه.

***

كاظم الموسوي

في المثقف اليوم