قراءة في كتاب

وباء اللوح الإلكتروني والهاتف المحمول

"قراءة في كتاب الباحثة الاجتماعية الاميركية كيت ميرفي المعنون / أنت لا تُصغي"

لم يعد خافيًا على أحد منّا أن تقنية الاتصالات الحديثة تؤمّن للجميع تواصلًا اجتماعيًا افتراضيًا موسعا الى حدود أبعد مما نتخيّل، لكنها في جانبها السلبي تمنع الناس القريبين مثل العائلة والأصدقاء الحميمين والأحبة من الإصغاء الى بعضهم البعض حين يلتقون في البيت او المقهى او النادي أو أيّ محفل اجتماعي واقعيا.

لسنا وحدنا في مجتمعاتنا من نعاني من هذا الانفصام المجتمعي فقد أكدت السيدة الباحثة الاجتماعية الاميركية " كيت ميرفي " في كتابها / انت لا تصغي " You’re Not Listening"

إنه وباء التكنولوجيا الذي يبعد القريب ويقرّب البعيد وعَمِدَت إلى تسليط الضوء على أمور مهمة باتت تشكل تهديدًا على قوام المجتمع وترابطه بشكل عام، وفي مقدمة هذه الأمور مسألة انفراد الأشخاص بهواتفهم المحمولة وانعزالهم عن المحيطين بهم بصورة تدعو حقًا إلى التمعن والذعر من انفكاك الروابط الاسرية والاجتماعية.

حرصت ميرفي على إبراز المشكلة وتحليلها في فصول الكتاب، وعلَّقت في هذا السياق بقولها:

" أضحى الناس في المقاهي والمطاعم وعلى موائد الطعام العائلية يميلون إلى النظر إلى هواتفهم المحمولة بدلاً من التحدث وحتى إن تحادثوا، تجد هواتفهم موضوعة على المائدة كأنها جزء من الجلسة "

كان الناس في أوقات خمولهم أو قلقهم يقومون بتدخين سيجارة، لكن الوضع تغيّر الآن، وبات أول شيء يفكرون فيه هو استخدام هواتفهم ؛ وكما هي الحال بالنسبة إلى المدخنين مع السجائر، بات الناس يشعرون بالقلق من دون هواتفهم مما يدلل خطورة تداعيات ذلك التحول المجتمعي، مستندة في ذلك إلى كثير من الإحصاءات والنتائج البحثية من أجل إقناع القراء بأنهم ينحدرون عبر تلك العادة السيئة بشكل غير متعمد إلى واقع مرير جدا.

فإن الإحصاءات تبيّن أن متوسط الوقت الذي كان يخصصه الناس للإنصات إلى بعضهم في أوقات استيقاظهم على مدار القرن الماضي تراجع بحوالى النصف، من 42 إلى 24 في المئة. كما لفتت الباحثة في كتابها إلى نتائج استطلاع شمل عشرين ألف أميركيًا في عام / 2018 فكيف الحال الان ونحن على وشك مغادرة العام / 2022.

وكشف الاستطلاع ان حوالى نصفهم اعتبروا حياتهم بلا أي تفاعلات اجتماعية ذات معنى، تزامنًا مع تراجع متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة بسبب الانتحار، وإدمان المواد الأفيونية، وإدمان الكحول وغيرها من الأمراض التي تعرف بـ " أمراض الكرب أو الحزن "، والتي غالبًا ما يتم الربط بينها وبين الشعور بالوحدة.

لفتت ميرفي بقولها إلى أن الشعور بالوحدة يؤثر بشكل سلبي في واقع الأمر على صحة الإنسان مثل تأثير تناول المشروبات الكحولية باطراد أو التدخين المتواصل يوميًا.

وأكدت ميرفي على إبراز فكرة التغيير الذي طرأ بشكل واضح على تركيبة المجتمعات، بالصورة التي تدعو إلى عدم إنكار حقيقة أن ولعنا بالهواتف المحمولة بات يسلب الكثير من الوقت الذي كنا نمضيه سابقًا في الإنصات إلى الأشخاص الذين نشعر بالقرب منهم.

كما إن الهواتف المحمولة ليست وحدها التي تسببت في تدمير قدرتنا على الإنصات، بل إن هناك عوامل أخرى في مقدمتها تلك الثقافة التي تعرف بـ " ثقافة التسويق الشخصي العدواني "، حيث يلتزم فيها الجميع الصمت إزاءها.

فالإنصات إلى الآخرين، وفق هذه الثقافة، يعني تفويت فرصة لدفع علامتك التجارية إلى الأمام ووضع بصمتك، وغالبًا ما ينظر إلى الاستماع على أنه النظير الوديع للتحدث. ونتيجة للصخب الكبير الذي بات يهيمن على العالم الآن، ربما بات يشكل الإنصات تحديًا بدنيًا بشكل متزايد، فمستويات الصوت على سبيل المثال تقدر في المتوسط الآن بـ 80 ديسيبل في المطاعم بالولايات المتحدة، كما تصل مستويات الصوت في متاجر، مثل " إتش آند إم " و" زارا " إلى 90 ديسيبل. فضلًا عن تحذيرات منظمة الصحة العالمية من سوء استخدام المراهقين لسماعات الرأس بشكل شبه مزمن وتأثير ذلك سلبياً على حاسة السمع لديهم، وهو ما وصفته ميرفي بـ " صمم الأجيال ".

تقول ميرفي متمنيةً عودة الكتاب بدل الهاتف واللوح الالكتروني بأيدي الملأ، إذ إن الكتاب سيساعد القراء على تحويل محادثاتهم وعلاقاتهم وحياتهم الى الحميمية الاجتماعية ؛ مقدمةً نصيحتها في السياق نفسه إلى الأمهات في المنازل بأن يستبدلوا نوعية الأسئلة السريعة التي يطرحونها على أطفالهم لدى عودتهم من المدارس بأسئلة أخرى تحمل بين طياتها قدرًا أكبر من الاهتمام، لتوطيد العلاقة وإعادة لغة التحدث والإنصات في نطاق الأسرة بعد تآكلها بسبب التكنولوجيا اللعينة هذه.

لكن، قد يختلف البعض حول طبيعة الحلول التي اقترحتها ميرفي في الكتاب، إلا أن المؤكد أنها تمكنت من تشخيص المشكلة وتحديدها بشكل صحيح، مع قولها في فصل كتابها الأخير:

" يصعب التركيز على العالم الحقيقي ونحن منشغلون بالعالم الافتراضي. والتكنولوجيا في تصوّرها لا تحبذ ولا تتداخل بهذا الشكل الكبير مع الاستماع الى الغير المقرّب منا إلى الدرجة التي تجعله يبدو غير ضروري ولا داعي له طالما لوحك الالكتروني أو هاتفك يلازمك كل حين ".

***

جواد غلوم

 

في المثقف اليوم