قراءة في كتاب

قراءة نقدية في كتاب: صالح جبر.. سيرة سياسية للأستاذ نجدة فتحي صفوة

نجدة فتحي صفوة: هو كاتب ودبلوماسي عراقي، وُلِدَ في عام 1933 وتوفي في عام 2013، تخرّج من كلية الحقوق في بغداد، ثم واصل دراسته في جامعة لندن، عُيّنَ في السلك الدبلوماسي العراقي في عام 1945، وقضى 23 عاماً تقريباً عمل خلالها في لندن وعمّان والقاهرة وجَدّة وباريس وأنقرة وواشنطن وموسكو على التوالي، وكان مديراً عاماً للدائرة السياسية في وزارة الخارجية، ثُم عُيّن سفيراً للصين، بعدها إستقال من الوظيفة وتَفَرّغ للكتابة في الشؤون الدبلوماسية.

له عددٌ من الكتب ما بين تأليف وتحقيق منها: الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية 7 مجلدات ـ محمد حديد: مذكراتي "تحقيق" ـ العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب ـ حكايات دبلوماسية .. الخ (1)

لم ألتقِ بالأستاذ صفوة كثيراً، فهذا هو اللقاء الثاني لي معه، وكان لقائي الأول في كتابه المهم "العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب". وصفوة باحث "ثَبَت"، وما يُميزه هو الإعتماد على الوثائق الأجنبية المنشورة حديثاً، أي التي تم رفع الحجب عنها بعد إنتهاء المدة المقررة، وكتابه الحالي حافلٌ بالوثائق البريطانية الطازجة، وهي نقطة تُحسَبُ له بكل تأكيد.

ما الدافع للكتابة عن صالح جبر؟ كيف وُلِدت هذه الفكرة عند صاحبنا؟

وُلِدَت هذه الفكرة من خلال إتصال الباحث بنجل صالح جبر، أي سعد صالح جبر، وهو صديق له، وقد شَجّعه سعد صالح على هذه الفكرة ووعده بتزويده بما لديه من معلومات وذكريات عن والده الراحل، ووعده بإحترام رأيه وعدم طلب إضافة شيء لا يرغب الباحث بإضافته، أو حذف ما قد يجده في غير مصلحة والده. وكان صادقاً في وعده كُل الصدق (2)

إضافة الى أن جبر لم ينل ما يستحقه من تكريم لذكراه، وخدماته الكثيرة التي قَدّمها لبلده، بل إنه قد تَعَرّضَ في بعض الحالات لهجمات ظالمة وخصوصاً في "معاهدة بورتسموث" التي كان مهندسها والمفاوض فيها والموقّع عليها، دون أن يظهر من يدرس تلك المعاهدة وملابساتها وظروف عقدها دراسة موضوعية منصفة، بل كان معظم من كتبوا عنها متأثرين بالدعوات الغوغائية التي صحبتها دون إطلاع أو دراسة متأنية لبنودها (3)

سيُمسك القارىء بأول الخيط من هذا التصدير، فالباحث سيكون "مُدافعاً" عن صالح جبر ـ ولا إشكال في ذلك ـ، لكن الإتهام الذي ذكره وَوَجّهه ل"معظم" من كتبوا عن المعاهدة يجعلنا نشكُ في "موضوعية الدفاع"؟ ف"الدعوات الغوغائية" فيها إتهام للمعارضين وللشعب بصورة عامة!

الكتاب كبير بحجمه 700 صفحة، كبير بالحقائق التي يعرضها، بالمصادر التي يعتمد عليها. فكانت مصادره العربية كثيرة جداً: عبد الرزاق الحسني ـ كامل الجادرجي ـ حسين جميل ـ أحمد مختار بابان ـ محمد مهدي كبة ـ علي الوردي ـ جعفر عباس حميدي ـ عبد الكريم الأزري ـ محمد حديد ـ كمال مظهر أحمد .. الخ، أما المصادر الأجنبية فقد كان حضورها كبيراً كما أسلفنا. إضافة للصُحف والمجلات.

سنُقَسّمُ قراءتنا النقدية لمحطاتٍ طلباً للتسهيل والوضوح:

المحطة الأولى:

خطأٌ تأريخي فادح وقع فيه الباحث، ففي الفصل الثامن عشر والموسوم ب"معاهدة بورتسموث"، خصّصَ الباحث حَيّزَاً للمعاهدات السابقة عليها، وهي أربع معاهدات، ففي حديثه عن المعاهدة الأولى قال:

(وتجمهر الناس حول بناية المجلس التأسيسي طالبين رفض المعاهدة، وإصطدموا بقوات الشرطة، وبعد عشرة أيام تَفَرّقَ أعضاء المجلس من دون إتخاذ أي قرار إيجابي. وأخيراً هَدّدَ المعتمد السامي البريطاني الملك فيصل بأنه إذا لم يجتمع المجلس ويوافق على المعاهدة في منتصف ليلة 10 / 11 حزيران "يونيو" 1922، فإن الحكومة البريطانية ستعتبر ذلك رفضاً للمعاهدة، وتكون في حِلٍّ من جميع تعهداتها السابقة. وكان رئيس الوزراء ياسين الهاشمي يعتقد أن رفض المعاهدة وإفساح المجال لإعتبارها مرفوضة سَيُعَرّضُ البلاد الى أضرار جسيمة) (4)

الحقيقة هنا أن رئيس الوزراء العراقي في عام 1922 لم يكن السيد ياسين الهاشمي، بل كان السيد عبد الرحمن النقيب في وزارته الثانية التي تشَكّلت في 12 أيلول 1921 الى 19 آب 1922 (5) أما الهاشمي فقد شَكّلَ وزارته الأولى في 2 آب 1924 (6) وأعتقد بأن الأمر قد إختلط على الباحث هنا، فتهديد المعتمد السامي البريطاني المذكور وهو هنري دوبس للملك قد حدث في عهد وزارة السيد جعفر العسكري الأولى التي تشكّلت في 22 تشرين الثاني 1923 وإستمرت الى 2 آب 1924 (7) فهدّد المندوبين وأنذر الملك فيصل (8)

السؤال الآن:

كيف وقع الأستاذ صفوة ـ وهو الباحث الثَبَت ـ في خطأٍ تأريخيٍ من هذا النوع؟

المحطة الثانية:

يقول الباحث عن عودة غروبا الألماني ما نصه: (وقد رافقت عودة الدكتور غروبا الى العراق ظروف خاصة تُعد نادرة في تاريخ التعامل الدبلوماسي. فهو لم يحمل معه أوراق إعتماد، ولكنه مع ذلك كان يُعامَلُ معاملة الدبلوماسيين المعتمَدين. وأغرب من ذلك أنه نزل في دار رشيد عالي الكيلاني رئيس الوزراء، وهي سابقة سياسية تاريخية، إذ لم يُعرَف في التاريخ الدبلوماسي ـ فيما نعلم ـ أن إتخذ سفير دولة أجنبية مقر إقامته في دار رئيس وزراء البلد الذي إعتمد فيه. ففي ذلك ملابسات عديدة تتعلق بالقانون الدولي وأعراف التعامل الدبلوماسي وحقوقه، ومنها إعتبار محل إقامة رئيس البعثة الدبلوماسية جزءاً من إقليم بلاده، وتمتعه بالحصانة الدبلوماسية. ومنها حقه ـ وأحياناً واجبه ـ في رفع علم بلاده على محل إقامته، ووضع شعار دولته على باب مقره. فهل كان لعلم ألمانية أن يرتفع فوق دار رئيس وزراء العراق؟) (9)

صراحة، لقد بذل الباحث وتَحَمّلَ جُهداً كبيراً في سبيل الوصول لتفسير مقبول لهذه الحالة "الشاذة" في التاريخ الدبلوماسي! لكن لو دَقّقَ قليلاً لما كَلّفَ نفسه هذا العناء! فهل كانت الظروف آنذاك طبيعية؟ أي في وقت حكومة رشيد علي الكيلاني "حكومة الدفاع الوطني"؟ بالتأكيد لم تكن طبيعية، ظروف الحرب العالمية الثانية وتَرَقّب حكومة الكيلاني المساعدة المقدّمة من دول المحور لصَدّ التهديدات البريطانية.

ثم لماذا نذهب بعيداً، فليست حالة الكيلاني شاذة في تاريخ السياسة العراقية! ولم يُكَلّفنا صفوة كثيراً ـ وهذا هو دأبه بذكر الحقائق في كتابه الحالي ـ في تَتَبّع الأحداث. فعندما نشب النزاع في وزارة نوري السعيد السابعة في 1942 بين وزير المواصلات السيد عبد المهدي، ووزير المعارف تحسين علي. زار رئيس الوزراء نوري السعيد القائم بأعمال السفارة البريطانية في العراق "جفري طومسون" بغياب السفير عن العراق (ولعله زاره لبحث هذا الموضوع خصيصاً، وأخبره أن النزاع بين الوزيرين بلغ مرحلة خطيرة وأنه كان يخشى أن يؤدي الأمر الى إقحام صالح جبر في الموضوع أيضاً) ليقول في موضع آخر:

(أن الساسة العراقيين كانوا في بعض الحالات ـ ومنها هذه الحالة ـ هُم الذين يدعون السفارة البريطانية ويُشَجّعونها على مثل هذا التدخل. إضافة الى ذلك، فليس من المألوف في التعامل الدبلوماسي أن يزور رئيس وزراء دولة مستقلة، ولا وزير خارجيتها، سفارة دولة أجنبية إلا في مناسبة خاصة كحفلة إستقبال أو دعوة غداء أو عشاء ... أمّا أن يزور "رئيس الوزراء" ممثل دولة أجنبية ـ وخصوصاً أنه قائم بالأعمال وليس سفيراً ـ ليستعين به في التوفيق بين إثنين من وزرائه، فذلك خروج على تقاليد التعامل الدبلوماسي المتبعة بين جميع الدول، وتفريط في الكرامة الوطنية) (10)

فلماذا يستكثر الباحث على الكيلاني عمله وهو في ظروف لا يُحسَدُ عليها آنذاك؟ (11)

المحطة الثالثة:

ألّفَ صالح جبر وزارته في 29 آذار 1947 (وكان أول شيعي يتولّى رئاسة الوزراء في العراق) (12) وقد أورد الباحث تعليقاتٍ عن هذه المسألة لعددٍ من الشخصيات، وأرجعها لدوافع: شخصية، طائفية، سياسية. منها تعليق للزعيم الوطني كامل الجادرجي، ثم رَدّ عبد الكريم الأزري عليه (13) وتعليق المؤرخ الكبير حَنّا بطاطو، وهو المقصود من جانبنا في هذه المحطة.

نقل الباحث تعليق بطاطو من كتابه القَيّم "العراق"، وبدورنا سنرجع الى كتاب بطاطو ونُثبت النص المنقول:

(ولكن الإرتقاء بشيعي الى منصب رئيس الوزراء أثبت كونه غير ذي فائدة. ولم يكن هذا يعني شيئاً بالنسبة الى العمال المفتقرين الى الخبز، ولا بالنسبة الى المحامين الذين ليست لديهم قضايا، ولا بالنسبة الى صغار الموظفين المنسيين، ولا الطلاب الذين تحتويهم الدعاية السرية، أو الأحزاب التي تُقاد بالرَسَن. ولم يكن الأمر الآن بحاجة الى أكثر من أحداثٍ قليلة لكي يتدهور الغليان طويل الأمد والمُمَوّه بستار شفاف الذي كانت تعيشه كل هذه العناصر) (14)

يتساءل بعدها الباحث: (والسؤال الذي يُثيره هذا الرأي هو: هل كانت هذه المشاكل سَتُحَل لو كان رئيس الوزراء غير شيعي؟) ثم يُعَقّب: (لا شكّ أن حَنّا بطاطو، على الرغم من تَجَشّمه عناء البحث الطويل وغزارة المصادر التي تَمَكّنَ من الوصول إليها في إعداد دراسته الضخمة عن العراق، كان يكتب من منطلق ماركسي لا يستطيع فِكَاكاً عنه، وهو لم يتحرر من القوالب الجامدة التي لا يفتأ الماركسيون يلوكونها، وكأن المشاكل التي عَدّدها يمكن أن يقضي عليها رئيس وزراء شيعي أو سني بالعصا السحرية، بين ليلة وضحاها. كما أنه لم يُبيّن ما هي علاقة الطائفة الدينية التي ينتمي إليها السياسي بحل المشاكل التي عَدّدها) (15)

صراحة، لقد شَرّقَ الباحث وغَرّبَ في رده على بطاطو، وبعيداً عن إتهامه للماركسيين و"قوالبهم الجامدة" (16) فإن كان التركيز على الكادحين يُعَدُ من القوالب الماركسية التي "تُلاك" دائماً، فهذا ما سيُشَرّف بطاطو وغيره. ثم ما علاقة الطائفة بحَلّ مشاكل البلد! كل ما في الأمر أن بطاطو قد رَكّزَ على حالة "شاذة" في تاريخ العراق آنذاك. وقد ذكر الباحث نفسه بأن بطاطو قد إعترف بقدرات صالح جبر غير العادية! (17)

ويشير الباحث لنقطة في غاية الأهمية: (ويُلاحَظ أن التقارير البريطانية كانت تُعير كون صالح جبر شيعياً إهتماماً خاصاً، في حين أن العراقيين أنفسهم لم يُعيروا تلك الناحية الإهتمام نفسه ... والواقع أن معظم العراقيين تَلَقّوا إختيار سياسي شيعي لرئاسة الوزارة كأمر طبيعي، وهو أمر طبيعي بلا شك) (18) وهذا يدل على النضوج السياسي ويؤكّد كلام بطاطو السالف، فما يهم العراقي ما ستقدمه هذه الحكومة فقط بعيداً عن الإنتماءات.

المحطة الرابعة:

تألفت حكومة صالح جبر من عدد من الشخصيات التي سبق لها أن إستوزرت في السابق، بإستثناء الدكتور ضياء جعفر وزير المواصلات والأشغال. ومنهم الدكتور فاضل الجمالي وزيراً للخارجية، ويوسف غنيمة وزيراً للمالية، وعبد الإله حافظ وزيراً للتموين، وجميل عبد الوهاب وزيراً للشؤون الإجتماعية، وشاكر الوادي وزيراً للدفاع. وقد أعطى الباحث نبذة مختصرة لكل واحد منهم (19)

لكن وتحت عنوان "تقييم بريطاني لأعضاء وزارة صالح جبر" نقل الباحث وترجم تقريراً بريطانياً في غاية الأهمية، وهذا ما سيُلقي الضوء على المعارضة الواسعة والعنيفة لهذه الحكومة ولإجراءاتها اللاحقة بشأن معاهدة بورتسموث. كتب التقرير "دوغلاس بسك" مستشار السفارة البريطانية في بغداد، وهو تقرير طويل وخلاصته أن بسك يرى في أعضاء حكومة صالح جبر (أتفه ما يمكن تصوره من الوزراء) وقد إستغرب الباحث من هذا التقرير ثم نشره مبكراً (20)

المحطة الخامسة:

يُرجِعُ الباحث أي معارضة لصالح وجبر وحكومته ل"الأسباب الذاتية" تقريباً، فمثلاً يغمز الباحث من طرف خفي في موقف المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني، يقول: (ومما يُلاحَظ أن الحسني كان عبر أجزاء كتابه المذكور ـ وهو الكتاب الذي لا غِنَىً عنه لأي باحث في تاريخ العراق الحديث ـ يتخذ موقفاً سلبياً من صالح جبر ويحاول أن يغمز قناته أحياناً إذا وجد مناسبة لذلك. والسبب معروف، وهو أن الأستاذ الحسني ـ رحمه الله ـ كان أحد الذين أُرسلوا الى المعتقل بعد حركة رشيد عالي الكيلاني بأمر من صالح جبر الذي كان وزيراً للداخلية، بسبب إندفاعه في تأييد الحركة، وقد بقي معتقلاً حتى نهاية الحرب، ولم يغفرها لصالح جبر) (21)

طبعاً نحن لا ندفع "السبب الذاتي" عن الأستاذ الحسني مطلقاً، ولا يمكن دفعه عن الحسني وغيره من البشر بطبيعة الحال. لكن لماذا "نحصر" هذا الموقف السلبي في هذا المجال! ولماذا لا نقول بأن الحسني كان معارضاً لصالح جبر من باب آخر، باب عدم التأييد الشعبي له، والمعارضة الكاسحة التي واجهها!!

أما عن موقف الشيوعيين فَحَدّث ولا حرج! إذ لم يتوانَ الباحث في إتهامهم وتسقيطهم، فقد ربط الشيوعية بالصهيونية في مواضع متفرقة، وهذا ما يتماشى مع الموقف الحكومي بكل تأكيد (22) وأرجع "عداءهم" لحكومة صالح جبر بسبب إجراءات الأخيرة ضد قادتهم، أي الثلاثي: يوسف سلمان "فهد" وحسين الشبيبي وزكي بسيم. فقد صدرت بحقهم أحكام الإعدام ثم أُبدلت بالسجن المؤبد (23) ولم يفهم الباحث ـ أو بالأحرى لا يريد أن يفهم ـ موقف الحزب الشيوعي آنذاك، فهو ينسب إليهم أعمال الشغب والمؤامرات، ولكن لماذا مارس الشيوعيون هذه الأعمال؟ ألم يعرف الباحث أن هذا الحزب كان محظوراً من العمل العلني؟! حكومة تقمع جهة معينة وتخنق عليها أنفاسها! فماذا سنتوقع منها، كيف سَتَرُد!!

ويتوسع الباحث في الحديث عن "المنهاج الوزاري" لحكومة جبر، فهو (أوسع وأطول منهاج أصدرته أية وزارة عراقية) (24) وينقل ما ذكره المؤرخ الحسني (في كتابه العتيد) عن كتاب "سحابة بورتسموث" لصدر الدين شرف الدين، وهو أن منهاج الوزارة قد (وُضعت صيغته بالإشتراك مع أقطاب السفارة البريطانية، وأُحكِمَت آياته بوحي من الخطة المرسومة في دوائر وزارة الخارجية في لندن) ثم يذكر تعليق الدكتور فاضل الجمالي الذي بعثه له (من المضحك والمخجل أن ينقل الأستاذ عبد الرزاق الحسني في كتابه "تاريخ الوزارات العراقية"..) أي ينقل ما ذُكِر في أعلاه.

لكن الباحث لم يتركنا في حيرة من أمرنا، ولم يبخل علينا بعرض الحقائق: (ومع ذلك يتضح من الوثائق البريطانية التي فُتِحَت في سنة 1978، أن صالح جبر وفاضل الجمالي تشاورا ـ كُل على حِدَه ـ مع السفير البريطاني بشأن صياغة الفقرة الخاصة بتعديل المعاهدة العراقية ـ البريطانية) (25) وعليه فقد تَدَخّلَت السفارة في منهاج الوزارة ولو جزئياً!

المحطة السادسة:

يحاول الباحث ـ في سياق محاولاته المتعددة ـ الدفاع عن "عصرية" صالح جبر وتفكيره المنفتح بطريقة غريبة، يقول: (أرسلت الحكومة البريطانية طائرة خاصة الى الحبانية لنقل صالح جبر وأعضاء الوفد العراقي الى لندن، فغادر الوفد بغداد في 6 كانون الثاني "يناير" 1948، وقد إستصحب صالح جبر معه زوجته ومرافقة لها، ولعله كان أول سياسي عراقي يستصحب زوجته في سفرة يقوم بها لأداء مهمة رسمية، على غرار ما يفعل معظم الساسة في الغرب. وكان ذلك دليلاً على تَفَتّح ذهن صالح جبر وتفكيره العصري) (26)

صراحة، أحتار في التعليق على هذا النص، فهل إستصحاب زوجة السياسي دليل على التفكير العصري؟! ثم كيف يصدر هذا التعليل من باحثٍ بحجم صفوة!!

المحطة السابعة:

كان الوصي عبد الإله يميل الى مصارحة الشعب بكل شيء بشأن المعاهدة الجديدة، أما رئيس الوزراء صالح جبر، فقد كان متمسكاً بضرورة الحفاظ على سرية بنود المعاهدة التي يجري التفاوض بشأنها (27) فكان هذا التكتم الزائد من أسباب النقمة على جبر وحكومته وسقوط المعاهدة كما أشار الباحث نفسه (28)

لم يكف الباحث في إنتقاد الأحزاب المعارضة، أي الأحزاب العلنية الثلاثة القائمة آنذاك، وهي: الإستقلال ـ الوطني الديمقراطي ـ الأحرار. فقد عارضت هذه الأحزاب المفاوضات قبل إنعقادها (29) والسبب معروف يا أستاذ! فالوجوه "الكالحة" (30) نفسها! الوصي عبد الإله ونوري السعيد وصالح جبر الذي كان من جماعة نوري آنذاك (31) وقد إقترح القائم بالأعمال البريطاني في العراق "دوغلاس بسك" بعدم إشراك نوري السعيد في الوفد المفاوض، والسبب أن الدول العربية تنظر الى نوري بكثير من عدم الثقة بسبب ميوله البريطانية، وسمعته في تدبير الدسائس (32) لكن الوصي لم يأخذ بهذا الإقتراح وأصرّ على إشراك نوري في الوفد. فماذا سينتظر الشعب من وفدٍ كهذا؟!

وقد تحدث وزير خارجية صالح جبر الدكتور فاضل الجمالي لإذاعة وكالة الإنباء العربية بتصريح سَبّبَ مشكلة خطيرة جداً، ففي سياق حديثه عن معاهدة 1930 تَعَرّضَ للإنتقادات المُوَجّهة إليها (وكان أكثر الإنتقادات التي وُجّهت إليها راجعاً بالطبع الى السياسة الحزبية في البلاد، ولا تَمتُ الى الحق بصلة) (33) وقد أحدث هذا التصريح ردة فعل قوية في العراق، إضطر رئيس الوزراء صالح جبر أن يقول (لا بُدّ أن يكون هذا التصريح مكذوباً) أما الجمالي (فقد إدعى أن التصريح الذي نُسبَ إليه كان مُحَرّفَاً) وقد عَلّل الباحث هذا الموقف أن الجمالي كان في لحظة إندفاع لا يتوقع ما سيُحدثه تقريره. وأن الجمالي كان معروفاً بميله الى الإكثار من التصريحات الصحافية التي توقعه في سقطات محرجة أحياناً (34)

وعندما تم التوقيع على المعاهدة، أرسل صالح جبر مسودة المعاهدة باللغة الإنكليزية، وقام جمال بابان بنشر المعاهدة بترجمة مؤقتة. يقول الباحث: (وعلى الرغم من أن جمال بابان كان من رجال القانون ومن كبار المحامين، وكان في ذلك الوقت يشغل منصب "وزير العدلية"، فقد فاته أن حرفية النصوص لها أهميتها البالغة في أبسط العقود. أما تفسير المعاهدات بين الدول فهي ـ بطبيعة الحال ـ أشد خطورة) (35) فوقع المحذور ـ بحسب الباحث ـ وهبّت الأحزاب تستنكر المعاهدة وتشجبها.

وعن الحوادث الدامية التي وقعت بين الجماهير والقوات الحكومية، يقف الباحث موقفاً غريباً والله. إذ يذهب ـ مع أحمد مختار بابان في مذكراته ـ الى أن بعض الجنائز المحمولة كانت كاذبة! بل يروي حادثة "فضيحة مضحكة"، وهي "حادثة شخنوب" الذي تَسَلّمَ من الشيوعيين خمسة دنانير، ليرقد في تابوت يطوفون به في الشوارع كأحد الموتى، فلما طال رقود شخنوب في التابوت إستولى عليه الخوف فرفس غطاء التابوت وخرج هارباً بين دهشة الجمهور وضحكاته (36)

لكن صفوة "الباحث الثَبَت" وقع في خطأٍ لا يُحسَدُ عليه هنا! فلم يذكر المصدر الذي إستقى منه هذه الحادثة!! ويروي ـ في موضع آخر ـ عن بابان جرأة بعض المتظاهرين وضرب أنفسهم بالنار، ولعلهم أصيبوا بالجنون (37) ثم ينقل ما أثبته الحسني عن حالة بغداد آنذاك، مشيراً الى شيء من المبالغة في الوصف! (38)

وبعد أن قَدّمَ بعض وزراء صالح جبر إستقالاتهم، يتهمهم صفوة بالتخلي عن رئيسهم في ساعة الشدة (39) ولا أعرف لماذا لا نُعَلّلُ إستقالاتهم بحراجة وقوفهم أمام شعبهم في هذه الساعات الحالكة كما أراد رئيسهم؟! والأخير كان حازماً ومُصَمّمَاً على موقفه كما ذهب الباحث (40) أي مُصَمِّمَاً على مواجهة شعبه في رفض المعاهدة!!

المحطة الثامنة:

يزعم الباحث بأنه سيقوم بدراسة هادئة لنصوص المعاهدة من خلال مقارنتها بمعاهدة 1930، وينتقد حنّا بطاطو على قوله (كانت الوثبة أروع عصيان جماهيري مُسَلّحٍ عرفه تاريخ العهد الملكي) (41) إذ يُعَقِّب: (ولكنه لم يذكر ماذا كان وجه الروعة في تلك الحركة التي ذهب ضحيتها عدد كبير من الشُبان الأبرياء المُغَرّر بهم!) (42) لكن بطاطو قد ذكر وجه الروعة فيها مباشرةً! يقول بطاطو:

(كانت هي التربة التحتية الإجتماعية لبغداد الثائرة ضد الجوع والأعباء غير المتكافئة. وكانت هي الطلاب وعمال السكلجية الذين قاتلوا بشجاعة على جسر المأمون وماتوا في سبيل أفكارهم، أو كما يقول المتشائمون: من أجل أوهامٍ عقيمة) (43)

فلماذا أحجم صفوة عن ذكر "وجه الروعة" بحسب بطاطو؟!

أما الدكتور كمال مظهر أحمد، فقد كانت للباحث وقفة "نقدية" شديدة معه، وأعتقد بأن أيَ مناقشة هنا يجب أن تنطلق من المنهجية المُتَبَناة قبل أن تنتقل الى الجزئيات. فالمنهج الماركسي لا قيمة له عند صفوة، فيقول عن دراسة كمال مظهر أحمد:

(لقد كُتِبَت هذه الدراسة عموماً بمنهج أيديولوجي عقائدي ماركسي، يُفَسّر التاريخ وأحداثه، بل جميع الظواهر السياسية والإجتماعية والإقتصادية، تفسيراً طبقياً مادياً) (44)

ليتحسّس صفوة من المنهج الماركسي، يرفضه، هذا شأنه. لكن رغم ذلك سنناقش الباحث.

ينقل ما ذكره مظهر أحمد، وسنرجع لكتاب الأخير ونُثبتَ النص المنقول:

(منحت المعاهدة الجديدة البريطانيين كل ما كانوا يريدونه من العراق. ففي الوقت الذي كان يحق لهم بموجب معاهدة 1930 جلب قواتهم الى العراق فقط في حالة نشوب الحرب، أعطتهم بنود "معاهدة بورتسموث" هذا الحق في حالة التهديد بالحرب، أي عملياً في أي وقت يرتأيه البريطانيون. وفي الواقع حولت بنود بورتسموث وملحقاتها العراق الى مستعمرة بريطانية في ثوب جديد) (45)

يستشكل الباحث عليه فيقول:

(ولم يُشر المؤلف في بحثه الى أية مواد من المعاهدة، ولم يستشهد بأية نصوص، وإنما كان ما ذكره أشبه بالشعارات الحماسية التي تُطلق في المظاهرات) (46)

صراحة، إتهامٌ كبير لباحث كبير بحجم الدكتور كمال مظهر أحمد! ثم لماذا نذهب بعيداً! فالخطاب الذي يتبناه صفوة فيه من الشعارات الحماسية ما لا يقل عن ذلك، يقول: (وإذا كان البعض من كبار رجال الدولة "كرئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الأعيان" إتخذوا موقف المعارض منها ـ يقصد المعاهدة ـ من دون قراءتها، فما بالك برجل الشارع، أو الشاب المتحمس اليافع. إذ لا شك أنهم كانوا متأثرين بدعايات المعارضين من شيوعيين، وأنصاف شيوعيين، وصهيونيين، وغيرهم) (47) أليس في ذلك من الشعارات الحماسية والإتهامات المجانية التي لا تتوافق مع أبسط أصول البحث العلمي!

لقد غفل صفوة عن حقيقة مهمة صَدّر بها مظهر أحمد كتابه، يقول: (والبحوث التي أُقَدّمها بين دفتي هذا الكتاب هي مجرد محاولة لطرق بعض الأبواب الجديدة بأسلوب يأخذ، قدر المستطاع، التحليل والإستنتاج بنظر الإعتبار. وفي كل الأحوال ليست محاولتي هذه سوى إجتهاد متواضع دافعه البحث عن الحقيقة ـ نبراس المؤرخ ـ ومقياس موضوعيته) (48)

وعليه فهي "محاولة مختصرة"، ولكن رغم ذلك، لم يترك مظهر أحمد القارىء، بل أشار عليه بما يلي: (راجع نص المعاهدة والوثائق الأخرى المتعلقة بها في الجزء السابع من "تاريخ الوزارات العراقية" الطبعة الثالثة ص201 ـ 216) (49)

صراحة، لن أتوسع في مناقشة الباحث للدكتور مظهر أحمد أكثر، فمناقشته كانت أقرب الى السجال منها الى البحث الموضوعي.

والأمر المثير في تلك الفترة أن العراق كان يمرّ ب"أزمة الخبز" (كانت سنة 1946 / 1947 أسوأ سنة عرفها العراق في تاريخه الزراعي الحديث. فقد قَلّ المطر، وكثُر الجراد .. وتضاعفت الرغبة في تصدير الحنطة والشعير، إمعاناً في الإثراء السريع، دون أن يُلتَفت الى حاجة البلاد وإستهلاكها المحلي، ما دام المرموقون قد أمّنوا وذووهم حاجاتهم من الحبوب المعاشية، فلم يدخل شهرا أيلول وتشرين الأول 1947م، إلا والبلاد تشكو من أزمة حادة في الخبز، وعاد ذلك المنظر المؤلم الذي ألفه الناس أيام الحرب العجاف، يوم كان الرجال والنساء والأطفال يتجمهرون على المخابز والأفران، ويتدافعون بالمناكب والسكاكين ليحصلوا على القليل من الخبز) (50)

والغريب في الأمر أن رئيس الوزراء صالح جبر قد رفض مناقشة "أزمة الخبز" في المجلس النيابي قبل مغادرته الى لندن! (51)

فماذا سينتظر الأستاذ صفوة من شعبٍ لا يجد الخبز، ومن رئيس وزراء لا يقبل مناقشة هذه الأزمة قبل سفره الى لندن!! وعليه فإستغراب صفوة من "جنون" الجماهير لا مبرر له إطلاقاً، وإلا فمن لا يجد الخبز في داره ويشاهد الطبقة السياسية وهي تَستمتع بما لَذّ وطاب، فهل سيبقى عنده عقل!

الخلاصة:

فشلت جهود حكومة صالح جبر في المعاهدة، وهذا ما أدى لسقوط الحكومة نفسها لعدّة أسباب نُجملها في الآتي:

1 ـ نفس الوجوه التي كرهها الشعب كرهاً شديداً هي التي تنوي عقد هذه المعاهدة الجديدة.

2 ـ التكتم الزائد الذي مارسه صالح جبر حول المعاهدة حتى عن وزراء حكومته (52) والسرعة التي تم بها كل شيء، فقد عُقِدَت المعاهدة في خمسة أيام فقط كما ذكر الجنرال رنتن رئيس البعثة العسكرية البريطانية في العراق (53)

3 ـ أزمة الخبز التي عصفت بالبلد أنذاك، وهي أزمة تجعل الإنسان بلا عقل بكل تأكيد، فكيف بالبسيط وهو يشاهد عدم إكتراث حكومته بحالته البائسة!

4 ـ الإجراءات العنيفة التي قابل بها صالح جبر ثورة شعبه، وهذا ما جعله مكروهاً.

وعليه فلم يكن الأستاذ صفوة موفقاً في "دفاعه" عن رئيس الوزراء المرحوم صالح جبر.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

...................

الحواشي:

1 ـ إعتمدنا على النبذة المختصرة المُثبَتَة في غلاف الكتاب الذي ننوي مناقشته الآن

2 ـ نجدة فتحي صفوة: صالح جبر ـ سيرة سياسية، دار الساقي بيروت 2016 ص9

3 ـ نفس المصدر والصفحة

4 ـ المصدر السابق ص258 و 259

5 ـ عبد الرزاق الحسني: تاريخ الوزارات العراقية ج1، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 1988 ص73

6 ـ المصدر السابق ص244

7 ـ المصدر السابق ص191

8 ـ المصدر السابق ص226 و 227

9 ـ صفوة: المصدر السابق ص146 ولا يؤاخذنا القارىء على الإستشهاد بالنصوص رغم طولها، فالموضوعية تُحَتّم على الناقد النقل التام للنصوص

10 ـ المصدر السابق ص174 الى 178

11 ـ يرجع ذلك لموقف صفوة من أحداث مايس 1941، وهو موقف مناوىء لقادتها، ومبثوث في كتابه الحالي ص136 و 146 و 147، بل إن صالح جبر قد صَرّح ـ بحسب برقية السير ريدر بولارد في طهران ـ بإستعداده للذهاب ـ إذا تردد الوصي في تأليف حكومة عراقية ـ ليُدَبّر بالتعاون مع بريطانيا ثورة ضد حكومة الكيلاني بين العشائر التي يتمتع بنفوذ كبير بينها! ص151 وهذا ما سيجعل موقفه الشعبي ضعيفاً جداً بسبب تعاونه مع المحتل

12 ـ المصدر السابق ص216

13 ـ المصدر السابق ص216 و 217

14 ـ حنّا بطاطو: العراق / الكتاب الثاني ـ الحزب الشيوعي، بترجمة عفيف الرزاز، منشورات القبس في الكويت ص205

15 ـ صفوة: المصدر السابق ص217 و 218

16 ـ وهذا ما سيقع به مع الدكتور كمال مظهر أحمد كما سيأتي بيانه لاحقاً

17 ـ المصدر السابق ص218

18 ـ المصدر السابق ص220

19 ـ المصدر السابق ص221 و 222 و 223

20 ـ المصدر السابق ص224 الى 228

21 ـ المصدر السابق ص229

22 ـ المصدر السابق ص252 و 382 و 391 ومواضع أخرى

23 ـ المصدر السابق ص252

24 ـ المصدر السابق ص230 وهل خفي على الباحث أن التنظير شيء والتطبيق شيء آخر!

25 ـ المصدر السابق ص235

26 ـ المصدر السابق ص320

27 ـ المصدر السابق ص307

28 ـ المصدر السابق ص308

29 ـ المصدر السابق ص309

30 ـ ليعذرنا القارىء المحترم على هذه الشدة، فنحنُ في سياقٍ جدالي

31 ـ الوصي الذي هرب في سيارة السفير الأمريكي ثم عاد تحت الحِراب البريطانية في أحداث 1941

32 ـ المصدر السابق ص314 و 315 وقد نقل صفوة برقية بسك لحكومته

33 ـ المصدر السابق ص316 والتصريح مُثبَتٌ بطوله

34 ـ المصدر السابق ص318 و 319

35 ـ المصدر السابق ص347

36 ـ المصدر السابق ص351 و 352

37 ـ المصدر السابق ص376

38 ـ نفس المصدر والصفحة

39 ـ المصدر السابق ص379

40 ـ المصدر السابق ص380

41 ـ بطاطو: المصدر السابق ص203

42 ـ صفوة: المصدر السابق ص385

43 ـ بطاطو: المصدر السابق ص203

44 ـ صفوة: المصدر السابق ص388 و 389

45 ـ كمال مظهر أحمد: صفحات من تاريخ العراق المعاصر "دراسات تحليلية"، مكتبة البدليسي بغدا 1987 ص137 و 138

46 ـ صفوة: المصدر السابق ص386

47 ـ المصدر السابق ص391

48 ـ مظهر أحمد: المصدر السابق ص3

49 ـ المصدر السابق ص137 الحاشية

50 ـ الحسني: المصدر السابق ج7 ص206

51 ـ صفوة: المصدر السابق ص398

52 ـ المصدر السابق ص399

53 ـ المصدر السابق ص394

في المثقف اليوم