قراءة في كتاب

عن الحب الحقيقي

هذا بعض ما قاله صادق جلال العظم عن الحب والحب العذري:

* يعتبر كتاب "في الحب والحب العذري"، للدكتور صادق جلال العظم، في رأيي، واحدًا من الكتب الثورية، التي أرادت للإنسان العربي أن يعيش ذاته، بعيدًا عن العقلية التقليدية الغيبية السلفية، خاصة تلك التي تكبّل حريته، وتحدّد وجوده بقيم ومُثل تقليدية متوارثة، وبعيدة عن المنطق الواقعي للوجود الانساني في عصر يضج بالحركة والتحوّلات المتسارعة.

الدكتور صادق جلال العظم من مواليد دمشق عام 1934، رحل عن عالمنا عام 2016، وكتابه هذا يندمج في مشروعه الثقافي الفكري ابتداءً بكتابه التوعوي "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، المقصود هزيمة 1967، مرورًا بكتابه الذي لا يقلّ أهمية عن "ذهنية التحريم"، انتهاء بكتابه موضوع حديثنا " في الحب والحب العذري"، وهو كتاب صغير الحيّز، حوالي المائة صفحة، كبير الفائدة، لمن يهمه عقله ووجوده في هذا العصر، عصرنا المختلف. قرأت هذا الكتاب قبل أكثر من ثلاثين عامًا. بعد أن أعاد طباعته في بلادنا الصديق المرحوم فؤاد دانيال. الناشر العربي الاول بعد قيام اسرائيل، وأعدت قراءته بعدها بعشرة أعوام، ثمّ أعدت قراءته قبل فترة.. نسخة كتاب في جريدة، المشروع الذي رعته مؤسسة اليونيسكو الثقافية العالمية، وصدر مرفقًا بالعديد من الصُحف الهامة التي تصدر في العالم العربي المحيط بنا. هذه النسخة صدرت مرفقة بصحيفة "القاهرة" المصرية عام 2004.

يفتتح العظم كتابه بتمهيد يقول فيه ما مفاده إنه يفترض أن يقدم تعريفًا للحب، غير أن مثل هذا التعريف غير ممكن، ويضيف إن الاقوال كثرت في الحب حتى أنه بات لكلّ من المفكرين، وحتى الناس العاديين، رأيه واجتهاده الخاص به، وهو ما يُعقّد الامر قليلًا مع القراء، فيدنيه (المقصود المؤلف العظم)، من الوقوع في ورطة. مهما يكن الامر مؤلّف الكتاب، يقدّم رؤيته الواعية للحب، رائيًا فيه ظاهرة مركبةً جدًا تقف الشهوة الجنسية في صلبها، إلا أنها لا تعبّر عنه تمام التعبير.

في فصل هامّ جدًا في كتابه هذا. عنوانه "مفارقة الحب"، يرى المؤلف أن الحبّ مثله مثل أي عاطفة إنسانية أخرى يتصف ببعدين رئيسيين. الامتداد في الزمان أي دوام الحالة العاطفية واستمراها عبر فترة معينة من الزمان. والاشتداد، وهو يدُل على عنف الحالة العاطفية وحدّتها في لحظة ما من الزمان. في هذا الفصل يوجّه العظم نقدًا شديدًا للنظرة التقليدية السلفية للحب. تلك التي تحدده بإطار الزواج فقط، ويؤكد، أكثر من مرّة، أن اشتداد الحب هو المطلب الانساني الحقيقي. يقول. إن الانسان. وهو هنا يعني الذكر والانثى على حد سواء. الذي لم يعرف طعم التجربة العاطفية الكبرى، يقصد الاشتداد، ولو مرّة واحدة في حياته، لا يستحق إلا الشفقة لأنه لا يعرف ما فاته في الحياة. ويضيف إن الحلّ المثاليّ لمفارقة الحب، بلا شك، هو إبقاؤه إلى الابد في أقصى درجة من الاشتداد والحِدّة فلا يطرأ عليه وهن أو انحلال أو ملال.

يصول العظم في هذا الفصل ويجول في كتب التراث العربي، والحديثة، والاجنبية أيضًا، ليصلَ إلى نتيجة هامة جدًا هي أن عاطفة الامتداد في الزمان ممثلةً بالزواج التقليدي وحتى الزواج بمطلقه، عادة ما تترك فراغًا لدى كل من طرفيه، يحلم بلحظات اشتداد العاطفة.

يتحدث العظم في كتابه هذا مطولًا عن ثلاثة انواع من العشاق. أتوقف عند كل منهم بكلمات سريعة. العاشق الدون جوان. وهو ذاك الذي يبحث عن اشتداد الحب، متوسلًا بكلّ الاساليب بما فيها الكذب والخداع والتضليل، لجعل عاطفة الحب متقدة ملتهبة. والعاشق العُذري. نسبة لبني عذرة الذين اشتهروا بهذا النوع من الحب، وهذا العاشق يحاول، عن قصد أو غير قصد، أن يُبقي شُعلةَ الحب متقدةً بمحافظته على مسافة البُعد عن الحبيب، وعدم الارتباط به. يختلف هذا العاشق عن الدون جوان في أنه يركّز على حبيبة واحدة. ويقدّم العظم نموذجًا لهذا العاشق بجميل بن مَعمر. فقد كان بإمكانه الزواج من بثيناه/بثينة. إلا أنه لم يفعل، وهو بهذا يرى أن هذا النوع شهواني.. يتستر بالعفة، الامر الذي دفع بنزار قباني للتعقيب على ما ذهب إليه العظم قائلًا: "قبل هذا الكتاب كان العشاق العذريون في تصورنا أنقياء كالملائكة، معصومين كالقديسين. ويأتي صادق جلال العظم في هذا الكتاب ليُمزّق القناع عن وجوه العشاق العذريين، وليكشف بالمنطق الفكري الفلسفي العميق، أنهم كانوا في حقيقتهم نرجسيين شهوانيين".

بعدها يتحدّث عن العاشق الدون كيشوت، وهو ذلك العاشق الحاضر دائمًا وأبدًا للوقوع في الحب، لا يهم مع من، وهو يرى أن هذا النوع من العشّاق تغلب عليه الرغبة الجنسية المكبوتة، وأن مَن يعرب لها عن محبته، عادة ما تتمنّع عليه وترفضه لأنها تعرف أنه يريد منها شيئًا واحدًا هو الجنس. ويتجاهل ما تتّصف به من خصال أخرى تفاخر بها. العظم يتحدّث عن نوع آخر من العُشّاق، أمثال الخليفة المُتوكّل الذي ارتبط بالآلاف من الجواري والنساء، ويرى أن صفة المجون هي ما تنطبق عليه، لهذا لا يعتبر عاشقًا وإنما ماجنًا.

يؤكد العظم في كتابه هذا أهمية عاطفة الحب الحقيقي، عاطفة الاشتداد المنشودة، لدي كل إنسان عاقل ويحترم إنسانيته ووجوده، ويضع في نهاية كتابه خطاطة أو شبه خطاطة، يقترحها لمجتمع أكثر عصريةً وواقعيةً وعقلانية. تضمُ عددًا من البنود. منها. خلق أوضاع اقتصادية واجتماعية جديدة تؤدي إلى تحرير العواطف والانفعالات والرغبات المكبوتة في الفرد مِن أغلالها التقليدية. إضافة إلى تحرير جسم الانسان، خاصةً مِنَ الناحية الجنسية، مِنْ النظرة التقليدية التي كانت تربطه دومًا بالخطيئة والزلة والتهلكة والشهوة الحيوانية وتحرير نظرتنا إليه مِن مفاهيم العيب والعار والحرام وإبدالها بنظرة موضوعية علمانية تعتبر الجسد شيئًا من الاشياء الموجودة في الكون، له مُميّزاتُه من جمال وقبح ومن كمال ونقص، من رغبات جنسية مِن جهة وفكرية وفنية رفيعة مِن جهة ثانية. ويُضيف العظيم إلى هذا قولَه ليس في النظر إلى الجسم الانساني وأعضائه ووظائفه ما يُعيب أو يشين على الاطلاق، حتى نعمل جاهدين على دفنه وستره وإخفائه متخطين بذلك حدودَ ما تطلبه السلامةُ والوقاية والعافية وكأننا أمام فضيحة كبرى نريد سترها وعدم انتشارها. ويُشدّد على أهمية تحرير الرابطة الزوجية من قُيودِها التقليدية وارتباطاتها الاقتصادية والاجتماعية والعشائرية؟ والاتجاه بها مِن مؤسسة خاضعة في كلِّ تفاصيلِها للعُرف الاجتماعي وشريعة الامتداد، إلى علاقة لا تقوم إلا على أساس الاختيار الحر والمُتكافئ بين الطرفين المعنيين في الشروع بالعلاقة أو الاستمرار بها أو إنهائها، وتفترض هذه الخطوةُ تحريرَ المرأة من الاستعباد التقليدي.

خُلاصة الرأي ان كتاب "في الحب والحب العذري"، لصادق جلال العظم، كتابٌ صغير ُ الحجمِ كبيرُ الفائدة.. وانه كتاب يؤثّر في قارئه.. بحيث يُضحي بعد قراءته إنسانًا آخر. أفضل وأكمل وأكثر عقلانيةً، إنسانيةً وعصرية.

كتاب هام جدًا.. يستحق القراءة.. أقترح عليكم قراءته.

***

كتب: ناجي ظاهر

في المثقف اليوم