قراءة في كتاب

قراءة في كتاب الفاشوش في حكم قراقوش للأسعد بن مماتي

كثيراً ما نسمع المثل القائل حكم قراقوش الذي يضرب للتدليل على جور الحكم وجبروت القاضي أو الحاكم، ولهذا يحتج الشخص الذي يحس بأنه قد ظلم في أمر ما، بتشبيه مصيره بـ "حكم قراقوش". كما يقال لكل شخص صاحب جاه وسلطة، يمارس غروره على الآخرين والبغي، على أنه شبيه " قراقوش ".

وقد صدر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة الدكتور هيثم الحاج علي، كتاب "الفاشوش في حكم قراقوش" للأسعد بن مماتي المتوفى في 606 هجرية 1209 ميلادية، وما جمعه جلال الدين السيوطي المتوفى في 911 هجرية 1505 ميلادية، تحقيق ودراسة الدكتور عمرو عبد العزيز منير.

والكتاب يقع في 208 صفحات من القطع المتوسط، صمم غلافه الفنان أحمد الجنايني ويحمل لوحة للفنان الإيطالي جياكومو سيروتي. تقول سلوى بكر، "مؤلف الكتاب شخصية تاريخية ملتبسة لا تقل التباسا عن شخصية قراقوش ذاته، فكلاهما عاش العصر الأيوبي منذ مبتدئه وخدم في دولة صلاح الدين الأيوبي، وقد نسبت للأول ابن مماتي جملة من الكتب المهمة، منها كتاب "قوانين الدواوين"، أما الثاني قراقوش فقد أشرف على أعمال إنشائية عظيمة مازالت موجودة حتى الآن، منها قلعة صلاح الدين وسور مجرى العيون الممتد والذي كان يرفع مياه النيل إلى القلعة، وقد صمم هذا السور وعمل على بنائه مهندسان قبطيان هما أبو مشكور وأبو منصور".

وتستطرد سلوي بكر في تقديمها للكتاب:ولأبي مماتي جملة من الكتب منها (قرقرة الدجاج في لغة ابن الحجاج) و (سيرة صلاح الدين) شعرا، ونظم كتاب (كليلة ودمنة)، مثلما يشير ابن خلكان في كتابه (وفيات الأعيان).

أما الدكتور عمرو عبد العزيز منير، فيتناول كتاب "الفاشوش في حكم قراقوش" من منظور علم الدراسات الشعبية، منقبا عن دوافع الجماعة الشعبية في رسم شخصية قراقوش عبر المخيلة الجماعية، وحضورها الدائم على هذا النحو، سواء في الأدب الشفاهي أو المكتوب، ويتناول بالبحث تلك الحكايات التي جمعها جلال الدين السيوطي بناء على رغبة العوام، عندما سألوه في زمانه عن حقيقة وتاريخية شخصية قراقوش. والكلام لبكر مختتمة "ربما لا تجد سلسلة التراث الحضاري ما هو أفضل تعللا لإعادة نشر كتاب (الفاشوش) وتلك الدراسة القيمة للدكتور عمرو عبد العزيز منير".

وتشير كلمة "فاشوش" إلى الأحكام الفاشلة أو الوهمية، وقد ورد في لسان العرب "فاشوش: ضعيف الرأي والعزم"، ويقال في الدارجة "فشوش" للشيء والكلام والفعل الفارغ الذي لا مضمون له، وقد عمل ابن مماتي في مؤلفه هذا على نسج حكايات بسيطة ومضحكة منسوبة لقراقوش، ما سهل تداولها على الناس عبر الأجيال، وبعض هذه القصص ليس واقعيًا من خيال ابن مماتي المحض، ويقال إن الصراع بين ابن مماتي وقراقوش وراء هذا الكتاب، وحيث الأول كان يمثل سلطة القلم، في حين أن الثاني كان يعكس تسلط السيف، وقد تنافس الاثنان في عصر الأيوبيين على أن يكون لكل منهما نفوذه الأكبر.

والفاشوش في حكم قراقوش، واحد من مؤلف ات الوزير الأيوبي أسعد بن مماتي، وهو كتـاب يـدور موضوعه- في الظاهر - حول الأمير بهاء الدين قراقوش أحد أمراء الحرب البارزين في الدول ة الأيوبيـة، إذ وصفه بالظالم الجائر وعديم الكفاءة والدراية في الأمور الإدارية، وافتقاره للذكاء الميداني فـي مواجهـة الأزمات، فضلا عن نعته بالخلق السيئ، وهو وصف جاء بأسلوب فك ه ساخر ممزوج بالنادرة، بدا خلالـه قراقوش شخصية قلقة أحمق التفكير، مغفل الطباع، متناقض ا لأقوال، ومضحكا في أفعاله.

وتشير المصادر التراثية إلى أن قراقوش شخصية حقيقية، وقد كان أحد وزراء صلاح – الدين - الأيوبي في مصر، بل إنه ركن من أركان توطيد حكمه، واسمه بهاء الدين قراقوش، وفي البدء كان هذا الشخص غلامًا مملوكيًا، يقال إنه من أصل تركي دون تحديد واضح لهويته، وقد تدرج بجده واجتهاده إلى أن صار قائدًا عسكريًا في بلاد الشام ومن ثم في مصر التي وصلها مع بزوغ فجر الأيوبيين وحكم صلاح الدين.

وقد اعتمد عليه صلاح الدين الأيوبي، بالإضافة إلى اثنين آخرين هما الفقيه عيسى الهكاري والقاضي الفاضل، وعمل ثلاثتهم على تثبيت دعائم الدولة وإنهاء الفوضى التي عمّت مصر بعد وفاة الخليفة العاضد، حيث حاول بعد رجاله الدخول في صدام مع صلاح الدين بأمل أن تبقى مصر تحت راية الفاطميين، وينسب إلى قراقوش أنه قام بدور تاريخي في إنهاء سطوة أسرة العاضد حيث سجنهم وعزل نساءهم عن رجالهم، وفرّق عنهم مواليهم، وسيطر على ثروة القصر الفاطمي التي كانت كبيرة جدًا.

كما تذهب بعض الروايات إلى أن قراقوش، ومعناها النسر الأسود، بالتركية، كان قد خدم صلاح الدين في البداية إلى أن وثق فيه الرجل، ومرات يقال إنه خدم عم صلاح الدين، وفي كل الأحوال فهو قد استطاع أن يصل إلى مكانة مرموقة في عصره.

وينسب له أنه بنى السور المحيط بالقاهرة وقلعة الجبل، وقناطر الجيزة، وقد كان نائبًا لصلاح الدين في شؤون الحكم بالديار المصرية وفي تدبير الأحوال، ويقال إنه كان حسن المقاصد إلا أنه شديد الحكم ويأتي حكمه بطريقة غير تقليدية.

وقضى قراقوش قرابة ثلاثين سنة يخدم صلاح الدين وابنيه، لترتبط صورته لدى العامة بالأحكام الغريبة والمدهشة، التي تصوره تارة ذكيًا ومرة غبيًا، وقد تم تناقل الكثير من تراثه في القضاء والحكم إلى اليوم لما فيه من نوادر وطرائف، فهو لحدٍّ ما تم إعادة تصويره وإنتاجه كما حصل مع جحا وأشعب وغيرهما من الشخصيات التراثية، التي بدأت بسيطة ثم تعقدت صورتها، عبر المتناقل بواسطة الناس خلال الحقب والعصور، ولم يعف من الحكم والدولة إلا مع عهد الملك العادل شقيق صلاح الدين، وحيث لزم بعدها بيته إلى أن توفي عام 1201م

وقد فاز قراقوش على ابن مماتي، ولكن فيما بعد كان المؤلف قد خلّد صورة بهاء الدين قراقوش بالطريقة التي أرادها، وذلك وفق النماذج التي رغب فيها بالضبط من تصويره على أنه أحمق وجائر، ولذلك نجد في مقدمة الكتاب يقول المؤلف «لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش مخرمة فاشوش، قد أتلف الأمة، والله يكشف عنهم كل غمة، لا يقتدى بعالم، ولا يعرف المظلوم من الظالم، والشكية عنده لمن سبق، لا يهتدى لمن صدق، ولا يقدر أحد من عظم منزلته، أن يرد على كلمته ويشتط اشتطاط الشيطان، ويحكم حكما ما أنزل الله به من سلطان. صنفت هذا الكتاب لصلاح الدين، عسى أن يريح منه المسلمين".

هذه هي مقدمة كتاب "الفاشوش فى حكم قراقوش"، الذى ألفه الأسعد ابن مماتي نقدا لحكم بهاء الدين قراقوش أحد قادة صلاح الدين الأيوبي. عاش في القرن السادس الهجري وقضى ما يزيد على الثلاثين عاما في خدمة السلطان صلاح الدين الأيوبي وابنيه. ضمن ابن مماتى الكتاب حكايات تصور قراقوش فى صورة الحاكم الباطش الغبي الذى لا يعى ما يفعل. وهى الصورة التي شاعت، بين العامة الذين كانوا ومازالوا يطلقون على كل حكم ظالم اسم «حكم قراقوش». الحاكم والقاضي الذى يجمع بين البطش والغباء.

ومن الأحكام العجيبة التي ينقلها ابن مماتى عن قراقوش أنه سابق رجلاً بفرس له، فسبقه الرجل بفرسه، فحلف أنه لا يُعلفه ثلاثة أيام. فقال له السابق: "يا مولاى يموت". رد قراقوش: "اعلفه ولا تعلمه أننى دريت بذلك".

وتأتي أهمية الفاشوش أيضا من الأسلوب الجذاب واللغة العامية التي كُتب بها، مما كان لـه اثـر في إقبال العامة من القراء عليه، فضلا عن نجاح ابن مماتي في جعل شخصية قراقوش شخصية خياليـة لكل حاكم مهوس فيه بله وغفلة، ومن هنا، فقد حظي كتاب الفاشوش كما يقول الأستاذ رياض عبد الحسين راضي بالعناية من قبل المهتمين بتاريخ الحقبة الأيوبية وأدبهـا، إذ درسوا الكتاب وموضوعه باهتمام، كالدراسة التي قدمها المستشرق كاز نوفـا ضـمن تحقيقـه لحكايـات الفاشوش، ونشرها تحت عنوان (الطراز المنقوش في حكم السلطان قراقوش)، وقد عـالج الـدافع مـن وراء كتابه الفاشوش، وكذلك دراسة الدكتور عبد اللطيف حمزة في كتابه (الفاشوش في حكم قراقـوش (وما تقدم به فاروق سعد في كتابه (قراقوش ونوادره) فضلا عن المقال الذي كتبه الدكتور شوقي ضيف بعنوان (الفاشوش)، والمقال المقدم من قبل محسن خضر بعنوان (قراقوش عبقرية ظلمها التاريخ).

ويمكن للدارس كما يري ابن مماتى أن يتتبع هذه القصص والحكايات ليخرج منها بالكثير.. عن صورة العصر الذي عاش فيه قراقوش وعهد صلاح الدين بالذات، وسـنذكر عـدداً من حكايات الفاشوش تجنباً للإطالة وذلك علي النحو التالي:

1-شكا رجل إلى قراقوش تاجرًا أكل عليه أمواله، فاستدعى قراقوش التاجر وسأله عن السبب فقال التاجر: "ماذا أفعل له أيها الأمير؟ كلما وفرت له الأموال لأسدد له دينه بحثت عنه فلم أجده". وفكّر قراقوش كعادته ثم حكم بأن يسجن الرجل صاحب الدين حتى يعرف المدين مكانه، حين يريد تسديد الدين له، فهرب الرجل قائلا: "أجري على الله".

2- قالوا لقراقوش إن طائر "الباز" المفضل لديه قد هرب من القفص وطار، فأمر قراقوش بغلق كل أبواب القاهرة حتى لا يستطيع الفرار.

3- جاء فلاح يشكو جنديًا إلى الأمير قراقوش، كان الفلاح يركب سفينة ومعه زوجته الحامل في سبعة أشهر، فوكزها الجندي فأجهضها. وقد فكّر قراقوش – كعادته - ثم نطق بالحكم، حيث حكم بأن يأخذ الجندي زوجة الفلاح عنده لينفق عليها ويوفر لها البيت والمأكل طيلة سبعة أشهر، وهو ما أسعد الفلاح قبل أن ينطق قراقوش بباقي الحكم بأن على الجندي كذلك أن يعيد الزوجة وهي حبلى في السابع، وهنا هرب الفلاح بزوجته الصورة المتعددة.

لم يكتف ابن مماتي بذلك بل رأيناه يبين أنه قد ترددت وتنوعت الحكايات عن حكم قراقوش، وكثيراً ما جاءت بصيغ متنوعة وعبارات مختلفة. ولكن أكثر الحكايات تصويراً وتجسيماً لهذا المثل ما ورد بصدد إعدام اللص. وأتذكر أنها كانت أول مسرحية رأيتها في حياتي قدمناها ونحن أولاد صغار في المدرسة. والحكاية تجسم سقم الحكم بشكل مربك متداخل يزداد حماقة وتعسفاً وسخرية بتراكم حلقاته؛ حيث تقول الحكاية إن لصاً هم بسرقة بيت، فتسلق جداره، فسقط به الجدار وقتله. اشتكى أهل اللص إلى الحاكم، وهو طبعاً قراقوش، في أن صاحب الدار ترك جداره بهذه الحالة المتداعية بما أدى لسقوطه وموت ابنهم. فبعث قراقوش شرطته ليأتوه بصاحب الدار. وحكم عليه فوراً بالإعدام. ولكن صاحب الدار دافع عن نفسه بالقول بأن الذنب ليس ذنبه، وإنما هو ذنب البناء الذي لم يحسن بناء الجدار فسقط.

ويستطرد فيقول: بعثوا الشرطة ليأتوا بالبناء فحكم عليه بالإعدام. ولكن البناء انبرى فدافع عن نفسه بالقول بأن الذنب ليس ذنبه، وإنما هو ذنب تلك الغادة الحسناء التي مرت في الطريق فسلبت عقله بجمالها، فلم يستطع أن يركز على عمله في بناء الدار.

فقال قراقوش: هذا حق. هاتوا تلك المرأة. فبحثوا عنها حتى عثروا عليها وجاءوا بها. فحكم عليها بالإعدام. ولكن المرأة دافعت هي الأخرى عن نفسها قائلة إن الموضوع ليس موضوع جمالها، وإنما ذنب الإزار الجميل الذي التفت به، وسحر بجماله ذلك البناء. قال قراقوش: هذا حق. هاتوا بالبزاز الذي باعها ذلك الإزار. إنه من دون شك هو المسؤول. فجاءوه بالبزاز فحكم عليه بالإعدام. ولكن البزاز دافع عن نفسه قائلاً إنه ليس بالمسؤول عن جمال الإزار. المسؤول هو الصباغ الذي صبغه، وأعطاه ذلك اللون الفتان. فقال قراقوش: هاتوا بالصباغ الذي صبغ الإزار. فجاءوا به فحكم عليه بالإعدام. ولكن الصباغ كان أهبل بشكل لا يقل عن بعض المفاوضين. فلم يعرف كيف يدافع عن نفسه فساقوه للمشنقة. ولكنه كان طويل القامة فلم يمكن شنقه، ففتشوا عن صباغ أقصر وشنقوه!

وفي النهاية نقول إن كتاب " الفاشوس في حكم قراقوش " لابن مماتي سياحة فكرية يستشهد به الناس في منطقة الشرق الأوسط، للإشارة إلى الحكم الظالم والمتعسف والهزيل. ويرى الجمهور أنه مثال للديكتاتورية والاستهتار والجهالة.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط.

.......................

المراجع

1- ابن مماتي: الفاشوش في حكم قراقوش،، تحقيق ودراسة الدكتور عمرو عبد العزيز منير، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2002.

2- جمال الدين محمد بن سالم بن واصل، مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحق: جمال الدين الشيال، (القاهرة: دار القلم، د. ت)ج٨٩،٣.المقريزي، السلوك،ج١،ق١،ص ١٤٦.

3- بهاء الدين يوسف بن رافع بن شداد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية المعروف بسيرة صلاح الدين، تحق: جمال الدين الشيال، ط١)،القاهرة:الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر،١٩٦٤ (ص٢٣٩.

4- حسان سعداوي،التاريخ الحربي المصري في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، ١٩٥٧ (ص١٣٤.

5-  رياض عبد الحسين راضي: الفاشوش في حكم قراقوش الدوافع والأغراض، جامعة واسط /كلية التربية.

6- خالد القشطيني: حكم قراقوش، الشرق الأوسط، الثلاثاء - 23 شهر رمضان 1440 هـ - 28 مايو 2019 مـ رقم العدد [14791].

 

في المثقف اليوم