قراءة في كتاب

قراءة في كتاب: فيما يشبه الانتظار.. قضايا وأفكار

للفيلسوف اليمني البروفيسور قاسم عبد المحبشي.

أجمل ما في الصدفة أنها خالية من الإنتظار، فهل تظل الشعوب العربية رهينة الصدفة، أم سيشغلها الانتظار؟

فيما يشبه التوطئة:

الأحلام تبقى أحلاما طالما لا تؤلمنا ولا تسعدنا عند استئناف الواقع، فالحزن كل الحزن على ما تمنيناه ولم يحدث، أو حدث مرة واحدة وما كنا ندري انه لن يتكرر. ونبقى قيد الطمع في أن يتكرّر، فيدخل حيز الانتظار، فحتى لا نصاب بالغرور في طلب مايفوق سقف المتاح، وحتّى لا تكلّل تطلّعاتنا بالخيبات نلجأ إلى مكابح المطالب.. فنجعل كل احلامنا بمقدار ونسم تمنياتنا بما يشبه الانتظار..

من المبالغة النقدية والفكرية، أن تحاول نقد  مرحلة زمنية موبوءة من عمر الوطن والأمة، أو محاكمتها، عبر نصوص مكتوبة، أٌثقِلت بالأسقام والشجون، لتحكي تجربة عشتها بكل تناقضات المشاعر، وأبصرتها بعين المحب المفكر الفيلسوف في حين رآها غيرك بعين الطامع الراغب الملهوف، هو ذاك ما حدث مع شخصيتنا اليوم والتي نحن بصدد تسليط الضوء عليها. إنّه الفيلسوف العربي اليمني البروف " قاسم المحبشي " أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة في جامعة عدن باليمن. من خلال مؤلّفه  الجديد "فيما يشبه الانتظار" الصادر عام 2021م عن دار الشواهين بالقاهرة، وإذا قلنا اليمن فسترتسم الصورة الزاهية في ذاكرة التاريخ، أرض الجنتين تلك، الصامدة الشامخة شموخ جبالها،  ابن سبأ،وبلقيس له جسد يسري في أرض الكنانة أما اليمن فهو القلب والشريان، هو الحياة والوريد الذي يستمد منه قوة استمراره وغاية صموده وأمانه. لو سألته لقال:الفل بكل أشكاله يزهر في اليمن، اليمن بلد الزهور الجميلة، وبلد الحياة، والنشأة السعيدة، رغم أنها أحلام هاربة. عاش وعايش فيها آلام وطنه وآماله،  فراح يمنّي نفسه بالظفر بحلول مؤجلة لمشاكل عالقة في وطنه الأم والوطن العربي، يخدم فكرته النقدية في تفريغ اليقظة من مضمونها المتعمّق، ويؤصل للتناقضات الداخلية المزعومة، ليحقق نظرية التوجس والظنون الطاغية على ما أشيع أنها أفكار مطلقة، ويجعلك تفهم الحدث من منظومة الصفات الصانعة للتصور، لتدرك أن التنوير  حدث سيميائي ذهني يتم بناؤه عبر العلامات وليس المقولات، مما يجعله صيغة ثقافية واستجابة ظرفية، وبما أنه كذلك فإنه لا يختفي، ولكنه يبدل علاماته حسب المتغير الظرفي كما سنرى لاحقا.هذا ما يدفعنا لتأويل نصوص الكتاب بدءا بالعنوان. نصوص الكتاب أغلبها مقالات تنظيرية وشقها الآخر واقعي يعكس تجربة عاشها مفكرنا وعرضها عبر ملخصات فكرية سردية، فاستعرض سجالا متكافئا بين قلبه وعقله، وكون فيلسوفنا شاعرا طغت المشاعر لديه وسعت لقولبة العاطفة المتمرّدة لديه في قوالبها، فوضعته في حالة مدّ وجزر بين عقله وقلبه، فكانت فلسفته مقاربة ذكية تتماهى فيها العلوم والفنون والنظريات لتحلّ بالفلسفة وتؤثر فيها وتتأثر بها، وفيما يشبه البوح. يبدو جليا أن مفكرنا خاض في أهم القضايا الفكرية الفلسفية. فكانت. مقالات نشرت في كتاب بعنوان " فيما يشبه الانتظار.. قضايا وأفكار " هي كلمات جامعة تدور حول أغراض مختلفة الأدب والدين والفكر والأخلاق والاجتماع. عرضها ضمن محطات إرجاعية بعناوين ومضامين هامة. أهمّها " الفلسفة وحب الفن " ــ  " الثورة بين المفهوم والسياق " ــ  " تشكل النخبة " ــ نحن نصنع التاريخ ــ ضرورة النقد ـ قضايا المرأة بين الهوية واللون ـ اشكالية اللغة بين المشافهة والكتابة ـ ومقالات بين الوطن الإرث (اليمن) والوطن المكسب (مصر). وكثير من المؤتمرات واللقاءات التي سنشير إليها ضمن الدراسة. لذلك أحاول في هذا المقال قراءة وتوطئة لكتاب مفكّرنا، سائلة الله التوفيق في مقاربة غاياته، راجية أن يجعله الله للحق لسانا يمحق به الباطل. وينير به العقول الضالة.

ــ  فينومينولوجيا العنوان.. فيما يشبه العتبة:

العنوان هو المدخل أو العتبة التي يجري التفاوض عليها لكشف مخبوءات النص الذي يتقدمه ذلك العنوان،كونه يمارس الاستمالة والاقناع والاختزال والكناية والتلميح، ذلك أن انفتاح النص يرتبط بالعنوان كونه عتبة تؤدي فاعلية قصوى في إدراكه. فهو البوابة الأولى التي تضيء للقارىء طريقه في سبيل الدخول إلى عالم النص والتعرف على زواياه الغامضة، إنّه مفتاح تقني يجس به نبض النص وتجاعيده، وترسباته البنيوية وتضاريسه التركيبية على المستويين الدلالي والرمزي. الأمر الذي يشدّ القارىء الى ولوج المتن،واستطعام الكلام وفهمه. إلا أنّ الحديث عن العنوان ارتبط بالناقد الكبير جيرار جينت، الذي يعدّ صاحب الجهد الكبير لهذا المصطلح وقد عرفه بقوله: "هو ما يصنع به النص من نفسه كتابا ويفرض ذاته بهذه الصفة على قرّائه وعموما الجمهور أي ما يحيط بالكتاب من سياج أولي وعتبات بصرية ولغوية"(1). سليمة لوكام شعرية النص عند جيرار جينيت من الاطراس الى العتبات، مجلة التواصل المركز الجامعي سوق أهراس ع 29 2009 ص 38

وكقارئة مهتمة جذبني العنوان وشدّني الفضول حتى صرت لا اطيق صبرا لقراءة النص، فهو عنوان ارتدادي خرج من صلب النص ومكوناته الأساسية، فالقارئ يجد فيه تلخيصا عجيبا وقدرة في الاختزال اللغوي فقد اختصر النصّوص بكلمتين: " فيما يشبه الانتظار ". تتلخص كل الحكمة الإنسانية في كلمتين: الانتظار..  والأمل. الانتظار له محنة والأمل فيه منحة، في الانتظار تتمزّق أعضاء الأنفس،  ويموت الزمن وهو يعي موته، لكنّه شبه انتظار،  والمستقبل يرتكز على مقدّمات واضحة ولكنه يحمل نهايات متناقضة، فهو بذلك شبه يقين. في انتظاره  هوس برصد الاحتمالات الكثيرة. يشير كاتبنا أنّنا نعيش لنهتدي إلى الحق والخير والجمال وكل ما عدا ذلك هو لون من ألوان الانتظار.آمالنا وآلامنا نسبيان، النسبية تغزو حياتنا،  فنظرية النسبية التي تعلمناها في المدارس والجامعات لا تقتصر على ظواهر الفيزياء فقط، وإنما تغزو كل مجالات حياتنا. فكل ما حولنا في هذه الحياة هو نسبي، فالجمال والقبح، الذكاء والغباء، القوة والضعف، السيادة والعبودية، المعرفة والجهل، والسعادة والضنك، وحتى القيم الإنسانية والمُثل كلها نسبية، وباختصار فإن كل ما هو ضمن حدود إدراكنا البشري المتواضع يعتبر نسبيا.

يوحي لنا الفيلسوف أننا نملك أوطانا وجودها فينا حقيقة ووجودنا فيها شبه انتظار أن نحبّ أوطاننا حبّا خالصا، حبّ هو  المحك، وليس ادعاء للحصول على مطامع شخصية أو سبيلا لنيل أهداف ذاتية، وكأن الدكتور محبشي يريد أن يصرخ عاليا، أن أحبّوا أوطانكم من دون رفع الشعارات الجوفاء التي ظاهرها الولاء والحب وباطنها حاجة في نفس يعقوب، وليكن حبكم لها بفرض الانتماء الحقيقي إليها، والسعي على نشر السلام في ربوعها، والمساعدة على إقامة الأمن فيها من أجل تعايش مسالم بين جميع أطياف أبنائها، مع الحرص على النضال والتضحية في سبيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ونصرة المظلوم ورفض الظلم، ونبذ كل صور التسلط والعدوان الممارسة فيها بوسائل حضارية، ولتكن غايتكم تحريرها  من الفساد الذي يعدّ العدو الحقيقي له بعيدا عن فتح الثغرات والجبهات الجانبية التي تخدم مصلحة الذين يريدون السوء والشر لها. في ذات السياق يمكن لي ولكم فهم معنى كلمة ( فيما يشبه) التي أدمن كاتبنا إدراجها في عناوين مقالاته دون قصد. من خلال وفرة ما كتب، فيما يشبه الفرح، وفيما يشبه التهنئة، وفيما يشبه الاحتفاء، وفيما يشبه الاعتذار، وفيما يشبه الحياة، وفيما يشبه الوطن، وفيما يشبه الأمل،  وفيما يشبه الحرية، وفيما يشبه الشعر، وفيما يشبه الحب،وفيما يشبه الحلم، وفيما يشبه التفكير، وفيما يشبه الحزن، وفيما يشبه المؤسسات وفيما يشبه الجامعة، وفيما يشبه المدينة، وفيما يشبه الثورة، وفيما يشبه الدولة وفيما يشبه الثقافة، وفيما يشبه البشر، فيما يشبه الجيوش وفيما يشبه الصلاة وفيما يشبه الحرب، وفيما يشبه الثقة، وفيما يشبه الصدق، وفيما يشبه العلم وفيما يشبه الحقيقة..  الخ. نعم كتبها في عناوين مقالاته المنشورة. ولم يكن على دراية واعية بحضورها الكثيف هذا. وربما يعود الفضل لأخيه صالح،  الذي استفزّه بسؤاله التلقائي،وجعله يتفحص الدلالة في هذا العبارة العالقة بذهنه. إنّها نابعة من احساس عميق، بأنّ تلك الحياة التي نعيشها في هذه الأصقاع المسمّمة بالبؤس والخراب والظلام والخوف والجريمة ليست حياة طبيعية للكائن الإنساني. أنها فقط فيما يشبه الحياة، وجودنا فيما يشبه الوجود أحلامنا فيما يشبه الأحلام أفراحنا فيما يشبه الأفراح، لا شئ طبيعي وراسخ ويبعث على الاطمئنان والثقة والحلم والأمان في هذا الزمان.إنّنا نعيش في حالة وجودية عبثية تعي قوة التمييز والحكم. وتلك هي السّمة العامة التي تتّسم بها المجتمعات التي تضيق فيها حدود الحرية (حرية الضمير والفكر والعمل)، إذ يندر أن تجد فيها أشخاصا طبيعيين يتصرفون على طبيعتهم ببراءة وعفوية بالاتساق مع سجيتهم الحقيقية، بل تسود ثقافة وقيم ازدواجية الشخصية بين الظاهر والباطن وتزدهر قيم التكلف والتزلف والنفاق والتملّق واللفّ والدوران، والكذب والأحقاد والضغائن والخيانات والغدر والخديعة والشتم والغيبة والنميمة وانعدام الثقة والشك والارتياب وسوء الفهم والتفاهم والفصام وسرعة التقلب من حال الى حال والجمع بين المتنقاضات دون الشعور بالتناقض، وصعوبة التنبؤ بسلوك الأفراد وردود أفعالهم، واختلاط المعايير وغياب الحدود بين الغثّ والسمين بين الجيد والردئ، ويمكن للقارىء  تعداد المزيد من القيم السلبية من واقع حياته  وتجاربه الشخصية.

هذا هو المحبشي في موقفه من القديم والجديد، يكتب نظريات فلسفته بحبر شرايينه، وليس الذي يكتب بالحبر كمن يكتب بدم القلب، يطمح إلى الكمال في كل الأمور الدنيوية والأخروية بتوسط، فيصبو إلى ما يشبه الكمال، وينبذ النصفية فيما يشبه الوسطية، فلسفته براغماتية واقعية، تبحث عن فرصة لإعادة صوغ معطيات التاريخ والفكر والفلسفة والدين والتدين،و حتى اللغة والمبادىء العامة والأخلاق والفن والنخب ومواضيع المواطنة والمرأة والطفولة، كي نحصل في الأخير على حياة تستحق أن تعاش، بصرف النظر عن المكانة والمكان والإمكان غايته في ذلك أن يغير فكرنا في حياتنا بالإيجاب، وأن نجد فلسفة حياة تسعدنا وتغنينا عن التّبعية والخضوع، وعلى سبيل الانتظار، غايتنا الأسمى هي تنمية القدرة على الحياة ولن يتأتّى ذلك إلاّ بتنمية القدرة على التفكير، فراح يصوغ المفاهيم صياغة أكثر موضوعية وتفصيلا، عرّفنا من خلالها على الفن والفلسفة وعلى النخب وشروط قيامها، وعلى اللغة مشافهة وكتابة وعلى الوطن بتجلياته. ليصل في النهاية وفيما يشبه السعادة، أن الشقاء وليد الخيبات، والعدمية ليست سوى شقاء يؤدّي إلى اللاّمبالاة بالحياة، ولن نتخلّص من هاته الإحباطات سوى بإشغال الفكر من أجل كسب القدرة على العيش بأقلّ قدر ممكن من الآمال والأوهام، وأن نحيا ضمن الممكن فيما يشبه الحلم.

ــ جدلية النخبة والثورة وإدمان الفشل:

يشكل مفهوم النُّخبة منطلقا منهجيا في كل فهم واع  لحركة التاريخ الإنساني وما يحدث فيه من صيرورات وأحداث، ويعوّل عليه كثير من المفكرين في مقاربة التكوينات السوسيولوجية للمجتمع، كما يعدّ واحدا من المفاهيم السياسية العنيدة المتمرّدة التي تفرض نفسها على نحو إشكالي وتطرح نفسها في ميدان المقاربات السوسيولوجية على نحو يتميز بطابع الديمومة والاستمرار. لقد وظّف مفهوم "النخبة" تاريخيا كأداة منهجية لتحليل الأوضاع الاجتماعية في أكثر تجلياتها أهمية وخطورة،و إنّه من منطلق النظريات حول مفهوم النخبة التي أوردها الدكتور محبشي، استطعنا أن نسقط دلالات هذا المفهوم على ثلاثة نماذج للنخب في مجالات الثقافة والسياسة والدين، وهي النخب الأكثر أهمية ربما في توجيه الحياة السياسية والاجتماعية في مجتمعاتنا العربية المعاصرة. توغّل كاتبنا في  مفهوم النخب وماهيته ونظرياته وتجلياته السياسية والثقافية، فراح يقولب اشكالياته في تساؤلات ثلاثة:  ما النُّخبة ؟ وكيف نميِّز بين النُّخَب؟ وما هي الشروط الأساسية لوجودها وحضورها الفاعل؟. واسطاع فيما يشبه الاستطاعة أن يقدم الإجابات المناسبة عن هذه الأسئلة الحيوية التي تشكل محور معاناة المجتمعات العربية. حيث ألقى الضوء على مفهوم النخبة بصورة علمية بنائية وافية، كانت غايته فيها أن يوقظ غفوة الفرد العربي،  وأن يجد منطلقا لفهم الدور التاريخي والمجتمعي الذي تمارسه النخب في مجال الحياة السياسية والاجتماعية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. يوجّه الدكتور محبشي عناية المثقف العربي إلى تأدية الدور المنوط به في التغيير إلى الأحسن، ويناضل ببسالة في سبيل أن تؤدي النخبة ما يجب أن تؤديه، على نحو واسع في تحليل العمق الاجتماعي بما ينطوي عليه من إشكاليات وما يشتمل عليه من تقاطعات. والمتوغل في كلامه يدرك الجدل الذي يريد أن يثيره بين وجود النخبة فيما يشبه الوجود، وإدمانها الفشل في التغيير إلى الأفضل فيما يشبه الانسحاب من جوهر الدلالة لكلمة نخبة، ويصوغ ذاك الجدل في تساؤله: هل هزمت النخبة العربية ؟ (ص21)،  ويرى فيما يراه أن النخبة لا يجب أن تموت مبكّرا، حتّى ولو ماتت الشعوب التي أدمنت الفشل في ظل نخبها. وقد أكّد ذلك الجدل في عمق كلامه: " رُبَّما كانت مُهِمَّة النُّخَب العربية المثقفة اليوم هي مُهِمَّة مزدوجة: إذ عليها أن تعيد النظر في تنظيم نفسها في كتلة تاريخية متماسكة بما يجعلها قادرة على حمل الرسالة التاريخية في تجاوز أزمتها وأزمة مجتمعها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى الاطلاع بوظيفتها الأساسية في تنوير المجتمع وتنميته التنمية

الثقافية المستدامة. فالمثقف هو ذلك الشخص الذي يقاوم ويتصدَّى لتمثيليات

السلطات، والطعن بشرعيتها والتشكيك فيما يُسمَّى (بالروايات الرسمية)، ومداومة نزع الأقنعة وتحطيم الأشكال النمطية للرؤية والفكر المهيمنة، وتقديم صورة بديلة يحاول المُثقَّف فيها أن يكون صادقًا ما وسعه الصدق مع نفسه ومع غيره ومع حقائق الأشياء.. ".ص 26  "فيما يشبه الانتظار ".

ــ ديستوبيا ما بعد الثورات العربية:

إن الثورات هي الجنون الذي يبوح به المقهورين ويكتبه العقلاء. هذه الثورات ليست غضب جياع، بل إنّها ثورة أفكار، كانت بذورها في حالة سبات وأزهرت بعد حلول ربيع العقل وانصهار جليد الخوف، إذ لا  يتطوّر المجتمع إلاّ بتطور الفكر، ولا تطوّر لفكر إلا بالتغيير، ولا تغيير دون ثورة، ولا حريّة إلاّ معها، ولا إنسانيّة عميقة إلاّ في حضورها. والثورة التي يقصدها فيلسوفنا، هي الثورة الفكريّة العميقة التي تضعُ القيم الإنسانية ومبادئها موضع مساءلة وتفكير، وتُشرّح الواقع بكلّ ما يرزح تحته من فوضى ودماء وهمجيّة وعنف واستبداد. فكيف يمكن للثورة أن تقلب الثوابت وتغيّرها؟ وكيف لها أن تؤسّس للجديد؟ وهل يتمّ ذلك عبر الممارسة والفعل أم عبر العفويّة والتلقائيّة حدَّ الفوضى؟ وهل يجعلها ذلك تتلبّس بالفعل الفلسفي؟ أم هي مُجرّد ظاهرة إنسانيّة سرعان ما تذريها رياح النسيان؟

يفترض أن يكون للنخب دور محوري في صناعة الثورات وإحداث التغيير وقيادة الشعوب. إن حوصلة مايريد الدكتور محبشي الوصول اليه وترسيخه في بحثه هذا هو أهمّ، بل أخطر ما يمكن أن يستنبط ويطبّق، ببراعة عزف كاتبنا على الوترين الحساسين في منظومة محركات المجتمع (النخبة والثورة )، يريد ترسيخ فكرة أن لا تغيير إلا بالثورة ولا ثورة إلاّ بنضال ومصداقية مساعي النخبة، وهي الحلقة المفقودة لدينا على الأقل في المجتمعات العربية، يقول أنشتاين "لا يمكننا حل مشاكلنا بنفس التفكير الذي اعتمدناه عندما خلقنا تلك المشاكل". ينطبق هذا القول بدقة على الثورات التي تكتسح العالم العربي. وحسب المحبشي، أخطر ما في الوضع أن بعض أسرار انتصار الثورات وعلى رأسها العفوية وغياب القيادة هي نفسها أكبر المخاطر التي تهددها، الأمر ذاته الذي حدث مع الثورات العربية، اذ لم تكن منطقية في شيء. فقد كانت عفوية وشعبية ومفاجئة، وأحدثت تغييرا سريعا، قبل أن تفرز قيادات تنهض بمرحلة ما قبل الثورة وما بعدها. ويذهب إلى أعمق من ذلك، فيرى أنّ النخب التي طالما خذلت شعبها وفشلت على مدى عقود في إحداث التغيير، وساهمت في تجمّد الأوضاع، وأصبحت جزءا من الواقع المطلوب تغييره بل باتت عقبة في طريق التغيير، تعود لتتصدر المشهد وبنفس العقليات والسلوكيات والمقاربات الفاشلة. ويوعز ذلك إلى غياب التخطيط من طرف النخبة. ويقدم الدكتور محبشي مقاربة فكرية عن الثورة والثورات العربية، تتجاوز المفهوم النّمطي الذي تناولته لحد الآن ثورة الشعوب العربية. فقد سعى إلى فحص عوامل ومسببات ونتائج ثورات الربيع العربي في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن والجزائر.. " وقد خلّفت هذه الظاهر الاجتماعية «الثورية » التي لم يشهد لها تاريخنا العربي مثيلً حالةهائجة وصاخبة ومضطربة من ردود الأفعال والانفعالات والمشاعر والتصوُّرات والأفكار والعصف الذهني والاستفزاز المعرفي والجذب الحماسي. ومثلي، مثل غيري، تحمستُ بقوة، وأحسستُ بسحر الظاهرة، وحضورها الآسر على الأجساد والأذهان، فأخذت أردِّد مع الناس ومع نفسي كلمة «ثورة » تحت وهم الاعتقاد بأنَّني أعي تمامًا عمّا أتحدَّث!..  وحينما تساءلتُ: «ما هي الثورة؟،»

تلكأتُ، ولم أجد جوابًا، وعجزتُ عن صياغة تعريف لها، بل أحسستُ بأنَّني لم أكن على وعي وإدراك وفهم واضح ومقنع ودقيق لمعنى «الكلمة » التي طالما درجتُ لساني على قولها بدون تردُّد أو حذر، وفي غير مناسبة. واكتشفتُ وقتئذٍ جهلي السقراطي، وقِلَّة حيلتي المعرفية تجاه هذه «الكلمة الآسرة،»لكن ما شجَّعني أنَّ الاعتراف بالجهل هو الخطوة الأولى في طريق المعرفة، فأقرب الأشياء حميمية إلى التأمُّل المنهجي، وجعل وعينا النقدي في حالة يقظة باستمرار كي نتمكن من رؤية الأشياء التي نشاهدها كُلّ يوم على حقيقتها الواقعية، ونستطيع الإمساك بخيوطها ودلالتها المخفيّة والمتشظية. ورُبَّما كانت المشكلة المنهجية في صميم العلوم الاجتماعيةو اعتبرها ثورات شعبوية بدأت بتفاقم الضغط الشعبي، وآلت إلى نفق مظلم، خيّبت آمال الشعوب لانّها تحوّرت من يوتوبيا ماقبل الثورة إلى ديستوبيا مابعد التّغيير المزعوم، ويوعز الدكتور محبشي ذلك إلى غياب دور النخبة وتغييب الفكر الفلسفي، في صنع النخب ويعتبر أن إيجابيات حركة التغيير الراهنة في الوطن العربي وسلبياتها ناجمة كلها عن عدم تفعيل نخبويتها..  فالمطلوب من الثورات فعلا ليس إزاحة أنظمة أو اسقاط هيئات بقدر ماهو مطلوب منها تغيير الإنسان في جوهره على مدّ أزمنة يكون فيها ملقّحا ضد خطورة التأثير والرّدّة. فما عاد يكفي أن نثور.. بل يجب أولا أن نخلق الإنسان الذي يحمي الثورة.. من هنا فنحن نعيش  ما يشبه الثورات في انتظار مايشبه النخب كي تؤدي ما عليها.

فيما يشبه الانتظار

يتبع

***

بقلم الكاتبة الناقدة ليلى تبّاني من الجزائر

في المثقف اليوم