قراءة في كتاب

"في قلب ايران" رحلة ذات في الخارج

اول ما دفعني لطلب الكتاب من صديقي الجميل صالح البلوشي -قبل وصول الكتاب للسلطنة- هو أني أعرفه واعرف زوجته فائزة محمد جيدا، وحين تكتب فائزة عن "ايران" فحتماً ولابداً ولا شكاً وقطعاً ويقيناً  -وكل ألفاظ الجزم واليقين وادواتهما- ستتحدث عن رحلة جميلة رائعة جمعتنا نحن الثلاثة، ومعنا فريق جميل من "الشيّاب/الشباب" العمانيين والذين كانت رفقتهم بلسما من كل كدر وبؤس.

فائزة اتذكرها في تلك الرحلة -يشاركها زوجها صالح في هذا الطبع- فضولية من الطراز الرفيع، تحب ان تعرف، تتعرف، تشارك، تتحدث، تسمع، تناقش، طبعا يزيد عليها صالح ب"قفشاته" الاستفزازية التي تريد ان تستخرج من الطرف الاخر ما لا يقال في المجالس العامة، في حين فائزة انثى رقتها لا تسمح لها الا بالمراعاة والمجاملة.4931 فايزه محمد

وصلني الكتاب بعد اسبوعين من طلبي، لان دور النشر انتظرت معرض مسقط الدولي للكتاب، لتحضره للمشاركة به في المعرض.

لا ابالغ ان قلت أني ما إن بدأت به حتى التهمته في قضمة واحدة، لانه كتب بلغة السهل الممتنع، فالكتاب حكاية/ رحلة جميلة كتبت بانسيابية وسلاسة عالية، لا تكلف فيها ولا مبالغات، الإنشاء فيها قليل، في حين ان لغته البسيطة تجعل القاريء يواصل القراءة دون توقف مستمتعا به.

الجميل في الكتاب ان الكاتبة ترمي من خلال اسطره ملاحظاتها دون ان تطيل فيها، ودون ان تجرح، ودون تعالٍ، توصل رسالتها في تلك الملاحظة بتوازن شديد، كالتي ذكرتها حين الحديث عن طهران شمالها وجنوبها، والفجوة بين الطبقتين (الثراء والفقر)، ثم اكدت ان هذه مشكلة لا تختص بطهران وحدها، بل هي في كل العالم، شمال غني وجنوب فقير.

وفي طيات هذه الحكاية/ القصة لم يفت الكاتبة أن تفيد القاريء، وتضيف لقراءته قيمة مضافة -وليس ضريبة مضافة- فتطرقت وبسرعة لمعلومات جغرافية وعلمية وتاريخية دون ان يشعر القاريء انه حشو زائد، او ان متعة قصته تم انتقاصها او قطعها.

ما زاد في استمتاعي بقراءة الكتاب ان نصف الكتاب او اكثر كان حديثا عن رحلتنا المشتركة، فكان خيالي يسترجع تلك الذكريات الجميلة في رحلة مليئة بالعلم والثقافة والطرفة والنكتة والمواقف الرائعة من كل الاحبة العمانيين الذين تشاركنا الرحلة معهم، وكلهم قامات دينية علمية أدبية ثقافية فخمة.

استطاعت فايزة محمد ان تصف بشكل جميل كل الاماكن التي زرناها، واعطتها حقها دون سرد ممل، ودون اطناب، فاقتطعت كثيرا من التفاصيل التي لا تهم القاريء، وربما تجعله يمل ويتعب.

من المقارقات التي لاحظتها على الكاتبة من خلال الكتاب انتقادها للسياسة في عدة مواضع منه، واسميها مفارقة عندها لانها تعيش مع زوج -صديق عزيز احبه كثيرا- يعشق السياسة ويتنفسها، وعلاقته بها كعلاقة السمكة بالبحر، واظن ان هذه المفارقة زادتهما ارتباطا ببعض.

في حديثها عن زيارتها لمشهد، ادمعت عيني باسلوبها الانيق والذي خطّت فيه بمشاعرها وهي تزور قبر الامام علي بن موسى الرضا(ع) الامام الثامن من أئمة أهل البيت(ع) لدى المسلمين الشيعة.

كانت تتحدث عن هذه الزيارة وكأنها شيعية، ومعرفتي بها -وبزوجها ايضا- تدفعني للقول انها تمتلك تلك الروح الصوفية الشفافة والتي تجعلها تتعاطى بسلاسة وحب مع كل ماهو روحي جميل يقرب من الله، ويبعد عن الصراعات والاختلافات، بل من يقرأ كتابها سيقر انها تنشد الصعود والسمو الروحي، لذا لا عقدة لديها في زيارة من يحقق لها هذا.

وكم كان رائعا ذلك العنوان الذي اعطته للفصل الذي تحدثت فيه عن قم، تلك المدينة العلمية العظيمة والتي خرجت على مدى تاريخها مئات الالوف من العلماء، وفيهم الافذاذ والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والادب واللغة العربية، بل والخطباء والدعاة.

سمت الفصل"عاصمة القابضين على الجمر" في عنوان رائع فاق الكتاب كله بما يحويه من "دهشة" وما يضمه من اسقاطات وملازمات وتاريخ وتحديات.

وخلال هذا الفصل اعطت فكرة موجزة/ وافية عن طريقة الدرس الحوزوي ومراحله وبعض الكتب التي تدرس فيه. وايضا عن المسميات الحوزوية المتعارفة هناك فيما يخص المراحل ورجال الدين.

وأحب ان اضيف لها معلومة -ربما فاتها ذكرها- ان حوزة قم ومن خلال جامعة المصطفى العالمية تعطي شهادات اكاديمية معترف بها في وزارة التعليم العالي بايران، وهناك امتحانات ورسائل وبحوث يقدمها الطلبة وعلى اساسها تعطى الدرجة العلمية المعادلة للدرجة الحوزوية.

من الملاحظات المهمة جدا والتي ذكرتها الكاتبة كانت عن ترجمة كتب التراث والفكر والادب وغيرها من العربية للفارسية والعكس، حركة الترجمة هذه فعلا مهمة للتعرف على بعضنا بعضا، وستخفف كثيرا من التوتر الحاصل بسبب السياسة، وتضيق كثيرا من الفجوات، كما انها ستقضي على سوء الفهم الحاصل بسبب الاعلام المنحاز.

الكتاب كما اسمته كاتبته "طواف" قبل ان يكون قصة وحكاية، وهي رحلة من الذات، لأنها انطلقت بكل موضوعية، وبدون انحيازات، او افكار مسبقة، بل كانت مجردة الا من الحب للتعرف على حضارة غارقة في القدم، وبلد كان مهدا للتصوف والعرفان والارتقاء الروحي، وانجب للتاريخ الاسلامي في هذا المجال رجالا يشار لهم بالبنان، ودولة مدنية حضارية استطاعت ان تتبوأ مراكز متقدمة في كثير من المجالات العلمية والتقنية والطبية رغم ما تعانيه من حصار ومحاربة ومقاطعة طوال اكثر من ٤٠ عاما.

صالح البلوشي وهو يخبرني عن الكتاب قال لي ممازحا: اسمك -يقصدني- ذُكر في الكتاب ٣ مرات في حين اسمي ذُكر فقط مرتين.

وها انا اقول له: انا تعمدت ذكرك هنا عدة مرات لاعوضك ما حرمتك منه زوجتك، شكرا فائزة، كانت رحلة من الذات، وهي فعلا دخلت ذواتنا، وخرجت للعالم لتعلن ولادة مؤلفة عمانية بارعة فارهة، -بعد ان ابدعت كصحفية- ننتظر منها المزيد لتضيفه في "ادب الرحلات".

***

أ. مصطفى محسن اللواتي

 

في المثقف اليوم