قراءة في كتاب

قراءة في كتاب مؤتمن الأفكار للدكتور صالح الطائي

من الكتب النقدية التي نَسِمُها الرديف للكتب الأكاديمية هو كتاب مؤتمن الأفكار للدكتور صالح الطائي الذي أخذ تسميته من أنَّ "النقد أمانة لاتقل في أهميتها عن مكانة البحث المنقود نفسه ، وأنه يسير بمحاذاة النص؛ لكي يردم الهوة القاتلة التي تفصل الباحث عن المتلقي الذي هو شريك في النص، وأنَّ الناقد مؤتمن على النص واقعاً لا ادعاءً، إذ ليس كل من ادعى أنه مؤتمن على أفكار الآخرين ونتاجهم الفكري هو مؤتمن بحق"، وقد طرح  الدكتور الطائي في كتابه قضايا مهمة، تعد مراجعة حقيقية لقراءة فهم المتلقي غير المتخصص في الأدب، وهو يطرح ما استوعبه من طروحات النقاد الكبار، فضلاً عما لدية من خزين معرفي وحدس واعٍ ، فهو الناقد المتبحر في الدراسات الإسلامية، والمؤلف لبضع وسبعين كتاباً ما بين إسلامية وتنموية اجتماعية وشعرية، إذ نجده يطلق عنان آرائه في كتابه الذي وسمه بمؤتمن الأفكار كونه أفرد فيه حياديته تجاه نصوصٍ أدبية انتقاها لعدَّة شعراء وروائيين.

استهلَّ كتابه بمقدمة عن مفهوم الكتابة بوصفها فناً ساحراً وهدفاً نبيلاً، تلك التي تبحث عمَّن يفكُّ طلاسمها، ويكتشف خفاياها ويُظهر حقيقتها، معولاً على النقاد الذين  يحترمون نوايا الكاتب حين يقرؤون نتاجات المؤلفين وينؤون بعيداً عن التأويل المتطرف الذي عادةً ما يكون ممجوجاً، ولا روح فيه سوى الذم أو الطعن أو المبالغة والتفخيم . وقد عدَّ كتابه النقدي هذا نتاج محاولات عديدة للمجازفة بالكتابة عن بعض النتاجات التي وقعت بين يديه، فكتب نقوده على وفق منهجه البحثي في التخصص والذي عده منهجاً انطباعياً، لكنه حين نسلط الضوء عليه نراه يتواءم مع منهج القراءة والتلقي؛ كونه لا يقطع كل ما هو قبلي حين يعرج على تحليل النصوص، بل ينطلق مستعيناً بمخزون ثقافته التاريخية، والذي وجدناه في كتابه قد حقق الكثير مما في عِدَّة الناقد للنصوص سواء أكانت أدبية أم تاريخية وسواهما.

وحين لم يكن غير المتخصص له شأن في الدراسات الأدبية الأكاديمية، إلا أنه استطاع أن يلفت نظرنا إلى رؤية غير الأكاديمي حين ينظر إلى الدراسة الأدبية فيضيف ويقترح لها من لبنات أفكاره، فهو يرى أنَّ هناك عالمان في الكتابة الأدبية، هما عالم الهدم، وعالم البناء وأنَّ ما بينهما هو عالم الأسطورة المودع في اللاوعي حسب "كولد ليفي شتراوس"، ذلك ما يعقده حالة من التوازن بين العالمين؛ ليبقي على النص حالته التأويلية التي يحتفظ بها؛ ليقابل المتلقي بما يجعله يؤوِّل ويستنطق ويحاكي، كما أنه يرى أن النقد لديه هو ما يعكسه النص من حالة وجدانية للمتلقي الذي بدوره يفيد من العقل مستعيناً بقراءته للنصوص، والحكم عليها متبنياً رأي "بيتر آي فاسيون" الذي يرى "أنَّ تفكير الناقد يتضمن نوعين من المهارات، هما: المهارات الوجدانية، والمهارات المعرفية، ووصف المهارات المعرفية بأنها جوهر المهارات الوجدانية" .

ويبدو أنه طرح شروط الناقد الفطرية منها الذوق، والموهبة، والاستعداد الفطري، والمكتسبة أشار إليها بالتزود بقدر كبير من الثقافات بما يمكِّنه التعرف على سمات الأعمال الأدبية وربطها بأصولها الكامنة في ذات الأدب لتتحقق بينها وبين الأديب، إذ بغير هذه الصلة لا يتأتى للناقد أن يتأكد من أصالة الفن وصدقه، فهي سبيله في الإقناع، ولاسيما حين يشرِّع في البحث والتعليل. وهذا الطرح يتوافق مع ماورد في كتب النقد التي طرحت شروط الناقد، إلا أنه ذكرها استكمالاً لكتابه وما عناه كشاهد لمنهجه النقدي الذي توخاه كتابه الذي بين أيدينا.

أما نظرته للتفريق بين الأدب النسوي والأدب الذكوري، فقد تناول كتابه جانباً منه حين قرأ نصاً للشاعرة سجال الركابي، وهو لا يميز بين تسمية أدب نسوي وآخر ذكوري فكلاهما سواء لديه، بينما يقوم بعض النقاد من تسمية لكلا الجنسين الأول أدبٌ للمرأة من أجل مناصرة قضيتها؛ وهي تطالب أن تكون مساويةً للرجل بالحقوق والواجبات ومن كتب عن المرأة. أما الآخر الذكوري فما كتبه جنس الرجال عن موضوعات لغير المرأة.

وجدناه يقترح تعريفاً للشعر، فلما كان الشعر في معناه الواسع صورة من صور الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والأخلاقية والدينية للمجتمعات والشعوب كلها، وجدناه يتبنى تعريف الناقد والفيلسوف الفرنسي "فابريس ميدال" الذي يرى أنَّ الشعر "هو الرابطة التي تؤدي إلى الذات وإلى الآخرين ومن دونه لا يمكن العيش حقيقةً، والشعر هو الجسر والباب والعالم، هو الشجاعة نفسها، وهو حارس الحضارة، ويحمل جذوة الحقيقة، وهو صديق كل حي في المعمورة، ويذهب دائماً نحو العمق". والذي نراه أن الطائي اختزل مفهوم الشعر بفهمه السامق في الوعي ما جعله ينفثه نفثاً بعدَّة مجاميع أنتجها معبِّراً بها عن روحه التي تبحث عن شطآن حضارة، ما جعله يعوم بقريحة النقد الأدبي أيضاً مفككاً رموز النصوص ومومئا إلى كنه مضمراتها التي تؤسس لحضارة إنسانية يتكفل قسم من بنائها أصحاب الكلمة ومعدنها، ولاسيما الأدباء.

وقد انتقى الدكتور الطائي في كتابه عدة شعراء وكتَّاب منهم: أديب كمال الدين، ويحيى السماوي، ومحمد تقي جون، وسجال الركابي، ومحمد الصالح الغريسي، وزهير البدري، وأدباء منهم شوقي كريم حسن، وصالح مطروح السعيدي، فرأيناه يحلل النصوص على وفق ما يبدو في شعوره تجاهها ثم يضع من ثقافته ما يلمحه ينسجم مع ما لديه، متحدثاً عن شخصية صاحب النص ومدى علاقته به، فلم أره يختار من بطون المكتبات نتاجات شعراء ليكتب عنهم، بل لما أهداه له أصحابها من مؤلفات فينتقي من بينها ذلك الكم، ولعل مؤتمن الأفكار أراد به الطائي إفراغ جذوته الثقافية وخزينه المعرفي من مفهومه للنقد وقدرته على تحليل النصوص الأدبية، فكان حاضراً في كثير من موضوعاتها، فأوضح مرامي الكتاب المضمرة وربط بينها وبين ما ادخره من وقائع تاريخية سواء أكانت أدبية أو إسلامية بأبهج صورة يودعها بين ثنايا سطوره.

وقد أشار في كتابه إلى  مشروعين للشعر أقامهما، وهما من المشاريع الفريدة المائزة التي نوه عنهما ، فالأول هو مشروع (قصيدة وطن رائية العرب) عام 2020م، وكان عبارة عن محاولة لتوظيف الشعر خدمةً للقضايا الإنسانية والوقوف بوجه التوحش والعدوانية، وتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات، بدايته كانت بيت شعر واحد قاله الطائي في لحظة تأمل، ثم صار قصيدة، جمع فيها 139 شاعراً عربياً، كل واحد منهم اشترك في بيتين أو ثلاثة في إشارة إلى أن الأمة العربية لابد لها أن تتوحد طالما هناك مقومات لوحدتها، فقد عدَّ القصيدة هي أول قصيدة وطنية في التاريخ كله، وفي العالم كله، يزيد عدد أبياتها على (369) بيتاً، فطبعت كتاباً في مطابع المملكة المغربية والعراق وسوريا.

أما مشروعه الآخر الذي سلط عليه الضوء في مؤتمنه أيضاً، فهو إعلانه في أوائل عام 2021م موضوعاً بعنوان (عينية الوجع العربي، قصيدة أوجاع العرب) لما أصاب الشعوب العربية من اليأس الذي استشرى في النفوس بعد الهزائم المتوالية التي منيت بها المشاريع القومية والوحدوية منذ النصف الثاني من القرن العشرين ولغاية هذه الساعة، فوضع الطائي مطلعها بنفسه مثلما مشروعه الأول (قصيدة وطن) ما جعل الشعراء العرب يشتركون في نسجها، وهي تؤكد أيضاً أنَّ كل التخريب الذي مورس، لم ينجح في فصل العرب عن بعضهم، ولا في إيقاف اهتمامهم بقضاياهم المصيرية المشتركة، وقد أثبت شعراء الأمة هذه الحقيقة المغيبة من خلال كم المشاركات ونوعيتها، ومدى جديتها. وقد تألفت القصيدة من 425 بيتاً اشترك فيها 226 شاعراً من مختلف الأقطار العربية.

فضلا عما تقدم، تبنى في مؤتمنه بعض آراء النقاد، ومنه ما دونه من التاريخ النقدي العربي من تعاريف لمصطلحات نقدية، وذكره لكتب أدبية مهمة فيها من التنظير؛ ما جعله يستند على إضاءاتها التي أعانته على طرح ما في خلده؛ لإتمام فكرةٍ أو لإيضاح مسألة، كما استضاء بآراء النقاد الغرب مستعيناً بما طرحوه من قضايا نقدية، أو آراء طرحها متشفعاً بمقولات لهم في الصدد ذاته. فجاء كتاب مؤتمن الأفكار خلاصة واعية لما استجمعه الطائي بمنهجية تكاد تعبر حدود الفهم الواعي لرجل يمتلك ناصية الثقافة المتنوعة، فرأيناه يدلو بدلوه؛ وهو يشترك بهذا العطاء الثر مع أقلام كثر جسدت صورة النقد الجميلة وخلَّفت بصماتٍ لامعة على صحيفة الأدب المعاصر.

***

بقلم د. رحيم عبد علي الغرباوي

في المثقف اليوم