قراءة في كتاب

شارل مارتل ومعركة بواتييه.. من التاريخ إلى أسطورة الهوية

المؤلفان: ويليام بلان، كريستوف نودان

ترجمة وإعداد: فراس ميهوب

***

استغلال التاريخ عملية معروفة، وخصوصا عندما تكون الأحداث قديمة جدا، والمصادر التي تذكرها نادرة، ولاحقة للحدث، ومثالها معركة بواتييه بين العرب بقيادة عبد الرحمن الغافقي، والفرنجة بقيادة شارل مارتل.

الجدير بالذكر أنَّ شارل مارتل لم يكن ملكا بل عمدة قصر لعدة ملوك ميروفنجيين -هذا المنصب يعادل رئيس الوزراء حاليا- ومؤسسا للسلالة الكارولنجية الملكية.

عادت معركة بواتييه للتداول في الغرب بعد سقوط جدار برلين، وتحديدا أثناء الحرب في يوغسلافيا السابقة مع خروج هنتينغتون بكتابه صدام الحضارات والذي فسَّرالتاريخ بأنه صراع بين كتل حضارية ذات مميزات و حدود ثابتة، فالكتلة الغربية تواجه ميكانيكيا الكتلة المسلمة، ما شغله ليس القيمة التاريخية لمعركة بواتييه بل دعم فرضيته بأن الشرق والغرب كانوا، وهم الآن، وسيبقون غير قابلين للتوافق.

بعد سقوط الشيوعية كان البحث جاريا عن عدو جديد للغرب، وسيكون الإسلام هو هذا العدو!

يحاول هذا الكتاب إعادة تقييم ثلاث مسلمات بدت كحقائق غير قابلة للنقاش، ومع ذلك لم يتم دراستها بشكل كاف، وهي:

الأولى: انَّ معركة بواتييه ليست ذلك الصراع الذي تصوره عدد من الكتاب، ويجب وضعها ضمن سياقها التاريخي من ناحية علاقات الإمبراطورية الإسلامية في أوج صعودها مع المجتمعات المجاورة لها والتي لم تكن دائما علاقات صراع وحروب.

الثانية: تكرر الرغبة بأن تصبح معركة بواتييه مكانا للذاكرة، وخصوصا مع تعميم تدريس التاريخ في المدارس الرسمية الفرنسية منذ نهاية القرن التاسع عشر.

الثالثة: أنَّ شارل مارتل لم يحتفى به دائما كمنقذ للمسيحية، وأنَّ مكانته كعمدة للقصر تغيرت حسب عدو كل مرحلة تاريخية إن كان عربيا ومسلما أم لا.

لقد أضحى شارل مارتل منذ عشرين عاما فقط رمزا لليمين الفرنسي والغربي للرغبة باستبعاد الإسلام والسكان المسلمين من الغرب.

تمكنت الجيوش الإسلامية بين عامي ٦٢٩- ٦٥١م من فتح معظم ما يسمى حاليا بالشرق الأوسط، وتمكنوا من تدمير الإمبراطورية الفارسية الساسانية وإضعاف الإمبراطورية البيزنطية.

لا يمكن تفسير ذلك بالحماس الديني فقط، أو بالطمع بالغنائم، بل لعب التنظيم العسكري دورا هاما وكذلك معرفة الأراضي المفتوحة، والتجنيد المنظم الذي أشرف عليه الخليفة عمر، وخفة حركة الجيش الإسلامي، واستخدام الخيول والجمال على الرغم من قلة العدد مقارنة بالأعداء، وفعالية رماة السهام العرب.

ومن جهة أخرى أنهكت الحروب المتبادلة كلا من الروم والفرس، واعتراض شعوب البلاد الخاضعة لهم على حكمهم، إضافة إلى الخلافات الدينية داخل الإمبراطورية البيزنطية.

تولى عبد الملك بن مروان الحكم في دمشق، وأرسل قوات إلى المغرب تمكنت من احتلال سبتة القريبة من إسبانيا التي كان يسيطر عليها القوط الغربيون عام ٧٠٩م فكانت فاتحة للتوجه إلى إسبانيا.

بعد إحكام العرب سيطرتهم على إسبانيا، جرت أولى محاولات اجتياز جبال البيرينيه بين عامي ٧١٨- ٧١٩م.

بلاد الغال عشية معركة بواتييه:

دبَّ الضعف في المملكة الميروفنجية، وتمكن شارل ابن بيبان من تعزيز مكانته كعمدة للقصر في أوسترازيا و نوستريا ولقب بدوق وأمير الفرنجة.

اجتاح عبد الرحمن بلاد الغال عبر جبال البيرينيه من جهة الغرب صاعدا منطقة غارون قبل أن ينهب مدينة بوردو وكنيسة سان هيللير ويتجه شمالا فاضطر أود دوق منطقة أكيتين بعد أن هرب إلى الشمال لطلب مساعدة شارل مارتل.

مكان المعركة:

مازال لغزا فالعديد من المصادر تشير إلى موسَّاي لا باتاي قرب بواتييه، وتشير مصادر أخرى إلى سان مارتان- تور، ويعتمد اختيار هذين المكانين إلى اختلاف الترجمة لاسم المعركة بالعربية وهو بلاط الشهداء.

تاريخ المعركة:

التاريخ الأكثر تواترا لها هو الخامس والعشرين من تشرين الأول عام ٧٣٢م، رغم ذكر تواريخ أخرى.

استمرتِ المعركة سبعة أيام، في صباح اليوم الأخير، كانت خيام العرب مرتبة، ولم يخرج منها أحد، كانوا قد ذهبوا باتجاه الجنوب بينما قام الفرنجة بالاستيلاء على غنائمهم، ولم يلحقوا بهم.

كان عدد الجيشين متعادلا تقريبا، رغم المبالغات التي ذكرتها بعض المصادر عن عدد المسلمين، فتعداد الجيوش الكبيرة في ذلك العصر كانت تقارب العشرين ألف مقاتل أو تزيد قليلا.

ملك العرب سهاما أكثر تطورا، ويعود انتصار شارل مارتل إلى الظروف الاستراتيجية للمعركة، فاكتفى بالدفاع، بينما توجب على عبد الرحمن الغافقي أن يقضي تماما على الجيش المعادي لينتصر وهذا ما لم يحدث.

لم يستطع فرسان المسلمين اقتحام صفوف الفرنجة الذين ثبتوا في أماكنهم، وساهم مقتل عبد الرحمن في تضعضع معنويات جنده.

تذكر بعض المصادر الغربية مقتل ألف وخمسمائة من الفرنجة وثلاثمائة وخمسة وستين ألفا من المسلمين وفي هذا مبالغة كبرى قياسا لعدد الجيوش في ذلك العصر، بينما لا تذكر مصادر المسلمين شيئا عن عدد القتلى، وتشير فقط إلى مقتل عبد الرحمن، ولكنها تؤكد أنَّ شارل مارتل و جنوده لم يلحقوا بالمسلمين المنسحبين.

نتائج المعركة:

بعد مقتل عبد الرحمن الغافقي، لم يقم أي وال آخر من قرطبة باجتياز جبال البيرينيه، وعلى الرغم من عدم توقف المعارك بين المسلمين والفرنجة لكنها اتخذت مسارا آخر عبر المرور بمنطقة البروفانس شرقا وتجنبت الأكيتين.

لم يتخلص شارل مارتل من أود ولم تسقط أكيتين بيد الفرنجة نهائيا إلا في عهد حفيده شارلمان وابنه لويس.

استغل شارل مارتل انتصاره ليحصل من بابا روما إشهارا له كبطل مسيحي، ووسع مملكته نحو الإمارات الأسقفية وفتح الطريق لاحتلال بورغونيه و بروفانس.

ساهم العنف الذي مارسه تجاه الأساقفة برسم صورته المتباينة كأمير إفرنجي في المصادر الكنسية اللاحقة.

يدحض الكاتبان الأساطير التي أحاطت بالذكريات التاريخية لمعركة لبواتييه، ويشيران إلى قلة المصادر التي تتحدث عن المعركة، كما أنَّه ولوقت طويل اعتبر شارل مارتل كعمدة قصر طرد الملوك الشرعيين من الحكم، واستغل ممتلكات الكنيسة لتحقيق أطماعه.

ظهر شارل مارتل بمظهر إيجابي في ثلاثة مراحل تاريخية:

الأولى: في بداية القرن السابع عشر لتبرير صعود آل بوربون على العرش.

الثانية: في العقود الأولى من القرن التاسع عشر عبر محاولات بعض المقربين من الحكام تحويل أبطال القرون الوسطى إلى رموز منقذة للديانة المسيحية.

الثالثة: منذ حوالي خمسة عشر عاما، ساعدت الذكرى المحورة للمعركة في إنشاء تمثيل سلبي للمسلمين برعاية اليمين الغربي المتطرف.

شارل مارتل في الأدب:

يشير الكاتبان إلى رواية جرجي زيدان "شارل و عبد الرحمن" التي تعتبر اول رواية من وجهة نظر إسلامية، وتصويره لمعركة بواتييه كصراع حضاري وليس دينيا.

من الجهة الأخرى اعتبر شاتوبريان أنَّ المسيحية هي خميرة الحضارة، وأنَّ الحروب الصليبية كانت انتقاما من فتوحات العرب التي وصلت إلى إسبانيا وفرنسا، وانتصار شارل مارتل في معركة بواتييه منع استعباد الجنس البشري.

أمَّا فولتير فيعتبر الحضارة الأوروبية وريثة حضارات سابقة مثل مصر وإسلام العصر الوسيط، ولا يتردد عن مقارنة الإسلام بروما القديمة، ويشيد بعبقرية العرب والنبي محمد، ويقول انه لولا انتصار شارل مارتل لكانت فرنسا منطقة محمدية، وأنَّ الأنوار كانت من جهة العرب في الأندلس بينما كانت أوربا تغرقُ في نهاية الإمبراطورية الرومانية وحتى عهد لويس الرابع عشر في ظلمة القرون الوسطى.

شارك فولتير هذه النظرة مفكرون آخرون مثل جون ميشيليه وأناتول فرانس ومستشرقون مشهورون.

خضع استخدام معركة بواتييه أيضا للظروف التاريخية فكان العداء للعرب يتراجع عندما يتصاعد العداء لألمانيا التي يراها بعض المفكرين عدوا أبديا لفرنسا منذ الغزوات الكبرى في القرن الخامس.

اليمين الفرنسي المتطرف و معركة بواتييه:

مع وصول اولى موجات الهجرة المغاربية إلى فرنسا في بدايات القرن العشرين، ظهر لأول مرة مصطلح رهاب الإسلام.

شجَّع عدة مفكرين فرنسيين هجرة مسلمي شمال أفريقيا إلى فرنسا بدلا من الإسبان والإيطاليين المتهمين بتهديد سلامة الأراضي الفرنسية أو بنشر الشيوعية.

لم ينظر إلى العربي كعدو في البداية، وهذا يعود إلى اعتباره أقل مستوى من الفرنسي!

كل هذا سوف يتغير مع حرب الجزائر، و وجود جالية كبيرة من المهاجرين في فرنسا قادمين من المغرب العربي.

مع بدء الأزمة الاقتصادية عام ١٩٧٣م، بدأ جزء من اليمين الفرنسي المتطرف باستعمال شارل مارتل كرمز ضد المهاجرين إلى فرنسا.

شكلت الحرب في يوغسلافيا السابقة منعطفا هاما في النظرة إلى المسلمين في أوربا، و عاد التذكير بمعركة بواتييه والدعوة إلى حرب على هيئة حرب الاستعادة الإسبانية التي عرفت بالفرنسية بمصطلح

LA RECONQUETE

وهو نفس الاسم الذي أطلقه مرشح الرئاسة الفرنسية اليمني المتطرف إيريك زيمور على حزبه الجديد الذي تأسس هذا العام ٢٠٢٢م!

تبنى زيمور أيضا نظرية الاستبدال الكبير، وتحدَّث عن شارل مارتل في كتابه مصير فرنسي الصادر عام ٢٠١٨م، وبالنسبة له لا بدَّ من تكرار حروب الماضي نفسها دون توقف.

الجدير بالذكر أنَّ برينتوان تارَّان الذي قتل في أحد المساجد في نيوزلاندا واحدا وخمسين شخصا و جرح أربعين آخرين، كان مؤمنا بنظرية الاستبدال الكبير، وسجَّل على بنادقه كلمات وأرقام مثل تور ٧٣٢، وكذلك شارل مارتل، و ١٦٨٣ إشارة إلى حصار العثمانيين لفيينا.

تبنت الجبهة الوطنية الفرنسية اعتبارا من عام ٢٠١٠ على الأقل خطابا معاديا للإسلام، فمارين لوبين شبهت صلاة المسلمين في الشوارع بالاحتلال، وتبنت الجبهة استخدام شعار "أنا شارل مارتل" عقب الاعتداء على مبنى صحيفة شارلي إيبدو في السابع من كانون الثاني عام ٢٠١٥م.

ولمواجهة هذه المواقف المتعصبة، نشأت دعوات لناشطين لإعادة التركيز على الوجود التاريخي للمسلمين في فرنسا في مناطق متعددة، و ذكرت وجود آثار لمسجد في ناربون يعود تاريخه إلى القرن الثامن الميلادي، واكتشاف ثلاثة قبور إسلامية في مدينة نيم، وجرى الحديث عن بقايا عملات في أود والبيرينيه الشرقية، وأختام رصاصية وعددها سبعة عشر قرب بيربينيان.

يقلل الكاتبان من أهمية هذه الاكتشافات، ويعولان على نتائج تنقيبات أثرية في المستقبل قد تغيِّر من المعطيات الحالية.

يدعو الكاتبان في الختام إلى الابتعاد عن التعصب في وجهات النظر للطرفين التاريخيين للمعركة، ويقترحان معالجة معركة بواتييه بالدراسة النقدية للأحداث بدلا من الذكريات المتناقضة لهذه المعركة التي تتراوح بين المبالغة والنسيان، ووضع الأمر ضمن السياق التاريخي.

***

..........................

المؤلفان:

ويليام بلان: مؤلف مختص بالقرون الوسطى، له نشاط في مجال السينما، لديه العديد من المؤلفات منها الملك "أرثر، أسطورة معاصرة"...

كريستوف نودان: مدرِّس لمادتي التاريخ والجغرافية، كتبَ عدد مؤلفات منها: " المؤرخون المتأهبون، من لوران دوتش إلى باتريك بيسّون، انبعاث الرواية الوطنية" بالاشتراك مع ويليام بلان و أودري شيري،...

العنوان الأصلي للكتاب

CHARLES MARTEL ET LA BATAILLE DE POITIERS

DE L’HISTOIRE AU MYTHE IDENTITAIRE

William BLANC . Christophe NAUDIN

المؤلفان: ويليام بلان، كريستوف نودان

الناشر: ليبيرتاليا- فرنسا

تاريخ النشر: ٢٠١٥- ٢٠٢٢

اللغة: الفرنسية

عدد الصفحات: ٤٠٠

في المثقف اليوم