قراءة في كتاب

الصورة المسرحية.. المجاز ورحابة الإمكانات التعبيرية

قراءة في كتاب "صورة عطيل "للدكتور محمد أنقار" 

يشكل كتاب "صورة عطيل" (1) ثمرة من ثمار الجهود التي بذلها الباحث والمبدع الراحل محمد أنقار لتعميق البحث في إشكال الصورة في الإبداع النثري و اختبار أساليب التصوير الفني في المسرح، انطلاقا من مساءلة الأسس النظرية والإنجازات النقدية المتصلة بمفهوم الصورة الأدبية.

ورغم أهمية الكتاب وجدة موضوعه ومتانة صلته بمشروع أنقار النقدي، فإنه لم يحظ بالعناية التي حظيت بها باقي اعماله النقدية مثل كتاب " بناء الصورة في الرواية الاستعمارية" وكتاب "بلاغة النص المسرحي". لقد حاول الباحث، من خلال هذا الكتاب، بلورة رؤية أسلوبية خاصة بالمبنى الإنشائي للنص المسرحي، وخصائص صوره الفنية، بغية إبراز أبعادها الجمالية والإنسانية .

وترتكز هذه الرؤية على اعتبار الصورة تعبيرا كليا منسجما لاينبغي تسييجه بمظاهر بلاغية جزئية، ولاحصره في قوالب معيارية يمكن أن تخدش ملامحه الجمالية، أو تنمط وظائفه الإنسانية . كما ترتكز على وعي عميق بالفروق القائمة بين الأجناس الأدبية، لذلك نجد الباحث يشير إلى أن النقد الأدبي المعاصر أصبح يعالج الألوان البلاغية المختلفة بمعيار الصورة الشعرية " بل إن النقد انطلق في خطوة تالية أضحى بمقتضاها ينظر إلى العديد من مظاهر الإبداع غير الشعري بمنظور الصورة الشعرية " (2)

ففي الوقت الذي سيطر فيه مفهوم "الصورة الشعرية " على النقد الأدبي المعاصر بمنازعه المتعددة، ظلت مباحث التصوير الفني في السرد والمسرح مؤجلة أو بالأحرى مغيبة عن انشغالات نقادنا. ولعل الإنتباه إلى هذا التغييب هو ما جعل د. محمد أنقار يتوجه بجهوده النقدية نحو الاهتمام بالصورة في النثر السردي وصيغ التصوير الفني في النص المسرحي.

ويلاحظ الباحث أن  إشكال حدود " الصورة الشعرية " شبه غائب في مجالي النقد الأدبي والبلاغة، وأن هذا المفهوم انحصر لدى أغلب النقاد في الاستعارة والتشبيه والكناية والمجاز المرسل، كما انحصر في الطباق والجناس والمقابلة والتورية وغيرها من المقابلات البلاغية المتميزة بثنائية ذات حدين، وبذلك أمسى الانزياح بين طرفي الثنائية معيارا ثابتا في تقييم الصورة الأدبية .

ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى و.هـ. كليمن w.h.clemen (3) في كتابه "تطور الصورة الشعرية عتد شكسبير" الذي حاول رصد تطور التجربة الفنية عند شكسبير من خلال دراسة صورالتشبيه والاستعارة . كما يمكن أن نشير إلى تصور " كرولين سبورجن" C.SPURGOEN في كتاب(4) " صور شكسبير وما تخبرنا به" حيث تعاملت الباحثة مع الصورة باعتبارها أداة تساعد على الكشف عن بعض المناطق المعتمة في حياة شكسبير وأفكاره . وقد حددت  الصورة في التشبيه بشقيه الصريح والضمني، وتعني بذلك مختلف أنواع الاستعارة مثل :"الخناجر التي تختفي تحت ابتسامات الرجال " (مسرحية ماكبث). كما تعني التشبيه البسيط المأخوذ من الحياة اليومية مثل :"سوف يصدقون ما نقول كما تلعق القطة اللبن "(مسرحية العاصفة )، والتشبيه الدقيق الذي يعبر عن رهافة خيال خالقه مثل :" يستطيع العاشق أن يسير على خيوط العنكبوت التي تهزها نسائم الصيف اللعوب ولا يسقط " (مسرحية روميو وجولييت). وتخلص "سبورجن "من خلال الدراسة الإحصائية للصور في مسرحيات شكسبير إلى أن هذا الأخير كان يستعمل الصورة في "شكل التشبيه أو الاستعارة بأوسع معانيها بقصد التشبيه أيضا في النهاية"

غير أن د. محمد أنقار يختلف مع هذين التصورين، ويقر بأن مفهوم الصورة يتجاوز الحدود الممكنة أو المحتملة لأنه يتسع لكل مبادرات التصوير الجمالي التي تلغي الحدود بين عوالم التجربة الجمالية وتنفتح على الألوان التصويرية المتعددة التي يمكن أن تحدث تأثيرا في المتلقي.

لكن هذا الإقرار لم يمنعه من خوض تجربة تلمس بعض الحدود الممكنة للصورة المسرحية مستفيدا في ذلك من خبرته في معالجة الصورة الروائية بمرتكزاتها المتمثلة في السياق النصي وأصول الجنس الأدبي والطاقة اللغوية والبلاغية وسياق التلقي. والجدير بالملاحظة أن الباحث يؤكد على اعتبار مجهود القارئ عنصرا قويا وأساسيا في تحديد الصورة وتشكيلها من خلال تساؤلاته حول الروابط القائمة بين أجزائها وتأويلاته لأفكارها ودلالاتها، كما يؤكد –أكثر من مرة – على ضرورة تجنب إخضاع الصورة المسرحية للمعيار الشعري السائد، لأنها تتشكل في سياق الجنس المسرحي وتلتحم التحاما عضويا بنسيج النص، ومن ثم فهي تشكيل متميز له مقوماته الجمالية الخاصة.

ومن خلال تحليله لإحدى صور مسرحية "عطيل " يتوصل إلى خلاصة مفادها أن سياقي النوع والنص بالإضافة إلى إيقاع البناء ورؤية الكاتب ومجهود القارئ الذي ينشط مخيلته لابتداع الصور، كل هذه المنافذ يمكن أن تمنح للصورة المسرحية قوة بلاغية حتى وإن افتقرت إلى ركيزة المجاز التي تعتمد عليها الصورة الشعرية عادة، بل إن افتقارها إلى التعابير المجازية واعتمادها على التعبير المباشر هو ما يدفع المتلقي إلى تشغيل مخيلته أكثر من الارتكاز على خيال المؤلف، لأن"الصورة المسرحية الشعرية غير المجازية تستثير لدى القارئ إمكانيات تعبيرية شتى من أجل أن تعوض ما تفتقر إليه من إمكانيات مجازية " (5).

وغير بعيد عن مفهوم تحديد الصورة المسرحية يتوقف الباحث ليعمق البحث في العلاقة القائمة بين مكونات النص المسرحي وسماته، فيخلص إلى أن هذه العلاقة لاتقوم على الإسناد وإنما على التساند، إذ أن الكاتب المسرحي يستخدم اللغة استخداما فنيا أثناء تصويره لعمله الفني، بحيث لايسند السمة إلى المكون إسنادا عشوائيا، وإنما يرتب العلاقة بين الكلمات ترتيبا فنيا قائما على التساند المنسجم والشامل، مفترضا أن المتلقي يستطيع تمثل ذلك تمثلا ذهنيا. ثم يبرز الباحث كيف يمثل هذا التساند اللغوي المظهر العملي الجمالي للصورة المسرحية.

ولتوضيح الطبيعة الجمالية لهذا التساند، قام بتحليل هذه الصورة من مسرحية عطيل:

" إيميليا : يفرحني أنني وجدت هذا المنديل .

لقد كان أول هدية لها من المغربي.

مئة مرة حثني زوجي العنيد

على اختلاسه، غير أنها تحب هذا المنديل

الذي استحلفها على الاحتفاظ به إلى الأبد،

فراحت تبقيه معها دائما وأبدا،

تقبله وتحدثه، سأفسخ تطريزه

وأعطيه لياغو، أما ما الذي سيفعله به،

فعلمه عند ربي،

وإنما أنا أرضي نزوته " (6)

ويسلك الباحث ثلاث خطوات منهجية لإبراز خصائص التساند بين مكونات هذه الصورة وسماتها؛ في الخطوة الأولى يستخلص المكونات النوعية للعمل المسرحي، من حوار وشخصيات وموضوع وحدث وزمن ومكان. وفي الخطوة الثانية يعمل على رصد السمات التي أسندها الكاتب المسرحي للمكونات المسرحية، فشخصية "ياغو" – مثلا – أسندت إليها أفعال الحث والاختلاس والنزوة وصفات الزوج العنيد. وينطبق الأمر نفسه عل شخصات "إميليا " و"عطيل " و"ديزدمونة ". التي أسندت إليها أفعال وصفات خاصة بها، كما ينطبق الأمر نفسه على باقي المكونات المسرحية.

أما الخطوة الثالثة فيخصصها الباحث لتوضيح الخطوتين السابقتين، مذكرا بالفروق القائمة بين الحدث الدرامي وبين الأفعال الصغرى، ويستنتج بأن الحدث يتسم بالتجريد والامتداد والتشابك، في حين تتسم الأفعال الصغرى بالطابع الجزئي والمادي، غير أن وظائف هذه الأفعال ليست أقل شأنا من وظيفة الحدث الدرامي المسرحي.

وفيما يتعلق بالتصوير المسرحي يلاحظ أنقار أن هذه العملية الإبداعية لاتخرج عن إطار"التساند"، فالكاتب المسرحي يعتمد بالأساس على المادة اللغوية التي يشكل بواسطتها صور نصه المسرحي، بحيث أنه ينتقي الصفات والأفعال المناسبة ليسندها إلى المكونات بهدف تجسيد المواقف الدرامية، وتشخيصها وفق قواعد الجنس المسرحي بانسجام مع مجرى الأحداث وطبائع الشخصيات، وبذلك يكون " التصوير المسرحي تجسيدا أو تشخيصا أو تشكيلا لغويا للأحاسيس والأفكار والعواطف والمواقف، وتكون الصورة المسرحية نتاجا لغويا لكل تلك الوظائف التجسيدية وقد استمدت نسغها من سياق الجنس المسرحي " (7)

بيد أن التساند لايكون دائما منسجما، بل يمكن أن يكون متنافرا أو سلبيا، ويستدل الباحث على ذلك ببعض الصور التي أوردها "شكسبير " على لسان "ياغو" وهي صور تقوم على التساند المتنافر بين السمات المشينة وشخصية "عطيل".

ويمضي الباحث في تشريح صورة عطيل من منظورات متعددة (منظور "ياغو" ومنظور "كاسيو" ومنظور "دزديمونة ") بقصد الوصول إلى وضع اليد على البعد الإنساني لصورة هذه الشخصية. وقد استنتج أن " شكسبير " تمكن من إبداع صورة لـ"عطيل "تتميز بالنضج الفني والإنساني، بحيث تهتم بالجوانب العاطفية وتقلبات الأحوال النفسية، وتبتعد عن النظر إلى التمايزات العرقية بين الأفراد والشعوب.

ويرى الباحث أن شكسبير-وإن كان يدعم تصويره المسرحي ببعض المعطيات الموضوعية والتاريخية – فإنه لايحتفي بإركام هذه المعطيات بقدر احتفائه بالأبعاد الدرامية للشخصيات، وبطريقة تعبيرها عن أفكارها ومواقفها.

وفي ضوء ذلك ينتقد أنقار الدراسات النقدية التي كرست جهودها للخوض في المقارابات الخارجية لشخصيات المسرح الشكسبيري، فاقتحمت حدود التحقيق التاريخي، وتداخلت مع الدراسات الثقافية والاجتماعية والنفسية، وبذلك سخرت إمكانياتها المنهجية لخدمة مجالات أخرى غير المجال الأدبي. والواقع أن الباحث يرى أن الناقد بإمكانه الاستفادة من مختلف حقول المعرفة لمواكبة العمل الإبداعي، غير أنه لاينبغي له التحليق بعيدا عن الحقل الأدبي.

وفي نفس السياق يرفض د.محمد أنقار الانصياع إلى بريق "العلمية " المؤدية إلى " الوثوقية " فيسعى إلى تجاوز "التخمة المنهجية " الناتجة عن وفرة القواعد والمعلومات والسبل النقدية التي لم تفلح في تأسيس تصورات نقدية أصيلة يمكن الاطمئنان إليها. وأمام هذا الوضع يقول محمد أنقار :" لايسع الباحث إلا أن يحلم بالعودة إلى إمعان النظر في الإواليات الجمالية والمظاهر الإبداعية البسيطة والتجليات الفنية الصغيرة لعلها تسعف في محو الغشاوة وإعادة ترتيب البيت النقدي"(8).

إن الباحث يراهن على الإصغاء إلى النص الإبداعي بالأساس، وتأمل عوالمه بالاعتماد على مقولات استثمرها في أطروحته " بناء الصورة في الرواية الاستعمارية "(9) وعمقها في كتابه "بلاغة النص المسرحي "، الدي حاول الانفكاك من أسر البلاغة المعيارية للمساهمة في إرساء بلاغة نوعية للنص المسرحي،  فأصبحت هذه المقولات تشكل جهازا مفاهيميا ينتظم في سياق فكري مضبوط، ويؤشر على صياغة مشروع نقدي خاص، يراهن على سلك النهج الجمالي في قراءة النص الإبداعي واستخلاص أساليبه التصويرية، في استقلال عن ثقل وجاذبية المقولات النقدية المتشكلة في إطار النظرية الشعرية .

 ***

د. محمد الصبان

..................

(1) محمد أنقار، صورة عطيل،منشورات نادي الكتاب كلية الآداب، تطوان،الطبعة 1/1999

(2) نفسه، ص:9

(3) The development of shakespear’s imagery

 د. محمد عناني، دراسات في المسرح والشعر، مكتبة غريب القاهرة، ب .ت،ص:159

(4) shakespeare's imagery and what it tells us

نفسه، ص:149

(5) صورة عطيل، ص: 20

(6) نفسه، ص:32

(7) نفسه، ص:37

(8) نفسه، ص:6

(9) مكتبة الإدريسي للنشر والتوزيع، تطوان، ط1/1994  

في المثقف اليوم