قراءة في كتاب

ثامر الحاج امين: كتاب العبودية المختارة.. انتصار الحرية على الهيمنة والاستعباد

درجت معظم الأدبيات السياسية على تعريف العبودية بانها خضوع شخص لشخص آخر بشكل كامل وتام، وكثيرًا ما يتم ذلك من خلال ممارسة القوة أو السلطة من جانب المالك على الشخص الخاضع، الاّ ان هناك عبودية من نوع اخر هي العبودية الطوعية التي يلجأ اليها البعض بمحض ارادتهم ويتمسكون بها بقوة اولئك الذين قال فيهم الفيلسوف اليوناني افلاطون (لو أمطرت السماء حرية، لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات)، وبلا شك ان أرذل ضروب العبودية تلك التي يختارها الانسان بنفسه.

ولخطورة العبودية على حياة الانسان والشعوب على حد سواء فقد خضعت في القانون الدولي لعدد من المعاهدات والاتفاقيات والإعلانات وفي المقام الأول الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (عام 1948) الذي ينص في المادة الرابعة على أنه «لا يجوز استرقاق أو استعباد أحد، فلا بد من القضاء على العبودية بكافة أشكاله " كما حظيت باهتمام الكتاب والفلاسفة فقد قالوا فيها الكثير محذرين من عواقبها الكارثية على مستقبل الشعوب، ومن بين الكتب التي تناولت هذه الآفة الموغلة في القدم كتاب (العبودية المختارة) الصادر عن دار الساقي عام 2016 لمؤلفه (اتيان دو لا بويسي 1530 - 1563) وهو كاتب وقاضي فرنسي وموجد النظرية الفوضوية، ومؤسس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا، وعلى الرغم من تنوع انشطته الانسانية والابداعية الا ان كتابه هذا يعد من اهم اعماله ان لم يكن الوحيد الذي اشتهر بها، وهذا الكتاب عبارة عن مقالة في العبودية الطوعية كتبها لا بويسي في عام 1547 وكان في الثامنة عشر من عمره وقد قرأها على بعض اقرانه في الجامعة فقاموا باستنساخها وتوزيعها بشكل خاص وقد وزعت ولم تُنشر حتى 1576  أي بعد وفاته عام 1563 بمرض السل ولم يبلغ من العمر سوى 32 سنة.

في (العبودية المختارة) حاول الكاتب "اتيان دو لا بو يسي" تقصى اسباب خضوع الشعوب غير المفهوم لشخص واحد لا يملك من القوة الا ما اعطوه وان الاسباب التي قادته الى كتابته تعود الى ما شهده عصره من اضطهاد على اساس الاختلاف الديني والمآسي التي وقعت اثناء الحرب الأهلية الضاربة بين البروتستانت والكاثوليك موضحا ان الماسي الناجمة عن الصراعات الدينية واستخدام القوة لا ينهي المشكلة بل يزيدها تعقيدا.

وفي التوطئة التي كتبها مترجم الكتاب صالح الأشمر وهو مترجم وكاتب لبناني ترجم الكثير من الأعمال الأدبية من الفرنسية إلى اللغة العربية. ومن أبرزها كتاب الجهل المقدس لمؤلفه  أوليفييه روا يلخص  الأشمر جانبا من افكار الكتاب  فيقول (ان العبودية المختارة تطرح مسألة شرعية الحكام الذي يسميهم اتيان دو لا بويسي "أسيادا" أو "طغاة" مهما كانت طريقة وصولهم الى السلطة سواء بالقوة او الوراثة او بالانتخاب وان ما يفسر هيمنة هؤلاء الطغاة ليس حسن ادارتهم للملك طبعا لا سيما ان أكثرهم يتميزون بانعدام الكفاءة ولكن العادة اكثر من الخوف هي التي تفسر استمرار الشعب المستعبد في احتمال وطأة الاستعباد ثم يأتي الدين والخرافة كعاملين من عوامل الخضوع الا انهما لا ينطبقان الا على الجهلة من العوام، ثم ان سر كل طغيان انما يكمن في اشراك فئة قليلة من المستعبدين في اضطهاد سائرهم، وهكذا يرمي الطاغية بالفتات الى زمرة المتملقين من أتباعه فهؤلاء المتملقون المقربون الى الطاغية يختارون العبودية طواعية بينما يكون الشعب مكرها عليها وعلى هذا الاساس يقوم هرم الطغيان ص8).

في هذا التفسير أجد المترجم قد جانب الحقيقة كثيرا فهو يرى ان اسباب استمرار العبودية يكمن في عنصر الاعتياد وكأن المستعبَد ــ بفتح الباء ــ يستمرئ عبوديته ولا يشير المترجم الى عامل الخوف الذي يلازم الشعوب جراء القسوة التي تمارسها الحكام ضد شعوبها، فالخوف في نظر الفيلسوف سقراط (يجعل الناس اكثر حذرا، وأكثر طاعة، وأكثر عبودية) وبالتالي تجد الشعوب نفسها عاجزة عن مواجهة الحكام فتخضع  تدريجيا الى العبودية،   و ذات التفسير يتبناه لا بو يسي في اغفال عامل الخوف فيقول (ان موافقة المسترقين لا قوة الطاغية هي التي تؤسس الطغيان، وان قبول الشعوب باسترقاقها المتأتي من رغبتها ومن أنانيتها ومن طمعها هو الذي يتيح لواحد تعضده شبكة رفيعة لكنها ذات تسلسل هرمي ومتضامنة ان يوطد سلطانه برضا الجميع ص 12).

ويتساءل لا بويسي مستغربا (كيف أمكن لكثير من الناس والبلدات والمدن والأمم ان تتحمل احيانا وطأة طاغية وحيد لا يملك من القوة الا ما اعطوه ولا قدرة له على أذيتهم الا بقدر ما أرادوا ان يحتملوا منه وما يدعو الى العجب اكثر مما يبعث على الحزن هو رؤية الملايين من الناس يخدمون على نحو يُرثى له والنير في اعناقهم من دون ان يكونوا مكرهين على ذلك من قوة أكبر ص23) ولهذا يلقي باللوم على من ارتضى هذا النوع من العبودية بسبب الضعف الذي يعاني منه هذا التوع من البشر فقد كان بمقدورهم ان يكونوا اقوياء وان لا يخضعوا للقوة، فالطاغية ليس سوى بشر مثل سائر البشر ولكن الشعب هو الذي اعطاه السلطة عندما تخلى عن حريته (وعندما يتعرض بلد ما الى قمع طويل تنشأ اجيال من الناس لا تحتاج الى الحرية وتتواءم مع الاستبداد ويظهر فيه ما يمكن ان نسميه "المواطن المستقر") وبهذا يربط لا بويسي الطاعة والهيمنة معا.

ويصف العبودية بنار شرارة صغيرة (تصبح كبيرة وتزداد اشتعالا كلما القينا فيها من الحطب، فمن دون ان نصب عليها الماء لإخمادها يكفي ان لا نمدها بالحطب فلا يبقى ما تشتعل به فتأكل نفسها بنفسها وتخبوا، كذلك الطغاة كلما نهبوا ازدادوا طمعا وعاثوا فسادا وتخريباً فان لم يعطهم الناس شيئا ويكفوا عن طاعتهم يصبحون عراة مهزومين ولا يعودون شيئا مذكورا ص32) فهو بهذا الطرح يحاول ان يقدح شرارة الثورة ضد الهيمنة والاستعباد، فالشعوب لا يمكن ان تحصل على حريتها بمجرد التمني بل بالإرادة المقترنة بالشجاعة والاقدام  وان كان ثمنها غاليا.

في جانب أخر من الكتاب يصنف المؤلف (الطغاة ثلاثة اصناف: صنف يحكم لأن الشعب قد انتخبه، وصنف انتزع الملك بقوة السلاح، وصنف ثالث جاءه الملك بالوراثة ص40) وهؤلاء وان اختلفوا في طرق الاستيلاء على السلطة وفي اسلوب ادارتها الا ان هدفهم واحد ذلك تثبيت اركان سلطتهم وتعزيز العبودية وصرف أذهان شعوبهم عن فكرة الحرية والتعامل مع الشعب على انه ثور ينبغي اخضاعه وتذليله ولكنه ــ أي المؤلف ــ مؤمن بولادة جيل جديد من الناس مادام لديهم شيء من الانسان لا يقبلون المس بحريتهم ولا يستسلمون للعبودية ويتبعون العقل وحده على خدمة رجل واحد.

وعن الحيل التي يعمد اليها الطغاة في تثبيت اركان حكمهم والسيطرة على الشعب يذكر المؤلف لجوء الحكام الى اسباغ صفة الحكمة والقداسة على انفسهم كما كان يفعل الاباطرة الرومان الذين (لم ينسوا ان يتخذوا بوجه عام لقب محامي الشعب لما كان لهذه الوظيفة من حرمة وقداسة وبفضل هذا اللقب وهذه الأداة يضمنون ثقة الشعب كما لو ان المطلوب سماع الاسم وليس الاحساس بمفاعيله ص69) هكذا عاشت أمم كثيرة زمنا طويلا في ظل الشائعات والاكاذيب التي تخترعها بنفسها ثم تصدقها.

ويعرج الكاتب على هيكل الطغيان وكيفية نشأته فيقول (ان من يثبّتْ الطاغية في طغيانه قلة من الرجال لا يتجاوز عددهم الاربعة او الخمسة يتقربون اليه من تلقاء انفسهم او يدينهم هو منه ليكونوا شركاء في فظائعه ونداماه في لذته وقواديه في شهوته ويقاسمونه غنائم نهبه وتحت هؤلاء يوجد ست مئة تابع لهم يستفيدون منهم وتحت الست مئة هناك ستة الاف يوعدون بحكم المقاطعات او التصرف بإدارة الأموال العامة وما اطول سلسلة الاتباع الذين يأتون بعد ذلك، فما ان يعلن ملك انه اصبح طاغية حتى يلتف حوله وبعضده حثالة المملكة الذين يتملكهم طموح جامح وجشع شديد لكي ينالوا نصيبهم من الغنيمة وليصبحوا طغاة صغار في ظل الطاغية الكبير ص 80) ويصف تقّرب هؤلاء من الطغاة ليس فيه سوى الابتعاد عن الحرية واحتضان العبودية بالذراعين، وأما عن نهايتهم في هذه الشراكة غير النظيفة المتمثلة في التفافهم حول الطاغية فيقول (ان عددا كبيرا من الذين عاشوا في كنف الملوك الاشرار لم ينج منهم الا نفر قليل ان لم نقل لم ينج منهم احد من بطش الطاغية الذي كانوا قد حرضوه من قبل على البطش بالأخرين ص85) فهؤلاء كما يصفهم بؤساء يرون كنوز الطاغية تلمع ويبهرهم بريق اسرافه فيغترون بهذا الضوء ويقتربون منه.

وعلى الرغم من صدور كتاب (العبودية المختارة) قبل خمسة عقود وسبق بصدوره كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لعبد الرحمن الكواكبي الصادر عام 1931 وكذلك كتاب (الطاغية) للكاتب امام عبد الفتاح امام وكتب اخرى تناولت فكرة الديمقراطية والاستبداد  الا ان هذا الكتاب ما زال يحتفظ براهنيته فقد قدم لنا صورا من الاستبداد السياسي مازلنا نعيش تداعياته وأزماته حتى يومنا الحاضر. 

***

ثامر الحاج امين 

في المثقف اليوم