قراءة في كتاب

نساء الخَليج والجَزيرة.. المَدَنيُّ مؤرخاً

أفرد الكاتب والأكاديميّ، الخُبريّ المولد والنَّشأة والبحرينيّ المواطنة، كتاباً للنساء ضمن موسعته «النُّخب في الخليج العربيّ». أتى بتراجم لستٍّ وخمسين امرأة، مِن المواطنات والأُسر الحاكمة، سجل دورهنَّ ببلدانهنَّ. وسماه «رائدات ومبدعات مِن نساء الخليج»(المنامة 2022)،. كتاب لم يكتمل بعد، فالستِّ والخمسون ليسنَّ كل الرَّائدات.

كسر المدني، في كتابه «رائدات...» النَّظرة التّقليدية، بأنَّ المنطقة خالية إلا مِن البداوة، مع أنَّ الأخيرة ليست خالية نابذة للتحضر كليةً، والقول للمعريَّ (تـ: 449هج): «تذكَّرْتُ البِداوَةَ في أُناسٍ/ تَخالُ رَبيعَهُمْ سَنَةً جَمادا/يَصيدونَ الفَوَارِسَ كلَّ يومٍ/ كما تَتَصَيّدُ الأُسْدُ النِّقادا»(لزوم ما لا يلزم/أرى العنقاء). كذلك للجواهريّ(تـ: 1997): «فقلتُ وفي البَداوةِ ما يُزين/ البُداةَ وفي الحضارةِ ما يشيدُ»(أفُتيان الخليج/1979).

تبقى الكتابة في تراجم النِّساء نزيرة قياساً بتراجم الرِّجال. فهذا ابن سعد(تـ: 230هج) يفرد المجلد الأخير مِن طبقاته الكبرى للنساء، وأفرد الخطيب البغداديّ(تـ: 463هج) جزء مِن مجلده الأخير لتراجم البغداديات، وكان أول عمل يؤرخ لمدينة عبر طبقات النَّاس، سار على هديه ابن عساكر(تـ: 571هج)، وصنف «تاريخ دمشق»، وأدخل النِّساء ضمن الثَّمانين جزءاً.

غير أنَّ هناك مَن بَكر بالاعتراف بإبداع النِّساء، والاعتراف بعقولهنَّ المسلوبة ظلماً آنذاك، فكان كتاب «بلاغات النِّساء» لابن طيفور الكاتب(تـ: 280هج)، و«أخبار النِّساء» لأُسامة بن منقذ(تـ: 584هج)- قيد النّشر مِن مركز الملك فيصل للبحوث والدِّراسات- و«أخبار النّساء» لابن الجَوزيّ(تـ: 597هج). كانت أول امرأة تناولت سِير بنات جنسها زينت فواز(تـ: 1914) في «الدُّر المنثور في طبقات ربات الخدور»(صدر 1897).

أعدُّ ما صنفه المدني عملاً غير مسبوق، فما يجري مِن تحول في أحوال النِّساء، بما يُخالف النَّظرة الدِّينية والقبليَّة السَّائدة، ارتكز على تاريخهنَّ، ومعلوم أنَّ منح المرأة المساواة، في الوظيفة والحقوق، تتطلب نهج انفتاح الاجتماعيّ، وهذا الانفتاح سيكون عامل قوة لأي نظام، ويكون عامل انهيار للدَّولة التي يقودها رجل الدِّين، خصوصاً فيما يتعلق بمعاملة النِّساء.

نفهم، مِن قراءة أحوال المُترجم لهنَّ، في كتاب المدنيّ، كم كان على الرَّائدة، في العقود الخوالي، أنْ تبلغ مِن الجدارة كي تُسجل تفوقها بين الرِّجال، كأديبة، وطَّبيبة، وفنانة، ومذيعة، وشَاعرة، ومعلمة، وسَفيرة، ومَن كانت مستشارة لأخيها الملك في أصعب القرارات، ومَن بذلت جهدها الجهيد في تفوق نساء مجتمعها، حتَّى اُعتبرت أماً لبلادها.

لكنني توقفت عند سيرة البحرينيَّة فاطمة الزَّياني، لما يتعلق بماضي العِراق الزَّاهر وحاضره الذَّابل، فوجدت المناسة في كلمة رئيس الوزراء محمد السُّودانيّ، وهو يرد على طبيب قال له عند بوابة المستشفى الذي تفقده: «الله يوفقك»، وقد وجده لا يصلح إطلاق اسم مستشفى عليه، فرد السُّوداني: «حتَّى السَّليم إليجي هنا يتمرض، الله لا يوفقني على هذه الخدمة»! بينما الزَّياني، في الأمس القريب، شدت الرِّحال إلى بغداد(1937)، لتنال شهادة التَّمريض والقبالة مِن مدرسة التَّمريض(1941)، وعادت إلى البحرين، وقد نالت أعلى الدَّرجات، واختيرت للعمل مع كبير أطباء البحرين (سنو) البريطاني.

إنَّ تسجيل ذاكرة المبدعات والمبدعين الأوائل، في أيّ مكان، يشد مِن أزر الماضين في تغيير مجتمعاتهم، مِن دون أهواء الغزوات والثَّورات، وإسهام النِّساء يأتي في المقدمة، لذا يستحق ما يقوم به الأكاديمي المدني التَّقدير، بتسجيل تجارب النِّساء والرِّجال الأوائل، فما يحصل في هذه المجتمعات اليوم لم يات مِن فراغ، بل له أساس، وهو هؤلاء الرُّواد والرَّائدات، الذين تحملوا وتحملنَ مصاعب المواجهة في الزَّمن الغابر.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

 

في المثقف اليوم